مثل الدنيا
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
يقول الإمام البخاري رحمه الله تعالى في كتاب الرقاق: باب: مثل الدنيا في الآخرة وقوله تعالى: ((اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ))الحديد:20
ثم أخرج عن سهل بن سعد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولغدوة في سبيل الله أو رَوحة خير من الدنيا وما فيها).
في هذا الحديث مسائل:
قوله سبحانه وتعالى: ((اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)). أما اللهو فكأنه خاص بالقلوب فهي تلهى.
واللعب خاص بالجوارح.
ومثل الدنيا -كما يقول بعض أهل العلم- كمثل صبيان أتوا في يوم من الأيام يلعبون، فبنوا لهم قصوراً، وعَمّروا دوراً، وزرعوا شجراً، فلما غربت عليهم الشمس خرّبوها، وهذا كمثل الدنيا.
قال عَزَّ من قائل: ((مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا))الكهف:45
قال أهل التفسير: هذا المثل. مثل أرض مربعة، نزل عليها الغيث، فأنبتت من كل زوج بهيج، فأنبتت الورود، وأنبتت الأشجار، وتدلت الأغصان اليانعة، فأعجب هذا المنظر الزرَّاع، فلما مضت عليها أشهر، هبت عليها الريح، وأذبلتها الشمس، فتكسرت عيدانها، وذبلت ورودها، وذهبت بهجتها، ففنيت، وأصبحت قاعاً صفصفاً، فهذا مثل الدنيا.
بينما تمر بالإنسان، وهو في صحة وعافية، وأولاده مجتمعون عنده، وهو مُصَدّر، ووجيه في الناس، وماله موفور، وبدنه قوي، ثم تلقاه بعد حين، وإذا هو مريض، أو قد مات، وقد تخرَّمت الأيام صحته وعافيته، وقد أصبح في حالة بئيسة.
قال بعض أهل العلم: أتت امرأة من آل النعمان بن المنذر، وكانوا في صحة، وأموال عظيمة، حيث أنهم كانوا من ملوك العرب.
فقال لها رجل من العرب: يا فلانة، ماذا فُعِل بكم؟
فقالت: أصبحنا وما في العرب بيت أغنى منا، ثم أمسينا وما في العرب بيت أفقر منا.
لقد سُلِب ملكهم في ليلة.
وقد مرَّ ابن مسعود بقصر في الكوفة ، وقد التمعت أنواره، وكان فيه حفل، وفيه مظاهر البهجة بادية، فقال: ما هذا؟
قالوا: أُناس قد اجتمعوا عند أبيهم على زواج وعُرس، فأحبوا أن يحتفلوا.
قال: ما امتلأت دار حَبرة إلا امتلأت عَبرة.
يعني: ما امتلأت دار بالبهجة والسرور والفرح، إلا امتلأت عما قليل بالنكد والهم والغم والحزن.
فإذا أصابتك مصيبة، فاعلم بأنها قد وقعت على غيرك من الناس، ودخلت كافة البيوت.
وكل هذه المصائب توصل العبد إلى الموت، والموت سهل لابد أن يُقدم عليه، لكن المصيبة الكبرى التي توصل العبد إلى جهنم: أن يُحجب القلب عن الله عز وجل، وأن يُطبع على القلب، فلا يعي، ولا يفهم، ولا يعقل.
فهذه هي أعظم المصائب، فلا مصيبة بعدها.
ولذلك هَوّن على نفسك إذا أصبت بمصيبة دنيوية لا دينية.
يقول الأندلسي في الدنيا:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
يقول الإمام البخاري رحمه الله تعالى في كتاب الرقاق: باب: مثل الدنيا في الآخرة وقوله تعالى: ((اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ))الحديد:20
ثم أخرج عن سهل بن سعد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولغدوة في سبيل الله أو رَوحة خير من الدنيا وما فيها).
في هذا الحديث مسائل:
قوله سبحانه وتعالى: ((اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)). أما اللهو فكأنه خاص بالقلوب فهي تلهى.
واللعب خاص بالجوارح.
ومثل الدنيا -كما يقول بعض أهل العلم- كمثل صبيان أتوا في يوم من الأيام يلعبون، فبنوا لهم قصوراً، وعَمّروا دوراً، وزرعوا شجراً، فلما غربت عليهم الشمس خرّبوها، وهذا كمثل الدنيا.
قال عَزَّ من قائل: ((مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا))الكهف:45
قال أهل التفسير: هذا المثل. مثل أرض مربعة، نزل عليها الغيث، فأنبتت من كل زوج بهيج، فأنبتت الورود، وأنبتت الأشجار، وتدلت الأغصان اليانعة، فأعجب هذا المنظر الزرَّاع، فلما مضت عليها أشهر، هبت عليها الريح، وأذبلتها الشمس، فتكسرت عيدانها، وذبلت ورودها، وذهبت بهجتها، ففنيت، وأصبحت قاعاً صفصفاً، فهذا مثل الدنيا.
بينما تمر بالإنسان، وهو في صحة وعافية، وأولاده مجتمعون عنده، وهو مُصَدّر، ووجيه في الناس، وماله موفور، وبدنه قوي، ثم تلقاه بعد حين، وإذا هو مريض، أو قد مات، وقد تخرَّمت الأيام صحته وعافيته، وقد أصبح في حالة بئيسة.
قال بعض أهل العلم: أتت امرأة من آل النعمان بن المنذر، وكانوا في صحة، وأموال عظيمة، حيث أنهم كانوا من ملوك العرب.
فقال لها رجل من العرب: يا فلانة، ماذا فُعِل بكم؟
فقالت: أصبحنا وما في العرب بيت أغنى منا، ثم أمسينا وما في العرب بيت أفقر منا.
لقد سُلِب ملكهم في ليلة.
وقد مرَّ ابن مسعود بقصر في الكوفة ، وقد التمعت أنواره، وكان فيه حفل، وفيه مظاهر البهجة بادية، فقال: ما هذا؟
قالوا: أُناس قد اجتمعوا عند أبيهم على زواج وعُرس، فأحبوا أن يحتفلوا.
قال: ما امتلأت دار حَبرة إلا امتلأت عَبرة.
يعني: ما امتلأت دار بالبهجة والسرور والفرح، إلا امتلأت عما قليل بالنكد والهم والغم والحزن.
فإذا أصابتك مصيبة، فاعلم بأنها قد وقعت على غيرك من الناس، ودخلت كافة البيوت.
وكل هذه المصائب توصل العبد إلى الموت، والموت سهل لابد أن يُقدم عليه، لكن المصيبة الكبرى التي توصل العبد إلى جهنم: أن يُحجب القلب عن الله عز وجل، وأن يُطبع على القلب، فلا يعي، ولا يفهم، ولا يعقل.
فهذه هي أعظم المصائب، فلا مصيبة بعدها.
ولذلك هَوّن على نفسك إذا أصبت بمصيبة دنيوية لا دينية.
يقول الأندلسي في الدنيا:
إذا هدمت فزدها أنت هدماً وحَصّن أمر دينك ما استطعت
يقول ابن القيم : إن مَرَضَ الجسم سهل وبسيط ومآله إلى الموت، وأما مرض القلب فمآله إلى جهنم، نعوذ بالله من جهنم.
فإن الله تعالى ما ذكر مرض الجسم في القرآن الكريم إلا في معرض الأعذار والرخص.
أما مرض القلب، فذكره الله تعالى في معرض العقيدة، والتحدث عن الآيات، وعن الكفر، والنفاق، نعوذ بالله من ذلك.
يقول الله عن أصحاب المرض القلبي: ((فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ))، بينما أجسامهم كما قال تعالى: ((وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ))، وإذا هم مرضى قلوب.
قال سبحانه وتعالى: ((اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)).
وهذا جلب للانتباه فهو يقول: ((اعْلَمُوا))، إن كنتم تعلمون، واعقلوا إن كنتم تعقلون، وتفكروا إن كنتم تتفكرون.
((أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ))، وهذا للحصر، واللعب في الجوارح، واللهو في القلب.
((وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ))، قال أهل التفسير: تفاخر، وتكاثر بالمطاولة والمنافسة.
ولذلك فأهل الدنيا إذا أراد بعضهم أن يغيظ بعض تطاول عليه في البناء، أو في المال، أو في المظهر.
((وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ))، قال أهل العلم: من أعجبه ماله، أو كثر عليه ماله، وألهاه عن طاعة الله، فليتدبَّر قصة قارون، فقد أهلكه الله، وقطع دابره، ولذلك يقول سبحانه وتعالى: ((فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ)). ما النتيجة؟
((فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ)).
وهكذا من تفاخر بأولاده، وتباهى بهم في المناسبات عند أقاربه وأصحابه، كما كان يفعل الوليد بن المغيرة في الجاهلية، حيث كان له مجموعة من الأولاد يقرب من العشرة، وكان يتباهى بهم في نوادي قريش ومنتدياتها، حيث كانوا يشهدونها معه، فلذلك قال تعالى عنه: ((ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا)).
أي: يشهدون معه المناسبات.
ولكن ذلك لم ينفعه عند الله سبحانه وتعالى.
قال سبحانه: ((كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ)). قال ابن كثير : الغيث إنما يُطلق على المطر إذا أتى بعد سَنَة.
قال سبحانه وتعالى: ((وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ))؛ لأن الأرض أغيثت به.
((أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ)) من هم الكفَّار؟
الرأي الوجيه أنهم: الزرَّاع.
وقيل: الكفار هم أهل الكفر، فإنهم أعجب الناس بالدنيا، ولذلك لا تجد الكافر إلا كالحمار، لا يعجبه إلا مظهر الدنيا، وهذا موجود في المنافقين، وفي الفَسَقة، وفي الكفار، فإنه إذا دخل البلد لا ينظر إلا إلى القصور، والمتنزَّهات، والمطاعم، والمشارب، والأسواق، والفحش، نعوذ بالله.
ثم قال عزَّ مِن قائل: ((ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا))، يهيج أي: ييبس ويذبل ويضمحل: ((ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا)). فالدنيا مثل هذا النبات، عما قليل تصفَرّ، ثم تتحطم. ((وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ)) عذاب شديد للكفار، ومغفرة ورضوان للمؤمنين.
ولذلك قال عز من قائل: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ))، وقال عزَّ مِن قائل: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)).
وقال عزَّ من قائل: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا)) ؛ لأن بعض الناس قد يسعى لها رياءً وسمعة: ((فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا)).
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (لّموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولغدوة في سبيل الله أو رَوحة خير من الدنيا وما فيها) . فهذا الحديث له سبب، وهو: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أرسل جيشه إلى مؤتة عيّن عليه ثلاثة قواد وهم: زيد بن حارثة ، وجعفر بن أبي طالب ، وابن رواحة .
فقال صلى الله عليه وسلم:" إذا قتل زيد فـجعفر ، فإذا قتل جعفر فـابن رواحة).
فتخلَّف ابن رواحة لما خرجوا في الصباح.
فلما صلَّى الرسول صلى الله عليه وسلم الجمعة، سلَّم عليه ابن رواحة .
فقال صلى الله عليه وسلم :أما خرجت مع أصحابك في سبيل الله؟
قال: يا رسول الله، تخلَّفت لأرى وجهك على المنبر، ليكون آخر العهد بك، وبقيت لأودعك.
فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم، ودمعت عينا ابن رواحة .
حتى كان يقول:
يقول ابن القيم : إن مَرَضَ الجسم سهل وبسيط ومآله إلى الموت، وأما مرض القلب فمآله إلى جهنم، نعوذ بالله من جهنم.
فإن الله تعالى ما ذكر مرض الجسم في القرآن الكريم إلا في معرض الأعذار والرخص.
أما مرض القلب، فذكره الله تعالى في معرض العقيدة، والتحدث عن الآيات، وعن الكفر، والنفاق، نعوذ بالله من ذلك.
يقول الله عن أصحاب المرض القلبي: ((فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ))، بينما أجسامهم كما قال تعالى: ((وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ))، وإذا هم مرضى قلوب.
قال سبحانه وتعالى: ((اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)).
وهذا جلب للانتباه فهو يقول: ((اعْلَمُوا))، إن كنتم تعلمون، واعقلوا إن كنتم تعقلون، وتفكروا إن كنتم تتفكرون.
((أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ))، وهذا للحصر، واللعب في الجوارح، واللهو في القلب.
((وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ))، قال أهل التفسير: تفاخر، وتكاثر بالمطاولة والمنافسة.
ولذلك فأهل الدنيا إذا أراد بعضهم أن يغيظ بعض تطاول عليه في البناء، أو في المال، أو في المظهر.
((وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ))، قال أهل العلم: من أعجبه ماله، أو كثر عليه ماله، وألهاه عن طاعة الله، فليتدبَّر قصة قارون، فقد أهلكه الله، وقطع دابره، ولذلك يقول سبحانه وتعالى: ((فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ)). ما النتيجة؟
((فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ)).
وهكذا من تفاخر بأولاده، وتباهى بهم في المناسبات عند أقاربه وأصحابه، كما كان يفعل الوليد بن المغيرة في الجاهلية، حيث كان له مجموعة من الأولاد يقرب من العشرة، وكان يتباهى بهم في نوادي قريش ومنتدياتها، حيث كانوا يشهدونها معه، فلذلك قال تعالى عنه: ((ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا)).
أي: يشهدون معه المناسبات.
ولكن ذلك لم ينفعه عند الله سبحانه وتعالى.
قال سبحانه: ((كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ)). قال ابن كثير : الغيث إنما يُطلق على المطر إذا أتى بعد سَنَة.
قال سبحانه وتعالى: ((وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ))؛ لأن الأرض أغيثت به.
((أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ)) من هم الكفَّار؟
الرأي الوجيه أنهم: الزرَّاع.
وقيل: الكفار هم أهل الكفر، فإنهم أعجب الناس بالدنيا، ولذلك لا تجد الكافر إلا كالحمار، لا يعجبه إلا مظهر الدنيا، وهذا موجود في المنافقين، وفي الفَسَقة، وفي الكفار، فإنه إذا دخل البلد لا ينظر إلا إلى القصور، والمتنزَّهات، والمطاعم، والمشارب، والأسواق، والفحش، نعوذ بالله.
ثم قال عزَّ مِن قائل: ((ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا))، يهيج أي: ييبس ويذبل ويضمحل: ((ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا)). فالدنيا مثل هذا النبات، عما قليل تصفَرّ، ثم تتحطم. ((وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ)) عذاب شديد للكفار، ومغفرة ورضوان للمؤمنين.
ولذلك قال عز من قائل: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ))، وقال عزَّ مِن قائل: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)).
وقال عزَّ من قائل: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا)) ؛ لأن بعض الناس قد يسعى لها رياءً وسمعة: ((فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا)).
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (لّموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولغدوة في سبيل الله أو رَوحة خير من الدنيا وما فيها) . فهذا الحديث له سبب، وهو: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أرسل جيشه إلى مؤتة عيّن عليه ثلاثة قواد وهم: زيد بن حارثة ، وجعفر بن أبي طالب ، وابن رواحة .
فقال صلى الله عليه وسلم:" إذا قتل زيد فـجعفر ، فإذا قتل جعفر فـابن رواحة).
فتخلَّف ابن رواحة لما خرجوا في الصباح.
فلما صلَّى الرسول صلى الله عليه وسلم الجمعة، سلَّم عليه ابن رواحة .
فقال صلى الله عليه وسلم :أما خرجت مع أصحابك في سبيل الله؟
قال: يا رسول الله، تخلَّفت لأرى وجهك على المنبر، ليكون آخر العهد بك، وبقيت لأودعك.
فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم، ودمعت عينا ابن رواحة .
حتى كان يقول:
خلف السلام على امرئ ودعته في النخل خير مودع وخليل).
يقول: بقي السلام على محمد صلى الله عليه وسلم في النخل في المدينة .
فقال صلى الله عليه وسلم: (لغدوة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها).
أما الذي أعدَّه الله في الجنة للصالحين، فهذا لا يستطاع أن يتكلم عنه، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: [ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء].
وأما الحقيقة فليس من الجنة شيء في الدنيا.
وقد ذكرت طرفاً من أخبارها في رسائل أخرى من هذا المجموع.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل من مشمِّر للجنة، فإنها والذي نفسي بيده قصر أبيض ونور يطرد وماء ينسكب وزهرة بيضاء -أو كما قال صلى الله عليه وسلم-.
فقال الصحابة: نحن المشمِّرون.
قال: قولوا إن شاء الله ) (1) .
أما قوله صلى الله عليه وسلم: (لغدوة في سبيل الله) أي: لغزوة، أو قتال ساعة في سبيل الله.
ويرى بعض أهل العلم: أن من غدا إلى المسجد، فهو في سبيل الله، ومن راح من المسجد، فهو في سبيل الله، ومن جهّز غازياً، فهو في سبيل الله، ومن قال كلمة تنفع المجاهدين، فهو في سبيل الله.
فمن لم يستطع أن يجاهد بنفسه، فليجاهد بماله، فمن لم يستطع بماله، فليجاهد بلسانه، فيمدح الجهاد، وينشر مدح الاستشهاد في المجالس، ويذم الكفر، والكفَرَة، والشيوعيين، والملاحدة.
ومن لم يستطع بلسانه فلينو بقلبه نية طيبة، وليجاهد نفسه في ذلك.
قيل لـ ابن تيمية وهو يصعد جبلاً في دمشق : ما لك تصعد الجبل وتنزل؟
قال ما معناه: أتخيل أن عدواً يغير علينا، فأريد أن أتجهز له.
فهذا هو تحديث النفس بالجهاد.
وقالوا لـ خالد بن الوليد : [ما هي أعظم لذة لك؟
قال: والله، إن أعظم لذة عندي هي ليلة بتها في يوم اليرموك، عندما قمت في الليل، فإذا جميع الجيش قد نام من كثرة التعب والإعياء، فأيقظت امرأتي، وقلت لها: أتريدين ليلة من ليالي الجنة في سبيل الله؟
قالت: نعم.
قل: قومي لنحرس هذا الجيش.
فقامت فتوضأنا في ليلة شاتية، لا يعلم بردها إلا الله، والناس ملتحفون بأغطيتهم، ثم قمت أحرس الجيش، فانهلَّت السماء علينا بالغيث، فكنت ألخف بعض الصحابة بالغطاء وأغطيهم.
فوالله ما أعد ليلة أعظم عندي لذة في الدنيا من تلك الليلة].
هذه بعض لمحات حول معاني هذا الباب الذي عقده البخاري في صحيحه .
أسأل الله لي ولكم الجنة، وأن نرى فيها ما لم نره في الدنيا، وأن نسمع ما لم يطرق مسمعنا إلى الآن، وما لم يخطر على قلب أحدٍ منا.
والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم.
اللهم اغفر لي وللمؤمنين وللمؤمنات الاحياء والاموات
د.عائض القرني.
يقول: بقي السلام على محمد صلى الله عليه وسلم في النخل في المدينة .
فقال صلى الله عليه وسلم: (لغدوة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها).
أما الذي أعدَّه الله في الجنة للصالحين، فهذا لا يستطاع أن يتكلم عنه، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: [ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء].
وأما الحقيقة فليس من الجنة شيء في الدنيا.
وقد ذكرت طرفاً من أخبارها في رسائل أخرى من هذا المجموع.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل من مشمِّر للجنة، فإنها والذي نفسي بيده قصر أبيض ونور يطرد وماء ينسكب وزهرة بيضاء -أو كما قال صلى الله عليه وسلم-.
فقال الصحابة: نحن المشمِّرون.
قال: قولوا إن شاء الله ) (1) .
أما قوله صلى الله عليه وسلم: (لغدوة في سبيل الله) أي: لغزوة، أو قتال ساعة في سبيل الله.
ويرى بعض أهل العلم: أن من غدا إلى المسجد، فهو في سبيل الله، ومن راح من المسجد، فهو في سبيل الله، ومن جهّز غازياً، فهو في سبيل الله، ومن قال كلمة تنفع المجاهدين، فهو في سبيل الله.
فمن لم يستطع أن يجاهد بنفسه، فليجاهد بماله، فمن لم يستطع بماله، فليجاهد بلسانه، فيمدح الجهاد، وينشر مدح الاستشهاد في المجالس، ويذم الكفر، والكفَرَة، والشيوعيين، والملاحدة.
ومن لم يستطع بلسانه فلينو بقلبه نية طيبة، وليجاهد نفسه في ذلك.
قيل لـ ابن تيمية وهو يصعد جبلاً في دمشق : ما لك تصعد الجبل وتنزل؟
قال ما معناه: أتخيل أن عدواً يغير علينا، فأريد أن أتجهز له.
فهذا هو تحديث النفس بالجهاد.
وقالوا لـ خالد بن الوليد : [ما هي أعظم لذة لك؟
قال: والله، إن أعظم لذة عندي هي ليلة بتها في يوم اليرموك، عندما قمت في الليل، فإذا جميع الجيش قد نام من كثرة التعب والإعياء، فأيقظت امرأتي، وقلت لها: أتريدين ليلة من ليالي الجنة في سبيل الله؟
قالت: نعم.
قل: قومي لنحرس هذا الجيش.
فقامت فتوضأنا في ليلة شاتية، لا يعلم بردها إلا الله، والناس ملتحفون بأغطيتهم، ثم قمت أحرس الجيش، فانهلَّت السماء علينا بالغيث، فكنت ألخف بعض الصحابة بالغطاء وأغطيهم.
فوالله ما أعد ليلة أعظم عندي لذة في الدنيا من تلك الليلة].
هذه بعض لمحات حول معاني هذا الباب الذي عقده البخاري في صحيحه .
أسأل الله لي ولكم الجنة، وأن نرى فيها ما لم نره في الدنيا، وأن نسمع ما لم يطرق مسمعنا إلى الآن، وما لم يخطر على قلب أحدٍ منا.
والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم.
اللهم اغفر لي وللمؤمنين وللمؤمنات الاحياء والاموات
د.عائض القرني.
تعليق