الــــــدَّعْــــــــــــوَة
من مقال لمصطفى لطفي المنفلوطي
_________________________________________
بتصرف
من مقال لمصطفى لطفي المنفلوطي
_________________________________________
بتصرف
ما من قائم يقوم في مجتمع من هذه المجتمعات البشرية داعيًا إلى ترك ضلالة من الضلالات، أو بدعة من البدع،
إلا وقد آذن نفسه بحرب لا تخمد نارها، ولا يخبو أوارها حتى تهلك، أو يهلك دونها.
ليس موقف الجندي في معترك الحرب بأحرج من موقف المرشد في معترك الدعوة،
وليس سلب الأجسام أرواحها، بأقرب منالًا من سلب النفوس غرائزها وميولها..
وما سالت الدماء، ولا تمزقت الأشلاء في موقف الحروب البشرية، من عهد آدم عليه السلام إلى اليوم
إلا حماية للمذاهب، وذودًا عن العقائد.
لذلك كان الدعاة في كلِّ أمة أعداءها وخصومها.
الدعاة أحوج الناس إلى عزائم ثابتة، وقلوب صابرة على احتمال المصائب والمحن التي يلاقونها في سبيل الدعوة؛
حتى يبلغوا الغاية التي يريدونها أو يموتوا في طريقها.
الدعاة الصادقون لا يبالون أن يسميهم الناس خونة أو جهلة أو زنادقة أو ملحدين، أو ضالين، أو كافرين؛
لأن ذلك ما لا بد أن يكون.
سيقول كثير من الناس:
وما يغني الداعي دعاؤه في أمة لا تحسن به ظنًّا، ولا تسمع له قولًا،
إنَّه يضرُّ نفسه من حيث لا ينفع أمته، فيكون أجهل الناس، وأحمق الناس.
هذا ما يوسوس به الشيطان للعاجزين الجاهلين، وهذا هو الداء الذي ألمَّ بنفوس كثير من العلماء،
فأمسك ألسنتهم عن قول الحق، وحبس نفوسهم عن الانطلاق في سبيل الهداية والإرشاد،
فأصبحوا لا عمل لهم إلا أن يكرروا للناس ما يعلمون، ويعيدوا عليهم ما يحفظون،
فجمدت الأذهان، وتبلدت المدارك، وأصبحت العقول في سجن مظلم، لا تطلع عليه الشمس، ولا ينفذ إليه الهواء.
الجهل غشاء سميك يغشي العقل، والعلم نار متأججة تلامس ذلك الغشاء فتحرقه رويدًا رويدًا،
ولا يستطيع الباطل أن يصرع الحقَّ في ميدان؛ لأنَّ الحقَّ وجود والباطل عدم،
إنما يصرعه جهل [بعض] العلماء بقوته، ويأسهم من غلبته، وإغفالهم النداء به، والدعاء إليه.
الجهلاء مرضى، والعلماء أطباء،
ولا يجمل بالطبيب أن يحجم عن العمل الجراحي فرارًا من إزعاج المريض، أو خوفًا من صياحه وعويله، أو اتقاء لسبِّه وشتمه،
فإنَّه سيكون غدًا أصدق أصدقائه، وأحبَّ الناس إليه.
وبــــعـــــــــــــــــــــــــــد:
فقليل أن يكون الداعي في الأمة الجاهلة حبيبًا إليها إلا إذا كان خائنًا في دعوته، سالكًا سبيل الرياء والمداهنة في دعوته،
وقليل أن ينال حظَّه من إكرامها وإجلالها، إلا بعد أن تتجرع مرارة الدواء، ثم تشعر بحلاوة الشفاء.
أصحاب الصحف وكتاب الرسائل والمؤلفون وخطباء الجامع وخطباء المنابر،
كلُّهم يدعون إلى الحقِّ، وكلُّهم يعظون وينصحون، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر،
ولكن لا يوجد بينهم من يستطيع أن يحمل في سبيل الدعوة ضرًّا، أو يلاقي في طريقها شرًّا.
رأيت الدعاة في هذه الأمة [إلا من رحم الله] أربــعــــــــــة:
- رجــــــــــــــــلًا يـعــــــــرف الـحـــــــــــقَّ،
ويكتمه عجزًا وجبنًا، فهو ساكت طول حياته، لا ينطق بخير ولا شرٍّ.
- ورجلًا يعرف الحقَّ وينطق به،
ولكنه يجهل طريق الحكمة والسياسة في دعوته، فيهجم على النفوس بما يزعجها وينفرها،
وكان خيرًا له لو صنع ما يصنعه الطبيب الماهر الذي يضع الدواء المرَّ في (برشامة)؛ ليسهل تناوله.
- ورجلًا لا يعرف حقًّا ولا باطلًا،
فهو يخبط في دعوته خبط الناقة العشواء في بيدائها،
فيدعو إلى الخير والشرِّ، والحقِّ والباطل، والضارِّ والنافع في موقف واحد، فكأنَّه جواد امرئ القيس الذي يقول فيه:
مكرٍّ مفرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معًا
- ورجـــــــــــــــلًا يـعــــــــرف الـحـــــــــــقَّ،
ويدعو الأمة إلى الباطل دعوة المُجِدِّ المُجتَهِد، وهو أخبث الأربعة وأكثرهم غائلة؛ لأنَّه صاحب هوى،
يرى أنَّه لا يبلغ غايته منه، إلا إذا أهلك الأمة في سبيله، فهو عدوها في ثياب صديقها؛
لأنَّه يوردها موارد التلف والهلاك، باسم الهداية والإرشاد.
فليت شعري من أي واحد من هؤلاء الأربعة تستفيد الأمة رشدها وهداها؟!
ما أعظم شقاء هذه الأمة، وأشد بلاءها!
فقد أصبح دعاتها [إلا من رحم الله] في حاجة إلى دعاة،
يُنيرون لهم طريق الدعوة، ويُعلمونهم كيف يكون الصبر والاحتمال في سبيلها،
فليت شعري متى يتعلمون ثم يرشدون؟
----------------------------------
المصدر: الدرر السنية - من روائع المقالات
تعليق