السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
(دراسة)
ظاهرة الاحتفال بالمولد النبوي وآثارها(*)
(اختصرها/ أبو أنس - عفا الله عنه-)
كيف؟ لا أدري. لمـــــــاذا؟
ربما أنـنـي يـومــاً عـرفــت السَبَبَا
عالمٌ يدعو بدعوى جاهلٍ !!
وليــوثُ الحربِ ترجــو الأَرْنَبَـــا!!
سؤال مبهم في مطلعه، لكنه محير في خاتمته!! والإجابة عنه تختلف باختلاف ما يدور السؤال حوله من مبهمات حياتنا التي كثرت، وكل منها يحتاج إلى أسئلة لكنها أحوج إلى إجابات تشفي.
كيف تصبح محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيدةً عن دينه وهديه؟
كيف تصاغرت همم الناس للاشتغال بذكر شمائل رسولهم -صلى الله عليه وسلم- ومآثره في يوم أو بعض يوم من العام، ثم يُتناسى ويُهجر ذكره سائر العام؟!
ولماذا تنفق الأموال وتسير الجموع إلى مـثـل هــــذه الـمـواقــــف ؛ والمسلمون في كل أرض يُتخطفون؟!
وأصبح تضخيم تلك الاحتفالات وحبْك الأساطير حولها ثم إشاعتها بين العوام وأشباههم - ليتلهوا بها - من الوسائل التي يلجأ إليها الحكام لصرف الناس عن الدين الحق ؛ فما أن يفرغ الناس من مناسبة حتى يلاحَقوا بغيرها، وهكذا دواليك.
أصل بدعة المولد:
ـ مـن الـمعـروف أن أول من توسع في الاحتفال بالموالد في مصر هم العبيديون المسمَّوْن بـ(الفاطميين) وقــد كانت لهم ذرائع ودوافع في إحياء الاحتفال بالموالد، جُلها لا تمت إلى محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- بصلة ؛ وهي - مع التأمل - الذرائع والدوافع نفسها التي لا تزال وراء الاحتفال بالمولد إلى يومنا هذا.
* أسباب النشأة وتفاعلاتها الاجتماعية :
من خلال التتبع الواقعي لتاريخ الاحتفال بالمولد في مصر واستقراء ما يجري فيه من وقائع يمكن أن نجمل الدافع إلى ذلك في عدة أسباب هي :
1 - نشر العقائد الشيعية
من خلال التذرع بحب آل البيت والارتباط بهم ؛ وهذا ما صنعه العبيديون من قبل ويفعله أحفادهم والمتأثرون بهم في كثير من البلاد.
2 - نيل الشهرة والصيت ؛
وهذا يختص بفـئـة تنفق على هذه الموالد وترعاها من الأغنياء والموسَرين.
3 - كسب الولاء الـديـني
وهــــو الـدافــع الذي يدفع (مشايخ الطرق) للتسابق في إقامة السرادقات، والمشي في المسيرات من أجل الاستزادة من الأتباع.
4 - الارتزاق
وهو ما يقوم به طائفة عريضة من تـجــــــــار الحلوى وبائعي (أمور أخرى) ومؤجري الألعاب والملاهي والبائعين الجوالين، بل مشايـــخ الطرق المنتفعين بما يجري في الأضرحة، والمداحين والقصاصين والمنشدين والمغنين والراقصات! وأمثالهم.
5 - إتاحة الفرصة أمام الفساق والفجار الذين يسعون وراء الحرام؛
فإذا ما سمعوا بمولد قالوا : هلموا إلى بغيتكم ؛ حيث يتسنى لهم فيها قضاء مآربهم.
6 - التعمية على بعض الممارسات المعادية للدين الحق.
وقد تطور هذا في العصور المتأخرة إلى وسائل أكثر تعمية كأن تفتتح في الموالد بعض المشاريع الـكـبـرى وتـقـــــام المهرجانات الدينية! من أجل الاحتفال بسيد المرسلين! -صلى الله عليه وسلم-، وتكون الرسالة التي يراد لها أن تبلغ الجميع أنه ليس أغير على النبي -صلى الله عليه وسلم- وديـنـــه من هؤلاء، ويُقدَّم الرسول -صلى الله عليه وسلم- في أدبياتهم على أنه شخصية تاريخية كان لها أثرها في تاريخ الأمة العربية! شأنها شأن العظماء، ومع انتهاء الحفل يسدل الـسـتـار حتى إشعار آخر.
وأوضح أنموذج لذلك
ما ذكره الجبرتي من أن نابليون أمر الشيخ البكري بإقامة الاحتفال بالمولد وأعطاه ثلاثمائة ريال فرنسي، وأمره بتعليق الزينات، بل وحضر الحفل بنفسه من أولــــه إلـى آخـــره (2)،
ويعلق عبد الرحمن الرافعي قائلاً : فنابليون قد استعمل سياسة الحفلات ليجذب إليه قلوب المصريين من جهة، وليعلن عن نفسه في العالم الإسلامي بأنه صديق الإسلام والمسلمين(3).
... والحق أن الموالد من أخصب البيئات للمناكر الظاهرة والمستترة ؛ ففي ساحاتها الواسعة ينتشر الرقعاء دون خجل، ويختلط النساء بالرجال في المأكل والمشرب وغيرها ؛ حيث تكثر جرائم الزنا واللواط، ويدخن الحشيش، وتسمع الأغاني الخليعة والموسيقى الصاخبة .
... ودعك من أن أكثر الوافدين على هذه الساحات لهم عقائد غريبة ؛ فربما ضن أحدهم على أمه بقروش يبرها بها في الوقت الذي يبسط يده بالنفقة هنا! وبعضهم يعتذر لهذه الموالد بأن فيها حلقات للذكر ودروساً للعلم وتلاوة للقرآن وإطعاماً للفقراء والمساكين، وكل هذه الآثام ينتعش وجودها في هذا الجو الاحتفالي المبتدَع الذي ما أنزل الله به من سلطان، ومع هذا يدعي أهله أنهم يحبون النبي -صلى الله عليه وسلم- ويحيون ذكراه!
ولو خلت الموالد من هذه الآثام التي سقناها آنفاً، لوجب تعطيلها أيضاً ؛ لمظاهر التدُّين الفاسد التي تسودها ؛ فحلقات الذكر ضروب من الهوس وألوان من الرقص الذي يسودُّ له وجه أهل الدين!
أما القرآن المتلو في هذه الساحات فما ينتفع به قائل ولا سامع ...
ولو افترضنا وجود بعض الخير بين الأعمال التي تمارس في المولد فإنها لا تسوِّغ إقامة الموالد بعدما أضحت الشرور المتيقنة التي تكتنفها أكثر بكثير من تلك الفوائد المظنونة ؛ وقانون الشريعة في هذا : أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح (5)...
لكن الإقبال قل كثيراً نتيجة عدد من العوامل منها :
-1 - الأثر الذي أحدثته الصحوة الإسلامية المباركة وتمثل في توعية الناس ؛ فلا شك أن ذلك كان له أثر كبير في محاربة البدع.
-2 - ارتفاع نسبة التعليم والتثقيف الذي أدى إلى سقوط كثير من الأوهام والخرافات.
-3 - الهجوم العلماني وما يشيعه من سلوكيات مادية - ولا يخفى أن منطلق هجومه عقلاني وليس شرعياً - فهو يحارب الدين بصورة فجة ثم يرفع شعاراً مشوهاً للدين تمثله الموالد ونحوها من أجل إسقاط سلطانه كلياً، ولا شك أنه قد اجتذب قطاعاً من المجتمع لا يستهان به.
-4 - كثرة وسائل الترفيه من وسائل إعلام وغيرها مما اجتذب الفئة التي كانت تحتفل بالمولد من أجل الترفيه والترويح ؛ فقد وجدت ما يغنيها ويزيد في هذه الوسائل، ومع هذا فيبقى احتفال قطاع عريض من العامة بالمولد محصوراً في شراء حلوى المولد ومشاهدة الاحتفالات في التلفاز، وإن كانت الاحتفالات لا تزال بالمدن ...
البعد الاعتقادي للاحتفال بالمولد :
يعتقد قطاع عريض من المتصوفة أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد خُلِقَ من نور (أي أزلي) ويسمون ذلك بـ (الحقيقة المحمدية) التي سبقت خلق آدم ثم حلت فيه حين خلق، وما زالت تنتقل من آدم إلى من بعده من الأنبياء حتى بلغت شخصه -صلى الله عليه وسلم-، وهي التي يستمد منها جميع الأولياء - عندهم - علمهم وقوتهم وتصرفهم، أو هي التي تنتقل بما يعرف عندهم بـ (القطب الغوث)، وهذا الكلام تلفيق بين اليونانية وفق نظرية الفيض النوراني وبين الخرافات الهندوكية التي تقول بتناسخ الأرواح.
... وتعجب بعد هذا من مسائل يثيرونها(9) : هل يوم المولد أفضل، أم ليلة القدر؟ ويُصطنع لها أقوال ينتصر في آخرها لقولهم وهو واه جداً.
ومثال آخر هو قولهم حول وجوب إظهار الفرحة بيوم المولد مثل أيام العيدين. وتفرع عن هذا مسألة هي: ما حكم صيام يوم المولد؟
دعوات الإصلاح:
* كان لبعض علماء الأزهر وغيرهم جهود مشكورة في توعية هؤلاء المحتفلين بالمولد والإنكار عليهم، وتقدمهم في ذلك رهط من العلماء والمشايخ -رحمهم الله- جميعاً كان من أبرزهم : الشيخ علي محـفـــــوظ، والشيخ حسنين مخلوف، والشيخ المراغي،
* بالإضافة إلى عدد من رجال الدعوة والإصـــلاح (لا أتكلم عن المناهج هنا)
مـثــــل : الشيخ حسن البنا الذي حاول أن يُحَمِّل الأزهر ووزير الأوقاف المسؤولية ؛ إذ كان يرى أن التصوف بهذا الشكل قد أضر بالدين على تلك الصورة الدخيلة فأصبح شراً لا يطاق.
* ومنهم الشيخ محمد رشيد رضا الذي شدد كثيراً على ممارسات التصوف، لكنه كان يشارك أحـيـانـــاً في الاحتفال بالمولد بإلقاء الكلمات أو تأليف الرسائل في بيان مكانته -صلى الله عليه وسلم- وواجب الأمة نحوه.
* كما ساهمت جماعة أنصار السنة المحمدية بمصر في ذلك من خلال مؤلفات مشائخها : محمد حامـد الفـقـي، وعـبـد الـرحـمــن الوكيل، وجميل غازي، ومن جاء بعدهم، وعلى صفحات (الهدي النبوي) ومجلة التوحيد.
* وكان للجمعية الشرعية كذلك جهود مشـكورة وإن لم تكن في مستوى جماعة أنصار السنة، وكان ممن تكلم في بدع الموالد : الشيخ عـبـد اللطيف مشتهري - رحمه الله –
* ويضاف إلى هذا جهود الدعوة السلفية التي حملت على عاتقها أيضاً الرسالة نفسها.
وفي السنوات الأخيرة، أثمرت تلك الجـهــــود المباركة أثراً ملموساً في توعية الناس بمضار الابتداع وثمار الاتباع، وهكذا يُقال للدعاة في كل بلد ابتلي بالمبتدعة : اجتهدوا في تبصير الناس بالحق، فعلى الحق نور لا تطيقه خفافيش الجهالة والظلام.
(( وقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ ورَسُولُهُ والْمُــؤْمِنُونَ وسَـتُـرَدُّونَ إلَى عَالِمِ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ))[التوبة:105] .
=========
الهوامش :
(*) الدراسة لعبد الكريم الحمدان جزاه الله خيرا
(1) انظر : السنن والمبتدعات للشيخ محمد عبد السلام الشقيري، ص 143، والإبداع في مضار الابتداع للشيخ علي محفوظ، والقول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل للشيخ إسماعيل الأنصاب، ص 181.
(2) انظر تاريخ الجبرتي : 2/201 - 202، ويعلل الجبرتي اهتمام الفرنسيين بالاحتفال بالموالد عموماً (لما رآه الفرنسيون في هذه الموالد من الخروج عن الشرائع واجتماع النساء واتباع الشهوات والرقص وفعل المحرمات).
(3) تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم لعبد الرحمن الرافعي، ص 258 - 261.
(4) المادة 12 من الباب الأول من اللائحة التنفيذية، وهذا يعني أن الدولة تعترف رسمياً بسلطة هذا المجلس.
(5) الكلام للشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - نقلاً عن (الوثنية في ثوبها الجديد) لسمير شاهين، ص 106 - 107.
(6) وكأن هذه الفئات ظنت أن ذلك حل وسط بين بدعية هؤلاء وما ظنوه مجافاة لحق صاحب النبوة -صلى الله عليه وسلم-، ولئن سلمنا لهم بالتفريق مع عدم صحته يبقى أن بدعة العادة لا تنطبق على اتخاذ الأعياد لما فيها من التشريع وكونها خصوصية شرعية.
(7) انظر على سبيل المثال الكلام عن الحقيقة المحمدية ونقدها في كتاب (الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة للأستاذ عبد الله عبد الخالق).
(8) يعتقدون أنه لم يمت لأنه حقيقة نورانية كالملائكة، الله توحيد وليس وحدة، محمد الأنور البلتاجي، ص 432 وما بعدها، التصوف الإسلامي لزكي مبارك، ص 206 - 210، وخطاب مفتوح لشيخ مشايخ الطرق الصوفية لعبد الرحمن الوكيل، ص52.
(9) انظر هذه المسائل في الكتاب القيم : القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل -صلى الله عليه وسلم- .
بسم الله الرحمن الرحيم
(دراسة)
ظاهرة الاحتفال بالمولد النبوي وآثارها(*)
(اختصرها/ أبو أنس - عفا الله عنه-)
كيف؟ لا أدري. لمـــــــاذا؟
ربما أنـنـي يـومــاً عـرفــت السَبَبَا
عالمٌ يدعو بدعوى جاهلٍ !!
وليــوثُ الحربِ ترجــو الأَرْنَبَـــا!!
سؤال مبهم في مطلعه، لكنه محير في خاتمته!! والإجابة عنه تختلف باختلاف ما يدور السؤال حوله من مبهمات حياتنا التي كثرت، وكل منها يحتاج إلى أسئلة لكنها أحوج إلى إجابات تشفي.
كيف تصبح محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيدةً عن دينه وهديه؟
كيف تصاغرت همم الناس للاشتغال بذكر شمائل رسولهم -صلى الله عليه وسلم- ومآثره في يوم أو بعض يوم من العام، ثم يُتناسى ويُهجر ذكره سائر العام؟!
ولماذا تنفق الأموال وتسير الجموع إلى مـثـل هــــذه الـمـواقــــف ؛ والمسلمون في كل أرض يُتخطفون؟!
وأصبح تضخيم تلك الاحتفالات وحبْك الأساطير حولها ثم إشاعتها بين العوام وأشباههم - ليتلهوا بها - من الوسائل التي يلجأ إليها الحكام لصرف الناس عن الدين الحق ؛ فما أن يفرغ الناس من مناسبة حتى يلاحَقوا بغيرها، وهكذا دواليك.
أصل بدعة المولد:
ـ مـن الـمعـروف أن أول من توسع في الاحتفال بالموالد في مصر هم العبيديون المسمَّوْن بـ(الفاطميين) وقــد كانت لهم ذرائع ودوافع في إحياء الاحتفال بالموالد، جُلها لا تمت إلى محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- بصلة ؛ وهي - مع التأمل - الذرائع والدوافع نفسها التي لا تزال وراء الاحتفال بالمولد إلى يومنا هذا.
* أسباب النشأة وتفاعلاتها الاجتماعية :
من خلال التتبع الواقعي لتاريخ الاحتفال بالمولد في مصر واستقراء ما يجري فيه من وقائع يمكن أن نجمل الدافع إلى ذلك في عدة أسباب هي :
1 - نشر العقائد الشيعية
من خلال التذرع بحب آل البيت والارتباط بهم ؛ وهذا ما صنعه العبيديون من قبل ويفعله أحفادهم والمتأثرون بهم في كثير من البلاد.
2 - نيل الشهرة والصيت ؛
وهذا يختص بفـئـة تنفق على هذه الموالد وترعاها من الأغنياء والموسَرين.
3 - كسب الولاء الـديـني
وهــــو الـدافــع الذي يدفع (مشايخ الطرق) للتسابق في إقامة السرادقات، والمشي في المسيرات من أجل الاستزادة من الأتباع.
4 - الارتزاق
وهو ما يقوم به طائفة عريضة من تـجــــــــار الحلوى وبائعي (أمور أخرى) ومؤجري الألعاب والملاهي والبائعين الجوالين، بل مشايـــخ الطرق المنتفعين بما يجري في الأضرحة، والمداحين والقصاصين والمنشدين والمغنين والراقصات! وأمثالهم.
5 - إتاحة الفرصة أمام الفساق والفجار الذين يسعون وراء الحرام؛
فإذا ما سمعوا بمولد قالوا : هلموا إلى بغيتكم ؛ حيث يتسنى لهم فيها قضاء مآربهم.
6 - التعمية على بعض الممارسات المعادية للدين الحق.
وقد تطور هذا في العصور المتأخرة إلى وسائل أكثر تعمية كأن تفتتح في الموالد بعض المشاريع الـكـبـرى وتـقـــــام المهرجانات الدينية! من أجل الاحتفال بسيد المرسلين! -صلى الله عليه وسلم-، وتكون الرسالة التي يراد لها أن تبلغ الجميع أنه ليس أغير على النبي -صلى الله عليه وسلم- وديـنـــه من هؤلاء، ويُقدَّم الرسول -صلى الله عليه وسلم- في أدبياتهم على أنه شخصية تاريخية كان لها أثرها في تاريخ الأمة العربية! شأنها شأن العظماء، ومع انتهاء الحفل يسدل الـسـتـار حتى إشعار آخر.
وأوضح أنموذج لذلك
ما ذكره الجبرتي من أن نابليون أمر الشيخ البكري بإقامة الاحتفال بالمولد وأعطاه ثلاثمائة ريال فرنسي، وأمره بتعليق الزينات، بل وحضر الحفل بنفسه من أولــــه إلـى آخـــره (2)،
ويعلق عبد الرحمن الرافعي قائلاً : فنابليون قد استعمل سياسة الحفلات ليجذب إليه قلوب المصريين من جهة، وليعلن عن نفسه في العالم الإسلامي بأنه صديق الإسلام والمسلمين(3).
... والحق أن الموالد من أخصب البيئات للمناكر الظاهرة والمستترة ؛ ففي ساحاتها الواسعة ينتشر الرقعاء دون خجل، ويختلط النساء بالرجال في المأكل والمشرب وغيرها ؛ حيث تكثر جرائم الزنا واللواط، ويدخن الحشيش، وتسمع الأغاني الخليعة والموسيقى الصاخبة .
... ودعك من أن أكثر الوافدين على هذه الساحات لهم عقائد غريبة ؛ فربما ضن أحدهم على أمه بقروش يبرها بها في الوقت الذي يبسط يده بالنفقة هنا! وبعضهم يعتذر لهذه الموالد بأن فيها حلقات للذكر ودروساً للعلم وتلاوة للقرآن وإطعاماً للفقراء والمساكين، وكل هذه الآثام ينتعش وجودها في هذا الجو الاحتفالي المبتدَع الذي ما أنزل الله به من سلطان، ومع هذا يدعي أهله أنهم يحبون النبي -صلى الله عليه وسلم- ويحيون ذكراه!
ولو خلت الموالد من هذه الآثام التي سقناها آنفاً، لوجب تعطيلها أيضاً ؛ لمظاهر التدُّين الفاسد التي تسودها ؛ فحلقات الذكر ضروب من الهوس وألوان من الرقص الذي يسودُّ له وجه أهل الدين!
أما القرآن المتلو في هذه الساحات فما ينتفع به قائل ولا سامع ...
ولو افترضنا وجود بعض الخير بين الأعمال التي تمارس في المولد فإنها لا تسوِّغ إقامة الموالد بعدما أضحت الشرور المتيقنة التي تكتنفها أكثر بكثير من تلك الفوائد المظنونة ؛ وقانون الشريعة في هذا : أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح (5)...
لكن الإقبال قل كثيراً نتيجة عدد من العوامل منها :
-1 - الأثر الذي أحدثته الصحوة الإسلامية المباركة وتمثل في توعية الناس ؛ فلا شك أن ذلك كان له أثر كبير في محاربة البدع.
-2 - ارتفاع نسبة التعليم والتثقيف الذي أدى إلى سقوط كثير من الأوهام والخرافات.
-3 - الهجوم العلماني وما يشيعه من سلوكيات مادية - ولا يخفى أن منطلق هجومه عقلاني وليس شرعياً - فهو يحارب الدين بصورة فجة ثم يرفع شعاراً مشوهاً للدين تمثله الموالد ونحوها من أجل إسقاط سلطانه كلياً، ولا شك أنه قد اجتذب قطاعاً من المجتمع لا يستهان به.
-4 - كثرة وسائل الترفيه من وسائل إعلام وغيرها مما اجتذب الفئة التي كانت تحتفل بالمولد من أجل الترفيه والترويح ؛ فقد وجدت ما يغنيها ويزيد في هذه الوسائل، ومع هذا فيبقى احتفال قطاع عريض من العامة بالمولد محصوراً في شراء حلوى المولد ومشاهدة الاحتفالات في التلفاز، وإن كانت الاحتفالات لا تزال بالمدن ...
البعد الاعتقادي للاحتفال بالمولد :
يعتقد قطاع عريض من المتصوفة أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد خُلِقَ من نور (أي أزلي) ويسمون ذلك بـ (الحقيقة المحمدية) التي سبقت خلق آدم ثم حلت فيه حين خلق، وما زالت تنتقل من آدم إلى من بعده من الأنبياء حتى بلغت شخصه -صلى الله عليه وسلم-، وهي التي يستمد منها جميع الأولياء - عندهم - علمهم وقوتهم وتصرفهم، أو هي التي تنتقل بما يعرف عندهم بـ (القطب الغوث)، وهذا الكلام تلفيق بين اليونانية وفق نظرية الفيض النوراني وبين الخرافات الهندوكية التي تقول بتناسخ الأرواح.
... وتعجب بعد هذا من مسائل يثيرونها(9) : هل يوم المولد أفضل، أم ليلة القدر؟ ويُصطنع لها أقوال ينتصر في آخرها لقولهم وهو واه جداً.
ومثال آخر هو قولهم حول وجوب إظهار الفرحة بيوم المولد مثل أيام العيدين. وتفرع عن هذا مسألة هي: ما حكم صيام يوم المولد؟
دعوات الإصلاح:
* كان لبعض علماء الأزهر وغيرهم جهود مشكورة في توعية هؤلاء المحتفلين بالمولد والإنكار عليهم، وتقدمهم في ذلك رهط من العلماء والمشايخ -رحمهم الله- جميعاً كان من أبرزهم : الشيخ علي محـفـــــوظ، والشيخ حسنين مخلوف، والشيخ المراغي،
* بالإضافة إلى عدد من رجال الدعوة والإصـــلاح (لا أتكلم عن المناهج هنا)
مـثــــل : الشيخ حسن البنا الذي حاول أن يُحَمِّل الأزهر ووزير الأوقاف المسؤولية ؛ إذ كان يرى أن التصوف بهذا الشكل قد أضر بالدين على تلك الصورة الدخيلة فأصبح شراً لا يطاق.
* ومنهم الشيخ محمد رشيد رضا الذي شدد كثيراً على ممارسات التصوف، لكنه كان يشارك أحـيـانـــاً في الاحتفال بالمولد بإلقاء الكلمات أو تأليف الرسائل في بيان مكانته -صلى الله عليه وسلم- وواجب الأمة نحوه.
* كما ساهمت جماعة أنصار السنة المحمدية بمصر في ذلك من خلال مؤلفات مشائخها : محمد حامـد الفـقـي، وعـبـد الـرحـمــن الوكيل، وجميل غازي، ومن جاء بعدهم، وعلى صفحات (الهدي النبوي) ومجلة التوحيد.
* وكان للجمعية الشرعية كذلك جهود مشـكورة وإن لم تكن في مستوى جماعة أنصار السنة، وكان ممن تكلم في بدع الموالد : الشيخ عـبـد اللطيف مشتهري - رحمه الله –
* ويضاف إلى هذا جهود الدعوة السلفية التي حملت على عاتقها أيضاً الرسالة نفسها.
وفي السنوات الأخيرة، أثمرت تلك الجـهــــود المباركة أثراً ملموساً في توعية الناس بمضار الابتداع وثمار الاتباع، وهكذا يُقال للدعاة في كل بلد ابتلي بالمبتدعة : اجتهدوا في تبصير الناس بالحق، فعلى الحق نور لا تطيقه خفافيش الجهالة والظلام.
(( وقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ ورَسُولُهُ والْمُــؤْمِنُونَ وسَـتُـرَدُّونَ إلَى عَالِمِ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ))[التوبة:105] .
=========
الهوامش :
(*) الدراسة لعبد الكريم الحمدان جزاه الله خيرا
(1) انظر : السنن والمبتدعات للشيخ محمد عبد السلام الشقيري، ص 143، والإبداع في مضار الابتداع للشيخ علي محفوظ، والقول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل للشيخ إسماعيل الأنصاب، ص 181.
(2) انظر تاريخ الجبرتي : 2/201 - 202، ويعلل الجبرتي اهتمام الفرنسيين بالاحتفال بالموالد عموماً (لما رآه الفرنسيون في هذه الموالد من الخروج عن الشرائع واجتماع النساء واتباع الشهوات والرقص وفعل المحرمات).
(3) تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم لعبد الرحمن الرافعي، ص 258 - 261.
(4) المادة 12 من الباب الأول من اللائحة التنفيذية، وهذا يعني أن الدولة تعترف رسمياً بسلطة هذا المجلس.
(5) الكلام للشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - نقلاً عن (الوثنية في ثوبها الجديد) لسمير شاهين، ص 106 - 107.
(6) وكأن هذه الفئات ظنت أن ذلك حل وسط بين بدعية هؤلاء وما ظنوه مجافاة لحق صاحب النبوة -صلى الله عليه وسلم-، ولئن سلمنا لهم بالتفريق مع عدم صحته يبقى أن بدعة العادة لا تنطبق على اتخاذ الأعياد لما فيها من التشريع وكونها خصوصية شرعية.
(7) انظر على سبيل المثال الكلام عن الحقيقة المحمدية ونقدها في كتاب (الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة للأستاذ عبد الله عبد الخالق).
(8) يعتقدون أنه لم يمت لأنه حقيقة نورانية كالملائكة، الله توحيد وليس وحدة، محمد الأنور البلتاجي، ص 432 وما بعدها، التصوف الإسلامي لزكي مبارك، ص 206 - 210، وخطاب مفتوح لشيخ مشايخ الطرق الصوفية لعبد الرحمن الوكيل، ص52.
(9) انظر هذه المسائل في الكتاب القيم : القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل -صلى الله عليه وسلم- .
تعليق