قال بعض أهل التفسير: "وهو تعبير كذلك ذو ظلال وإيحاءات أوسع من ألفاظه ومجرد خطوره على القلب يفتح أمامه صفحة من أعماله بل صفحة حياته، ويمد ببصره في سطورها كلها يتأملها، وينظر رصيد حسابه بمفرداته وتفصيلاته لينظر ماذا قدم لغده في هذه الصفحة،
وهذا التأمل كفيل بأن يوقظه إلى مواضع ضعف ومواضع نقص ومواضع تقصير مهما يكن قد أسلف من خير وبذل من جهد فكيف إذا كان رصيده من الخير ضئيلًا؟
إنها لمسة لا ينام بعدها القلب أبدًا، ولا يكف عن النظر والتقليب."
وقال الله تعالى: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة 2].
يقول الفراء: "ليس من نفسٍ برة ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها؛ إن كانت عملت خيرًا قالت: هلا ازددتِ، وإن عملت شرًا قالت: ليتني لم أفعل."
وقال الحسن في تفسير هذه الآية: "لا يلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه: ماذا أردت بكلمتي؟ ماذا أردت بأكلتي؟ ماذا أردت بشربتي؟ والفاجر يمضي قدمًا لا يعاتب نفسه."
ويقول الله عز وجل في وصف المؤمنين الذين يحاسبون أنفسهم عند الزلة والتقصير ويرجعون عما كانوا عليه: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف 201].
قال الفاروق عمر رضي الله عنه: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة 18]."
ويصف الحسن البصري المؤمن بقوله: "المؤمن قوام على نفسه يحاسبها لله، وإنما خف الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة."
ويقول ميمون بن مهران: "إنه لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه."
ويحذر ابن القيم رحمه الله من إهمال محاسبة النفس؛ فيقول: "أضر ما على المكلف الإهمال وترك المحاسبة والاسترسال، وتسهيل الأمور وتمشيتها؛ فإن هذا يؤول بها إلى الهلاك، وهذا حال أهل الغرور: يغمض عينيه عن العواقب، ويمشّي الحال، ويتكل على العفو، فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة، وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب، وأنس بها، وعسر عليه فطامها."
ولنستمع إلى هذه الكلمات الجميلة لأبي حامد الغزالي في [الإحياء] وهو يصف أرباب القلوب المنيبة وذوي البصائر الحية، فيقول: "فعرف أرباب البصائر من جملة العباد أن الله -تعالى- لهم بالمرصاد، وأنهم سيناقشون في الحساب ويطالبون بمثاقيل الذر من الخطرات واللحظات، وتحققوا أنه لا ينجيهم من هذه الأخطاء إلا لزوم المحاسبة وصدق المراقبة ومطالبة النفس في الأنفاس والحركات ومحاسبتها في الخطرات واللحظات.
فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه، وحضر عند السؤال جوابه، وحسن منقلبه ومآبه، ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته، وطالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته."
وقال الحسن رحمه الله: "اقرعوا هذه الأنفس؛ فإنها طلعة، وإنها تتنازع إلى شر غاية، وإنكم إن تقاربوها لم تبق لكم من أعمالكم شيئًا، فتصبروا وتشددوا، فإنما هي أيام تعد، وإنما أنتم ركب وقوف يوشك أن يدعى أحدكم فلا يجيب ولا يلتفت، فانقلبوا بصالح ما بحضرتكم."
التعديل الأخير تم بواسطة طريقي لربي; الساعة 16-12-2014, 09:35 AM.
رد: محاسبة النفس ضرورة ملحة .. للشيخ/ محمد حسين يعقوب
· وهناكَ أسبابٌ تعينُ المسلمَ على محاسبةِ نفسهِ وتُسهِّلُ عليهِ ذلك ، منها ما يلي :
1. معرفةُ أنك كلما اجتهدت في محاسبةِ نفسكَ اليوم ، استراحتَ من ذلك غداً ، وكلما أهملتها اليوم اشتدَّ عليكَ الحسابُ غداً .
2. معرفةُ أنَّ ربحَ محاسبة النفس هو سُكْنى الفردوس ، والنظرُ إلى وجهِ الربِ سبحانه ، وأنَّ تركها يؤدي بك إلى الهلاكِ ودخولِ
النار والحجابِ عن الرب تبارك وتعالى .
3. صحبةُ الأخيار الذينَ يُحاسبونَ أنفسَهُم ، ويُطلِعونَك على عيوبِ نفسِكَ ، وتركُ صحبة من عداهم .
4. النظرُ في أخبارِ أهل المحاسبةِ والمراقبة ، من سلفِنا الصالح .
5. زيارةُ القبورِ والنظرُ في أحوالِ الموتى الذين لا يستطيعونَ محاسبةَ أنفسِهم أو تدارُكِ ما فاتَـهم .
6. حضورُ مجالس العلمِ والذكر فإنها تدعو لمحاسبة النفس .
7. البعدُ عن أماكن اللهوِ والغفلة فإنها تُنسيكَ محاسبةَ نفسك .
8. دعاءُ اللهِ بأن يجعلك من أهلِ المحاسبة وأن يوفقك لذلك .
رد: محاسبة النفس ضرورة ملحة .. للشيخ/ محمد حسين يعقوب
قال ابن قدامة في كتابه ........................ : مختصر منهاج القاصدين :................................
وتحققَ أربابُ البصائر أنه لا ينجيهم من هذه الأخطار - الناتجة عن عدمِ محاسبة النفس - إلا لزومُ المحاسبةِ لأنفسِهم وصِدْقُ المراقبة ، فمن حاسبَ نفسهُ في الدنيا خفَّ حسابه في الآخرة ، ومَن أهملَ المحاسبة دامتْ حسراته ، فلما علموا أنهم لا يُنجيهم إلا الطاعة ، وقد أمرَهم بالصبرِ والمرابطةِ فقالَ سبحانه : }يا أيُّها الَذينَ آمَُنواْ اصبِروا وَصابِرواْ ورابِطوا{ فرابطوا أنفسَهم أولاً بالمشارطةِ ثمّ بالمراقبة ، ثم بالمحاسبةِ ثم بالمعاقبة ، ثم بالمجاهدةِ ثم بالمعاتبة ، فكانتْ لهم في المرابطةِ سِتُّ مقاماتٍ أصلُها المحاسبة ، ولكنْ كلّ حسابٍ يكونُ بعدَ مشارطةٍ ومراقبة ، ويتبعهُ عندَ الخُسران المعاتبةُ والمعاقبة . نأخذها الآنَ بشيءٍ منَ التفصيل :
المقامُ الأول : المشــارطة :
اعلم أنّ التاجرَ كما يستعينُ بشريكهِ في التجارةِ طلباً للربح ، ويشارطهُ ويحاسبه ، كذلك العقلُ يحتاجُ إلى مشاركةِ النفس وشرطِ الشروطِ عليها وإرشادِها إلى طريقِ الفلاح ، والتضييقِ عليها في حركاتها وسكناتها . فمثلاً : إذا فَرِغَ العبدُ من صلاةِ الصُبْح ، ينبغي أن يُفرغَ قلبَه ساعةً لمشارطةِ نفسهِ
فيقولُ للنفس : ماليَ بضاعة إلا العُمُر ، فإذا فَنِيَ مني رأس المال وقعَ اليأسُ من التجارةِ وطلبِ الربح . فليقُل أحدُنا الآنَ قبلَ الموت : يا نفس ، اجتهدي اليومَ في أن تعـمُري خِزانتكِ ولا تدعيها فارغة ، ولا تَميلي إلى اليأسِ والدَعَةِ والاستراحة فيفوتكِ من درجاتِ عليينَ ما يُدْرِكه غيرَكِ المقامُ الثاني : المراقبــة :
إذا أوصى الإنسانُ نفسَهُ وشَرَطَ عليها ، لم يبقَ إلا المراقبة لها وملاحظتها وفي الحديثِ الصحيح في تفسيرِ الإحسان ، لما سُئِلَ عنهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال : (( أنْ تعبدَ الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراهُ فإنه يراك )) . فمراقبة العبد نفسَه في الطاعة هو أن يكونُ مخلصاً فيه! ا ، ومراقبته في المعصيةِ تكونُ بالتوبةِ والندمِ والإقلاع ، ومراقبته في المباح تكونُ بمراعاةِ الأدب والشكرِ على النعيم ، وكلُّ ذلك لا يخلو من المراقبة .
المقام الثالث : المحاسبةُ بعدَ العمل :
اعلم أن العبدَ كما ينبغي أن يكونَ له وقتٌ في أولِ النهار يشارطُ فيهِ نفسه ، كذلك ينبغي أن يكونَ له ساعةٌ يطالبُ فيهِ نفسه في آخرِ النهار ويحاسبُها على جميعِ ما كانَ منها ، كما يفعلُ التُجّار في الدنيا معَ الشُركاءِ في آخرِ كل سنةٍ أو شهرٍ أو يوم .
المقام الرابع : معاقبةُ النفسِ على تقصيرِها :
اعلم أن العبدَ إذا حاسبَ نفسهُ فرأى منها تقصيراً ، أو فعلَتْ شيئاً من المعاصي ، فلا ينبغي أن يهملَها ، فإنه يَسْهُلُ عليهِ حينئذٍ مقارفةُ الذنوب ويعسرُ عليه فِطامُها ، بل ينبغي أن يعاقبها عقوبةً مباحة ، كما يعاقبُ أهلَهُ وأولادَه . وكما رويَ عن عمر رضي الله عنه : أنه خَرجَ إلى حائطٍ له ثم رَجعَ وقد صلى الناسُ العصرَ ، فقال : إنما خرجتُ إلى حائطي ورَجعتُ وقد صلى الناسُ العصرَ ، حائطي صدقةٌ على المساكين .
المقام الخامس : المجــاهدة :
إذا حاسبَ الإنسانُ نفسَه ، فينبغي إذا رآها قد قارفت معصيةً أن يُعاقبـَها كما سبق ، فإن رآها تتوانى للكسلِ في شيءٍ من الفضائلِ أو وِرد من الأوراد ، فينبغي أن يؤدبـَها بتثقيلِ الأورادِ عليها ، كما وردَ عن ابنِ عمرَ رضي الله عنه ، أنه إذا فاتته صلاةٌ في جماعةٍ فأحيا الليلَ كلَّه! ُ تِلكَ الليلة ، فهوَ هُنا يجاهدُها ويُكرِهُهَا ما استطاع .
المقام السادس والأخير : معاتبةُ النفسِ وتوبيخُـها :
قال أنس رضي الله عنه : سمعتُ عمرَ بن الخطابِ رضي الله عنه ، وقد دخلَ حائطاً ، وبيني وبينه جدار ، يقول : عمرُ بن الخطاب أميرُ المؤمنين !! بخٍ بخ ، واللهِ لتتقينَ الله يا ابن الخطاب أو ليُعذبنَّك ! .
أخي الحبيب : اعلم أن أعدى عدوٍ لكَ نفسُكَ التي بين جنبيك ، وقد خُلِقتْ أمارةً بالسوءِ ميالةً إلى الشرورِ ، وقد أُمرتَ بتقويمها وتزيكتها وفطامها عن موارِدِها ، وأن تقودَها بسلاسلِ القهْرِ إلى عبادةِ ربِها ، فإن أنتَ أهملتها ضلّتْ وشَرِدتْ ، وإن لزمتَها بالتوبيخِ رَجونا أن تصيرَ مُطمئنة ، فلا تغفلنّ عن تذكيرِها .
أخي الحبيب : كم صلاةٍ أضعتَها ؟ كم جُمُعَةٍ تهاونتَ بها ؟ كم صدقةٍ بَخِلتَ بها ؟ كم معروفٍ تكاسلتَ عنه ؟ كم منكرٍ سكتَّ عليه ؟ كم نظرةٍ محرمةٍ أصبتَها ؟ كم كلمةٍ فاحشةٍ أطلقتها ؟ كم أغضبتَ والديك ولم ترضِهِما ؟ كم قسوتَ على ضعيفٍ ولم ترحمه ؟ كم من الناسِ ظلمتَه ؟ كم وكم ...؟
هذا والله تعالى أعلى وأعلم وأحكم ، وصلى الله وسلمَ وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آلهِ وصحبه أجمعين .
المراجع:
1. كيـف تحاسب نفسـك ؟
لفضيلة الشيخ : سعد بن سعيد الحجري .
2. مختصر منهاج القاصدين .
للإمـــام : ابن قدامة المقدسي .
3. مطوية " محاسبة النفس "
إعداد القسم العلمي بدار الوطن .
منقول ...............................إعداد أخوكم / أبو عمار................................
لا تبخلوا بملاحظاتكم وتوجيهاتكم
رد: محاسبة النفس ضرورة ملحة .. للشيخ/ محمد حسين يعقوب
رابعًا: كَيْفِيَةُ المُحَاسَبَةِ.
في الحقيقة ليس هناك وسيلة محدّدة ذات خطوات وأساليب منضبـطـة في كيفية محاسبة النفس؛ وذلك لأن النفوس البشرية متباينة الطبائع والـسـجـايـــــا؛ لكنّ هناك أُطُراً عامة وخطوطاً عريضة يمكن الإشارة إليها والاستفادة منها في هذا الموضـوع. والأمـر الذي يجـب أن يفقهـه كل مسلم ومسلمة أنه لا بد من الجدّية في المحاسبة والحرص الشديد على أخذ النتائج والقرارات التي يُتوصّل إليها بعد ذلك بمأخذ العزيمة والجدّ. قال الغزالي: (اعلم أن العبد كما ينبغي أن يكون له وقت في أوّل النهار يشارط فيه نفسه على سبيل التوصية بالحق، فينبغي أن يكون له في آخر النهار ساعة يطالب فيها النفس، ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها، كما يفعل التجار في الدنيا مع الشركاء في آخر كلّ سنة أو شهر أو يوم حرصاً منهم على الدنيا، وخوفاً من أن يفوتهم منها ما لو فاتهم لكانت الـخـيـــرة لهم في فواته... فكيف لا يحاسب العاقل نفسه فيما يتعلق به خطر الشقاوة والسعادة أبد الآباد؟! ما هذه المساهلة إلا عن الغفلة والخذلان وقلة التوفيق نعوذ بالله من ذلك)، ثـم بيّن ـ رحمه الله ـ أن المحاسبة تكون على نوعين: النوع الأول: محاسبة قبل العمل : وهي: أن يقف عند أوّل همّه وإرادته، ولا يبادر بالـعـمـــــل حتى يتبيّن له رجحانه على تركه. قال الدكتور عمر الأشقر: (ينظر في همّه وقصده؛ فالمرء إذا نفى الخطرات قبل أن تتمكّن من القلب سهل عليه دفعُها... فالخطرة النفسيّة والهمّ القلبي قد يقويان حتى يصبحا وساوس، والوسوسة تصير إرادة، والإرادة الجازمة لا بد أن تكون فعلاً). قال الحسن: (كان أحدهم إذا أراد أن يتصدّق بصدقة تثبّت؛ فإن كانت لله أمضاها، وإن كانت لغيره توقّف). وشرح بعضهم قول الحسن فقال: (إذا تحرّكت الـنـفــس لعملٍ من الأعمال وهمّ به العبد وقف أولاً ونظر: هل ذلك العمل مقدور عليه أو غير مقدور عليه؟ فإن لم يكن مقدوراً عليه لم يقدم عليه، وإن كان مقدوراً عليه وقف وقفة أخرى ونظر: هل فِعلُه خير له من تركه، أم تركُه خير له من فعلِه؟ فإن كان الخير في تَرْكه تَرَكَه، وإن كان الأوّل وقـف وقفة ثالثة ونظر: هـل الباعث عليه إرادة وجه الله ـ عز وجل ـ وثوابُه أو إرادة الجاه والثناء والمال من المخلوق؟ فإن كان الثاني لم يقدم عليه وإن أفضى به إلى مطلوبه؛ لئلا تعتاد النفسُ الشركَ ويخفّ عليها العمل لغير الله؛ فبقدر ما يخفّ عليها ذلك يثقل عليها العمل لله ـ تعالى ـ حتى يصير أثقل شيء عليها، وإن كان الأوّل وقف وقفة أخرى ونظر: هل هو مُعَانٌ عليه وله أعوان يساعدونه وينصرونه ـ إذا كان العمل محتاجاً إلى ذلك ـ أم لا؟ فإن لم يكن له أعوان أمسك عنه، كما أمسك النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عن الجهاد بمكة حتى صار له شوكة وأنصار، وإن وجده معاناً عليه فليُقدم عليه فإنه منصورٌ ـ بإذن الله ـ). النوع الثاني: المحاسبة بعد العمل وهي على أقسام ثلاثة: 1. محاسبتُها على الـتـقـصـيـر في الطاعات في حق الله ـ تعالى ـ وذلك يكون بأن يديم سؤاله نفسه: هل أديتُ هذه الفريضة على الوجه الأكمل مخلصاً فيها لله ووفق ما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فــإن كــــان مـقـصّــراً ـ وأيّنا يسلم من ذلك؟ ـ فليسدّ الخلل بالنوافل، فإنها تُرقّع النقص في الفريضة وتربي لدى الـعـبـد جــانب العبادة، وبالمجاهدة وكثرة اللّوم يخفّ التقصير في الطاعات إلى درجة كبيرة. 2. محــاسـبـتـهـا على معصية ارتكبتها: قال ابن القيم في ذلك: (وبداية المحاسبة أن تقايس بين نعمته - عـز وجـل - وجنايتك؛ فحينئذٍ يظهـر لك التفـاوت، وتعلم أنه ليس إلا عفوه ورحمتُه أو الـهــــلاكُ والعطب. وبهذه المقايسة تعلم أنّ الرّب ربّ والعبدَ عبد، ويتبيّن لك حقيقةُ النفس وصفاتُها، وعظمةُ جلال الربوبية وتفرّدُ الربّ بالكمال والإفضال، وأنّ كل نعمة منه فضل وكلّ نقـمـــة منه عدل... فإذا قايست ظهر لك أنها منبع كلّ شرّ وأساس كلّ نقص وأنّ حدّها: أنها الجاهلةُ الظالمةُ، وأنّه لولا فضل الله ورحمتُه بتزكيته لها ما زكت أبداً. ولولا إرشاده وتوفـيـقـــه لما كان لها وصولٌ إلى خير البتة؛ فهناك تقول حقاً: أبوء بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي). وبعد أن يحاسب نفسه هذه المحاسبة، ويجـلــس معها هذه الجلسة المطوّلة، فإنه ينتقل إلى الثمرة والنتيجة ألا وهي العمل على تكفير تـلـك المعصية، فيتدارك نفسه بالتوبة النصوح وبالاستغفار والحسنات الماحيةِ والمذهبة للسيئات. قال ـ سبحانه ـ:{إنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114].
فـالـبـدارَ البدارَ قبل أن يُختم لك بخاتمة سوء وأنت مُصِرّ على تلك المعصية ولم تتبْ منها. وتذكّر الحشرَ والنّشر وهوْلَ جهنّم وما أعدّه الله للعصاة والفسقة من الأغلال والحديد والزقوم والصديد في نارٍ قال كعبُ الأحبار عنها ـ رضي الله عنه ـ: (لو أنّه فُتح من جهنّم قدرُ منخرِ ثور بالمشرق ورجلٌ بالمغرب لغلى دماغُه حتى يسيل من حرّها) أجارنا الله والمسلمين منها. فبذلك السبيل وأشباهه من المحاسبة يكون المرء صادقــــاً في محاسبته نفسه على ارتكاب المعصية والذنب ـ ومن منّا يسلم من معاقرة الذنوب والخـطــايـــا؟! نـســــأل الله اللطف والتخفيف. 3. محاسبتها على أمرٍ كان تركه خيراً من فعله، أو على أمرٍ مباح، ما سبب فعلِه له؟ فيُوجّه لنفسه أسئلة متكرّرة: لِمَ فعلتُ هذا الأمر؟ أليس الخير في تركه؟ وما الفائدة التي جنيتها منه؟ هل هذا العمل يزيد من حسناتي؟ ونحو ذلك من الأسئلة التي عـلــى هذه الشاكلة. وأمّــــا المباح فينظر: هل أردت به وجه الله والدار الآخرة فيكون ذلك ربحاً لي؟ أو فعلتُه عادةً وتـقـلـيـــداً بلا نيّةٍ صالحة ولا قصدٍ في المثوبة؛ فيكون فعلي له مضيعة للوقت على حساب ما هو أنـفــــع وأنجح؟ ثم ينظر لنفسه بعد عمله لذلك المباح، فيلاحظ أثره على الطاعات الأخرى من تقـلـيـلـها أو إضعاف روحها، أو تأثيره عبر قسوة القلب وزيادة الغفلة؛ فكلّ هذه الأسئلة غايةٌ في الأهمية حتى يسير العبد في طريقه إلى الله على بصيرة ونور. أورد أبو نعيم بسنده عن الحسن قوله: (إنّ المؤمن يفجؤه الشيء ويعجبُه فيقول: واللهِ إنّي لأشتهيك، وإنّك لمن حاجتي؛ ولـكـــــن ـ واللهِ ـ ما من صلةٍ إليك، هيهات!! حيل بيني وبينك. ويفرط منه الشيء (يقع في الخطأ) فيرجع إلى نفسه فيقول:
ما أردتُ إلى هذا، وما لي ولهذا؟ ما أردتُ إلى هذا، وما لي ولهذا؟ واللهِ ما لي عذرٌ بها، وواللهِ لا أعود لهذا أبداً ـ إن شاء الله ـ. إن المؤمنين قومٌ أوثقهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله ـ عز وجل ـ يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وفي بصره وفي لسانه وفي جوارحه، مأخوذ عليه في ذلك كلّه). وبالجملة؛ فلا بُدّ للمسلم من دوام محاسبـة النفـس، ومعاتبتهـا وتذكيرهـا كلّما وقعت منها زلّة أو جنحت إلى حطام الدنيا الفاني. ولننظر إلى أنموذج آخر في كيفية معاتبة النفس أورده أبو حامد الغزالي ـ رحمه الله ـ حيث يقول: (وسبيلك أن تقبل عليها فتقول لها: يا نفس ما أعظم جهلك، تدّعين الحكمة والذكاء والفطنة وأنت أشدّ الناس غباوة وحمقاً!! أما تتدبرين قوله ـ تعالى ـ:{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ*مَا يَاًتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ *لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ...} [الأنبياء: 1 3] ويحك يا نفس! إن كانت جرأتك على معصية الله لاعتقادك أن الله لا يراكِ فما أعظم كفرك! وإن كان مع علم باطلاعه عليكِ فما أشدّ وقاحتك وأقلّ حياءك! ويحك يا نفس!! لو كان الإيمان باللسان؛ فلِمَ كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار؟!! ويحك يا نفس! لا ينبغي أن تغرّكِ الحياة الدنيا، ولا يغرّكِ بالله الغرور... فما أمرك بمهمّ لغيرك، ولا تضيّعي أوقاتك؛ فالأنفاس معدودة، فإذا مضى عنكِ نَفَسٌ فقد مضى بعضُك. ويحك يا نفس! أوَ ما تنظرين إلى الذين مضوا كيف بنوا وعلوا، ثم ذهبوا وخلوا؟ اعملي يا نفس بقيّة عمرك في أيام قصار لأيّام طوال، وفي دار حزن ونصب لدار نعيم وخلود).
التعديل الأخير تم بواسطة طريقي لربي; الساعة 16-12-2014, 09:43 AM.
إنّ البحث والاستقصاء عن كلّ ما ورد من نماذج رائعة وصور مشرقة لمحاسبة السلف الصالح لأنفسهم يتطلّب مجهوداً جبّاراً ووقتاً طويلاً؛ لأن أولئك القوم ارتبطت قلوبهم بالله؛ فكانوا أجساداً في الأرض وقلوباً في السماء، وما إن يحصل من أحدهم تقصير أو زلّة إلا ويسارع في معالجة خطئه، ومعاقبة نفسه على ذلك؛ حتى لا تكاد تأمره إلا بخير. ولعلّنا نقتصر هنا على بعض النقولات العجْلى عن أولئك النفر الكرام لعلّها تحرّك القلوب، وتشحذ النفوس وتربّي المسلم تربية جادة قويّة: عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعتُ عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يوماً وخرجت معه حتى دخل حائطاً فسمعتُه يقول ـ وبيني وبينه جدار ـ:(عمر!! أمير المؤمنين!! بخٍ بخٍ، واللهِ بُنَيّ الخطاب لتتقينّ الله أو ليعذبنّك).
وجاء رجل يشكو إلى عمر وهو مشغول فقال له: (أَتَتْركون الخليفة حين يكون فارغاً حتى إذا شُغِل بأمر المسلمين أتيتموه؟) وضربه بالدرّة، فانصرف الرجل حزيناً، فتذكّر عمر أنه ظلمه، فدعا به وأعطاه الدرّة، وقال له: (اضربني كما ضربتُك) فأبى الرجل وقال: تركت حقي لله ولك.
فقال عمر: إما أن تتركه لله فقط، وإما أن تأخذ حقّك) فقال الرجل: تركته لله.
فانصرف عمر إلى منزله فصلّى ركعتين ثم جلس يقول لنفسه: (يا ابن الخطاب: كنتَ وضيعاً فرفعك الله، وضالاً فهداك الله، وضعيفاً فأعزّك الله وجعلك خليفةً، فأتى رجلٌ يستعين بك على دفع الظلم فظلمتَه؟!! ما تقول لربّك غداً إذا أتيتَه؟.. وظلّ يحاسب نفسَه حتى أشفق الناس عليه).
وقال إبراهيم التيمي: (مثّلتُ نفسي في الجنة آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثّلتُ نفسي في النار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: يا نفس أيّ شيء تريدين؟ فقالت: أريد أن أُردّ إلى الدنيا فأعمل صالحاً! قلتُ: فأنتِ في الأمنية فاعملي).
وحكى صاحب للأحنف بن قيس قال: كنتُ أصحبُه فكان عامةُ صلاته بالليل، وكان يجيء إلى المصباح فيضع إصبعه فيه حتى يحسّ بالنّار ثم يقول لنفسه: يا حنيف! ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعتَ يومَ كذا؟).
ونُقِل عن توبة بن الصّمة: أنه جلس يوماً ليحاسب نفسَه فعدّ عمره فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيّامها فإذا هي واحدٌ وعشرون ألفاً وخمسمائة يوم؛ فصرخ وقال: (يا ويلتى! ألقى الملك بواحدٍ وعشرين ألف ذنب! فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب؟!!) ثم خرّ فإذا هو ميّت!! فسمعوا قائلاً يقول: (يا لكِ ركضةٌ إلى الفردوس الأعلى).
يقول الغزالي معلّقاً على هذه القصّة: (فهكذا ينبغي أن يحاسب العبد نفسه على الأنفاس، وعلى معصيته بالقلب والجوارح في كلّ ساعة. ولو رمى العبد بكلّ معصية حجراً في داره لامتلأت دارُه في مدة يسيرة قريبة من عمره، ولكنه يتساهل في حفظ المعاصي؛ والملكان يحفظان عليه ذلك{أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ...}) [المجادلة: 6]. ويُحكى أن حسان بن أبي سنان مرّ بغرفة فقال: (متى بنيت هذه؟) ثم أقبل على نفسه، فقال: (تسألين عمّا لا يَعْنيكِ؟! لأعاقبنّك بصيام سنة)، فصامها. وقال عبد الله بن قيس: (كنّا في غزاةٍ لنا فحضر العدو، فَصِيحَ في الناس، فقاموا إلى المصافّ في يومٍ شديد الريح، وإذا رجلٌ أمامي وهو يخاطب نفسَه ويقول: أيْ نفسي! ألم أشهد مشهد كذا فقلتِ لي: أهلَكَ وعيالك؟!! فأطعتُك ورجعت! ألم أشهد مشهد كذا فقلتِ لي: أهلَكَ وعيالك؟!! فأطعتُكِ ورجعت! واللهِ لأعرضنّكِ اليوم على الله أخَذَكِ أو تَركَكِ. فقلت: لأرمقنّكَ اليوم، فرمقته فحمل الناسُ على عدوّهم فكان في أوائلهم، ثم إنّ العدو حمل على الناس فانكشفوا (أي هربوا) فكان في موضعه، حتى انكشفوا مرات وهو ثابت يقاتِل؛ فواللهِ ما زال ذلك به حتى رأيتُه صريعاً، فعددتُ به وبدابته ستين أو أكثر من ستين طعنة).
التعديل الأخير تم بواسطة طريقي لربي; الساعة 16-12-2014, 09:53 AM.
رد: محاسبة النفس ضرورة ملحة .. للشيخ/ محمد حسين يعقوب
وأخيراً:
نختم بفائدة مهمّة فيما يعين على المحاسبة ذكرها الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ في (مدارج السالكين)؛ فقد ذكر أن ممّا يعين على المحاسبة: أن يكون المرء صادقاً في محاسبته لنفسه. وتعتمد المحاسبة الصادقة على ثلاثة أسس:
الاستنارة بنور الحكمة وسوء الظنّ بالنفس وتمييز النعمة من الفتنة.
فأمّا نور الحكمة؛ فهو العلم الذي يميّز به العبد بين الحقّ والباطل، وكلّما كان حظّه من هذا النور أقوى كان حظّه من المحاسبة أكمل وأتمّ. وأما سوء الظن بالنفس؛ فحتّى لا يمنع ذلك من البحث والتنقيب عن المساوئ والعيوب.
وأما تمييز النّعمة من الفتنة؛ فلأنه كم مُسْتَدْرَج بالنّعم وهو لا يشعر، مفتونٍ بثناء الجهّال عليه، مغرورٍ بقضاء الله حوائجه وستره عليه!.
حكى الذهبي عن المرّوذي قال: (قلت لأبي عبد الله (يعني الإمام أحمد): قدم رجلٌ من طرسوس فقال: كنّا في بلاد الروم في الغزو إذا هدأ الليل رفعوا أصواتهم بالدعاء لأبي عبد الله، وكنّا نمدّ المنجنيق ونرمي عن أبي عبد الله. وقد رُمي عنه بحجرٍ والعلج على الحصن مُتَتَرّسٌ بدَرَقَته فذهب برأسه والدّرقة!! قال: فتغيّر وجه أبي عبد الله وقال: ليته لا يكون استدراجاً). سبحان الله؛هكذا يكون التواضع، و إلا يغتر الإنسان بكلام الناس، وينس حقيقته وأصله فهيّا يا أخي الحبيب و ابدأ فورا في محاسبة نفسك، ولا تكتف بالورقة المشهورة تقيد فيها بعض أعمالك، وتفرح بصورة العمل دون حالة القلب..
أرجو أن تتخطى هذه المرحلة لأنه وعن تجربة شخصية مع كثير من الإخوة ليس لهذه الطريقة كبير أثر، إنما تكون حقيقة المحاسبة هي محاسبة الحال مع الله لا محاسبة صور الأعمال.
أسأل الله جل جلاله الغفور الرحيم العلي العظيم أن يصلي ويسلم ويبارك على النبي الكريم، وأن يغفر لنا ما تقدم وما تأخر من ذنوبنا، ويرزقنا حسن الخاتمة، ويكتب لنا الجنة بغير حساب ولا سابقة عذاب. آمين آمين آمين.
التعديل الأخير تم بواسطة طريقي لربي; الساعة 16-12-2014, 09:57 AM.
تعليق