في مقال العدد الماضي، أُلقِي الضوء على مشكلة «عدم التوافق» بين أدبيات العمل الإسلامي بصورتها القديمة، وبين تداعيات الواقع السياسي والدعوي في دول الثورات العربية، وأن عدم التوافق هذا يؤدي إلى غموض مربك في منظومة الأهداف والوسائل والمراحل التي تتحرك التيارات الإسلامية في إطارها، بما يجعل الكثيرين يتساءلون عمَّا يريده الإسلاميون في هذه «اللحظة الفارقة» من تاريخ العمل الإسلامي.
ذُكِر في المقال السابق أحد أسباب الغموض، وهو التداخل- أو التضارب - بين الأدبيات القديمة والخطاب السياسي الجديد، فيما يتعلق بأهداف الحركة الإسلامية.
وفيما يلي السبب الثاني لهذا الغموض.
الفجوة بين التأصيل والممارسة
من أمثلة ذلك، ما يتعلق بتعاطي الآليات السياسية التي تتعارض من حيث فلسفتها ومنشؤها الفكري مع بعض الثوابت الإسلامية، كالمشاركات السياسية في عمليات الترشح والتصويت، والعمل البرلماني الذي يتضمن تشريع القوانين، والمشاركة في الأجهزة التنفيذية للدولة، ومن المعلوم أن كل ذلك يتم تحت شعار «الديمقراطية» وفي سياق التفرقة التامة بين نظام يمكن أن يحكمه الإسلاميون، وبين نظام إسلامي..
ومن الأمثلة كذلك، إشكالية الدعوي والسياسي، التي أصبحت مثار جدل كبير في الآونة الأخيرة، حيث ينطلق البعض من أصل مزعوم يؤكد على ضرورة الفصل بين الدعوي والسياسي في العمل الإسلامي، وهذا الفصل يثير المخاوف لدى كثيرين من أن يتحول وفق قاعدة «حتى إذا نُسي العلم» إلى شر وبيل ومنزلق منهجي ربما يتطور إلى مستوى «فصل الدين عن السياسة» فمن يقول اليوم «لا دعوي في السياسي، ولا سياسي في الدعوي» يمكن أن يتفاقم حاله مع ترسخ المفهوم بصورة خاطئة دون تأصيل واضح لمعناه ولوازمه.
والحاصل أن الإسلاميين شرعوا في تعاطي هذه الآليات والأفكار دون توفير غطاء شرعي وفكري معلن وواضح للكافة يُسوِّغ هذه التطورات في الممارسة، فتأخر الفكر عن استيعاب الممارسة وقيادتها.
وأُذكِّر هنا بالأوضاع الثلاثة التي تحكم العلاقة بين الأطر الفكرية والشرعية وبين الممارسات العملية..
الوضع الأول:أن تسبق الممارسات بفترة زمنية ملائمة، عملية تأصيل فكري وشرعي وافية، ثم تظل العلاقة بينهما محافظة على الفارق الزمني، وهذه هي الوضعية الطبيعية السليمة.
الوضع الثاني:أن يسبق التأصيل الممارسات العملية بفترة زمنية طويلة، أو أن يحدث «استغراق تأصيلي» لأوضاع افتراضية غير متوقعة، يقع الإسلاميون في أسرها ويتخذونها مرجعية، حتى إذا تغيرت الأوضاع مستقبلاً، فوجئوا بعدم ملاءمتها للواقع، فيضطروا إلى تجاوزها مع ما ينتج عن ذلك من ارتباك منهجي، كما سيأتي..
الوضع الثالث:أن يحدث تداخل بين التأصيل والممارسة، لأسباب مختلفة بعضها يرجع إلى تبدل مفاجئ في الظرف السياسي، وفي هذه الحالة لا يتوفر لدى الكيان الإسلامي وقت كاف للتأصيل الشرعي والفكري قبل البدء في ممارسات عملية جديدة تماماً، وحتى إن توفرت دراسات تأصيلية مسبقة، فكثيراً ما يُكتشف أنها غير ملائمة، أو أن يتخذ الكيان الإسلامي خيارات سياسية سريعة مخالفة لما سبق أن دعت إليه تلك الدراسات القديمة، وبالتالي تفقد قيمتها المرجعية.
في تلك الحالة يجد الكيان نفسه أمام مشكلة مزدوجة، فهو لا يتحرك بدون تأصيل كاف فقط، بل هو يتحرك في اتجاه معاكس لما سبق أن قرره في أدبياته طيلة السنوات الماضية، وبذلك يكون عليه واجبان، الأول: أن يسوغ المخالفة، والثاني، أن يسوغ الموقف الحالي.
عندما يجد الكيان نفسه عاجزاً عن أداء هذين الواجبين، يلجأ إلى إدارة «مؤقـــتة» لذلك الموقف المعقد عن طريق «الفتاوى» السريعة، أو تجزئة المشهــد السياســي وإصدار أحكام جزئية - لا كلية - تحول دون التورط في تبني مواقف شاملة متعجلة، وهذه الطريقة تساعد بالفعل في تجاوز وقتي للأزمة، لكنها لا تصلح مرتكزاً دائماً، إذ يُتوقع أن يؤدي استمرارها إلى خلل متنامٍ وفجوة منهجية بين التأصيل والممارسة..
ومن أبرز ملامح هذه الفجوة، أن تجد أناساً يشاركون في العمل الإسلامي السياسي، ثم يطرحون قضايا أولية يُفترض أنها حُسِمت قبل دخولهم، بل إن مشاركتهم نفسها بُنيت علي حسمها، وهذا يعني أن إعادة طرحها من جديد تكشف عن شعورهم بفجوة ذاتية في البناء الفكري، مثل: الموقف من الديمقراطية، أو مراحل تطبيق الشريعة، أو التدرج نحو نظام إسلامي.
وهذا التناقض يمكن تلخيصه بكلمات يسيرة بأنه «طرح أسئلة المرحلة الأولى ونحن على مشارف الانتهاء من المرحلة الثانية»، أو أنها عملية «جلد ذات» متأخرة نتجت عن ضعف التأصيل الذي أشعر هؤلاء بأنهم يرتكبون مخالفات بمشاركاتهم السياسية، فمن ثَم يندفعون إلى تبرئة أنفسهم أو -إراحة ضمائرهم- بالاستمرار في طرح التساؤلات، وربما يتبنون مواقف متناقضة مع فلسفة المشاركة ذاتها...
إنه ثقب أسود يتنامى بين التأصيل الممارسة، ما لم يسارع علماء الإسلاميين ومفكروهم إلى سده أو ردمه، فربما يتمدد مبتلعاً كثيراً من إيجابيات المشاركة السياسية للتيارات الإسلامية.