كن مغبوطا ولا تكن مغبونا
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن الغبن دركات، ومن أغبن الغبن ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ "[صحيح البخاري برقم:6412]
إن أول ما نستفيده من الحديث أن الصحة نعمة وأن الفراغ نعمة كذلك، وما من نعمة إلا وأنت مدين للمنعم بشكرها. ولذلك فأنت مسؤول عنها كما قال-صلى الله عليه وسلم-: «إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له: ألم نصح لك جسمك ونرويك من الماء البارد» ؟[صحيح الجامع للألباني، عن أبي هريرة برقم:2022].
وثاني الفوائد أن المغبونين كثيرون... ولذلك كان مصداقها في أن الشاكرين قليلون، كما قال الله تعالى:" وقليلٌ من عباديَ الشّكور"[سبأ: 13]، وقليل من عبادي المخلصو توحيدي والمفردو طاعتي وشكري على نعمتي عليهم.
، فقلّ الشكر والشاكرون مع نعمة لا يمكن وصفها إلا بـ:" وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ "[النحل]، مجرد العد وليس الرد، فقال تعالى :"لا تعدّوها" ولم يقل:" لا تردوها"!!
والصحة هي: قوة البدن وعافية الجسد وسلامة العقل..
والفراغ: هو الوقت المتاح للعبد ليعمل فيه ويفرغ فيه طاقة جسمه وبدنه وعقله في إحدى النجدين فيكون:"إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"... ويكون هو الوقت الضائع الذي يمر بصاحبه وهو بطّال فارغ من عمل مفيد.
والغبن الخسارة وفوات الربح ووكس النقص، وهو بسكون الباء النقص في البيع الحسي، وبفتحها النقص في الرأي..
قال بدر الدين العينى (ت 855هـ):"فكأنه قال: هذان الأمران إذا لم يستعملا فيما ينبغي فقد غبن صاحبهما فيهما، أي: باعهما ببخس لا تحمد عاقبته، أو: ليس له في ذلك رأي ألبتة فإن الإنسان إذ لم يعمل الطاعة في زمن صحته ففي زمن المرض بالطريق الأولى، وعلى ذلك حكم الفراغ أيضا فيبقى بلا عمل خاسرا مغبونا، هذا وقد يكون الإنسان صحيحا ولا يكون متفرغا للعبادة لاشتغاله بأسباب المعاش وبالعكس فإذا اجتمعا في العبد وقصر في نيل الفضائل فذلك هو الغبن له كل الغبن، وكيف لا والدنيا هي سوق الأرباح وتجارات الآخرة؟:[3/ 31، عمدة القاري شرح صحيح البخاري].
إن الغبن في الصحة والفراغ إذا وُجِدا وإذا فُقِدا أيضاً، فإنه في كلا الحالين يُتَصوّر الغبن فيهما
قال ابن الجوزي اعلم أنه قد يكون الإنسان صحيحا ولا يكون متفرغا للعبادة لاشتغاله بأسباب المعاش، وقد يكون متفرغا من الأشغال ولا يكون فإذا اجتمعا للعبد ثم غلب عليه الكسل عن نيل الفضائل فذاك الغبن كيف والدنيا سوق الرباح، والعمر أقصر، والعوائق أكثر)[ أبو الفرج الجوزي (ت 597هـ)كشف المشكل من حديث الصحيحين ، 3/ 437].
وقال ابن بطال معنى الحديث أن المرء لا يكون فارغا حتى يكون مكفيا صحيح البدن فمن حصل له ذلك فليحرص على أن لا يغبن بأن يترك شكر الله على ما أنعم به عليه ومن شكره امتثال أوامره واجتناب نواهيه فمن فرط في ذلك فهو المغبون)[فتح الباري لابن حجر:11/ 213]
فإن كان عندك فراغ ولم تملأه بمفيد يرضي الله، وينفع في الدنيا والآخرة، وتشغل فيه نفسك بالطاعة فإنها تشغلك بالمعصية أو بِلَغْوِ القول والفعل..ثم تُغبَن عند السؤال حيث إنه لا تزول قدما عبدٍ حتى يُسأل عن أربع كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه وعن علمه ما فعل فيه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن جسمه فيم أبلاه» [صحيح) عن أبي برزة. الصحيحة 946].
إن العبد إذا آتاه الله الصحة والقوة ولم يستعملها في طاعة الله أو فيما أذِن في شرع الله، فإنه يكون مغبوناً، خاسرا في بيعة وبيعته التي عقدها مع المؤمنين:" إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) "[التوبة]، مسؤولا يوم القيامة عن صحة الأبدان وسعة الأزمان..
قال الشيخ العثيمين-رحمه الله- يعني أن هذين الجنسين من النعم مغبون فيهما كثير من الناس، أي مغلوب فيهما، وهما الصحة والفراغ، وذلك أن الإنسان إذا كان صحيحاً كان قادراً على ما أمره الله به أن يفعله، وكان قادراً على ما نهاه الله عنه أن يتركه لأنه صحيح البدن، منشرح الصدر، مطمئن القلب، كذلك الفراغ إذا كان عنده ما يؤويه وما يكفيه من مؤنة فهو متفرغ. فإذا كان الإنسان فارغاً صحيحاً فإنه يغبن كثيراً في هذا، لأن كثيراً من أوقاتنا تضيع بلا فائدة ونحن في صحة وعافية وفراغ، ومع ذلك تضيع علينا كثيراً، ولكننا لا نعرف هذا الغبن في الدنيا، إنما يعرف الإنسان الغبن إذا حضره أجله، وإذا كان يوم القيامة، والدليل على ذلك قوله تعالى: "حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ(المؤمنون: 100) ، وقال عز وجل في سورة المنافقون: "مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِين َ(المنافقون: 10) ، وقال الله عز وجل: "وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ"(المنافقون: 11) .
الواقع أن هذه الأوقات الكثيرة تذهب علينا سدىً، لا تنفع منها، ولا ننفع أحداً من عباد الله، ولا نندم على هذا إلا إذا حضر الأجل؛ يتمنى الإنسان أن يعطى فرصة ولو دقيقة واحدة لأجل أن يستعتب، ولكن لا يحصل ذلك.
ثم إن الإنسان قد لا تفوته هاتان النعمتان: الصحة والفراغ بالموت، بل قد تفوته قبل أن يموت، قد يمرض ويعجز عن القيام بما أوجب الله عليه، وقد يمرض ويكون ضيق الصدر لا يشرح صدره ويتعب، وقد ينشغل بطلب النفقة له ولعياله حتى تفوته كثير من الطاعات.
ولهذا ينبغي للإنسان العاقل أن ينتهز فرصة الصحة والفراغ بطاعة الله ـ عز وجل ـ بقدر ما يستطيع، إن كان قارئاً للقرآن فليكثر من قراءة القرآن، وإن كان لا يعرف القراءة يكثر من ذكر الله عز وجل، وإذا كان لا يمكنه؛ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أو يبذل لإخوانه كل ما يستطيع من معونة وإحسان، فكل هذه خيرات كثيرة تذهب علينا سدىً، فالإنسان العاقل هو الذي ينتهز الفرص؛ فرصة الصحة، وفرصة الفراغ. ) [شرح رياض ابن عثيمين 2 / 65- 67].
وخلاصة الأمر أنه:
-إذا حصل عند العبد نعمة الصحة والفراغ الذي هو بمعنى سعة الوقت الذي إذا فرغ من مشاغله انتصب لعبادة ربه، فلم يفعل فهو مغبون خاسر محاسَبٌ على ما ضيّع من فرصة صحة الجسد ووقت العمر والشباب خاصة ، كما جاء في الحديث.
وإذا فقد الصحة أو الوقت ولم يجد صحة يعبد بها أو وقتا بعيد فيه فإنه مغبون، فاته الخير، حتى ول كان معذورا فإنه لا يكون في مقدمة الركب، كما جاء في قوله-صلى الله عليه وسلم- عن أبي هريرة - :" أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى، والنعيم المقيم، فقال: «وما ذاك؟» قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم؟ ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم» قالوا: بلى، يا رسول الله قال: «تسبحون، وتكبرون، وتحمدون، دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة» قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء»[صحيح مسلم: 595].
كما إنه يكون مغبونا إذ يتزود المتزوّدون لمسافة تطول، وشُقّة تبعد، وساق تشتد :"يوم يُكشف عن ساق"( 1)[القلم: 42]. بينما هو لاهٍ ساهٍ ، يقتل الوقت قتلا، أو أنه سادر قد ألهــــه التكــاثر.
وقد يكون العبد مغبوناً بقلة الصحة، تفيض عينه من الدمع ألا يجد جسدا يتعبه في مراد الله، يرى الوقت يمر من بين يديه ولم يستطع فعل شيء، خاصة إذا كان قد أمضى قوته بدنه هدرا قبل ضعفها، وأسال شبابه ضياعا قبل هرمه، ولذلك جاء في موعظة الناصح الأمين-صلى الله عليه وسلم-:"اغتنم خمسا قبل خمس: حياتك قبل موتك وصحتك قبل سقمك وفراغك قبل شغلك وشبابك قبل هرمك وغناك قبل فقرك"[صحيح، صحيح الجامع للألباني: 1077]، يعني بادروا الغبن وأدركوا النقص قبل حلوله.... ولات حين مندم!
وإن لم تكن واحدة من هذه فالفتن المهلكات لا توقر أحداً، فبادروا المنجيات من الأعمال، كما جاء عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعَرض من الدنيا»[مسلم في صحيحه: برقم 118].
--------------------------
(1)*- ساق تشد من الكرب والشدة والهول والفضاعة ، كأنها حربٌ قامت ساقها، ويكشف عن ساق ، فٌسّرت بساق الله تعالى، تليق بجلاله:"ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" ويوم الكشف عن ساق الله تعالى يُكشف على الناس بشدة وهول وكرب فاللهم سلم سلم.
فاللهم اجعلنا من المغبوطين في الدنيا والآخرة ، ولا تجعلنا من المغبونين، لا في الدنيا ةلا في الآخرة
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن الغبن دركات، ومن أغبن الغبن ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ "[صحيح البخاري برقم:6412]
إن أول ما نستفيده من الحديث أن الصحة نعمة وأن الفراغ نعمة كذلك، وما من نعمة إلا وأنت مدين للمنعم بشكرها. ولذلك فأنت مسؤول عنها كما قال-صلى الله عليه وسلم-: «إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له: ألم نصح لك جسمك ونرويك من الماء البارد» ؟[صحيح الجامع للألباني، عن أبي هريرة برقم:2022].
وثاني الفوائد أن المغبونين كثيرون... ولذلك كان مصداقها في أن الشاكرين قليلون، كما قال الله تعالى:" وقليلٌ من عباديَ الشّكور"[سبأ: 13]، وقليل من عبادي المخلصو توحيدي والمفردو طاعتي وشكري على نعمتي عليهم.
، فقلّ الشكر والشاكرون مع نعمة لا يمكن وصفها إلا بـ:" وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ "[النحل]، مجرد العد وليس الرد، فقال تعالى :"لا تعدّوها" ولم يقل:" لا تردوها"!!
والصحة هي: قوة البدن وعافية الجسد وسلامة العقل..
والفراغ: هو الوقت المتاح للعبد ليعمل فيه ويفرغ فيه طاقة جسمه وبدنه وعقله في إحدى النجدين فيكون:"إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"... ويكون هو الوقت الضائع الذي يمر بصاحبه وهو بطّال فارغ من عمل مفيد.
والغبن الخسارة وفوات الربح ووكس النقص، وهو بسكون الباء النقص في البيع الحسي، وبفتحها النقص في الرأي..
قال بدر الدين العينى (ت 855هـ):"فكأنه قال: هذان الأمران إذا لم يستعملا فيما ينبغي فقد غبن صاحبهما فيهما، أي: باعهما ببخس لا تحمد عاقبته، أو: ليس له في ذلك رأي ألبتة فإن الإنسان إذ لم يعمل الطاعة في زمن صحته ففي زمن المرض بالطريق الأولى، وعلى ذلك حكم الفراغ أيضا فيبقى بلا عمل خاسرا مغبونا، هذا وقد يكون الإنسان صحيحا ولا يكون متفرغا للعبادة لاشتغاله بأسباب المعاش وبالعكس فإذا اجتمعا في العبد وقصر في نيل الفضائل فذلك هو الغبن له كل الغبن، وكيف لا والدنيا هي سوق الأرباح وتجارات الآخرة؟:[3/ 31، عمدة القاري شرح صحيح البخاري].
إن الغبن في الصحة والفراغ إذا وُجِدا وإذا فُقِدا أيضاً، فإنه في كلا الحالين يُتَصوّر الغبن فيهما
قال ابن الجوزي اعلم أنه قد يكون الإنسان صحيحا ولا يكون متفرغا للعبادة لاشتغاله بأسباب المعاش، وقد يكون متفرغا من الأشغال ولا يكون فإذا اجتمعا للعبد ثم غلب عليه الكسل عن نيل الفضائل فذاك الغبن كيف والدنيا سوق الرباح، والعمر أقصر، والعوائق أكثر)[ أبو الفرج الجوزي (ت 597هـ)كشف المشكل من حديث الصحيحين ، 3/ 437].
وقال ابن بطال معنى الحديث أن المرء لا يكون فارغا حتى يكون مكفيا صحيح البدن فمن حصل له ذلك فليحرص على أن لا يغبن بأن يترك شكر الله على ما أنعم به عليه ومن شكره امتثال أوامره واجتناب نواهيه فمن فرط في ذلك فهو المغبون)[فتح الباري لابن حجر:11/ 213]
فإن كان عندك فراغ ولم تملأه بمفيد يرضي الله، وينفع في الدنيا والآخرة، وتشغل فيه نفسك بالطاعة فإنها تشغلك بالمعصية أو بِلَغْوِ القول والفعل..ثم تُغبَن عند السؤال حيث إنه لا تزول قدما عبدٍ حتى يُسأل عن أربع كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه وعن علمه ما فعل فيه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن جسمه فيم أبلاه» [صحيح) عن أبي برزة. الصحيحة 946].
إن العبد إذا آتاه الله الصحة والقوة ولم يستعملها في طاعة الله أو فيما أذِن في شرع الله، فإنه يكون مغبوناً، خاسرا في بيعة وبيعته التي عقدها مع المؤمنين:" إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) "[التوبة]، مسؤولا يوم القيامة عن صحة الأبدان وسعة الأزمان..
قال الشيخ العثيمين-رحمه الله- يعني أن هذين الجنسين من النعم مغبون فيهما كثير من الناس، أي مغلوب فيهما، وهما الصحة والفراغ، وذلك أن الإنسان إذا كان صحيحاً كان قادراً على ما أمره الله به أن يفعله، وكان قادراً على ما نهاه الله عنه أن يتركه لأنه صحيح البدن، منشرح الصدر، مطمئن القلب، كذلك الفراغ إذا كان عنده ما يؤويه وما يكفيه من مؤنة فهو متفرغ. فإذا كان الإنسان فارغاً صحيحاً فإنه يغبن كثيراً في هذا، لأن كثيراً من أوقاتنا تضيع بلا فائدة ونحن في صحة وعافية وفراغ، ومع ذلك تضيع علينا كثيراً، ولكننا لا نعرف هذا الغبن في الدنيا، إنما يعرف الإنسان الغبن إذا حضره أجله، وإذا كان يوم القيامة، والدليل على ذلك قوله تعالى: "حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ(المؤمنون: 100) ، وقال عز وجل في سورة المنافقون: "مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِين َ(المنافقون: 10) ، وقال الله عز وجل: "وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ"(المنافقون: 11) .
الواقع أن هذه الأوقات الكثيرة تذهب علينا سدىً، لا تنفع منها، ولا ننفع أحداً من عباد الله، ولا نندم على هذا إلا إذا حضر الأجل؛ يتمنى الإنسان أن يعطى فرصة ولو دقيقة واحدة لأجل أن يستعتب، ولكن لا يحصل ذلك.
ثم إن الإنسان قد لا تفوته هاتان النعمتان: الصحة والفراغ بالموت، بل قد تفوته قبل أن يموت، قد يمرض ويعجز عن القيام بما أوجب الله عليه، وقد يمرض ويكون ضيق الصدر لا يشرح صدره ويتعب، وقد ينشغل بطلب النفقة له ولعياله حتى تفوته كثير من الطاعات.
ولهذا ينبغي للإنسان العاقل أن ينتهز فرصة الصحة والفراغ بطاعة الله ـ عز وجل ـ بقدر ما يستطيع، إن كان قارئاً للقرآن فليكثر من قراءة القرآن، وإن كان لا يعرف القراءة يكثر من ذكر الله عز وجل، وإذا كان لا يمكنه؛ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أو يبذل لإخوانه كل ما يستطيع من معونة وإحسان، فكل هذه خيرات كثيرة تذهب علينا سدىً، فالإنسان العاقل هو الذي ينتهز الفرص؛ فرصة الصحة، وفرصة الفراغ. ) [شرح رياض ابن عثيمين 2 / 65- 67].
وخلاصة الأمر أنه:
-إذا حصل عند العبد نعمة الصحة والفراغ الذي هو بمعنى سعة الوقت الذي إذا فرغ من مشاغله انتصب لعبادة ربه، فلم يفعل فهو مغبون خاسر محاسَبٌ على ما ضيّع من فرصة صحة الجسد ووقت العمر والشباب خاصة ، كما جاء في الحديث.
وإذا فقد الصحة أو الوقت ولم يجد صحة يعبد بها أو وقتا بعيد فيه فإنه مغبون، فاته الخير، حتى ول كان معذورا فإنه لا يكون في مقدمة الركب، كما جاء في قوله-صلى الله عليه وسلم- عن أبي هريرة - :" أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى، والنعيم المقيم، فقال: «وما ذاك؟» قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم؟ ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم» قالوا: بلى، يا رسول الله قال: «تسبحون، وتكبرون، وتحمدون، دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة» قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء»[صحيح مسلم: 595].
كما إنه يكون مغبونا إذ يتزود المتزوّدون لمسافة تطول، وشُقّة تبعد، وساق تشتد :"يوم يُكشف عن ساق"( 1)[القلم: 42]. بينما هو لاهٍ ساهٍ ، يقتل الوقت قتلا، أو أنه سادر قد ألهــــه التكــاثر.
وقد يكون العبد مغبوناً بقلة الصحة، تفيض عينه من الدمع ألا يجد جسدا يتعبه في مراد الله، يرى الوقت يمر من بين يديه ولم يستطع فعل شيء، خاصة إذا كان قد أمضى قوته بدنه هدرا قبل ضعفها، وأسال شبابه ضياعا قبل هرمه، ولذلك جاء في موعظة الناصح الأمين-صلى الله عليه وسلم-:"اغتنم خمسا قبل خمس: حياتك قبل موتك وصحتك قبل سقمك وفراغك قبل شغلك وشبابك قبل هرمك وغناك قبل فقرك"[صحيح، صحيح الجامع للألباني: 1077]، يعني بادروا الغبن وأدركوا النقص قبل حلوله.... ولات حين مندم!
وإن لم تكن واحدة من هذه فالفتن المهلكات لا توقر أحداً، فبادروا المنجيات من الأعمال، كما جاء عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعَرض من الدنيا»[مسلم في صحيحه: برقم 118].
--------------------------
(1)*- ساق تشد من الكرب والشدة والهول والفضاعة ، كأنها حربٌ قامت ساقها، ويكشف عن ساق ، فٌسّرت بساق الله تعالى، تليق بجلاله:"ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" ويوم الكشف عن ساق الله تعالى يُكشف على الناس بشدة وهول وكرب فاللهم سلم سلم.
فاللهم اجعلنا من المغبوطين في الدنيا والآخرة ، ولا تجعلنا من المغبونين، لا في الدنيا ةلا في الآخرة
تعليق