تأصيل المناهج الدعوية في ضوء الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح
الشيخ/ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله،
صلى الله عليه، وعلى آله، وصحبه، وسلم، تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد:
إن من المهمات معرفة ما كان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان ، في زمن تلاطمت فيه الفتن،
واختلط فيه الليل بالنهار، واشتبه على كثير من الناس الطريق، وضل كثير عن السبيل، فكان من الواجب التذكير بأمر الله -جل وعلا-،
وبالمنهج الذي جعله لرسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولصحابته -رضي الله عنهم أجمعين-، ولمن سار على نهجهم.
إن الحياة مهما طالت فإنها مَعْبَر للآخرة، والآخرة خير لمن اتقى، وهي طريق إما إلى الجنة وإما إلى النار، وليس العمل بكثرته وتعدده،
وإنما بصوابه وموافقته للسنة قال تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [سورة هود: الآية 7]، فَحُسْنُ العمل أن يكون خالصًا صوابًا،
والصواب ما كان على السُّنَّة، لا على ما أحدثته العقول من الأهواء، والبدع.
الدعوة إلى الله عبادة
موضوع هذا البحث هو: “تأصيل المنهج الدعوي في ضوء الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح” وسبب اختيار هذا الموضوع
أن الدعوة هي سمة هذه الأمة، وسمة أتباع محمد -صلى الله عليه وسلم- قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا
وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ} [سورة يوسف: الآية 108]، وقال تعالى:{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [سورة الشورى: الآية 15]،
فالدعوة هي السبيل، والنهج، والطريق الذي لا بُدَّ لَنَا منه.
إن الدعوة عبادة عظيمة من العبادات التي يتقرب بها إلى الله -عز وجل-، عبادة متعدية النفع، نفعها لا يقتصر على صاحبها،
بل يتعدى نفع صاحب الدعوة بالدعوة إلى الناس في بلده، أو في خارج بلده، أو بمن يسمعه إلى قيام الساعة.
أنواع الدعاة
الدعاة نوعان:
الصنف الأول: من يدعو على وفق الأمر الأول، وفق السُّنَّةِ مع الأخذ بما جَدَّ في العصر من مستجدات، لا تخرج عن إطار
التزام السنة والجماعة وطرائق السلف الصالح.
الصنف الثاني: أراد أن يدعو، لكن هذه الدعوة كانت على وفق الأهواء والاجتهادات، دون رجوع إلى ركن وثيق من العلم،
فتعددت الأهواء والمشارب، فصارت الدعوة مناهج شتى، وطرائق مختلفة، كل يَدَّعِي صوابه فيما يأتي ويذر،
ولا شك أن العناية بالتأصيل فيه عصمة للعقل والقلب من الوقوع في الغلط، لذلك جاء هذا البحث.
تعريف المنهج
المنهج هو: الطريق، ذكره الله -جل وعلا- في كتابه بقوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}[سورة المائدة: الآية 48].
والنهج: هو الطريق الواضح الذي لا التباس فيه، فقولنا: سلك نهجا واضحا يعني: طريقا متأكدًا منه، واضحا لا التباس فيه.
إن الدعوة تحتاج إلى طريق، لذا بَيَّن القرآن في آيات كثيرة هذا المنهاج وهذا المنهج، لأن الشرائع مختلفة، والمناهج مختلفة، لكن عقائد الأنبياء واحدة،
فالمناهج الدعوية قد لا تكون على وفق كتاب وسنة، وطريقة مأمونة مما أخذها أهل العلم عن السلف الصالح،
بل يكون فيها ضرب من النظر في المصالح والمفاسد، بحسب توهم أصحابها النظر في أهداف خاصة، إما إقليمية،
أو حزبية، أو سياسية، أو فئوية، أو جماعية.
إن الدعوة لا تكون دعوة على منهج صالح إلا إذا ارتفعت عن الأغراض الدنيوية، وصارت بالله -جل وعلا-، لهذا أَجْرُ الداعية ليس
على البشر، بل أجره على الله، قال تعالى:{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِين إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}
[سورة ص: الآيات 86- 88].
الدعوة لا يُؤخذ عليها أجرًا:
إن الداعية لا يأخذ على دعوته أجرًا من الخلق، لأنه على سبيل محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولأنه إذا أخذ أجرًا دنيويا
من الخلق فإنه ربما سلك ما يريدونه، أو يستحسنونه، أو تأول إليه أهوائهم دون النظر إلى أمر آخر.
إن الإنسان إذا أخذ عِوَضَ دعوته فإنه ربما يقول ما يوافق ما أراد من يعطيه أجرًا في ذلك، لهذا كان أجر الداعية على الله -جل وعلا-،
قال سبحانه: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ} [سورة ص: الآية 86]،
وقال تعالى في الآية الأخرى: {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ} [سورة يونس: الآية 72]، وهذا أسلوب قصر وحصر.
إن الداعية إذا لم يأخذ على دعوته أجرًا من الخلق، فهذا يقتضي الإخلاص، فإنه كلما كان قلب الداعية معلقا بالله -جل وعلا-
كلما كان منهجه في دعوته على وفق طريقة محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.
فمن المهمات أن يكون الاقتداء في الدعوة قبل معرفة الطريق، أن يكون الداعية متخلصا من طلب الدنيا، وكلما كان أقرب إلى الدنيا،
كلما فاته من الصواب في دعوته بقدره، أما إذا كان مراده بالدعوة الإسلامية الدنيا، إما جاه، وإما منصب، أو مال، أو انتصار حزب،
أو انتصار فئة على فئة، أو نحو ذلك، فإنه يقع في الانحراف في دعوته، ولا يصل الحق إلى الناس.
وجوه أفضلية الدعوة:
إن الدعوة إلى الله -جل وعلا- ليست عملا من أفضل العبادات فحسب، بل عدها جمع من أهل العلم أفضل العبادات،
لأنها مشتملة على أنواع الأفضلية، وأنها نوع من الجهاد في سبيل الله لقوله تعالى: {فَلاَ تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ} [سورة الفرقان: الآية 52]
يعني: جاهدهم بالقرآن {جِهَادًا كَبِيرًا}[سورة الفرقان: الآية 52]، والمجاهدة بالقرآن تعني: الدعوة إلى الله بالقرآن والسنة، التي هي بيان للقرآن.
ومن أوجه التفضيل: أن الدعوة إلى الله صارت أفضل العبادات لأنها متعدية النفع، أما العبادات التطوعية فتكون قاصرة
النفع على صاحبها، فمن يقوم في ليله، أو يكثر التلاوة للقرآن، هذا نفعه لنفسه، لكن تعليم الآخرين القرآن والسنة، يدعوهم،
يحبب الله إليهم، ويقربهم إلى الله، فإن هذا النفع متعدٍ إلى غيره.
قال ابن الجوزي -رحمه الله- في صيد الخاطر: “وجدت أن التأليف والتصنيف أنفع من التدريس، وذلك أن المعلم يحضر له عدد من الطلاب،
أربعين، خمسين، مائة ثم إذا مات انتهوا” انتهى هذا العدد بقدر من علمه، ثم هم يُعَلِّمُونَ، وهكذا، ولكن المؤلف
والمصنف التصانيف النافعة التي تفيد الأمة لا ينفك أن ينتفع منها عدد كبير، فصار من هذه الجهة نفعه متعدٍ.
الدعوة واجبة:
إن الدعوة مأمور بها قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [سورة النحل: الآية 125]،
وقال -جل وعلا-: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [سورة يوسف: الآية 108]، وقال أيضا: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ} [سورة آل عمران: الآية 104]، وقال أيضا -جل جلاله-: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [سورة الشورى: الآية 15]
والآيات في ذلك كثيرة.
فضيلة الدعوة:
ثبت في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «وَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِهُدَاكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ»( 1).
وحمر النعم -بسكون الميم- يعني: الإبل الحمراء، غالية الثمن.
وثبت في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ
أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا»( 2).
تعريف الدعوة:
إن العلماء تتابعوا على ذكر فضيلة الدعوة، والدعوة إلى الله: اسم عام يشمل كل وسيلة من وسائل إبلاغ الدين إلى الناس سواء
أكان ذلك بالتعليم، أو التأليف، أو التدريس، أو كان بالذهاب إلى القُرَى والبوادي، أو إلقاء المحاضرات، أو المشاركة في وسائل الإعلام،
أو بأي نوع من ذلك، كل وسيلة فيها إبلاغ للدين الحق للناس فهي دعوة إلى الله تعالى.
الدعوة الحق القائمة على الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة:
والدعوة إلى الله كل يَدَّعِيهَا، مناهجها شتى، والمنتسبون إلى الدعوة طرائق، ولكن هذه الطريقة، وهذه المناهج قد تكون بعيدة تماما عن
الكتاب والسنة، وطرق سلف الأمة، كوسائل دعوة غلاة الصوفية، والمريدين، والأحزاب السياسية البحتة، التي استخدمت الدين وسيلة
لدعوة الناس إلى مفاهيم سياسية، ليس فيها تعبد لله، وليس فيها إيضاح الدين الحق لله.
لماذا فَهْمُ السلف الصالح؟
من المجاهدة والجهاد أن يحرص الداعية أن يكون في دعوته على وفق كتاب الله، وسنة رسوله، وعلى فهم السلف الصالح،
لماذا فَهْمُ السلف الصالح؟ لأن الله -جل وعلا- يقول: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم
بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ} [سورة التوبة: الآية 100]،
وهذا جعل الذين اتبعوا الصحابة بإحسان مشمولين بنفس الفضل، فيدخل في الآية: لصحابة الذي تلوا السابقين،
و من تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة، ولأجل ذلك قال أهل العلم: السلف الصالح.
من هم السلف؟
السلف الصالح هم: الذين شهد لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالصلاح، وهم القرون الثلاثة المفضلة،
الذين قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيهم: «خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»( 3) فذكر قرنين أو ثلاثة قرون،
وهذا يعني شدة التمسك بما كان عليه أولئك.
يتبع بإذن الله
تعليق