الدعاة . . . والحاجة للتربية الإيمانية
موقع صيد الفوائد
تمهيد :
قال الله تعالى : ( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ )[الحديد:16]
يستوقفك هذا التوجيه الرباني الذي نزل على خير البشر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، الذي يعتبر هو أول مخاطب بهذا الأمر والتوجيه !!
فتعجب لذلك .. ثم تعجب حين توقن أن هذا التوجيه حتماً قرأه الصحابة وكانوا هم معنيين بهذا الخطاب ..!!
ترى .. كم كان بين إيمانهم، وبين نزول هذا التوجيه ؟!
يقول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين)
آية .. وموقف يدعو المؤمن حقاً أن يتأمل - وربي - في هذه الآية .. وهذا الموقف !!
أربع سنين .. !!
ترى هل هي فترة كافيه أن يغفل المسلمون أو تقسو قلوبهم وهم على حالة يرتشفون فيها نبع الإيمان وصدق الأحاسيس والأنس بالله ويتذوقون طعم الحياة في ظل الإيمان!
فهل ترى أنهم حقاً حانت منهم غفلة أو قسوة ؟!
لكنها تربية القرآن ...
تربية القرآن التي تربي في المسلم تيقظ الحس ..
وتيقظ الضمير .. مهما طال في الإسلام عمره ، وشاب مفرقه في صلاة وسجود وجهاد .!!
التربية الإيمانية ، وإيقاظ الحس والضمير .. تربية لا تعترف بفوارق الزمن طال أم قصر !!
إنها تربية تربط قلب المؤمن وحسه دوماً بربه على كل حال وفي كل مقال ومآل !!
التربية الإيمانية .. نور وضاء في جبين الداعية ..
التربية الإيمانية .. علامة الصدق ، وأمارة القبول ..
إنها شرط النصر والتمكين .. ( الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ) الحج:41
- أقاموا الصلاة .
- أتوا الزكاة .
- أمروا بالمعروف .
- نهوا عن المنكر .
صلاح الباطن يصدقه الظاهر ..
صلاح الذات وإصلاح الآخرين .
دواعي طرح الموضوع
لقد صرنا إلى زمن صار توضيح البيّنات فيه من الواجبات ، وما ذاك إلا لبعد الناس عن المعين الصافي والنبع الرائق .. وانشغالهم بأمور دنياهم ، وتكالب الفتن عليهم .
حتى صرت تجد الحليم في الناس من تراه يقبض على دينه وكأنه يقبض على جمرة قد احمرّت بلهيبها تحرق كفّه مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم : ( يأتي على الناس زمان القابض فيهم على دينه كالقابض على الجمر ) !
ومن هذا الباب غفلة خيار الناس عن هذا الجانب من التربية وترقيق القلوب ، ويمكن أن الخص في نقاط جوانب وظواهر مهمّة تبيّن لكل ذي عقل أهمية هذه التربية - وبخاصة في حق الدعاة والمربين -
فمن أسباب دواعي طرح هذا الموضوع :
1 - أن صلاح القلب وصفاؤه ينعكس إيجابا على سلوك الداعية والمربي ، والعكس بالعكس .
2 - أن عبادات القلب أعظم أجراً وأثراً من عبادات الجوارح ، لأن عبادات القلب أصل عبادات الجوارح .
عن يوسف بن أسباط قال : (قال لي سفيان بعد العشاء : ناولني المطهرة أتوضأ ! فناولته فأخذها بيمينه ووضع يساره على خدّه وبقي متفكراً ، ونمت ثم قمت وقت الفجر فإذا المطهرة في يده كما هي !! فقلت : هذا الفجر قد طلع !
فقال : لم أزل منذ ناولتني المطهرة أفكر في الآخرة حتى الساعة ..نزهة الفضلاء 1 584
ثم إن عبادة القلب وصفاءه وتزكيته يضخم عمل الجوارح ، قال ابن المبارك : رب عمل صغير تكثره النيّة ، ورب عمل كثير تصغّره النية !! نزهة الفضلاء 1 / 657
3 - ظاهرة الإكتفاء الذاتي .
فإنك صرت ترى من بعض المربين والدعاة انصرافهم عن مجالس التذكير والوعظ والرقائق ، وانصراف مناهج تربيتهم ودعوتهم عن هذا الجانب ، وذلك بحجة الإكتفاء
الذاتي ، وأن تربية المواعظ والرقائق قد جاوزوا قنطرتها ، فالموعظة والترقيق إنما هي لأولئك المبتدئين في الإلتزام أو على عتبة باب الدعوة !!
أما هم فهم أرفع من أن تقع عليهم تربية .. إنما هم مربون !!
وهذي مهلكة عظيمة وقاصمة للظهر؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أطهر خلق الله واشرفهم على الإطلاق لم يكن يظن في نفسه هذا الظن بل كان يقول ( أفلا أكون عبدًا شكورًا ) !
وصحابته الكرم من بعده الذين هم أشرف الخلق بعد الأنبياء يعاتبهم الله تعالى بقوله ( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ) [الحديد:16]، إيقاظاً لهم ، وتزكية لنفوسهم .
وقد كان السلف من بعدهم كذلك ، يقول سعيد بن جبير رحمه الله : (لا يزال الرجل عالماً ما تعلم ، فإذا ترك العلم وظن أنه قد استغنى واكتفى بما عنده فهو أجهل ما يكون !! المجموع شرح المهذب للنووي ص 1 / 49
4 - تكالب الفتن وانتشارها، وكثرة المتساقطين في الطريق .
وحين تنتشر الفتن وتدلهمّ المصائب ، فإنه لا يثبت على قدم الحق والتحقيق إلا من نوّر الله له بصيرته، وتعلّق قلبه بخالقه .
5 - أول ما يُنزع من الأرض !
أن هذه التربية الإيمانية والتي أظهر ما يظهر فيها جانب ( الخشوع ) يكاد يصدق عليها - بل صدق - إخبار الصادق المصدوق بأنه أو علم يفقد من الأرض .
6 - جنوح كثير من المناهج التربوية والدعوية إلى الجانب العلمي أو النظري البحت ، فإنك ترى اليوم كيف أن الذي يدرّس الطلاب ويعلمهم اسماء الله تعالى وصفاته
أنه يغرق في الكلاميات والردود الفلسفية التي صار الإغراق فيها يخرج المقصود من تعلّم أسماء الله تعالى وإحصاءها .
إذ المقصود الأعظم من ذلك أن يكون لها اثرا ظاهرا في سلوك الناس ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ۖ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ )[الأعراف:180] - هذا مثال واحد في جانب ظاهرة متفشيو ! -
وثالثة الثافي نبت في الأوانة الأخيرة اتجاهاً - منبهراً - بعلوم الغرب ( الإنسانية ) أو قل : فنون الإدارة وتنمية الذات ، فصرت ترى وتسمع عن قيام الدورات والأطروحات
التي تقدّر بالأثمان باهضات الثمن ، انبهاراً مخزياً ، أبعد كثيرا من مناهج التربية عن جادّتها !!
لهذا وذاك كان من الأهمية بمكان إعادة الطرح والطرق حول قضية التربية الإيمانية وضرورتها للدعاة والمربين في مثل هذا الزمن .
7 - أن التربية الإيمانية من أهم وسائل الثبات على الدين ولزوم الحق عند الهرج والمرج ، واختلاط الأمور .
ماهي التربية الإيمانية ؟!
التربية الإيمانية هي تلك التربية التي تعلق القلب بالله ، وتخلّصه من عوالق الدنيا وزخرفها وقوتها وحولها إلا بالله ..
التربية الإيمانية ..هي تلك التربية التي تطهر القلب وتزكيه فلا يكون لع تعلق بمال أو جاه أو سلطان أو رفعة أو مكانة أو شهرة ..
التربية الإيمانية ..التي ترسم على خد الداعية خطان أسودان من حرارة دمع الخضوع واللجوء لله جل وتعالى ..
التربية الإيمانية ..التي تكبح النفس عن جماح شهواتها ولذاذاتها ..
إنها التربية التي تعُنى أكثر ما تُعنى بإصلاح القلب واستقامته ، وتحقيق عبودية القلب لله جل وتعالى .
فإن صلاح القلب لازمه صلاح السلوك ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) .
ومع هذا فهي تربية شاملة تطهر القلب وتُزكّي السلوك ... وكم يتعجّب المتعجّب حين يقرأ في سيرة أحد السلف فيجد عبارة ( .. إذا رأيته تذكر الله ! )
أو ( رؤيته تذكر بالله ..! ) ونحو هذه العبارات .. وما هذا إلا اثر واضح لهذه التربية الإيمانية التي تظهر آثارها وأنوارها على الواقع ..
ومن هنا ندرك سر وصف عائشة رضي الله عنها لخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولها : ( كان خلقه القرآن ) .
حاجة الدعاة والمربين إلى هذه التربية !!
يقول سيد قطب : (إن هذا القلب البشري سريع التقلب ، سريع النسيان ، وهو يشف ويشرق فيفيض بالنور ، ويرف كالشعاع ؛ فإذا طال عليه الأمد بلا تذكير ولا تذكر تبلّد وقسا وانطمست إشراقته ، واظلم وأعتم !
فلابد من تذكير هذا القلب حتى يذكّر ويخشع ، ولابد من الطرق عليه حتى يرق ويشف ؛ ولابد من اليقظة الدائمة كي لا يصيبه التبلّد والقساوة ..) أ.هـ الظلال 7 / 3489
والدعاة إلى الله والمربون هم أحوج ما يكونون إلى هذه التربية وتلذيع النفس وتقريعها بالرغائب والرقائق والإشراق بنور الإيمان .. ليشرق الإيمان في دعوتهم ، في
أفعالهم وأقوالهم .. بل حتى هيئتهم وسمتهم .
أعربي يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيراه متبسماً فتشرق نفسه بالإيمان وحب هذا الرسول الكريم الذي أشرقت ابتسامته بنور الإيمان
( يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ )[النور:35]
وقد سبقت الإشارة إلى أهم أسباب طرح هذا الموضوع ، والتي تبين من خلالها شدة الحاجة لهذه التربية .
تعليق