للعيد فرحة فلا تقتلوها
عبد الوهاب الناصر الطريري
صيد الفوائد
للعيد فرحة، فرحة بفضل الله ورحمته، وكريم إنعامه، ووافر عطائه، فرحة بالهداية يوم ضلت فئام من البشر عن صراط الله المستقيم، يجمع العيدُ المسلم بإخوانه المسلمين، فيحس بعمق انتمائه لهذه الأمة ولهذا الدين، فيفرح بفضل الله الذي هداه يوم ضل غيره {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185].
أيُّ نعمةٍ أعظم! وأيّ منٍّ أمنُّ وأفضل من أن الله هدانا للإسلام فلم يجعلنا مشركين نجثو عند أصنام، ولا يهود نغدو إلى بيعة، ولا نصارى نروح إلى كنيسة، وإنما اجتبانا على ملة أبينا إبراهيم ودين نبينا محمد {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78].
وللعيد فرحة ببلوغ شهر رمضان يوم تصرّمت أعمارٌ عن بلوغه، وفرحٌ بتوفيق الله وعونه على ما يسر من طاعته، فقد كانت تلك الأيام الغرّ والليالي الزُّهْر متنزل الرحمات والنفحات، اصطفت فيها جموع المسلمين في سبْحٍ طويل تُقطعُ الليل تسبيحًا وقرآنًا، فكم تلجلجت الدعوات في الحناجر! وترقرقت الدموع في المحاجر!
وشفت النفوس ورقت حتى كأنما يعرج بها إلى السماء تعيش مع الملائكة، وتنظر إلى الجنة والنار رأي عين، في نعمة ونعيم لا يعرف مذاقها إلا من ذاقها. فحُقَّ لتلك النفوس أن تفرح بعدُ بنعمة الله بهذا الفيض الإيماني الغامر.
وللعيد فرحة بإكمال العدة واستيفاء الشهر، وبلوغ يوم الفطر بعد إتمام شهر الصوم، فلله الحمد على ما وهب وأعطى، وامتن وأكرم، ولله الحمد على فضله العميم ورحمته الواسعة {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].
فهذا العيد موسم الفضل والرحمة، وبهما يكون الفرح ويظهر السرور، قال العلماء: "إظهار السرور في الأعياد من شعار الدين". وشرع النبي وتقريره إظهار الفرح وإعلان السرور في الأعياد، قال أنس : "قدم رسول الله المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: إن الله أبدلكم بهما خيرًا منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر".
فـ"فيه دليل على أن إظهار السرور في العيدين مندوب، وأن ذلك من الشريعة التي شرعها الله لعباده؛ إذ في إبدال عيد الجاهلية بالعيدين المذكورين دلالة على أنه يفعل في العيدين المشروعين ما يفعله أهل الجاهلية في أعيادهم من اللعب مما ليس بمحظور؛ لأن النبي إنما خالفهم في تعيين الوقتين"[1].
ويبين هذا خبر عائشة -رضي الله عنها- قالت: "دخل عليَّ رسول الله وعندي جاريتان تغنّيان بدفّين بغناء بُعاث، فاضطجع على الفراش، وتسجّى بثوبه، وحول وجهه إلى الجدار، وجاء أبو بكر فانتهرهما، وقال: مزمارة الشيطان عند النبي ، فكشف النبي وجهه، وأقبل على أبي بكر، وقال: دعهما، يا أبا بكر إن لكل قومٍ عيدًا وهذا عيدنا".
ومن مشاهد السرور بالعيد بين يدي النبي ما فعله الحبشة، حيث اجتمعوا في المسجد يرقصون بالدرق والحراب، واجتمع معهم الصبيان حتى علت أصواتهم، فسمعهم النبي فنظر إليهم، ثم قال لعائشة: "يا حُمَيْراء، أتحبين أن تنظري إليهم؟" قالت: نعم. فأقامها وراءه خدها على خده يسترها، وهي تنظر إليهم، والرسول يغريهم، ويقول: "دونكم يا بني أرفدة، لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، إني بعثت بالحنيفية السمحة".
فهذه مشاهد الفرح بالعيد ومظاهر السرور والبهجة تقام بين يدي النبي فيقرها، ويحتفي بها.
ولكنك تعجب لتجاوز هذا الهدي النبوي المنير عند من يحاولون قتل أفراح العيد، والتضييق على مشاعر الناس، وكان ذلك يصدر في السابق من بعض الزُهَّاد والعُبَّاد،
فروي عن بعضهم أنه رأى قومًا يضحكون في يوم عيد، فقال: "إن كان هؤلاء تُقُبِّلَ منهم صيامهم فما هو فعل الشاكرين، وإن كانوا لم يُتَقَبَّلْ منهم فما هذا فعل الخائفين". وكان بعضهم يظهر عليه الحزن يوم العيد، فيقال له: إنه يوم فرح وسرور. فيقول: إنه لا يدري هل قُبِلَ صومه أم لا؟[2].
ولئن صدر هذا من عُبّاد وزُهّاد عن حسن نية، فإن مثله يصدر اليوم من بعض الغيورين وعن حسن نيةٍ أيضًا، فيجعلون الأعياد مواسم لفتح الجراحات، والنُّواح على مآسي المسلمين، وتعداد مصائبهم، والتوجُّع لما يحل بهم، ويذكرونك بأن صلاح الدين لم يبتسم حتى فُتِحتْ بيت المقدس، وينسون قوله ممتنًا على عباده: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم: 43]،
ويتناسون أن لكل مقام مقالاً، ولكل مناسبة حالاً، وأن مآسي المسلمين ثمار مُرَّة لخطايانا وأخطائنا {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]،
ولن يكون علاجها بالوجوم والتحازن، ولكن بالرأي السديد والعمل الرشيد، والشجاعة أمام الخطأ، ولو أنا قتلنا كل فرحة، وأطفأنا كل بسمة، ولبسنا الحزن، وتلفّعنا بالغم، وتدرعنا بالهمّ، ما حرّرنا بذلك شبرًا، ولا أشبعنا جوْعة، ولا أغثنا لهفة، وإنما وضعنا ضغثًا على إبالة.
وإن خير الهدي هدي محمد ، وقد كان يستعيذ بالله من الهم والحزَن، يعجبه الفأل، دائم البشر، كثير التبسم.
إننا بحاجة إلى أن نجعل من هذا العيد فرصة لدفق الأمل في قلوبٍ أحبطها اليأس، وأحاط بها القنوط، وتبدّت مظاهر اليأس في صور شتى، منها: سرعة تصديق كواذب الأخبار، ورواية أضغاث الأحلام، وقتل الأوقات في رواية الإشاعات، والتي هي أمانٍ تُروى على شكل أخبار من مصادر موهومة تسمى موثوقة. وهكذا في سلسلة من الإشكالات التي تدل على التخبُّط بحثًا عن بصيص أمل في ظلمة اليأس.
فيا أمة الإسلام، أبشروا وأمِّلوا ما يسركم، فعُمر الإسلام أطول من أعمارنا، وآفاق الإسلام أوسع من أوطاننا، وليست المصائب ضربة لازب، لا تحول ولا تزول، فقد حصر المسلمون في الخندق، وبعد سُنيّاتٍ فتحوا مكة، وسقطت بغداد، ثم بعد نحو قرنين فُتِحت القسطنطينية، والله لا يعجل لعجلتنا، ولا تتحوّل سننه لأهوائنا؛ فسنن الله لا تحابي أحدًا.
ولنتذكر في هذا العيد ما أبقى الله لنا من خير، وما تطول به علينا من فضل، قُطعت رجل عروة بن الزبير ومات ولده فقال: "اللهم إنك أخذت عضوًا وأبقيت أعضاءً، وأخذت ابنًا وأبقيت أبناءً، فلك الحمد". ونحن نقول: لئن حلت بنا محن فقد أبقى الله لنا منحًا، ولئن أصابتنا نقم فقد أبقى الله لنا نعمًا، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34].
ونحن أحوج ما نكون إلى أمل يدفع إلى عمل، وفأل ينتج إنجازًا، أما المهموم المحزون فهو غارق في آلامه، متعثر في أحزانه، مدفون في هموم يومه، لا يرجو خيرًا ولا يأتي بخير، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
[2] ابن رجب: لطائف المعارف ص376.
تعليق