الدعاة والإجازة الصيفية.. وقفات للتأمل
ما إن فرغ الإمام من الخطبة وأداء صلاة الجمعة حتى استدار إلى جموع المصلين طالبا منهم ضرورة التسجيل في حلقات تحفيظ القرآن الكريم بالمسجد خلال فترة الإجازة الصيفية، وكان خطابه موجها إلى أولياء الأمور بطبيعة الحال.
داعية آخر يكتب (40 وسيلة دعوية للإجازة الصيفية) وهذه مطوية مكتوب عليها (مقترحات دعوية للإجازة الصيفية) محاضرة لداعية آخر حول (أفكار دعوية للإجازة الصيفية) ومقالة على موقع إسلاميات عنوانها (صيفك المثمر) وهي تحوي عددا من الأنشطة والفعاليات المقترحة لاستغلال الإجازة الصيفية، هكذا أفكار ووسائل مقترحة لهذه الفترة المهمة التي يبحث فيها الجميع عن طرق لحسن استثمار هذه الأوقات (100) يوم تقريبا.
الإجازة الصيفية أصبحت هما يؤرق الأسر والآباء والأمهات، توضع لها الميزانيات وتُعد الخطط، ويتم التفاضل فيها بين الأماكن التي يمكن الذهاب إليها داخل الدولة أو خارجها، ليس هذا فحسب بل تدور الحوارات والمناقشات داخل الأسر بين الأبناء والآباء والأمهات حول ماذا يمكن أن يتم في هذه الفترة المهمة، كل تلك الأهمية لهذا الشأن الأسري والاجتماعي يجعلنا جميعا في حاجة للتوقف والمراجعة والتأمل لما يمكن عمله خلال تلك الفترة، وما هي فلسفتنا ورؤيتنا لذلك، ونركز على الدعاة باعتبارهم المرشدين والموجهين ومن تتجه إليهم أنظار الجميع طالبين منهم النصيحة العملية والمفيدة لاغتنام هذه الأوقات وهذا الفراغ.
وقفات كثيرة ينبغي على الجميع والدعاة على وجه الخصوص التأمل فيها وهم يوجهون المجتمع والأسر بخصوص الإجازة وأوقات الفراغ عموما، نذكر بها في هذا المقال ونقف عندها لعلها تفيد أو تعيد هندسة الرؤية لمثل هذه القضايا.
الوقفة الأولى: عطلات أم غنيمة
مهم للدعاة وهم يخاطبون الناس حول قضية الإجازة الصيفية وغيرها التوقف عند رؤيتنا ونظرتنا للإجازة، هل هي توقف للحياة والإنجاز وفترة عطالة وبطالة وكسل وتراخٍ؟ أم هي فترة لتجديد النشاط وإنجاز المشاريع واكتساب المهارات؟ صحيح أن الطلاب يأخذون إجازة من الدراسة لكنهم لم يأخذوا إجازة من الحياة والعمل الاجتماعي والأسري والتطوعي، ولذلك على الدعاة وهم يوجهون الآباء والأمهات أن يلفتوا نظرهم إلى ضرورة استثمار الإجازة في إنجاز بعض الأعمال، ولم لا يتم توجيه الأبناء على الالتحاق بعمل يومي ولو لساعات بسيطة يكتسب من خلاله الأبناء مهارات جديدة ويتعلمون من خلاله تحمل المسؤولية، وبهذا نحول الإجازة من عطلة وتعطل إلى عمل وإنجاز، ويكون جيدا لو كان العمل له صلة بمجال الدراسة أو بالمجال الذي يمكن أن يتخصص فيه الأبناء مستقبلا.
الوقفة الثانية: بين حلقات التحفيظ وندوات التثقيف
من المهم للدعاة وأولياء الأمور وهم يفكرون في حسن توجيه الأبناء لقضاء إجازة مفيدة أن ينوعوا بين الأنشطة والهوايات التي يمارسها الأبناء خلال الصيف والإجازة، وأن تلبي هذه الأنشطة احتياجا ورغبة حقيقية للأبناء وعدم التركيز على نشاط واحد كحفظ القرآن مثلا فهو مع أهميته وأولويته إلا أن على الدعاة وهم يوجهون أن يوازنوا بين التثقيف الشرعي والتثقيف الاجتماعي، فإلى جانب حلقات التحفيظ تكون هناك قاعات وندوات للتثقيف الاجتماعي والفكري والمهني، وتوضع أجندة هذه الحوارات وفقا لاحتياج الأبناء لا احتياجنا نحن، ويمكن أن يُترك للأبناء والشباب تنظيم وإدارة هذه الأنشطة والفعاليات، وعلى الدعاة والآباء أن يدركوا طبيعة هذا الجيل وثقافته ولغته التي يفهمها حتى يحسن التواصل معهم وتوجيههم بالطريقة المناسبة.
وفي مجال التثقيف الشرعي والفقهي على الدعاة أن يدركوا طبيعة أسئلة هذا الجيل وشكل الإجابات المطلوبة والشبهات التي يمكن أن يثيرها الشباب خصوصا التي تأتي من فضاء وسائل الإعلام الجديد (تويتر وفيسبوك) والشبكة العنكبوتية.
الوقفة الثالثة: شباب الثورات لا يعرف الإجازات
من المهم ونحن نخطط للإجازة ألا نضع كل الأبناء في مستوى واحد، وأن نولي أهمية خاصة للشباب (الثانوي والجامعي وربما المتوسط) لأن الأطفال الصغار يمكن أن نستوعبهم في حلقة تحفيظ وبعض النزهات والرحلات الترفيهية، لكن الشباب لا بد من إعطائه اهتماما خاصا هذا الجيل الرقمي الثوري المغامر بطبعه وسنه وجيله له اهتماماته الخاصة وعالمه ورموزه ولغته ونجومه وآليات التواصل معه مختلفة وله شفرة خاصة به لو استطاع الدعاة والآباء معرفتها والتعامل معه عن طريقها لأمكننا تحقيق الكثير والمفيد للأسر والمجتمع.
وأتصور أن من واجب الدعاة وقادة الرأي والتوجيه في المجتمع أن يوجهوا الآباء إلى ضرورة تعلم وفهم طبيعة هذا الجيل واهتماماته والزمن الذي يعيشون فيه واللغة التي يفهمها، وأعتقد أن هذا الجيل يحتاج أن نستمع إليه كثيرا ونحاوره، ونقنعه لا نقمعه، ونقدره لا نكدره، هذا الجيل الذي فجر الثورات وقدم التضحيات يقبل على الموت في الوقت الذي يحرص فيه الكبار على الحياة، على الرغم من أن هذا الجيل يفترض أن الحياة قادمة بالنسبة له لكن تركيبته الجبلية والعصرية والنفسية تجعل الحرية لديه أغلى من حياة الاستعباد، ولكل ما سبق على الدعاة والمربين وأولياء الأمور أن يحسنوا استثمار هذه الطاقات الشبابية حتى تكون إضافة للمجتمع لا خصماً له.
الوقفة الرابعة: بين الوسائل والمضامين
ليست لدينا أزمة في الوسائل والأفكار لاستثمار الإجازة، لكن لدينا في أحيان كثيرة مشكلة في نوعية المضامين والمحتويات التي نقدمها من خلال هذه الوسائل، هذه المضامين تحتاج إلى مراجعة دائمة لمعرفة مدى مناسبتها لأبنائنا أم لا وكيفية تقديمها، فقد يكون المحتوى جيدا لكن الطريقة غير جيدة أو غير مناسبة، فما يمكن توصيله من خلال محاضرة يمكن توصيلة من خلال عمل درامي أو فني، وما يمكن توصيلة من خلال ندوة يمكن توصيلة من خلال رحلة أو رشة عمل وهكذا، ولذلك فالتنويع مهم في الوسائل ومهم كذلك في المضامين، وقدرتنا على إيجاد وتكوين قيادات شبابية ناضجة ربما يكون أكثر فاعلية وجدوى من قصرها على المربين الكبار أو الدعاة.
أبناؤنا يحتاجون إلى محتويات جديدة ووسائل جديدة أكثر جاذبية وتشويق، وطرق اتصال أكثر إقناعا، وحتى يتم ذلك على الدعاة توجيه من يقومون بالتواصل مع الأبناء بضرورة تطوير أنفسهم ومهاراتهم حتى يكونوا جاذبين لا طاردين، مشوقين لا منفرين، مستوعبين لا مستفزين، معلمين لا معنفين، مربين لا معرين.
الوقفة الخامسة: من صخب المولات إلى سكينة المساجد
تقضي بعض الأسر -وربما أغلبها- وقتا كبيرا في المولات والتسوق لشراء الحاجات وربما لمجرد التنزه والتسلية ومعرفة الجديد من الموديلات والصيحات في عالم الأزياء والهواتف وغيرها، أليس كذلك؟ لا أقول ذلك مستنكراً أو محرماً وإنما واصفا لحال كثير من الأسر والبيوت التي تقضي هذه الأوقات في المولات، وقد شجع على ذلك في بعض البلدان كثرة هذه المولات وما تفعله شركات الدعاية والإعلان في تزيين التسوق والاستهلاك، وكذلك قلة الأماكن والحدائق والمتنزهات العامة التي يمكن أن تقضي فيها الأسر مع أبنائها بعض الوقت بعيدا عن البيوت.
وهنا يأتي دور الدعاة والعلماء والمربين وأئمة المساجد في تنمية وتعميق الجوانب الروحية أمام هذه المادية الطاغية على البعض، وجعل المساجد وارتيادها أماكن يسترد فيها الناس سكينة فقدوها -في خضم هذا الصخب والضجيج- من خلال آيات القرآن وكلمات الرحمن، بموعظة رقيقة، وخاطرة إيمانية، وتذكرة روحية تدخل السكينة في النفس والطمأنينة في القلب، وكلما كثُرت ماديات الحياة وأخذت الأرض زخرفها كلما كان على الدعاة أن يكونوا أكثر إشراقا وتألقاً وروحانية ترتفع بالناس إلى مستوى خلافتهم لله في الأرض.
كثيراً ما نعتب على أبنائنا أنهم لا يرتادون المساجد ولا تتعلق قلوبهم بها، ولم نعتب على بعض دعاتنا وأئمة مساجدنا أنهم لا يبذلون جهداً في تحضير الخطبة فتأتي ميتة لا روح فيها بعيدة عن تلبية أشواق الناس الروحية، ووسائل التشويق في الباطل أصبحت كثيرة ومتنوعة وسهلة، لكنّ وسائل التشويق في الخير -للأسف- ليست على نفس المستوى وهو ما يستدعي المراجعة والتوقف وإصلاح الحال.
الإنجاز الحقيقي الذي يمكن أن يؤديه الدعاة في هذا الصدد هو قدرتهم على جذب الناس وخصوصا الشباب إلى المساجد وتعميق المعاني الإيمانية وتلبية الأشواق الروحية وهداية النفوس وتهدئتها وطمأنة القلوب وتطمينها ولا يكون ذلك إلا بتذكير الناس الدائم بالله “أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ”.[الرعد:28]
——
تعليق