الاستغفار ودوره في تيسير الحياة
أسامة الهتيمي
حياة الإنسان على سطح الأرض لا تَخلو مِن مصاعب ومشكلات قد تكون بسيطة أو قوية أو تُشبه الزلزال، والإنسان في مواجهة مُشكلاته تختلف قدراته اختلافًا ضخمًا؛ فهناك مَن يستطيع السيطرة على مشكلاته العاصفة، ويستطيع تيسير حياته
وهناك مَن يَنحني ويَنزوي من مشكلات الحياة التي تُصنَّف بأنها عادية جدًّا.
ولعلَّنا نتساءل عن السبب أو الأسباب التي تجعل حياة البعض يسيرة سَلِسة، بينما تبدو الحياة كعبء كبير لدى آخَرين.
والحقيقة أنها أسباب كثيرة تتداخل فيها العوامل الوراثية وعناصر التربية الأولى والثقافة السائدة و.. و..، لكن هناك سبب مِحوَريٌّ وأساسي وركيزة أساسية لا يمكن لحياة إنسان على وجه الأرض أن تطيب بدونها، ألا وهو علاقة الإنسان بخالقه - عز وجل - فكلما اقترب الإنسان أكثر واستشعَر قربَه منه -تعالى- ودعاه وذكره، كلما نظر للحياة بمِنظار مختلف أوسع وأرحب، فهانت مشكلاته وتمكَّن من الصبر مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]،
والعكس صحيح أيضًا، فكلما ابتعد الإنسان عن خالقه ولم يذكرْه تحوَّلت حياته لشقاء مُقيم كحياة شيطان؛ يقول تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ﴾ [الزخرف: 36 - 38].
ومِن أهمِّ المفاتيح التي يَقترب بها الإنسان من ربه، ومِن ثَمَّ تتيسر حياته في الدنيا قبل جزائه في الآخِرة: مِفتاح الاستغفار الذي يفتَح الأبواب المُغلَقة والموصدة، ويُزيل المرارة التي تَعتري الإنسان وهو يصارع مشكلاته،
بل هو يحلُّ المشكلات الصعبة مِن جذورها؛ فللاستغفار شأن عجيب لا يَعرِفه إلا مَن جرَّبه وذاق حلاوته؛ يَقول ربُّنا - عز وجل - عن الاستغفار: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 10، 12].
فالاستغفار يَجلب الرزق بكل صوره؛ أمطار تأتي بالخير وتَنعدِم الحياة بدونها، وأولادٍ هم زينة الحياة الدنيا،
وجنات وأنهار تَطيب بها الحياة ويكون العيش رغدًا.
وليس مِن المبالغة في شيء أن نقول: إن كل مشكلات الحياة مرتبطة بقضية الرزق سلبًا وإيجابًا؛ فطلب المال رزق، وطلب العلم رزق، وطلب الصحة رزق، وطلب الزوجة الصالحة رزق، وطلب الأولاد رزق، والرزق يأتي بالاستغفار الصادق
مع اليقين الجازم، وبهذا تُواجَه المشكلات.
وفي الحديث: (مَن لزِم الاستغفارَ جعل اللهُ له من كلِّ همٍّ فرجًا ومن كلِّ ضيقٍ مخرجًا ورزَقه من حيثُ لا يحتسبُ
))؛ صححه ابن باز
نعم؛ المخرَج مِن الهمِّ والغمِّ والضيق - أيًّا كان سببه - هو الاستغفار، والشواهد كثيرة جدًّا، وكتُب التراث مليئة بقصص العلماء والسلف الصالح مع الاستغفار؛ فكان كلٌّ منهم إذا حزَبه أمر لجأ للاستغفار - بيقين -
فتُحلّ مشكلته أو مسألته بيُسْرٍ وسُهولة.
وفي حياة مادية ذات إيقاع مُتسارِع تغدو حاجتنا للاستغفار أشدَّ وأقوى؛ فتعقيدات الحياة التي نعيشها في هذا العصر لا تُحتمل أبدًا بدون الاستغفار، يكفي أن ترطيب اللسان بذكر الله -تعالى- يُخفِّف مِن وطأة الغضب والانفعال اللذَين يَستشعِرهما إنسان العصر الحديث مع كل خطوة يَخطوها، فعندما تقف في انتظار حافلة تُقلُّك لمكان عملك، وعندما تأتي الحافلة - بعد طول انتظار -
مُكدَّسة بالبشر وتَختنِق وأنت محاط بهؤلاء، ثم تقف هذه الحافلة وقتًا رهيبًا طويلاً في إشارة مرور، فكيف تذهَب لعملك وتبدأ يومك وأنت على هذه الحال إذا لم يكن الاستغفار هو رفيقك؟! أو كيف تعود لبيتك وتَبتسِم لزوجتك وأولادك وأنت
على هذه الحال إن لم يكن الاستغفار هو رفيقك؟!
الاستغفار يجعل الإنسان يتقبَّل هذه الأشياء اليومية المُملَّة برحابة صدر ويَحتسِب أجرَها عند الله تعالى.
نموذج آخَر بسيط وذو دلالة على أهمية الاستغفار مع نمط حياتنا اليومية، أتذوَّق أحيانًا الطعام الذي تُعدُّه زوجتي فأجده شهيًّا ورائعًا ومختلفًا، فأسألها عن السرِّ فتقول لي وهي تبتسم: كنت أستغفر الله وأنا أعدُّ هذه الوجبة،
فأقول في نفسي: يا ألله حتى الطعام يَختلِف مذاقُه بالاستغفار!
ومنذ نحوٍ مِن عام تعرَّضتُ لأزمة هزت كياني عندما رُزقتُ بطفلة مُبتسَرة أمضت نحوًا مِن الشهرين في الحضَّانة، وحالتها بالغة السوء؛ فهي عاجزة عن التنفس تمامًا، وموضوعة على جهاز التنفس الصناعي، ومصابة بتسمُّم دمويٍّ، وأمراض أخرى يزول واحد ويأتي آخَر، والأطباء قد يئسوا مِن شفائها، وبعضهم
قال لي: لا تحزن إن توفِّيتْ؛ فنقص الأكسجين الذي تعرَّضت له منذ مولدها، ووجودها على جهاز التنفس الصناعي لفترة طويلة، قد يكون له تأثير على البصر أو السمع أو الحركة أو الإدراك، في ذلك اليوم رأيتها هيكلاً عظميًّا تلفُّه الأجهزة والآلات، وقد تلوَّث وَجهُها وأنفها وفمها بالدم من كثرة الحقن والأجهزة، وهي موضوعة في ذلك القفص الزجاجي، وفي طريق عودتي رأيت الأشجار خضراء وارفة، مملوءة بالجمال والبهاء، فتذكَّرتُ ابنتي المريضة الذابلة،
ودعوت الله الذي أبدع هذا الجمال والقوة أن يَمنحهما لهذه الذابلة العاجزة فلذة كبدي، قرأتُ يومها مقالاً لرجل تعرَّض لنفس أزمتي، وقال له الأطباء مثل ما قالوا لي، ففزع لصلاته ودعائه وتحقَّقت المعجزة وشفى الله ولده، وهو الآن لديه ست سنوات، وهو سليم معافًى وأكثر إخوته ذكاءً، ففزعت أنا أيضًا للاستغفار والدعاء وأنا أتلمَّس الأوقات الشريفة، وفوجئت في نفس اليوم باتصال هاتفي مِن المستشفى يخبرونني أنهم سوف يَنقلون ابنتي من جهاز التنفس الصناعي،
وكنتُ كلما دعوتُ الله تَنتقل ابنتي خطوة على طريق الشفاء حتى شُفيتْ تمامًا، وها هي الآن تجاوزَت العام ولم يمسَسها سوء، وإدراكها جيد للغاية، وحواسها سليمة، والأكثر من ذلك أنها أصبحت بالغة الجمال، فلم أر في حياتي طفلة بجمالها، وهذه شهادة كل مَن يراها، وعندما أرى هذا الجمال البديع أتذكَّر تلك الأشجار اليانعة التي جعلتني أدعو مَن أبدعها أن يهَب لابنتي مثل جمالها.
هذه تجربتي وشهادتي في مشكلة آلمَتْني وأبكتْني، ثم حوَّلها رب العالمين فأصبحت هذه الطفلة مُتعتي الكُبرى
في الحياة، وأصبحت ابتسامتها ونظراتها لا تَعدِل عندي كُنوز قارون، فسبحان الوهاب القدير!
المصدر/ شبكة الألوكة
تعليق