
الأزمة الأساسية والمخرج الحقيقي
لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه (ذكركم).. فيه ذكر أخباركم وما تحتاجون إليه
لاحظ معي العلاقة بين هذه الآيات واصبر ولا تعجل فرؤية الآيات لا تصلح معها العجلة (سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ)
يقول ربنا في سورة المائدة:
{((وَتَرَى كَثِيرًا)) مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (62)
لاحظ أن الفساد أصبح مرئيا غير مُتخفّ وكثيرا غير نادر
وبالرغم من ذلك لم ينكر أحد ... فقال ربنا بعدها
{لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (63)
لقد كان المتوقع أن ينتفض المجتمع بعلمائه و وُعّاظه، بفقهائه وقُرّائه ليقوموا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ولكن ما هو الأمر الجلل الذي ينبغي أن يُنكره الجميع؟.. ما المقصود بقول الإثم؟
يقول الطبري:
هلا ينهى هؤلاء الذين يسارعون في الإثم والعدوان وأكل الرشى في الحكم ربانيوهم= وهم أئمتهم المؤمنون، وساستهم العلماء= وأحبارهم، وهم علماؤهم وقوادهم=
{عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ} يعني: عن قول الكذب والزور، وذلك أنهم كانوا يحكمون فيهم بغير حكم الله، ويكتبون كتبًا بأيديهم ثم يقولون:"هذا من حكم الله، وهذا من كتبه".
وأما قوله:"وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ"، فإنه يعني به الرشوة التي كانوا يأخذونها على حكمهم بغير كتاب الله لمن حكموا له به (انتهى).
إذن: الأمر الجلل هو تبديل شرع الله وأكل الأموال بالباطل جَرّاء فسادهم.
وأكمل الطبري موضحا خطورة هذه الآية فقال:
وكان العلماء يقولون: ما في القرآن آية أشدَّ توبيخًا للعلماء من هذه الآية، ولا أخوفَ عليهم منها.
ثم ذكر آثارا عن ابن عباس والضحّاك بهذا المعنى.
ولكن لماذا ختمت الآية بكلمة (يَصْنَعُونَ) بينما التي قبلها ختمت ب (يَعْمَلُونَ)
قال رشيد رضا في المنار:
فَهِيَ (هذه الآية) حُجَّةٌ عَلَى الْعُلَمَاءِ إِذَا قَصَّرُوا فِي الْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ، وَتَرَكُوا النَّهْيَ عَنِ الْبَغْيِ وَالْفَسَادِ، وَإِذَا كَانَ حَبْرُ الْأُمَّةِ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ هَذَا، فَمَا قَوْلُ عُلَمَاءِ السُّوءِ الَّذِينَ أَضَاعُوا الدِّينَ وَأَفْسَدُوا الْأُمَّةَ بِتَرْكِ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ؟ ... إلى أن قال:
وَالَّذِي أَفْهَمَهُ أَنَّ مَعَاصِيَ الْعَوَامِّ مِنْ قَبِيلِ مَا يَحْصُلُ بِالطَّبْعِ ; لِأَنَّهُ انْدِفَاعٌ مَعَ الشَّهْوَةِ بِلَا بَصِيرَةٍ، وَمَعْصِيَةُ الْعُلَمَاءِ بِتَرْكِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ قَبِيلِ الصِّنَاعَةِ الْمُتَكَلَّفَةِ ; لِفَائِدَةٍ لِلصَّانِعِ فِيهَا يَلْتَمِسُهَا مِمَّنْ يَصْنَعُ لَهُ، وَمَا تَرَكَ الْعُلَمَاءُ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ مَا أَخَذَ اللهَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمِيثَاقِ، إِلَّا تَكَلُّفًا لِإِرْضَاءِ النَّاسِ، وَتَحَامِيًا لِتَنْفِيرِهِمْ مِنْهُمْ، فَهُوَ إِيثَارٌ لِرِضَاهُمْ عَلَى رِضْوَانِ اللهِ وَثَوَابِهِ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الصُّنْعِ، لَا مِنَ الصِّنَاعَةِ، وَهُوَ الْعَمَلُ الَّذِي يُقَدِّمُهُ الْمَرْءُ لِغَيْرِهِ يُرْضِيهِ بِهِ. (انتهى)
وكأن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصبح (صَنعةً) لبعض العلماء يتكسبون منها.
ثم ذكر الله قولا شنيعا تكلم به اليهود ونسبوه إلى ربهم..
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا...)
ولكن ما علاقة هذا القول بالآية التي قبلها
يقول رشيد رضا:
هَذَا الْقَوْلُ الْفَظِيعُ مِنْ شَوَاهِدَ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ، الَّذِي أَثْبَتَهُ فِيمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَدْ عُزِيَ إِلَيْهِمْ - وَهُوَ قَوْلٌ وَاحِدٌ أَوْ آحَادٌ مِنْهُمْ - (((لِأَنَّهُ أَثَرُ مَا فَشَا فِيهِمْ مِنَ الْجُرْأَةِ عَلَى اللهِ وَتَرْكِ إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ)))، كَمَا قُلْنَا آنِفًا، وَالْمُقِرُّ لِلْمُنْكَرِ شَرِيكُ الْفَاعِلِ لَهُ، وَهَذَا هُوَ وَجْهُ وَصْلِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا. (انتهى)
أي لما تُرك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر انتشر الفساد في الناس حتى وقعوا في سبّ ربهم وانتقاصه سبحانه وتعالى ولم ينكر أحد.
ووجه آخر للربط وهو والله أعلم :
أن الظلمة لما بدلوا شرع الله وأكلوا أموال الناس بالباطل وذاق الناس ألم الفقر بسبب استبداد الظلمة ونزول العقاب، ولم ينكر ذلك كله أهل الدين = اتّهم الناس ربَّهم وأساؤوا فيه الظن وقالوا كيف يتركنا في هذا البلاء والفقر؟ وما قيمة دينٍ لا يجلب للناس حقوقَهم؟
فقالوا: يد الله مغلولة
لذلك رد الله عليهم في الآيات التي بعدها:
(وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ...)
أي لا تتهموا ربكم بالبخل ولكن اتهموا أنفسكم بالمعاصي.. فلو طبقتم شرعه ذُقتم نعيمَه.
وما المطلوب منا إذن؟ وما المطلوب الآن من الأحبار والرهبان (العلماء والوعاظ) ؟
قال ربنا بعدها مباشرة:
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ...)
يقول الطبري:
وأمر الله نبيَّه أن لا يُشْعر نفسَه حذرًا منهم أن يُصيبوه في نفسه بمكروهٍ ما قام فيهم بأمر الله، ولا جَزعًا من كثرة عددهم وقلّة عدد من معه، وأن لا يتّقى أحدًا في ذات الله،
فإن الله تعالى ذكره كافيه كلَّ أحد من خلقه، ودافعٌ عنه مكروهَ كل من يبغي مكروهه.
وأعلمه تعالى ذكره أنه إن قصَّر عن إبلاغ شيء مما أنزل إليه إليهم، فهو في تركه تبليغ ذلك= وإن قلّ ما لم يبلّغ منه= فهو في عظيم ما ركب بذلك من الذَّنب بمنزلته لو لم يبلِّغ من تنزيله شيئًا (انتهى)
أي أن الواجب عليهم: تبيينُ الدين كاملا غير ناقص ولو آية واحدة
د/ أحمد عبد المنعم

تعليق