بسم الله الرحمن الرحيم
الدعوة إلى الله ـ خطاباً أو تدريساً ـ نوع من أنواع القيادة الفكرية ومن أولى مقومات القيادة، امتلاك القدرة على التأثير، في الآخرين وحملهم على تغيير تصوراتهم وقناعاتهم من جهة، ثم حملهم على تغيير سلوكهم وأنماط حياتهم من جهة أخرى، مع التأكيد على أن يكون هذا التغيير طوعاً لا كرهاً.. قال تعالى:
﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾
[سورة البقرة الآية 256]
والدعوة إلى الله نوع من أنواع التربية، وهي في حقيقتها توجيه الأفراد توجيهاً صحيحاً، في مختلف المجالات، في العقائد، والعبادات والمعاملات، وبحسب المصطلحات الحديثة، توجيه الأفراد توجيهاً علمياً، ونفسياً، واجتماعياً، كل هذا.. من أجل أن يُحقق الإنسان الهدف الذي خلقه الله من أجله، فيسعد هو ومجتمعه في الدنيا والآخرة قال تعالى:
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾
[سورة الذاريات الآية 56]
والعبادة في بعض تعاريفها: طاعة طوعية، تسبقها معرفة يقينية تُفضي إلى سعادة أبدية، لذلك كان لزاماً على الداعية إلى الله أن يملك القدرة على التأثير في الآخرين، ليتمكن من تأدية رسالته المقدسة التي وقف نفسه عليها، تأدية كاملة، أو قريبة من الكمال، ويمكن للداعية أن يمتلك الكثير من مقومات " فن التأثير في الآخرين " لأن هذا الفن ليس موهبة فطرية كلياً، بل فيه نوعٌ من الكسب، فمن مقومات التأثير في الآخرين:
ـ جلب انتباههم، والحركة بمعناها الواسع، تجلب الانتباه، فتحرك المتكلم تحركاً معتدلاً، وذا معنى، وتحريك يديه ورأسه حركة ذكية مُعبرة، وتحريك عينيه لتقعا على كل مُستمع، وتحريك الصوت بتلوينه ارتفاعاً وانخفاضاً، رقَّة وجزالة، بحسب المعنى والهدف وتحريك الأسلوب بين الخبر والإنشاء، وبين الأمر والنهي، والوعد والوعيد وبين الوصف والتحليل، وبين السرد والنقد، وبين القصة والمثل، وبين التقرير والتصوير، وبين الترغيب والترهيب، وبين الحوار والحدث فإن في الحركة جلباً لانتباه الآخرين، وجلبُ انتباههم شرطٌ لإحداث التأثير فيهم.
ـ وتُعد القصة من أهم الأطر التعبيرية، ومن أوسعها انتشاراً، ومن أقربها إلى النفس الإنسانية، وذلك لقدرتها على التغلغل في أعماقها ونظراً لما تنطوي عليه من حقائق إنسانية، ولما تتمتع به من إثارة وتشويق، ولما تتركه في نفس المستمع أو القارئ من أثر فكري وأخلاقي، لذا تُعد القصة من أشهر الوسائل التعبيرية، والتوجيهية فاعلية، ففي القصة تتحرك الشخصيات، عن طريق الحدث والحوار، حركةً لا يمكن التنبؤ بنتائجها، وهذا هو سرٌّ التشويق في القصة ففي الإنسان قدرٌ من حسب الاطلاع، يدفعه إلى متابعة كل متحرك، لا يعرف كيف يستقر، ويظل مشدوداً إلى هذا المتحرك، إلى أن يعرفَ مصيره على الأقل، وهذا ما يُفسر عدم تركنا قصة شائقة ومثيرة ومن هنا كانت القصة إحدى أهم الوسائل الفعالة في التوجيه، بسبب ما تملكه من إمتاع مستمر يجعل المرء مشدوداً إليها، فإذا كان مغزاها يتصل بحقيقة دينية أساسية، تركت أثراً كبيراً في إحداث تصورات ومواقف جديدة لدى المستمع، قال تعالى:
﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾
[سورة يوسف الآية 111]
ـ ومن أساليب التأثير في الآخرين الاستعانة بالرغبات، والحاجات فمن الضروري إذا أريد التأثير في شخص ما، أن يُجعل من رعباته المشروعة، وحاجاته وسيلةً للتأثير فيه، فمجرد إلقاء المعلومات لا يأتي بالثمرة المطلوبة، ما لم تكن هذه المعلومات مرتبطة بالاهتمامات الحقيقية للشخص المستمع، فالإنسان نادراً ما يتأثر عن طريق العقل المجرد، أو الحقائق الجافة، التي ليس لها صلة بحياته، فالوعظ والتعنيف واللوم مضيعةٌ للوقت، مجلبةٌ للسأم، والحديث عن الحياة الطيبة، التي وعد الله بها المؤمنين أقرب إلى قلب المستمع من موضوع المواريث أو عتق العبيد.
ـ وعامل آخر من عوامل التأثير في الآخرين ؛ وهو الجدَّةُ والإبداع. إن مقداراً معيناً من الجدة والإبداع ضروري لجلب انتباه الآخرين والتأثير فيهم، على ألا تكون تلك الجدة بعيدةً جداً عن المألوف، لأن الناس يخشون قليلاً الأشياء الغريبة المخالفة، وهم من جهة أخرى لا يُصغون إلى الحكاية القديمة المألوفة، لهذا نحن بحاجة إلى مزيج عادل من القديم والجديد. قال تعالى:
﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)﴾
[سورة النحل الآية 8]
ففي الآية إشارةٌ إلى وسائل النقل الحديثة، مع وسائل النقل التي كانت سائدة.
ـ هذا وإن معرفة خطوط دفاع الآخرين، والتغلغل وراءها ضروري لإحداث الأثر المطلوب ؛ فالإنسان ـ عادة ـ مستمسك بما هو عليه من تصورات، ومواقف، وتصرفات، وعادات، وتقاليد، وهو يدافع عنها ويرفض كل تجديد، لأنه يدافع عن شخصيته، ويؤكد ذاته، والتأثير في مثل هذا النوع من الناس صعبٌ، إلا إذا تمكن الداعية من تحطيم خطوط دفاعه، أو التسلل وراءها ليصل إلى حاجاته الأساسية، أو سماته العميقة ويستعين بها لإحداث قناعات جديدة، ومواقف صحيحة مخاطباً العقل تارةً والعاطفة تارةً أخرى.
ـ ولا يستطيع الداعة أن يؤثر في الآخرين إلا إذا شاركهم في معاناتهم فإذا اقترب الداعية من واقع الناس، وعاش مشكلاتهم، كان أقرب إلى قلوبهم، وأقدر على حل مشكلاتهم، وأملك لقوة التأثير فيهم إن الداعية لحقيقي يختلط مع الناس، ليفهم مشكلاتهم، ويرشدهم إلى حلها، فالأنبياء العظام اختلطوا مع الناس، ومشوا في الأسواق وشاركوا الناس كل ما في الحياة، إلا الصغائر والآثام، إنهم قاسموهم كل شيء إلا ضعفهم الفكري، والخلقي، إنهم مع الناس ليفهموهم ويرحموهم، ويرشدوهم، وليكونوا لهم القدوة والنبراس.
ولا يكون كلام الداعية مؤثراً إلا إذا توافرت فيه شروط منها:
ـ الإعداد العلمي الجيد: فينبغي أن يعرف المتكلم ماذا يريد أن يقول وما الهدف من المحاضرة، ما موضوعها الأساسي، ما الأفكار الرئيسية، ما المعاني التفصيلية التي تُعمق الأفكار الأساسية، ما الأدلة النقلية، ما الأدلة العقلية، التي تدعم ما يذهب إليه، ما الأمثلة الواقعية وما القصص المؤثرة التي توضح وترسخ ما يريد أن ينقله إلى الناس، ثم كيف يرتب وينظم هذه الأفكار والشواهد، والأدلة والقصص، وما الذي ينبغي أن يُقال أولاً، أنشرح الفكرة ثم نأتي بالدليل، أم نأتي بالدليل ثم نشرحه ؟ فلابد من تنظيم الأفكار، وتشقيقها وتفريعها، وفق خطة واضحة، محكمة معلومة، لدى المستمع ولابد من محور تاريخي أو موضوعي أو شخصي تسير عليه الأفكار، في حركتها وانتقالها، ولابد من التنويه عند الانتقال من فكرة إلى أخرى ولابد من تلخيص الموضوعات الكبرى في المحاضرة، فمن الثابت أن الإنسان لا يصغي عادة إلى الحديث المضطرب غير المنظم.
ـ وعلى الداعية الناجد أن يفكر بسامعيه، فعليه أن يجعل لهم صورة في ذهنه، ماذا يحبون ؟.. وبماذا يهتمون ؟.. وما الموضوعات التي تعنيهم ؟.. وما الموضوعات التي سئموها ؟.. فالموضوعات التي لا تتصل بحياة الناس، ولا تتعلق بمشكلاتهم، ولا تُجيب عن تساؤلاتهم ولا تنهي حيرتهم ؟ مثل هذه الموضوعات لا يلقون إليها آذاناً صاغية، ولا يجدون رغبة في متابعة الاستماع إليها.
ففي الجامعة يُلزم الطالب بمتابعة المحاضرات، وربما توقف نجاحه على هذه المتابعة، بينما لا يملك الداعية أو المدرس الديني أن يُلزم أحداً على حضور دروسه، لكن قوة المضمون، وروعة العرض وجمال الأسلوب، ودقة الأمثلة، وحضور القلب، والإخلاص في هداية الآخرين، كل هذه الشروط تجعل الآخرين ملتزمين بحضور هذا الدرس.
ولا يستطيع الداعية الناجح، أن يشد الناس إليه، إلا أن يعتقد الذكاء والنباهة في المستمعين، فلا يفرض أنهم لا يعرفون شيئاً، ولا يستطيعون أن يفكروا في شيء، فهو يلقي إليهم أبسط الحقائق وأتفه التفصيلات، ويجري أمامهم المحاكمات الشاذة عندئذ يخسرُ فئة الأذكياء من مستمعيه، أو يخسر انتباههم، ثم يخسر تقديرهم، ثم يخسر وجودهم. بل يجب عليه أن يجعل المستمعين يفكرون معه ويملئون بعض الفارغات الفكرية، ويحملهم على أن يستنبطوا بعض الحقائق بأنفسهم، والقرآن الكريم يعلمنا أن نلحظ ذكاء المستمع، قال تعالى:
﴿أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ﴾
[سورة يوسف الآية 45-46]
فهناك تفصيلات كثيرة لم يذكرها القرآن، مفترضاً الذكاء والنباهة في القارئ، ولو ذُكرت لكانت عبئاً على القصة وليس في خدمتها وهذا هو سر أن البلاغة في الإيجاز، وقد قيل: " البلاغة بين الإيجاز المخل والإطناب الممل ".
ـ والداعية الناجح لا يُشعر المستمعين بالنقص، فهم لا يعرفون شيئاً وهو يعرف كل شيء، فلا ينبغي أن يُحدثهم بلغة لا يفهمونها، ولا ينبغي أن يعرض عليهم أفكاره بطريقة لا يألفونها، لان ينبغي أن يجعل بينه وبينهم هوة كبيرة، بل عليه أن يبسط لهم الحقائق المعقدة وييسر لهم سُبل الفهم باستخدام العبارة الواضحة المألوفة، عليه أن يضرب لهم الأمثلة، أن يقصَّ عليهم القصص الموضحة، إن هذا الأسلوب هو ما يوصف بالسهل الممتنع، فهو سهل على المستمع ممتنع على المقلد، وإن الذين تركوا آثاراً واضحة في مستمعيهم تميزت أساليبهم بالسهولة والامتناع.
ـ والداعية الناجح هو الذي يستعمل الفكاهة الذكية الرصينة، التي لا تجرح ولا تؤذي أحداً، بل ربما كانت نابعة من موضوع الحديث نفسه، وقد تكون موضحة لبعض الحقائق فيه، فهي تجدد نشاط المستمع، وتقوي فيه الانتباه، وتعزز عنده الفهم، وهي تقيم نوعاً من الصلة المحببة بين المتكلم والمستمع.
ـ ويُفضل أن يمرَّ الداعية بنظره على كل من يستمع إليه، فكأن هذه النظرة التي يُلقيها المتكلم على المستمع تقيم اتصالاً روحياً بينهما فضلاً عن أنها تشدُّ المستمع إلى المتكلم، وتُعينه على متابعة الموضوع، والتفاعل معه، بينما انقطاع النظر بين المتكلم والمستمع، يضعف المتابعة، ويسبب السأم، ويقطع الصلة الروحية بينهما، لهذا كانت المساجد التي تتيح للخطيب أو المدرس أن يرى كل المستمعين أكثر فعالية في أداء رسالة المسجد.
ـ ومن أهم عوامل التأثير أن يعرف الداعية، أن لكل شيء حداً يقف عنده، وإذا تجاوزه أدى ذلك إلى تأثير سلبي معاكس لهدف المتكلم. فهناك حدٌ لما ينبغي أن يعمل في وقت معين، هناك حدٌ لانتباه المستمع، هناك حدٌ لمقدار التأثير الذي يمكن إحداثه في فرصة معينة، إننا نُخفق حينما نحاول أن نعمل أكثر مما ينبغي في مرة وحدة، لذلك على المتكلم أن يعرف متى ينبغي أن يقف، قف متى انتهيت، قف متى انتهى الذي أعددته، قف إذا شعرت أن الملل والسأم قد بدا على وجوه المستمعين قف وهم يتمنون لو تتابع الحديث، لا أن يتمنوا أن تقف وأنت تتابع الحديث.
وهنا محل الإشارة أن من عوامل نجاح المتكلم، بل من عوامل جلب انتباه المستمعين طوال فترة المحاضرة، أن يعلموا جميعاً متى تنتهي المحاضرة، فهذا الدرس ـ مثلاً ـ ينتهي مع أذان العشاء، إذن الجميع منصرفون إليه لأنهم يعرفون توقيته ومدته، وقد يبنون على مدته المحددة مواعيدهم الأخرى، ويستريحون من القلق الذي يساورهم إذا كانت مدة المحاضرة مفتوحة.
أما الشروط التي تجعل الخطاب ثقيلاً فهي كثيرة منها: الجمود بكل معانيه المادية والمعنوية، والبعد عن حاجات المستمع ومشكلاته وعدم مزج القديم بالجديد، والاتجار من دون إعداد وتنظيم، والإطناب الممل، والإيجاز المخل، وعدم الوضوح، وعدم وجود الإثارة والوتيرة الواحدة، والتكرار، وعدم وجود الصور الحية، وأن يكون المتكلم في واد، والمستمع في واد آخر.. واستخدام أسلوب اللف والدوران في معالجة الموضوع، والإكثار من التعميم، والسرعة في إصدار الأحكام والمبالغة والتهويل، والحشو والتفصيل.والحمد لله رب العالمين
تعليق