إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

حول البوطي وعقيدته وأمور أخرى

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • حول البوطي وعقيدته وأمور أخرى

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله والصلاة والسلام على حبيب الله محمد صلى الله عليه وسلم ومن ولاه ... وبعد :
    فلعلكم إخوتي الكرام تذكرون موضوعنا:
    محمد سعيد البوطي ... الذي صدقت فيه دعوة الألباني رحمه الله

    وقد آثرت مستعينا بالله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا أن أجمع كل ما يقع تحت عيني ويدي من بيان العلماء لحقيقة السفاح المتواطئ المدعو بالبوطي الذي ضرب المثال العملي للفرق بين العلم والهدى فالعلم قد يحصله كل أحد ولكن الهدى لا يحصله إلا من وفقه الله واصطفاه:

    البوطي والسلفية
    وقضايا أخرى ... !
    عبد القادر حامد
    من منهج مجلة البيان أنها لا تدخل في مهاترات وخلافات شخصية ، مما يقع
    كثيراً بين المسلمين أفراداً وجماعات وعلماء ، وهي إن أشارت إلى بعض الأسماء
    فليس من أجل فتح معارك شخصية توغر الصدور وتفرق الصف المسلم بل لبيان
    وجه الحق في مسألة ما ، ونقد بعض المناهج والأساليب التي يلجأ إليها من يحبون
    إثارة المعارك الفكرية التي يكون محورها أشخاصهم وأهواؤهم .
    ومن هؤلاء الذين درجوا على إثارة المعارك الدكتور محمد سعيد رمضان
    البوطي ، فقد أخذ هذا الرجل على عاتقه مهمة الوقوف بقوة وبكل ما أوتي من
    مواهب في وجه التيار الذي ينادي بالعودة إلى الكتاب والسنة ، وتحكيمهما في واقع
    المسلمين المعاصر ، ولم يدخر جهداً أو وسيلة للهجوم على هذا التيار ، فهو يستخدم
    المسجد الذي يخطب فيه ، والكرسي الجامعي الذي أسند إليه ، والمؤتمرات التي
    يدعى إليها ، والكتب التي يسودها يستخدم كل ذلك وغيره من أجل تشويه كل من
    يمت بصلة إلى هذا التيار .
    ولقد أصبحت القضية عنده كأنها قضية حياة أو موت ، وعندما تستعرض ما
    يكتبه في شأنها تتبدى أمامك شخصية قلقلة تتصنع ركانة ليست من طبعها ، كأنها
    شخصية من يحاول جر واحتياز شيء ثمين سبقه إليه من هم أقوى منه سواعد ،
    وأصعب منه قياداً ومراساً .
    لقد انتهى الأمر بالبوطي إلى أن حدد مساره بوضوح ، وذلك بأن يعمل على
    جبهتين ، ويحشد طاقاته لتسير على خطين متوازيين :
    1- العمل على رمي الاتجاه السلفي بما يستطيع من عظائم وسخائم ، وتضييع
    أوقاته التي يسترخصها في هذا المجال العقيم .
    2- بناء اسم ومجد شخصي له في حياته بواسطة هجومه الشرس الذي لا يكن
    ولا يكل على هذه الطائفة التي أصبحت عظيمة -والحمد لله- هذا من جهة ، ومن
    جهة أخرن نعومته و ( تحضره ) ورزانته المزعومة التي يبدو بها أمام غيرهم ممن
    هم أولى بأن يصرف همه إليهم ، ويقف جهوده على الإشارة إلى أفاعيلهم ، وهم
    كثير في البلاد التي يصول فيها ويجول ، لا يتطلب التعرف عليهم إلا أن ينظر إلى
    يمينه ويساره .
    لقد تصدى البوطي في أواخر الستينات لما سماه ( اللامذهبية ) ووضع كتيباً
    بعنوان تهويلي هو : ( اللامذهبية أخطر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية ) خطب
    وحاضر وسب وشتم حول هذا الموضوع ، ورُدَّ عليه في حينها ، ولكنه شعر أنه لم
    يكسب الجولة ، فقد وجد أنه إذا كتب رسالة رد عليه برسائل ، وإذا أصدر كتيباً ،
    رد عليه بكتاب .
    فماذا يفعل ! ؟ وجاءت الفرصة ، حين تشتت أعداؤه شذر مذر ، لأسباب لا يد
    له هو فيها ، فمنهم من يقبع في غياهب السجون ، ومنهم من أجبر على الهجرة ،
    ومنهم من ألجم بلجام الخوف والإرهاب ، فانبرى الرجل من جديد يعيدها جَذَعة ،
    ويستأنف طريقته في النقاش والهجوم ، والعلم والتعليم ، مع أن الفروسية تقتضي أن
    يسكت حيث سكت -أو أسكت- خصومه ، ولكن يبدو أن العرب الذين علموا
    البشرية الفروسية ماتوا ، أو لا يعرفهم البوطي . ففي عام 1408هـ أصدر كتاباً
    جديداً بعنوان : ( السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب ) . يصلح أن يتخذ نموذجاً
    لما يجني التعصب والحقد والغرور والكبر على صاحبه وعلى العلم .
    كلمة حول الكتاب :
    من صفات العالم الحق أنه يعرض ما يراه من آراء وما يكتبه من بحوث
    وموضوعات على آخرين ، فيستفيد من ملاحظاتهم وإشاراتهم ، فيخرج عمله خميراً
    ناضجاً ، ولكن يبدو أن البوطي يعيش في وقت غير طبيعي ، وفي مشاعر غير
    طبيعية ، أما الوقت غير الطبيعي : فهذا واضح من تراجع المؤسسات العلمية التي
    تعلم العلم الشرعي مقارنة بغيرها من المؤسسات ، فعصرنا هذا -وهو عصر
    البوطي- تميز بالضغط الشديد على هذه المؤسسات ، هذا الضغط المتمثل بالإغلاق
    أو التحويل أو المسخ أو التشويه ، وكذلك تميز بكبت الأصوات الحرة والعقول
    النيرة ، وعندما تبتلى الأمم بمثل هذا الفراغ يسارع إلى أخذ الدور وملء الفراغ من
    لا يغني فتيلاً ، بل يُصْنَع من يسد هذه الخلة صنعاً ، ولكن على عين الذين أرادوا
    للأمة أن تعيش في ظل الفراغ . ولذلك فقد يعتذر البوطي بأنه لا يجد أحداً يعرض
    عليه آراءه وأفكاره ، وقد يكون حاله كحال دعبل الشاعر التي يمثلها قوله :
    ما أكثر الناس ! لا بل ما أقلهم الله يعلم أني لم أقل فندا
    إني لأفتح عيني حين أفتحها على كثير ! ولكن لا أرى أحدا !
    وهنا نصل إلى قضية أن البوطي يعيش في مشاعر غير طبيعية . فكيف
    يتصور من البوطي أن يتنازل ليعرض ما يكتبه على غيره ؟ ( وهل في الميدان
    غير حديدان ؟ !) ولكننا نزعم أن الساحة لم تخل ، ولن تخلو ، وأن البوطي يلبس
    نظارة مكبرة بالمقلوب ، تكبر له نفسه جداً وهو النحيل الجسم -كما نعلمه- وتصغر
    له من اصطنع خصومتهم حتى يراهم كالذر ، أو لا يراهم شيئاً ! ولو طامن من
    نفسه قليلاً لكان أليق به ، وأكثر بركة على الإسلام والمسلمين .
    إن الرجل لو عرض كتابه على من يظن بهم العلم للفتوا نظره إلى كثير من
    المجازفات التي رماه فيها تسرعه ونزقه ، ولبينوا له أن ما نصب له نفسه أمر قد
    استتب -والحمد لله- ولا رجعة فيه ، ولا تضره كتب تكتب على عجلة ، وتتلون
    بالغيظ الفائر من خلف الكلمات حيناً ، وبالمداورة والتلبيس والعبارات الملتوية التي
    ليست من سمات المنهج العلمي في شيء ، ذلك المنهج الذي أشار إليه البوطي كثيراً ،
    وأبدأ وأعاد في بهره ، ودار حوله واقترب وابتعد وحين ظن أنه اقتحمه مكتشفاً له
    مفتحاً أبوابه المسحورة ؟ لم يدر أنه كان مثل الظمآن في الصحراء ، أبصر على
    البعد ما ظنه ماء فأسرع إليه وطوح مغمضاً عينيه فإذا به لم يطوح في غير السراب !
    العمود الفقري للكتاب :
    تعارف الناس أن يكون فهرس الكتاب خلاصة لما في الكتاب ، تبدو فيه
    القضايا الأساسية التي بحثها المؤلف ، ولكن القارئ إذا أراد أن يطبق هذا الأمر
    المتعارف عليه بين الناس على هذا الكتاب بعد قراءته فإنه سيكتشف أن هذا الأمر
    المعروف للناس غير معروف للبوطي ، فالقارئ لا يخرج بتعريف للسلفية في اللغة
    والاصطلاح ، ولا يقبض على شيء من المنهج الذي أعاد فيه القول وحوله كثيراً ،
    وظن أنه فصل ووضح ووضع النقاط على الحروف ، أما تطبيقاته فجاءت كفاء
    منهجه : تناقض واضطراب مضحك ، وإن كان يثير الشفقة . وقل مثل ذلك في
    وقفته مع ابن تيمية .
    أما الشيء الذي يخرج القارئ به ويتعثر به أينما جال بنظره في الكتاب فهو :
    كره شديد للدعوة السلفية ودعاتها يعبر عنه صراحة ؛ بألفاظه التي تنم عن
    الكبر الموجود في نفسه ، ومداورة ؛ حينما يحاول أن يتزيا بزي العلماء ويستخدم
    عباراتهم .
    * حرص على النيل من ابن تيمية وابن القيم كلما لاحت له فرصة في مناسبة
    أو غير مناسبة .
    * افتراء وتهويل على خصومه .
    * إشارات مبسوطة في عرض الكتاب هنا وهناك تشير إلى اهتمامه بنفسه
    وحرصه على البروز . ومن مجموع هذه الإشارات ترتسم شخصية ( نرجسية ) [1]
    معقدة لا تأبه بما يقوله الآخرون .
    هذا هو الجد الذي يخرج به قارئ الكتاب ، وهذا ما يستخلصه من هذه المعاناة
    التي عاناها المؤلف وهو يجلد نفسه من أجل أن يثبت أن :
    1- السلفية بدعة ، بل أخطر من كل سائر البدع التي وجدت والتي ستوجد .
    2- ابن القيم لم يأت بما يشفي الغليل في أعلام الموقعين .
    3- إذا جاز لنا أن نكفر ابن عريي فيجوز لنا أيضاً أن نكفر ابن تيمية !
    4- السلفيون جهلة .
    5- السلفية يستخدمها الاستعمار لتفريق المسلمين .
    كبر ومكابرة :
    نحن الآن في عصر اختلطت علينا فيه الأمور وأصبحنا في جهالة جهلاء
    حتى إننا لم نعد قادرين على معرفة من هو المسلم ، وما هي شروط ممارسة الإسلام
    يقيناً وسلوكاً ، ولكن رحمة الله أدركتنا بإرسال البوطي ليؤلف هذا الكتاب ليقول لنا
    فيه : إن الإنسان لكي يمارس الإسلام يقيناً وسلوكاً ، لا بد أن يجتاز المراحل الثلاث
    التالية :
    أ- التأكد من صحة النصوص الواردة والمنقولة عن فم سيدنا محمد -صلى الله
    عليه وسلم- ، قرآناً كانت هذه النصوص أم حديثاً بحيث ينتهي إلى يقين بأنها
    موصولة النسب إليه ، وليست متقولة عليه .
    ب- الوقوف بدقة على ما تتضمنه وتعنيه تلك النصوص ، بحيث يطمئن إلى
    ما يعنيه ويقصده صاحب تلك النصوص منها .
    ج- عرض حصيلة تلك المعاني والمقاصد التي وقف عليها وتأكد منها ، على
    موازين المنطق والعقل (ونعني بالمنطق هنا قواعد الدراية والمعرفة عموماً) ،
    لتمحيصها ومعرفة موقف العقل منها . (وطبيعي أن من لم تتحقق عنده الشروط لا
    يحكم له بأنه مارس أو يمارس الإسلام يقيناً وسلوكاً) هكذا يقول الشيخ ! وشرط
    رابع نسيناه (نستغفر الله) وهو المهم ، فهو الأداة ... المنهج ... وما أدراك ما
    المنهج ؟ !
    يقول الشيخ : ( واجتياز الإنسان بهذه المراحل الثلاث لا يتم إلا بعد الاستعانة
    بأداة ، وهذه الأداة هي ما نعنيه بكلمة (المنهج) .
    مجموعة واحدة من المسلمين تستثنى من الذين اقتضت إرادة الشيخ أن
    يخضعهم لهذا البلاء الذي سماه المنهج : أتدري من هم ! ؟ إنهم أصحاب رسول الله
    -صلى الله عليه وسلم- فقد (كان لهم شرف الاستثناء من هذا الاحتياج طبقاً لما
    أوضحناه من قبل) (ص 63 من كتابه المذكور) والحمد لله ، أن استثنى الشيخ
    بتواضعه الجم الصحابة من أن يخضعوا لجبروت منهجه ، وإلا لأصابهم ما أصاب
    التابعين وتابعيهم ومن بعدهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها !
    إذن فمنهج المعرفة الإسلامية (وهو منهج البوطي) والانضباط بمبادئه وأحكامه
    يتكون من ثلاثة أجزاء ، كل منها يتكفل بحمل صاحبه إلى ثلث الطريق ، ومن
    تلاقي هذه الأجزاء الثلاثة متدرجة على الترتيب الذي ذكرناه ؟ تتم الرحلة إلى
    معرفة الإسلام والانضباط به اعتقاداً وسلوكاً .
    وهكذا فقد اتضحت لنا المعادلة بحدودها شاخصة عارية ، وهي :
    1- اجتياز المراحل أ ، ب ، ج + الأداة = شخص يمارس الإسلام يقيناً
    وسلوكاً .
    2- اجتياز واحدة من هذه المراحل = ثلث مسلم !
    لكن ننبه القارئ الكريم إلى أن في الطرف الأول من المعادلة الأولى وردت
    كلمة الأداة وهي منهج البوطي ، والمعادلة نفسها كاملة هي المنهج أيضاً ، وحتى
    يفهمها على وجهها الصحيح لا بد أن نحيله على صمويل بيكيت ومسرحيته ( في
    انتظار غودو ) وإذا استثقل ذلك ورفض الإحالة فنقول له : العلم سر ولا ينفتح
    لمن هب ودب ، بل لا بد له من استعداد ومواهب من نوع خاص !
    وقد وعد المؤلف بأنه سوف يثبت ملخصاً للجزء الأول والثاني من المنهج
    (أي مرحلة : أ ، ومرحلة : ب) ويدع الجزء الثالث لمصادره المنطقية الخاصة به
    (لسنا ندري ماذا يريد بهذه العبارة) ولعلها مما سماه البلاغيون : حشو اللوزينج !
    وفي طريقه إلى توضيح الجزء الأول والجزء الثاني من منهجه العتيد يقول
    بعبارة مضمخة بالاشمئزاز : (فإن كثيراً من الذين يتحدثون اليوم عن الإسلام
    والمسلمين ؛ يصرون على تقسيم المسلمين إلى سلفيين وبدعيين وخلفيين ؛ زيادة على
    الانقسامات المبتدعة المؤسفة التي انتشرت فيما بينهم قد لا يعلمون من هذا المنهج
    إلا النزر اليسير ، ولعلهم لا يقيمون له وزناً ، ولا يرون له وظيفة ولا شأناً)
    (ص 64) وتعليقنا على ذلك : الحمد لله على أن هؤلاء كثيرون ، وحبذا لو عدل
    المؤلف هذه العبارة في الطبعة الثانية لتصبح : (لا يعلمون من هذا المنهج شيئاً ، ولا
    يقيمون له وزناً ، ولا يرون له وظيفة ولا شأناً) فهي أشق لصدره ، وأصدق في
    وصف حالهم !
    إن البوطي حينما يلقي لنفسه العنان وينهد للتنظير والمنهجة [2] ؛ يأتي
    بالفواقر والأعاجيب ، ويوقع قارئه في الحيرة : من أين يبدأ في الرد من البدايات أم
    النهايات أم الأواسط ؟ ولكنه حينما يعرج على ما يعرفه الناس ويرجع بك إلى
    القضايا التي يتحرش بها ليريك علمه وبعد غوره فهو سهل الخطب ، مسترخي
    الحبل . ولكي يدخلنا في الجد فقد ساق لنا رأيه في خبر الآحاد ، وقضية خبر الآحاد
    من القضايا المهمة التي تُكُلِّم فيها قبل البوطي كثيراً ، وتكاد تكون من أبرز القضايا
    التي يتمايز بشأنها المسلمون قديماً وحديثاً ، بل نؤكد أنها لب المسائل التي ينقسم
    الناس من المسلمين بشأنها إلى قسمين رئيسيين :
    1- قسم يرجع كل أموره إلى كتاب الله وما صح من سنة رسول الله -صلى
    الله عليه وسلم- غير مفرق بين ما صح في مجال العقائد أو الأحكام أو السلوك .
    2- وقسم آخر يعطي لنفسه أو لشيوخه الحق في التحكم والتفريق بين أصناف
    الصحيح ، فهذا يأخذ به في الأحكام والمعاملات ؛ وذاك يهمله لأنه في العقائد ، وهو
    خبر غير متواتر . لكن المؤلف يعتبر القسم الأول مبتدعاً وجاهلاً وسطحياً وعميلاً
    للاستعمار ، بينما الذي يتبع منهجه هو المسلم الحق ! والموضوعية والعلمية تقتضي
    من المؤلف إذا أراد أن يناقش هذه المسألة أن يضع رأيه وحججه واضحة ، وينقل
    رأي خصمه وحججه واضحة أيضاً ، ويحرر مكان الاختلاف ويرد حجج الخصم
    بعبارة غير محتملة ، فهذا الأمر قضية علمية محددة وليست موضوعاً إنشائياً
    فضفاضاً ، لكنه لم يفعل شيئاً من هذا واكتفى بعرض رأيه في قضية خبر الآحاد
    فقال :
    « هذا القسم الثاني ( أي خبر الآحاد ) لا تتكون منه حجة ملزمة في نطاق
    الاعتقاد ، بحيث يقع الإنسان في طائلة الكفر إن هو لم يجزم بمضمون غير صحيح
    لم يرق إلى درجة المتواتر ، وبقي في حدود رواية الآحاد . بل يسعه أن لا يجزم به
    دون أن يخدش ذلك في سلامة إيمانه وإسلامه ( ! ! ) وإن كان ذلك يخدش في
    عدالته ويستوجب فسقه » . هل تريد دليلاً على هذه الطامة ! ؟ خذ -إذن- هذه
    الطامة الكبرى : (دليل ذلك أن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها ، ما في ذلك ريب ولا
    خلاف ( من يرتاب في ذلك ! ؟ ) والاعتقاد انفعال قسري وليس فعلاً اختيارياً
    (الرجل ليس نائماً ولا يشرب ، ونحلف على ذلك ! ) فإن وجد العقل أمامه ما يحمله
    على الانفعال واليقين بأمر ما ، اصطبغ بذلك اليقين لا محالة ، دون أن يكون له في
    ذلك أي اختيار (أي اختيار مهما صغر ! ؟ ) وإن لم يجد أمامه ما يحمله على ذلك
    الانفعال واليقين ، هنا بيت الفرس ! ) لم يجد بداً من الوقوف عند درجة الريبة أو
    الظن ، دون أن يكون له أيضاً في ذلك أي إرادة أو اختيار ( ! ) فإن أجبرت العقل
    مع ذلك بالجزم واليقين ، دون أن تتوافر أمامه موجبات الجزم ؟ فقد حملت العقل ما
    لا يطيق ( مسكين العقل ! ) ، ودين الله تعالى مبرأ من ذلك ( ص 66) .
    هكذا يستدل الرجل ! ألا يصلح كلامه شرحاً لهذه الرباعية من رباعيات عمر
    الخيام :
    لبست ثوب العمر لم أستشر وحرت فيه بين شتى الفكر
    وسوف أنضو الثوب عني ولم أدرك لماذا جئت أين المفر ! ؟
    « أما في نطاق الأحكام السلوكية من عبادات ومعاملات ونحوهما ، فقد دل
    الخبر اليقيني المتواتر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن المسلم متعبد
    في ذلك بالأدلة الظنية . فحيثما وجد حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
    يتضمن حكماً في العبادات أو الأحكام الشرعية الأخرى ، وكان الراجح والمظنون
    في ذلك الحديث هو الصدق لتوفر شرائط الصحة فيه ، وجب عليه -بالدليل اليقيني
    المتواتر- التمسك بذلك الحديث والاهتداء بهديه والالتزام بمقتضاه .
    أما الدليل اليقيني على ذلك ، فهو ما تواتر عن رسول الله -صلى الله عليه
    وسلم- من إرساله آحاد الصحابة إلى البلاد والقبائل المجاورة والبعيدة ، ليعلموا أهل
    تلك البقاع أحكام الشريعة الإسلامية من عبادات ونحوها . وقد علمنا أن العقل يظل
    يفرض احتمال السهو والغلط والنسيان في حق أولئك الآحاد ، ومع ذلك فإن النبي
    عليه الصلاة والسلام كان يأمر أهل تلك البلاد باتباع ما يرشدهم إليه هؤلاء الآحاد
    الذين يبعثهم منتشرين في تلك الأصقاع . فكأنه بذلك يقول لهم : حيثما أخبركم
    هؤلاء الرسل بشيء من أمر دينكم ، مما يدخل في نطاق التطبيقات السلوكية ،
    وظننتم الصدق في كلامهم ، فواجبكم تطبيق ذلك والأخذ به » ( ص 76 ) .
    لم يفصل لنا المؤلف سر هذا التفريق بين العقائد والأحكام السلوكية من
    عبادات ومعاملات ! ولم يسق أدلة على هذا التفريق ، بل إن الأدلة التي أشار إليها
    تدل على غير ما يريد ، فآحاد الصحابة الذين كان رسول الله -صلى الله عليه
    وسلم- يرسلهم إلى القبائل والبلاد كانوا يحملون رسائله ووصاياه وكان من تبلغه هذه
    الرسائل أو الوصايا مكلفاً بطاعتها برمتها ، لا أن يتوقف فيما يخص العقائد أو
    يرفضها ؛ ويقبل الباقي ، بل إن التفريق بين أحكام الشرع إلى عقائد وعبادات
    ومعاملات لم يعرفه الصحابة ولا العصور الأولى المفضلة وإنما حدث فيما بعد ذلك .
    ثم إن قوله عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- : « فكأنه بذلك يقول لهم :
    حيثما أخبركم هؤلاء الرسل بشيء من أمر دينكم مما يدخل في نطاق التطبيقات
    السلوكية » تقول على النبي عليه الصلاة والسلام ، ونسبة ما لم يقله إليه -صلى
    الله عليه وسلم- فمن أين له هذا القيد : مما يدخل تحت نطاق التطبيقات السلوكية‍ !؟
    ولا أدل على مجازفة البوطي من قوله عن الحديث الضعيف أنه يجوز العمل
    به فيما ذهب إليه جل علماء الحديث في فضائل الأعمال ، بشرط أن لا يصل
    الحديث إلى درجة متناهية في الضعف ، وبشرط أن لا يعتقد راوي الحديث صحته
    ففي هذه العبارة ( أ ) عدم دقة في الصياغة ، فالأدق أن تكون هكذا : « يجوز العمل
    به في فضائل الأعمال ، فيما ذهب إليه ... »
    ب) تلبيس وتدليس مقصود في قوله جل علماء الحديث .
    ج) عدم استيفاء الشروط التي وضعها من أجاز العمل بالحديث الضعيف في
    فضائل الأعمال ومنها : أن يندرج تحت أصل معمول به . أما قوله : جل علماء
    الحديث ؟ فهي عبارة موهمة من يقرأها يظن أن هذا رأي الأكثرين ولم يشذ عنه إلا
    عالم أو عالمان ؟ مع أن العكس هو الصحيح . وإليك ما قاله الشيخ أحمد محمد
    شاكر في الباعث الحثيث
    (ص91-92) عمن أراد أن ينقل حديثاً بغير إسناده « من نقل حديثاً صحيحاً
    بغير إسناده . وجب أن يذكره بصيغة الجزم ، فيقول مثلا : (قال رسول الله صلى
    الله عليه وسلم) . ويقبح جداً أن يذكره بصيغة التمريض التي تشعر بضعف الحديث،
    لئلا يقع في نفس القارئ والسامع أنه حديث غير صحيح . وأما إذا نقل حديثاً
    ضعيفاً ، أو حديثاً لا يعلم حاله ، أصحيح أم ضعيف ، فإنه يجب أن يذكره بصيغة
    التمريض كأن يقول : ( روي عنه كذا ) أو ( بلغنا كذا ) . وإذا تيقن ضعفه وجب
    عليه أن يبين أن الحديث ضعيف ، لئلا يغتر به القارئ أو السامع . ولا يجوز
    للناقل أن يذكره بصيغة الجزم ، لأنه يوهم غيره أن الحديث صحيح ، خصوصاً إذا
    كان الناقل من علماء الحديث ، الذين يثق الناس بنقلهم ، ويظنون أنهم لا ينسبون
    إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئاً لم يجزموا بصحة نسبته إليه . وقد وقع
    في هذا الخطأ كثير من المؤلفين ، رحمهم الله وتجاوز عنهم .
    وقد أجاز بعضهم رواية الضعيف من غير بيان ضعفه بشروط :
    أولاً : أن يكون الحديث في القصص ، أو فضائل الأعمال ، أو نحو ذلك ،
    مما لا يتعلق بصفات الله تعالى وما يجوز له ويستحيل عليه سبحانه ، ولا بتفسير
    القرآن ، ولا بالأحكام ، كالحلال والحرام وغيرهما .
    ثانياً : أن يكون الضعف فيه غير شديد ، فيخرج من انفرد من الكذابين
    والمتهمين بالكذب ، والذين فحش غلطهم في الرواية .
    ثالثاً : أن يندرج تحت أصل معمول به .
    رابعاً : أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته ، بل يعتقد الاحتياط .
    والذي أراه أن بيان الضعف في الحديث الضعيف واجب في كل حال ، لأن
    ترك البيان يوهم المطلع عليه أنه حديث صحيح ، خصوصاً إذا كان الناقل له من
    علماء الحديث الذين يرجع إلى قولهم في ذلك ، وأنه لا فرق بين الأحكام وبين
    فضائل الأعمال ونحوها في عدم الأخذ بالرواية الضعيفة ، بل لا حجة لأحد إلا بما
    صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، من حديث صحيح أو حسن . وأما ما
    قاله أحمد بن حنبل وعبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن المبارك : « إذا روينا في
    الحلال والحرام شددنا ، وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا » ، فإنما يريدون
    به -فيما أرجح ، والله أعلم- أن التساهل إنما هو في الأخذ بالحديث الحسن الذي لم
    يصل إلى درجة الصحة ، فإن الاصطلاح في التفرقة بين الصحيح والحسن لم يكن
    في عصرهم مستقراً واضحاً ، بل كان أكثر المتقدمين لا يصف الحديث إلا بالصحة
    أو الضعف فقط .
    في العدد القادم البوطي والمنهج
    ________________________
    (1) نرجس -في أساطير اليونان- شخص كان يجلس على حافة ماء فنظر فيه فرأى صورته ،
    فأعجب بها ، ثم قتل نفسه لشدة إعجابه بذاته ، واعتقاده بتفرده ! .
    (2) استجزنا هذا المصدر -مع أنه غير مسموع- قياساً على وزن الرباعي فَعْلَلَ ، كدحرج .

    (( مجلة البيان ـ العدد [‌ 34 ] صــ ‌ 10 جمادى الأولى 1411 ـ ديسمبر 1990 ))




  • #2
    رد: حول البوطي وعقيدته وأمور أخرى

    البوطي ... والمنهج
    عبد القادر حامد
    ( إن من طبيعة المنهج ، أياً كان ، أنه يكتشف اكتشافاً ولا يبدعه
    الباحثون والعلماء إبداعاً ... ) [ ص60 ، من كتاب البوطي السلفية ] .
    يكتشف الباحث منهج البوطي - وهو منهج من المناهج على كل حال - من
    خلال استقراء ما يكتب ، غير أنه مع تقديمه هذه المقدمة الحاسمة لا يترك لنا حرية
    اكتشاف هذا المنهج بأنفسنا ، ولا ندري ماذا وراء ذلك : هل هو شك في قدرات
    قرائه ، وعدم اطمئنانه إلى أنهم قادرون على الاكتشاف ؟ ؛ لذلك يعرِّف لهم المنهج
    حتى لا يتركهم في حيص بيص ؟ أم أن كلمة المنهج عنده كلمة من جوامع الكلم .
    لها معانٍ كثيرة يصعب حصرها ؟ ! لا ندري !
    لذلك يعرف لنا المنهج كما يلي :
    ماذا نعني بالمنهج ؟ وما الشروط التي يجب أن تتوفر فيه ؟
    إننا نعني بكلمة (المنهج) المعنى الذي يريده كل أولئك الذين يستعملون هذا
    المصطلح في نطاق دراساتهم وبحوثهم العلمية ، نعني بها الطريقة التي تضمن
    للباحث أن يصل إلى الحق الذي يبتغيه ، ولا يضل في السعي إليه بين السبل
    المتشعبة ، ولا يلتبس عليه بالحق فيركن إليه ظاناً أنه الحق الذي يبحث عنه ويسعى
    إليه ، سواء أكان هذا الحق الذي يبحث عنه خبراً يريد أن يتبين صحته أو أن يعلم
    مضمونه ، أم أطروحة علمية يريد أن يعرف دلائل صحتها أو بطلانها ) [ص60
    من كتابه ] .
    أما أنا فقد قرأت هذا التعريف عدة مرات متهماً عقلي بعدم القدرة على فهمه ،
    لعل الإعادة تفتح لي ما انغلق ، وتكشف ما استتر ، ولكنني أخيراً سلمت بأن هذا
    التعريف أشبه ما يكون بالشعر الحر الذي لا تستسيغه أذواق وعقول الكثير من
    القراء ؛ إما لفقر وتخلف في مقدرتهم الثقافية أو لفراغه وخُلوه من أي معنى ، وكل
    من الرأيين له جمهوره وقائلون به .
    إن من صفات التعريف أن يصاغ بعبارة جامعة مانعة محددة حتى يتمكن
    القارئ من الفهم ، وخاصة في القضايا العلمية ، لكن البوطي لا يأبه - كما قلنا -
    بما تعارف الناس عليه ، ويحب أن يأتي بما لم يأتِ به الأوائل ! كيف لا ؛ وهو
    أديب فنان يطمح - وهو في قمة تسنُّمه مهمة البحث العلمي - أن يستخدم العبارات
    المجنحة التي تلفت إليه الأنظار .
    وها نحن نبدأ بتحليل تعريفه للمنهج لعلنا نظفر بما عجزنا عنه أثناء القراءة .
    يقول : ( إننا نعني بكلمة (المنهج) المعنى الذي يريده كل أولئك
    الذين يستعملون هذا المصطلح في نطاق دراساتهم وبحوثهم العلمية ) . اقرأ هذه
    العبارة ورددها مرة ومرة ومرة ، هل تفهم منها تعريفاً، وهل تزيدك علماً بشيء ؟
    طبعاً لا ! فمَن هم أولئك الذين يستعملون هذا المصطلح ؟ من أي ملة هم ؟ . وأي
    دراسات وأي بحوث ؟ ، لعل التوضيح يأتينا بعد كلمة (نعني)! ( نعني بها الطريقة
    (طريقة ماذا ؟ ) التي تضمن للباحث أن يصل إلى الحق الذي يبتغيه ) . كل باحث
    يعتقد أن ما يقوله ويصل إليه هو الحق ، فهل هذا هو الحق في المنهج الإسلامي ؟
    وكثير من بغاة الباطل يطلقون على مبتغاهم اسم الحق !
    وقبل أن نخرج من هذه الدوامة في تعريف المنهج ، يدرك البوطي بكياسته
    وذوقه الدقيق جداً أننا بحاجة إلى تحديد كلمة الحق ، فيحددها ، وكأنه أحس أن
    تعريفه يحتاج إلى شروط كي يصبح تعريفاً له شَبه بالتعريفات ، فهل تظن أنه يُقر
    عينك بذكر هذه الشروط ليجعلك تشعر بالراحة وتتنفس الصُّعَداء ؟ !
    لا ، لن تفرح بذلك ! فهذه مشكلتك ، عليك حلها بنفسك ! اسمعه يقول :
    ( وأما شروطه ( المنهج ) فبوسعك أن تعرفها من خلال إدراكك لطبيعته
    ومهمته ) . وإذا ما أخفقت في معرفة هذه الشروط فهذا يعني أنك لا تدرك طبيعة
    المنهج ولا مهمته ! وإذن فأنت لست جديراً أن تكون من قرائه، ولست
    مقصوداً فيما يكتب ؛ لأنه :
    عليه نحت القوافي من معادنها وما عليه إذا لم تفهم
    إن القارئ سيصيبه الدوار إذا ما ظن أنه - بترديده ما كتب البوطي عن
    المنهج - يمكن أن يظفر بشيء ، وسوف يكتشف أخيراً أن الرجل يتلاعب بعقله
    ليوهمه أن ما كتب حول المنهج له معنى متماسك ، إنك تطالبه بشروط المنهج حتى
    تتضح معالمه فيقول لك : ( بوسعك أن تعرفها من خلال إدراكك لطبيعته ومهمته ) ،
    ثم يمضي بك موهماً أنه ذكر شروطاً ، لكن حين تريد أن تضع بداية ونهاية لهذه
    الشروط وتحصرها في عبارة واضحة لها دلالة فإنك تطلب المستحيل !
    وتمضي في القراءة لتعثر على عبارة تظن أنها ستفتح لك ما استغلق ،
    وتكشف ما غمض ، فتكاد تصيح مثل أرخميدس : ( وجدتها ) ، إنها قوله :
    ( إذن فمن أهم شروط سلامة المنهج ... ) لكنك تتبين أن هذه العبارة
    وما بعدها ليست بداية الشروط ، بل نهايتها ، واخيبتاه ! فترجع أدراجك إلى
    الفقرة السابقة وقد فركت عينيك ووسعت حدقتيهما وأحددت النظر بهما لتبحث عما
    كانت العبارة السابقة فذلكة له فتجد شيئاً مثل :
    ( فقد كان الإنسان بحاجة إلى أن يرصد خطوات هذا المنهج في أغوار
    فكره ، وأن يتلمس آثارها في شغاف وجدانه (العرب تعرف شغاف القلب ، فما
    الوجدان ؟ وما شغافه ؟ ! ) وساحة شعوره ، ثم يصوغها في عبارات دقيقة ،
    ويصبها في قواعد منضبطة ، ثم يجعل منها مشعلاً هادياً في طريقه إلى المعرفة ،
    وملاذاً يتقي به الشرود في أودية التيه والضلال .
    وهكذا فإن تحول المنهج الفطري من شعور وتفاعل خفي في الفكر والنفس
    إلى قواعد مدونة مضبوطة ماثلة للعيان ، من شأنه :
    أن يجمع شوارد الأفكار عليه ، وأن يبعد عوامل التلبيس والكيد عن التسلل
    إلى ساحة المعرفة ، ودائرة النظر والمحاكمة العقلية في الذهن ، في حين لو بقي
    شعوراً غامضاً في النفس وفطرة مستكنة في أغوار الفكر ؛ لأمكن أن تتسلل إليه
    الشوائب ، وأن تحاط بعوامل الغموض والريب ، وأن يغشي عليها المبطلون
    بزخرف القول وزيف الأدلة الباطلة ) . [ص61]
    أرأيت إلى هذه الخطبة العصماء خطبة ولا خطبة زياد البتراء !
    سنحاول أن نشير إلى خطوط عريضة في منهج البوطي - الذي هو غير
    منهج السلف قطعاً ، وكون منهجه غير منهج السلف أمر يسره ويسر السلف والحمد
    لله - وسنستخدم عبارته هو في طريقة تناولنا لهذا المنهج المبتكر ! فنحن ليس لنا
    حياله إلا : ( الرصد ، ثم الاكتشاف ، ثم الصياغة والتقعيد . أما الإبداع والاختراع
    فإن المنهج أبعد ما يكون عن أن يأتي ثمرة لذلك ) :
    1- استهانة بالمراجع :
    يتعامل البوطي مع المراجع تعاملاً غريباً وعجيباً ، وكما سبق أن قلنا ، فإنه
    يخرق الأعراف والتقاليد ، ويحب دائماً أن يكون نسيجاً وحده ، فتراه يحيلك على
    كتب ويذكر أرقام أجزاء وصفحات ، فتحب أن تتأكد لا من النقل ذاته والإحالة
    نفسها أحصلت أم لا- ولكن من سياق العبارة ، فتفاجَأ بعدم وجود ما يتحدث عنه
    البتة ، كما حدث في صفحة 47 من كتابه حيث أحال على كتاب ( الاعتصام )
    للشاطبي ، ج2 ، ص242 ، وبعد الرجوع إلى هذا الموضع من كتاب الاعتصام لا
    تجد أثراً للموضوع الذي يتحدث عنه .
    وكذلك فعل في صفحة 37 فأحال على ( المدخل ) لابن الحاج ، ج4 ، ص
    155 ولا أثر لما أحال من أجله في ذلك الموضع ! بل وجدنا في ( المدخل ) 4/
    157 ما يلي : ( وقد نقل عن السلف - رضي الله عنهم - أنهم كانوا لا
    ينخلون الدقيق ، ونخله من إحدى البدع الثلاث المحدثة أولاً ) ؛ لكن البوطي
    يجعل هذه العبارة هكذا : ( ومعلوم أن الروايات تواردت ( !! ) عن السلف أنهم كانوا
    في أول عهدهم لا ينخلون الدقيق وأنهم يرون نخله بدعة ) . [ص39] ، وكذلك فعل
    في أكثر من مكان فمما يتعلق بإحالاته على ( فتح الباري ) ؛ ففي صفحة 135 أحال
    على ( الفتح ) ، ج 7 ، ص82 وج3 ، ص315 ولم نجد في هذين الموضعين
    شيئاً مما ذكر ، بل وجدنا ما له تعلق بثاني الإحالتين في ج3 ، ص342 ،
    وسنرجع إلى هذه الإحالة لنرصد ماذا فعل البوطي بها من الأفاعيل!.
    وأمر آخر يخرق البوطي به الأعراف العلمية ، ويبعج البحث العلمي بعجاً ،
    وهو تداخل عبارته بالعبارة المنقولة أو المحال عليها ، فيصبح بين العبارتين تزاوج
    أو اتحاد ، ولا يمكن التمييز بعدُ بين عبارة الناقل وعبارة المنقول له ، وتمتزج
    الأمور بصورة طريفة ، وهناك أمثلة كثيرة في كتابه لهذا الأمر ، وسنكتفي بذكر
    مثال واحد - مع أنه مثال طويل - ولكن ماذا نفعل ؟ ! فإن البوطي يأبى إلا أن
    يحمل قراءه على أصعب الخطتين . وهذا المثال إحالة إلى ( الرسالة ) للشافعي .
    يتكلم البوطي كلاماً طويلاً لسنا الآن بصدد تحليله ، ثم يختم كلامه هذا برقم
    ترجع إليه في الحاشية لتقرأ : انظر باب (العلم) من كتاب (الرسالة) للإمام الشافعي
    357 بتحقيق أحمد شاكر ، وتتحير بعد قراءة هذه الحاشية : هل هذا الكلام الذي
    سبق وكتبه هو كلامه أو كلام الشافعي ؟ أو شرح لكلام الشافعي ؟ إن كان كلامه ؟
    فَلِمَ أَحال على الرسالة ؟ .
    وإن كان كلام الشافعي ؛ فَلِمَ لَمْ يحصره بين حاصرتين حتى نعرف بدايته
    ونهايته ؟ !
    وإن كان شرحاً لكلام الشافعي فلِم لم يذكر ذلك ؟ كلها أسئلة تحتاج إلى جواب .
    ومع أننا سنجد صعوبة في تحديد بداية نقلنا لكلامه ذاك ، لكننا سنلجأ إلى
    الخرص والتخمين في ما يمكن أن يكون بداية - ونحن مكرهون على ذلك يشهد الله ،
    ومعذورون لذلك إن أخطأنا التحديد . يقول : ( فإذا فعل المسلم ذلك ؛ فلا بد أن
    يصل إلى العلم بحقائق هذا الدين الذي جاء به كتاب الله . وسيجد عندئذ أن هذا العلم
    ينقسم إلى قسمين :
    القسم الأول : علم يشمل عامة الناس ، على اختلاف مداركهم ومنازلهم
    العلمية، ما داموا عقلاء راشدين . فلا يعذر أحد في جهله ، ولا سبيل إلى اقتحام شيء
    منه بأي تأويل له أو تنازع في فهمه أو خطأ في روايته . وهذا العلم يشمل كليات
    العقائد وبدهيات الفروض والأحكام ، كالعلم بفرضية الصلوات الخمس وأن لله على
    الناس صيام شهر رمضان ، وحج البيت إذا استطاعوه ، وأن عليهم زكاة في
    أموالهم ، وأنه حرم عليهم الربا والزنا والقتل والسرقة والخمر .
    فهذا الصنف من العلم موجود كله نصاً في كتاب الله ، ومعروف عند أهل
    الإسلام عامة ، ينقله عوامهم عمن مضى من عوامهم ، يحكونه عن رسول الله -
    صلى الله عليه وسلم - ولا يتنازعون في حكايته ولا وجوبه .
    وسبيل هذا الصنف منه هو ما يسمونه بقطعي الدلالة والثبوت . أي كل نص
    وصل إلينا من مصدره بطريق التواتر ، وكانت صياغته ودلالته على معناه من
    الوضوح بحيث لا يحتمل أي تأويل له أو أي خطأ في فهمه .
    ومن أحكام هذا النوع من العلم أن الناس كلهم مكلفون به ، ولا يسع بالغاً غير
    مَغْلوبٍ على عقله جهلُ أي شيء منه . ومن أحكامه أيضاً أن الاجتهاد غير وارد فيه ؛
    إذ الاجتهاد قد لا يرقى بصاحبه في كثير من الأحيان فوق درجة الظن ، وقد يقع
    فيه الخطأ ، ثم إن الناس متفاوتون في القدرة عليه ، مختلفون في النتائج التي
    يصلون به إليها . وهذا القسم من العلم مبرّأ ، كما قد أوضحنا ، من ذلك كله ) .
    [ص73 من كتابه ] .
    أما كلام الإمام الشافعي المحال عليه فهو :
    ( قال الشافعي : فقال لي قائل : ما العلم ؟ وما يجب على الناس في العلم ؟ ؛
    فقلت له : العلم علمان : علم عامة لا يسع بالغاً غير مغلوب على عقله جهله .
    قال : ومثل ماذا ؟
    قلت : مثل الصلوات الخمس ، وأن لله على الناس صوم شهر رمضان ، وحج
    البيت إذا استطاعوه ، وزكاة في أموالهم ، وأنه حرم عليهم الزنا والقتل والسرقة
    والخمر ، وما كان في معنى هذا ، مما كُلِّفَ العباد أن يعقلوه ويعملوه ويعطوه من
    أنفسهم وأموالهم ، وأن يكفوا عنه : ما حرم عليهم منه .
    وهذا الصنف كله من العلم موجود نصاً في كتاب الله ، وموجوداً عاماً عند
    أهل الإسلام ، ينقله عوامهم عمن مضى من عوامهم ، يحكونه عن رسول الله ، ولا
    يتنازعون في حكايته ولا وجوبه عليهم .
    وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط من الخبر ، ولا التأويل ، ولا يجوز
    فيه التنازع .
    قال : فما الوجه الثاني ؟
    قلت له : ما ينوب العباد من فروع الفرائض ، وما يخص به من الأحكام
    وغيرها ، مما ليس فيه نص كتاب ، ولا في أكثره نص سنة ، وإن كانت في شيء
    منه سنة ، فإنما هي من أخبار الخاصة ، لا أخبار العامة ، وما كان منه يحتمل
    التأويل ويُستدرك قياساً .
    قال : فيعدو هذا أن يكون واجباً وجوب العلم قبله ؟ أو موضوعاً عن الناس
    علمه ، حتى يكون من علمه منتفلاً ومن ترك علمه غير آثم بتركه ؟ أو من وجه
    ثالث ، فتوجدناه خبراً أو قياساً ؟
    فقلت له : بل هو من وجه ثالث ( . [الرسالة ، ص 357] .
    ومن هذين النصين المنقولين يظهر لنا أن كلام الشافعي يختلف عما أوهم
    البوطي
    أنه كلام الشافعي ، وأن القارئ العادي الذي قد يكون على عجلة من أمره قد
    يغتر بتلبيسه بتلك الحاشية المدلسة التي تجعله يظن أو يعتقد أن الشافعي قال ذلك
    الكلام !
    فقارن مثلاً بين عبارة الشافعي حيث يقول :
    ( وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط من الخبر ، ولا التأويل ، ولا
    يجوزفيه التنازع ) وبين ما فهمه البوطي منها بقوله :
    ( وسبيل هذا الصنف منه هو ما يسمونه ( مَن هم ؟ ! ) بقطعي الدلالة
    والثبوت ، أي كل نص وصل إلينا من مصدره بطريق التواتر (الشافعي لم يذكر
    التواتر) وكانت صياغته ودلالاته على معناه من الوضوح بحيث لا يحتمل أي
    تأويل له أو أي خطأ في فهمه ) .
    وقل مثل ذلك في إشارته إلى كتاب ( الفرق بين الفرق ) للبغدادي عند تعرضه
    للمرجئة في ص112 ، حيث عرَّف المرجئة تعريفاً لم يشر إليه البغدادي لا عند
    إشارته إلى المرجئة إجمالاً في أول كتابه ولا حين فصَّل القول في هذه الفرقة
    ومذاهبها فيما بعد . وتفصيل عبث البوطي في هذه القضية وحدها يحتاج إلى مقال
    خاص .
    أما قصته مع ابن تيمية فهي أمر يحتاج إلى وقفة خاصة ليس هذا وقت
    الحديث عنها . ولكننا نكتفي بضرب مثال على تصرفه وتلاعبه بكلام ابن تيمية من
    أجل أن يقيم الحجة عليه وعلى مَن ينصر آراءه ، وأسلوبه هذا يذكِّر بأسلوب الشيعة
    في الاحتجاج ، حيث إنهم ينتقون من آراء أهل السنة ما يظنون أنه حجة عليهم مع
    أنهم لا يؤمنون هم - أي الشيعة - بمصادر أهل السنة ، وهي عندهم لا تصلح
    للاحتجاج ؛ لأنها تعارض ما اصطلحوا عليه من أنه أدلة لهم .
    يقول : ( ومن ذلك ما رواه ابن تيمية - رحمه الله - عن جعفر الصادق
    (رضي الله عنه) ، من تأويله (الوجه) في قوله - تعالى - : ] كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلاَّ
    وجْهَهُ [ [القصص : 88] ، بالدين . وما رواه عن الضحاك من تأويله (الوجه) في
    الآية ذاتها بذات الله والجنة والنار والعرش . أما هو - أي ابن تيمية ذاته - (بلحمه
    وشحمه وعظمه ودمه ! ) فقد رجح أن يؤول (الوجه) بمعنى الجهة ، فيكون المعنى :
    كل شيء هالك إلا ما أريد به جهة الله - تعالى - .
    ثم قال : ( وهكذا قال جمهور السلف ) [ص135] .
    أما ابن تيمية فقد أشار إلى هذه القضية ضمن كلام رائع له في الرد على
    القائلين بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود ، لكن البوطي اقتطع من كلام ابن تيمية ما
    ظن أنه نصر لحجته ، ثم يا ليته اكتفى بهذه الإساءة بل أشبع هذا المقتطع مسخاً
    وتشويهاً ، أما عن حقيقة الدافع له إلى ذلك : أهو الهوى أم قصر الباع أم ضيق
    الصدر ؟ فهذا ما نتركه للقارئ ليكتشفه بنفسه .
    يقول ابن تيمية :
    روي عن أبي العالية قال : ( إلا ما أريد به وجهه ) وعن جعفر الصادق : ( إلا
    دينه ) ومعناهما واحد . وهذا مخالف لقول البوطي : ( روى ابن تيمية عن
    جعفر الصادق ) ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى معلوم ماذا يعني اصطلاح :
    رُوي ، بالبناء للمجهول ، عند أهل الحديث .
    ثم نقل ابن تيمية ما ورد من الأقوال في الآية على عادته في الاستقصاء ،
    وهو من خلال سوقه لهذه الأقوال يتوقف مناقشاً مؤيداً أو معترضاً ، وقد يستطرد
    قليلاً لجلاء نقطة يرى توضيحها من بحث لغوي ، أو فقهي ، أو تاريخي ، أو غير
    ذلك ، ثم قد يعود لمتابعة نقله الأقوال ، إما معضداً رأياً رآه ، أو لاستبعاد وهم قد
    يطرأ ، وشبهة قد تثار . هذا هو أسلوب الرجل ، وهو لذلك يحتاج إلى شيء من
    الصبر وسعة الصدر حتى يُتذوَّق ، وتنفتح عجائبه ، وتكتشف أوابده ، ولكن أنَّى
    لرجل نَزِق ضيّق الصدر أن يصبر على ذلك ؟ ! وكيف به إذا جمع إلى ذلك هوى
    مستحكماً وعقدة نفسية من ابن تيمية ؟ !
    ثم بحث ابن تيمية عن اشتقاق كلمة (الوجه) مما يبدو أن البوطي لم يفهمه
    لضيق صدره ، فقال - أي ابن تيمية - :
    ( وذلك أن لفظ ( الوجه ) يشبه أن يكون في الأصل مثل الجهة، كالوعد
    والعدة ، والوزن والزنة ، والوصل والصلة ، والوسم والسمة ) . لكن فِعْلَة حذفت
    فاؤها وهي أخص من الفعل ، كالأكل والإكلة ، فيكون مصدراً بمعنى التوجه
    والقصد ، كما قال الشاعر :
    أستغفر الله ذنباً لست مُحصيَهُ ربَّ العباد إليه الوجهُ والعملُ
    ثم إنه يسمى به المفعول ، وهو المقصود المتوجه إليه ، كما في اسم الخلق ،
    ودرهمٌ ضَرْبُ الأمير ، ونظائره ، ويسمى به الفاعل المتوجه ، كوجه الحيوان ،
    يقال : أردت هذا الوجه ، أي هذه الجهة والناحية ، ومنه قوله : ] ولِلَّهِ المَشْرِقُ
    والْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وجْهُ اللَّهِ [ [البقرة : 115] ، أي قبلة الله ووجهة الله ،
    هكذا قال جمهور السلف [مجموع الفتاوى : 2/429] .
    ومن قراءة النص الأصلي لابن تيمية لا النص المحرَّف - نستنتج أنه لم
    يؤول كما زعم البوطي بل استدل بما ورد من أقوال السلف في هذه الكلمة ، وبلغة
    العرب التي يهوِّل بها البوطي كثيراً حتى لتظنه الخليل بن أحمد أو ابن جني ، وهو
    ليس بذاك .
    ولو ذهبنا لتتبع تعامل البوطي مع المراجع - في كتابه هذا فقط - لطال
    الكلام ، ولكن حسب القارئ الكريم أن يعرف أن هذه القضية فرع لما أشرنا إليه في
    مقالنا السابق عنه من خيلاء ضارة ، واستهانة بأقدار الناس أحياءً وأمواتاً ، وسوء
    تقدير لهم ، وإساءة ظن بهم ، قدر إحسانه الظن بنفسه ، هداه الله .
    التواء وتهويل :
    الشيخ البوطي يحب التهويل ، حتى ولو أوقعه هذا التهويل فيما لا تحمد عقباه ،
    فمن حيث الأسلوب عنده القدرة التعبيرية التي تريك المهم هيناً ، والهين السخيف
    عظيماً ومشكلة لابد لها من هز الأكتاف وقرع الظنابيب ، حتى يُتَغَلَّبَ عليها ، وهذه
    القدرة تذكرنا بالبراعة التي عُرف بها الفارابي في الموسيقى - فيما زعموا - أنه
    في أحد مجالسه مع سيف الدولة لم يعجبه عزف العازفين الذين عزفوا أمامه ،
    وأظهر أخطاءً كثيرة لكل واحد منهم ، فتعجب سيف الدولة من ذلك وسأله إن كان
    يحسن هذه الفنون ، فأجاب بالإيجاب ، ثم أخرج من وسطه خريطة (جراب من
    جلد) ففتحها وأخرج منها عيداناً وركبها ثم عزف بها ، فضحك كل مَن كان في
    المجلس ، ثم فكها وركبها تركيباً آخر ، وضرب بها ، فبكى كل مَن كان في المجلس!
    ثم فكها وغيَّر تركيبها وضرب بها ضرباً آخر ، فنام كل من كان في المجلس حتى
    البواب ! فتركهم نياماً وخرج !
    وإليك هذه الفقرة التهويلية التي يمهد فيها لاكتشاف الصحابة والتابعين للمنهج
    - والذي سبق أن سميناه منهج البوطي - ليقول :
    ( الآن ، وقد اتضح لك ذلك ؛ ينبغي أن نتبين حجم المشكلة الخطيرة التي
    انبثقت عن ذلك التطور الكبير ، صحيح أن تلك العوامل أدت إلى خروج الصحابة
    من نطاق حياتهم الخاصة المتميزة التي فتحوا أعينهم من داخلها (مرجع الضمير هنا
    على حياتهم الخاصة أو على أعينهم ؟ ! البوطي أعلم ، وعلى كلا التقديرين فالكلام
    مستقيم ! وهذه صفة جوامع الكلم ! ) على الإسلام ومبادئه ، وساحوا تحت وطأة
    ظروف لا قِبَلَ لهم بالإحاطة بها أو السيطرة عليها ، (مساكين الصحابة - رضي الله
    عنهم - ! ) في حياة جديدة (الجار والمجرور متعلق بساحوا) ذات آفاق أوسع غير
    أن المشكلة التي واجهتهم (انتبه ! هذه مشكلة المشاكل) أنهم نظروا ، فوجدوها آفاقاً
    بعيدة لا تستبين لها معالم ولا حدوداً . وليس في يدهم من وراء النصوص (نصوص
    كل من القرآن والسنة) مقياس يحددون به معالم تلك الحياة ، بحيث يقيمون على
    أساسه ضوابط للسير فيها وحدوداً للوقوف عندها (ألا تكفي نصوص القرآن والسنة
    مقياساً لتحديد معالم تلك الحياة وأساساً تقام عليه ضوابط وحدود ؟ يا شيخ ! ! ) فكان
    ذلك مبعث اضطراب وقلق ، وخلافات حادة ، (مَن قال إن الإسلام جاء رحمة
    للعالمين ؟ ! ألم يكن نقمة على الصحابة ومَن جاء بعدهم ؟ ! وقد عانى الصحابة
    بسببه هذا العناء المعنى ، وهذا الاضطراب والقلق والخلافات الحادة . هذا ما يفيده
    كلام الدكتور ، وما شهدنا إلا بما علمنا ! ) ، بل سبباً في ظهور فرق وفئات شتى ،
    اتخذت من تلك البيداء الواسعة طرائق متخالفة ، بل متخاصمة ، وكان لابد لهذه
    المشكلة أن تستمر بينهم إلى حين ) . [ص45] .
    هذا مقطع - فقط - من تهويلات الرجل . ولسنا ندري على وجه اليقين ما
    الذي يدعوه إلى مثل هذه التهويلات ، أهو قد استعار هذا الكلام من أحد المستشرقين ،
    أو ممن تأثر بهم ، ثم نسي المصدر ، أو تناساه ؟ ! ، إنه كلام يشبه كلام طه
    حسين في كتبه التي عالج فيها التاريخ الإسلامي ، كالفتنة الكبرى وغيرها ، وإن
    شئت فقل : إن كلامه عليه مسحة من اعتقاد الرافضة في الصحابة ، أما عن تأثر
    الشيخ بالمستشرقين فقد يكون الدافع له إلى ذلك عقدة النقص وحب الظهور عنده ،
    خاصة وأنه يدندن ويهول بمناظرات وما يسميه منازلات لبعض رموز من يطفون
    على سطح الفكر حواليه ممن يسرّه أن يقرن بهم ويتمسح بمسايرتهم ، وهذا واضح
    من إصراره على تعبير ( منهج المعرفة ) وترديده له كثيراً في ثنايا كتابه ، أليست
    هناك مجلة شهيرة ليست على مبعدة منه - يكتب فيها من يتطلع إلى مسامتتهم اسمها
    مجلة ( المعرفة ) ؟ ! .
    إن كان الأمر كذلك فنقول له :
    ألهى بني تغلِب عن كل مكرمة قصيدةٌ قالها عمرُو بن كلثوم !
    وأضفْ إلى المثال السابق من أن كلامه أشبه بكلام المستشرقين ، الفقرة
    الأخيرة من ص 48 من كتابه فسوف تجد هذا الكلام لا يختلف عن مناهج
    المستشرقين في تحليلهم ونظرتهم إلى الفكر الإسلامي بشيء .
    وأما أن كلامه عليه مسحة من اعتقاد الرافضة في الصحابة فاقرأ كلامه التالي
    الخارج من صدر ضيق تفوح منه رائحة الحنق : ( فمن التزم بمقتضى هذا الميزان ،
    فهو متبع كتاب الله متقيد بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سواء أكان
    يعيش في عصر السلف أو جاء بعدهم ، ومن لم يلتزم بمقتضاه ، فهو متنكبّ عن
    كتاب الله تائه عن سنة رسوله - عليه الصلاة والسلام - وان كان من الرعيل الأول
    (يا لطيف) ولم يكن يفارق مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) ! ! [ص
    79]
    بل يحتج ببعض الرافضة ومؤلفاتهم ، وفي مؤلفات أهل السنة غنية له ولغيره
    على هذه القضية التي يعالجها [ انظر الحاشية في ص43 من كتابه ] .
    بل يستنعج (يصبح كالنعجة بجامع النعومة وحب السلامة في كلٍّ) عندما
    يتعرض للشيعة ، فيشير إلى حقيقة معروفة عندهم ، بل هي من أصول مذهبهم ،
    بل تكاد تكون أصول مذهبهم كلها قامت من أجل هذه القضية ، وهي إنكار إمامة
    الشيخين (أبي بكر وعمر) ، فتراه عندما يشير إليها كأنما يقترب من أفعى سامة
    متربصة بمن يقترب منها ، فيقول هذه العبارة التي تطفح بالوجل والتدسس والنعومة :
    ( وعلى سبيل المثال نقول : (لمجرد المثال فقط ، فنرجو المعذرة ! ) إن
    إنكار إمامة الشيخين ، وهو مذهب يراه كثير من الشيعة (وليس جميعهم ! ولاحظ
    تنكير كلمة ) مذهب ( أيضاً) ليس كفراً ، (الحمد لله) وإن كان خروجاً على الإجماع )
    [ص107] (يعني ماذا إذا كان خروجاً على الإجماع ؟ ! ) ولنكن على ذكر من هذا
    الاعتذار الناعم حينما نناقش معه نزوله بساحة ابن تيمية وثورته وفورته وانتفاخ
    أوداجه هناك على شيء لم يخرق ابن تيمية الإجماع فيه قطعاً ، ولكن ناقش دعوى
    الإجماع على قضية فهم منها أعداؤه - وأخيرهم البوطي - أنه يقول بهذا الرأي
    الذي ناقش دعوى الإجماع عليه ، مع أنه لا يناقض نفسه - رحمه الله - .
    ويقول في عبارة أخرى ملتوية :
    ( ومن ذلك ما يجزم به بعض الناس ( ! ! ) ، من أن في أئمة أهـل البيت
    مَن قد وصلوا إلى منزلة لم يبلغها ملَك مقرب ولا نبي مرسل ! وممن يجزم بذلك
    ويقرره في منشوراته ، الإمام الخميني ) .
    لاحظ الالتواء في عبارة : ( بعض الناس ) ، ولاحظ ما في هذه العبارة : ( من
    أن في أئمة أهل البيت من قد وصلوا ... ) وكأنه لا يدري أن القول بعصمة الأئمة
    الاثني عشر من أصولهم ! وليس هذا فحسب ، بل إنه سأل بعض علماء الشيعة
    الإيرانيين عن كيفية اتفاق هذا الكلام مع أصول الإسلام وكلياته الأساسية فقال : إنها
    غلطة من المترجم ! فتعجب هو من ( أن الكتاب طُبع منذ ذلك الحين مرات متعددة ،
    وغلطة المترجم لا تزال باقية ! ) [حاشية ، ص112 من كتابه ] .
    ونحن أيضا نعجب ، لكن لا من غلطة المترجم هذه ولكن من تعجبه وعدم
    معرفته وتجاهله أن التَّقِيَّة من أصول القوم !
    لكن مع هذا يبقى عندنا شك من إثارته هذا الاعتراض على مَن ذكر من علماء
    الشيعة ، وذلك أنه من المؤكد أن الشيخ قد حضر مؤتمراً لهم في لندن في 18 من
    ذي الحجة 1410هـ الموافق 11/7/1990م للاحتفال بيوم الغدير [1] وشاهد
    وسمع على الطبيعة - كما يقولون - كيف يفكر القوم ، وكيف يحتفلون ، وسُبَّت
    أمامه وعلى مرأى ومسمع منه السنة وأهل السنة الذين ينتسب إليهم سباً مقذعاً ،
    ولكن لم يبلغنا أنه أنكر على دهاقينهم ذلك المنكر لا بقليل ولا بكثير من إنكاره الذي
    ينكره على من يشاركونه عدم اعتبار الإمامة والعصمة والرجعة من أصول الدين ،
    بَلْهَ مشاركتهم له في أشياء أخرى ! [2]
    مشكلة المناخل ! !
    ولنختم هذه التهاويل بواحدة تعيدنا إلى حيث بدأنا إلى [ص46] من كتابه ،
    وهي مشكلة المناخل ! ونحب أن تكون مُلْحة الوداع ومسك الختام ، ولسنا - والله -
    ندري مِمَّ نضحك أكثر ؟ من هذه المشكلة التي ألقت بظلها الكئيب على الصحابة
    الكرام وعصرهم ؛ فكانت اختباراً لقوتهم وحكمتهم وصمودهم ، وامتحاناً للمبادئ
    التي تلقوها من محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن الله سلَّم ! ...
    نقول : نضحك أكثر من مشكلة المناخل هذه أم من عرض الشيخ لها واحتفاله
    بها بتعاظمه المعهود ، وأسلوبه الطريف الذي يزاوج فيه بين الخبر والإنشاء بركانة
    وزكانة ؟ حيث يقول :
    ( ... لقد ظهرت المناخل فيهم فجأة ، (فجأة ، وقعت عليهم وقوع الصاعقة ! )
    وما كان لهم عهد بها من قبل ، أين كانت مختبئة ؟ ! بل من الذي اخترعها ؟ !)
    قد يجيب الشيخ لم يكن هناك سجل لبراءات الاختراع حتى نعرف مخترع المناخل !
    ثم لا زلنا نطلب مزيد تعريف بالمناخل هذه فيزيدنا الشيخ شكوراً : ( وهي من
    أدوات التنعم والترفه في المأكل ، مما لم يكن يعرفه العرب ولا المسلمون من قبل ) .
    (إن العرب عند الشيخ هم أكلة الضِّبَاب واليرابيع ، وصورتهم عنده كصورتهم عند
    الفرس عندما يتحدثون عنهم ! ) فما الذي ينبغي أن يتخذوه ؟
    أيتبعون في ذلك سنن الصحابة الذين من قبلهم ، فيجتنبون استعمال المناخل
    في نخل الدقيق ، نظراً لأن ذلك بدعة مستحدثة وكل بدعة ضلالة (معاذ الله ! هذا لا
    يمكن ! ) أم يُجارون الزمن وتطوراته ، (هذه أهون ! لابد من مجاراة الزمن
    وتطوراته ! ) وينظرون إلى المسألة على أنها من الأعراف المرسلة عن قيود
    الاتباع وعدمه ، ولا علاقة لها بشيء من الأحكام التعبدية التي قضى بها الإسلام ؟ .
    وأيا كان الموقف المتخذ ، فما هو الميزان أو البرهان المعتمد في ذلك ؟ .
    حاشية تكميلية !
    جواباً للقراء الذين لم يعرفوا الجواب الشافي على تساؤل الشيخ الثاني البادئ
    بقوله : ( أم يجارون الزمن .... ) نفيدهم أن الصحابة الكرام - بعد نقاش عاصف
    أدى إلى ارتفاع اللهجة ، وتكدير الخواطر ، وأنذر بانفضاض مجلسهم على غير
    اتفاق ؛ مما كان سيكون له أشأم العواقب ، وأقلها - لا سمح الله - شرخ (ونؤكد
    على كلمة شرخ) في وحدة الكلمة ، واجتماع الصف التي انتصروا بها على فارس
    والروم ... نقول بعد تلك الحادثة التي كان سيكون لها ما بعدها جاروا الزمن
    وأجمعوا على استعمال المناخل ، عملاً بأخف الضررين ! وهي قاعدة معتبرة في
    الشريعة ، ونخبرهم أنه ما كان لهم أن يصلوا إلى هذا الإجماع المبارك لولا المنهج
    الذي صاروا إليه ، وساروا عليه ، والذي : رصده ، ثم اكتشفه ، ثم صاغه وقعَّده
    الدكتور الشيخ ، أو الشيخ الدكتور ( البوطي ) خلال العشر الأولى من القرن
    الخامس عشر الهجري .
    *يتبع *
    ________________________
    (1) يوم الغدير : هو اليوم الذي يزعم الشيعة الاثنا عشرية أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد
    أوصى لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بالنص على أن يكون الخليفة من بعده .
    (2) أُنشد أمام الشيخ في ذلك المؤتمر قول الرقيع الصاحب بن عباد : حب علي بن أبي طالب هو
    الذي يهدي إلى الجنة إن كان تفضيلي له بدعةً فلعنة الله على السُّنَّة ! وقلنا لنَقَلَة الخبر : أنتم
    متأكدون أن الدكتور كان حاضراً وكان يسمع ؟ ؛ لعلهم استغلوا غيبة قصيرة له لقضاء حاجة مثلاً
    فقالوا ما قالوا؟! فقيل لنا : بل كان جالساً وموجوداً بذاته وعمامته ! فقلنا :
    ذُمَّ المنازلَ بعد منزلة اللوى والعيشَ بعد أولئك الأيامِ .

    (( مجلة البيان ـ العدد [‌ 35 ] صــ ‌ 6 جمادى الآخرة 1411 ـ يناير 1991 ))

    تعليق


    • #3
      رد: حول البوطي وعقيدته وأمور أخرى

      البوطي …والمنهج
      عبد القادر حامد
      تخبط وتناقض :
      إن ميزة الكتب النافعة أنك لا تقرؤها مرة إلا وتجد فيها فائدة لم تكن وجدتها
      في القراءة الأولى ، لكن كتاب البوطي هذا على الضد ، لا تقرؤه إلا وتجد فيه
      خبيئة فاتتك في القراءة السابقة . ولو استعرضنا جميع التناقضات التي اكتشفناها في
      هذا الكتاب لطال الكلام ولملّ القارئ ، ولكن نكتفي ببعضها .
      يقول - عند كلامه على العوامل التي أدت إلى تطوير أساليب الصحابة
      الفكرية وطرقهم التربوية ! وعاداتهم السلوكية ! تحت عنوان : العامل الثالث : -
      » ... ولما رأوا أنفسهم يعيشون في بلاد غير التي عرفوها ، ويقابلون
      عادات غير التي ألفوها ، ويجابهون مشكلات لا عهد لهم بها ، (كمشكلة المناخل ! )
      اضطروا إلى فتح باب الرأي بعد أن كان مغلقاً ، وإلى التعامل معه والأخذ به بعد أن
      كان ذلك أمراً مرفوضاً ومستهجناً .
      ومن أشهر الصحابة الذين انتشروا في الأمصار ، ورفعوا لواء الاتجاه في هذا
      الطريق (طريق الرأي ! انتبه ! ) الخلفاء الراشدون وعبد الله بن عمر وعائشة ،
      وهؤلاء كانوا في المدينة ، (إلى أين انتشروا ؟ ) وعبد الله بن عباس وقد كان بمكة
      (أين ذهب ؟ ! ) « [ص34] .
      ففي هذه الفقرة تخبط ومجازفة واضحة ، فالخلفاء الراشدون كلهم - ماعدا علياً ؛
      وفي أيام خلافته فقط - عاشوا في المدينة ولم ينتشروا في الأمصار ! ولم يطوروا
      من أساليبهم الفكرية ، وطرقهم التربوية ، وعاداتهم السلوكية ، ولم يفتحوا باب
      الرأي بعد أن كان مغلقاً ! وبخاصة أبو بكر الذي توفي بعد الرسول - صلى الله
      عليه وسلم - بعامين ونصف تقريباً ، ولم يدرك هذه الأزمة الفكرية المفترضة التي
      يصورها المؤلف هذا التصوير ( الدرامي ) .
      وفي [ص80] يقرر في الفقرة الأولى قضية تنقضها الفقرة التي تليها ، فيقول :
      ( إن قواعد اللغة الدلالية والبيانية قواعد لغوية صافية لا تتأثر بأي جهة دينية
      أو مذهب فكري ، وهذا معنى قولنا عنها : إنها قواعد حيادية ) .
      وهذه مسألة فيها نظر ؛ من وجهة نظر شرعية ومن وجهة نظر لغوية بحتة ،
      وليس هذا مجال بحثها . وهذه القاعدة التي ذكرها ينقضها هو نفسه في الفقرة التالية
      حيث يقول :
      ( غير أن الكثير من هذه القواعد ، وإن كان محل اتفاق من أئمة اللغة ،
      إلا أن فيها أيضاً ، ما هو محل نظر وخلاف فيما بينهم ) .
      لكن القول السديد في هذه المسألة - التي أعاد البوطي فيها القول ليوهم قراءه
      أن ( السليقة العربية ) وقواعد اللغة كافية لمن حذقها ( في فهم النصوص وإدراك
      مراميها ) [ص 49] - هو ما قاله ابن تيمية وسنثبته هنا متحملين ومحتسبين وصف
      البوطي
      لنا بالسطحية وعدم الصبر والاستيعاب ، هذه العيوب التي انعكست علينا
      من أسلوب ابن تيمية المضطرب يقول : ( وقد انعكس هذا الاضطراب في كلام ابن
      تيمية على أذهان كثير ممن يقرؤون له ، بسطحية وبدون صبر واستيعاب ) . [ص
      161] لا حول ولا قوة إلا بالله .
      يقول ابن تيمية :
      ( ومما ينبغي أن يعلم أن الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث إذا عرف
      تفسيرها وما أريد بها من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحتج في ذلك إلى
      الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم ولهذا قال الفقهاء : ( الأسماء ثلاثة أنواع :
      نوع يعرف حده بالشرع ، كالصلاة والزكاة ؛
      ونوع يعرف حده باللغة ، كالشمس والقمر ؛
      ونوع يعرف حده بالعرف ، كلفظ القبض ، ولفظ المعروف في قوله :
      ] وعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [ [النساء : 19] ونحو ذلك .
      وروي عن ابن عباس أنه قال : تفسير القرآن على أربعة أوجه :
      * تفسير تعرفه العرب من كلامها ،
      * وتفسير لا يعذر أحد بجهالته ،
      * وتفسير يعلمه العلماء ،
      * وتفسير لا يعلمه إلا الله ، من ادعى علمه فهو كاذب .
      فاسم الصلاة والزكاة والصيام والحج ونحو ذلك ، قد بين الرسول - صلى الله
      عليه وسلم - ما يراد بها في كلام الله ورسوله ، وكذلك لفظ الخمر وغيرها ومن
      هناك يعرف معناها ، فلو أراد أحد أن يفسرها بغير ما بينه النبي - صلى الله عليه
      وسلم - لم يقبل منه . وأما الكلام في اشتقاقها ووجه دلالتها ؛ فذاك من جنس علم
      البيان ، وتعليل الأحكام ، هو زيادة في العلم ، وبيان حكمة ألفاظ القرآن ، لكن
      معرفة المراد بها لا يتوقف على هذا .
      واسم الإيمان والإسلام والنفاق والكفر هي أعظم من هذا كله ؛ فالنبي - صلى
      الله عليه وسلم - قد بين المراد بهذه الألفاظ بياناً لا يحتاج معه إلى الاستدلال على
      ذلك بالاشتقاق وشواهد استعمال العرب ونحو ذلك ؛ فلهذا يجب الرجوع في مسميات
      هذه الأسماء إلى بيان الله ورسوله ، فإنه شافٍ كافٍ ، بل معاني هذه الأسماء معلومة
      من حيث الجملة للخاصة والعامة ) . [مجموع الفتاوى7/286] .
      وعند حديثه عن دوافع الشذوذ والخروج عن مقتضيات المنهج المتفق عليه في
      تفسير النصوص (ولا تنس أنه منهج البوطي وحده) يذكر ( أن هذه الدوافع تتجمع
      في عاملين أساسيين :
      العامل الأول : المغالاة في تحكيم العقل على حساب النص الصحيح والخبر
      الصادق ، أي تحميله فوق طاقته وجره في متاهات لا يملك السير السليم فيها إلا
      على ضوء الخبر اليقيني الذي يتمثل في النصوص ) . [ص127] . وهذا كلام سليم
      وجيد لولا ما ينقضه ما جاء في [ص63] عند كلامه عن (مراحله الثلاث) التي لا
      يكون المسلم مسلماً إلا بها ، حيث بعد أن يشترط لذلك : » التأكد من صحة
      النصوص الواردة والمنقولة عن فم سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم - ، قراناً
      كانت هذه النصوص أم حديثاً ، (وهذه فائدة جديدة عثرنا عليها من قراءتنا الثانية
      لهذه الفقرة ، وهي التأكد من صحة النص القرآني ! فيجب أن ندرسه - على زعمه
      - رواية ودراية ، حتى ننتهي إلى يقين ! « بحيث ينتهى إلى يقين بأنها موصولة
      النسب إليه ، وليست متقولة عليه يشترط أيضاً شرطاً آخر وهو قوله : ( عرض
      حصيلة تلك المعاني والمقاصد التي وقف عليها وتأكد منها على موازين المنطق
      والعقل (يعني : إخضاع النصوص ، أو ما فهمه من تلك النصوص - قرآناً وسنة
      أيضاً ! - لتمحيصها ومعرفة موقف العقل منها ) !
      وحتى نجمع بين هذين التناقضين ، ونُعمل كلام الشيخ فيهما معاً فلا نهمل
      واحداً ، ونعتمد الآخر ، وذلك ضناً بكلامه النفيس جداً عن الإهمال والتعطيل ؛
      نقول : لا بأس من تحكيم العقل في النص الصحيح قرآناً وسنة ، لكن دون مغالاة !
      وبذلك يتسق أول الكلام مع آخره ! ومن يدري ؟ ! فقد نستحق جائزة أو شكراً على
      الأقل منه على ذلك !
      تلبيس وتدليس :
      كثيرا ما يلجأ البوطي إلى التعميم والتلبيس ، فيصدر حكماً ، أو يضع مقدمات
      يتركها بلا دليل ولا إثبات . وهذا الأسلوب في الكتابة شائع بين العلمانيين الذين
      يهجمون على القضايا الفكرية الأساسية بجرأة عجيبة ، وبخاصة على ما كان منها
      متعلقاً بالأمور الشرعية التي لا علم لهم بها .
      والمفترض أن يكون أسلوب النقاش مع الشيخ البوطي يختلف عن الأسلوب
      الذي يتبع مع هؤلاء ، فهو شيخ وابن شيخ ، وهذا أعرق له وأثبت قدماً في مجالات
      العلم والبحث ، وهو أيضاً حامل لشهادة الدكتوراه - وأظنها مع مرتبة الشرف إن لم
      يكن أكثر - من الأزهر ، وهذا أَطلَق لقلمه ولسانه ، وأكثر ترويجاً للكتب في السوق
      هذه الأيام ، وبخاصة في بلاد كبلاد الشام حيث من اللائق بالشيخ أن ينشد :
      خلت الديار فسدت غير مسود ومن الشقاء تفردي بالسؤدد
      فكيف يهجم الشيخ هجوم أولئك ؟ ! وما له يرسل الكلام إرسالاً ، ويطلق
      الأحكام إطلاق المتمكن الواثق ؟ ! ألا تكفينا مجازفات العلمانيين وتعالم الجهلة الذين
      أفسدوا العلم والثقافة ، وسمموا العقول والقلوب ؟ ! لمن يكتب هذا الكلام ومن أي
      بئر يَمْتَح ؟ ! :
      ( وهذا ما حدث ، فقد كان في الصحابة والتابعين من أخذ يستنبط
      الأحكام تعليلاً واعتماداً على اجتهاده المرسل ، استجابة لمقتضيات الظروف
      الطارئة والأوضاع الحديثة ، (يقصد : الحادثة) وكان فيهم أيضاً من يتجنب ذلك
      ويحذر منه ، بل يشتد في النكير على استعمال الرأي والأخذ به ، خوفاً من تجاوز
      النصوص والاستبدال بها ، مما يسبب الوقوع في زلات لا تغتفر )
      [ص49] .
      - لِمَ لم يذكر الشيخ اسم صحابى واحد كان يستنبط الأحكام تعليلاً واعتماداً
      على اجتهاده المرسل ؟
      - ثم ما معنى الاجتهاد المرسل ؟ نحن نفهم الاجتهاد المرسل على أنه الاجتهاد
      الذي لا دليل عليه ؛ لا من كتاب ، ولا من سنة ، ولا حتى من عقل ، كالجمل
      المرسل : لا خطام ولا عقال . والفرس المرسل : لا عنان ، ولا لجام ، ولا هِجار !
      هل يقصد الشيخ إلى أمثال هذه التلبيسات قصداً ؟ وهو فعل غير محمود
      العواقب عليه وعلى قرائه ؟
      والجواب - والله أعلم - أن منها ما يأتي بسبب العجلة وقلة الصبر كهذه التي
      أشرنا إليها آنفاً ؛ ومنها التي تجمع إلى العجلة وقلة الصبر قليلاً من الهوى كهذه التي
      نعثر عليها في هامش [ص 101 ] حيث يقول :
      ( إلا ما ذهب إليه الإمام أحمد من حكمه بكفر تارك الصلاة ولو لم يكن جاحداً
      لها ) . فما الدافع لهذا الإجمال المخل ؟ إن لم يكن ما ذكرنا ؟ ! وإلا فالمسألة فيها
      تفصيل معروف عند العلماء ، وليس هذا الذي ذكره هو رأي الإمام أحمد وحده ، فقد
      قال الحافظ عبد الحق الإشبيلي - رحمه الله - في كتابه في الصلاة :
      ( ذهب جملة من الصحابة - رضي الله عنهم - ومن بعدهم إلى تكفير تارك
      الصلاة متعمداً لتركها حتى يخرج جميع وقتها ، منهم : عمر بن الخطاب ، ومعاذ
      بن جبل ، وعبد الله بن مسعود ، وابن عباس ، وجابر ، وأبو الدرداء ، وكذلك روي
      عن علي بن أبى طالب ، هؤلاء من الصحابة . ومن غيرهم : أحمد بن حنبل ،
      وإسحق بن راهويه ، وعبد الله بن المبارك ، وإبراهيم النخعي ، والحكم بن عيينة ،
      وأيوب السختياني ، وأبو داود الطيالسي ، وأبو بكر بن أبى شيبة ، وأبو خيثمة
      زهير بن حرب ) . [ كتاب الصلاة وحكم تاركها لابن القيم ، 5 1 ] .
      ولكن هناك من التلبيسات ما يبدو أنه يقصد إليه قصداً ، كتلك الواردة في [ص
      102] ( والصلاة جماعة خلف كل بر وغيره ) !
      فالمعروف عند المسلمين : الصلاة خلف كل بر ( وفاجر ) فما الداعي يا ترى
      لوضع : (غيره) موضع (فاجر) هل هو النسيان ؟ أم هو سبق قلم ؟ أم أن الكلمتين
      مترادفتان تقوم إحداهما مقام الأخرى ؟ !
      لا شك أن كلمة (غيره) أعم من كلمة (فاجر) .
      وعلى كل حال ؛ فكان يمكن أن تعد هذه هنة من الهنات التي لا يوقف عندها
      لولا ما بلونا من الشيخ وضعه للرقة والنعومة والقسوة والتشنيع والتشهير في غير
      مواضعها ، فلعله - وهو في زمن كثر فيه هذا الصنف من الأئمة - لا يريد أن
      يكسر خاطرهم بمثل هذه الكلمة التي قد يعتبرها نابية ؟ ! أو لعله يجوز إمامة المنكِر
      معلوماً من الدين بالضرورة أو من في حكمه - وهو غير برٍّ حتماً - وهكذا قد يظن
      أنه بهذه ( المجاملة ) ينجو من المحذور فيقع في المحظور . ولكن هل عليه بأس
      بمجاراة الزمن ، والصحابة - الذين هم مَن هم - قد جاروه ؟ !
      ألفاظ غير لائقة بالشيخ :
      يقول عن الصحابة والتابعين :
      ( ولكن ، ها هم اليوم ، وقد تمازج جيل التابعين مع الصحابة ، قد
      غيروا طريقهم ، وفتحوا صدورهم للجدل في كل مسائل الاعتقاد ، (بلا استثناء ؟ !)
      وفي مقدمتها تلك التي كانوا بالأمس ينغضون لها الرأس والفكر قبولاً واستسلاماً دون
      أي بحث أو نقاش .. ) [ص42]
      لا نريد أن نناقش هذه الفقرة من الناحية الموضوعية ، بل من الناحية الشكلية
      فقط ، فنقول :
      استخدام هذه الكلمة ( ينغضون لها الرأس ) في وصف الصحابة أو التابعين
      أمر غير لائق ، فقد وردت مرة واحدة في القرآن الكريم في وصف الذين لا يؤمنون
      بالآخرة ، وقد قال ابن عباس وقتادة في تفسير ] ينغضون رؤوسهم [ أي يحركونها
      استهزاءً . [ ابن كثير تفسير الآية 51من سورة الإسراء] ، لكن حرص الشيخ على
      الأسلوب الأدبي الرفيع ، واحتفاله به يجعله يضحي بالمعاني في سبيل الألفاظ !
      كذلك قوله عن علم الجرح والتعديل ويسميه هو : فن الجرح والتعديل بأنه
      ( يقف ذيلاً وخادماً ) فلِمَ هذا التكلف ؟ ولم كل هذا الجبروت في منهجك حتى
      تجعل من علم الجرح والتعديل ذيلاً وخادماً له ؟ ! يا أخي ، لقد ملكت ؛
      فأسجحْ !
      وانظر إليه كيف يستحسن - بتشفٍّ وحنق وشماتة ظاهرة - أن يصفع شرطي
      فرنسي مسلماً ( سلفياً ) ويشتمه :
      ( لقد اشتدت هذه الخصومات ذاتها واهتاجت في أحد مساجد باريس منذ ثلاثة
      أعوام ، حتى اضطرت الشرطة الفرنسية ( مشكورة ! ) إلى اقتحام المسجد ،
      والمضحك المبكي [1] بآن واحد ، أن أحد أطراف تلك الخصومة أخذته الغيرة
      الحمقاء لدين الله ولحرمة المساجد ، (صحيح أحمق ! لماذا يغار على دين الله وعلى
      حرمة المساجد ؟ أعلى مثل هذه الأمور يغار ؟ ! ) لما رأى أحد الشرطة داخلاً
      المسجد بحذائه ، فصاح فيه (كذا) أن يخرج أو يخلع حذاءه (كذا) ولكن الشرطي
      صفعه قائلا : وهل ألجأنا إلى اقتحام المسجد على هذه الحال غيركم أيها
      السخفاء ؟ ! .. ) [ص 245]
      لمثل هذا فليكتب الكاتبون !
      يل ؛
      نقول :
      لو أن الشيخ نقل لنا كلام الشرطي الفرنسي باللغة الفرنسية وأردفه بهذه
      الترجمة لأحسن صنعاً ، ولكان عمله أقرب إلى الدقة والموضوعية ! ؛ لأننا في شك
      طفيف من هذه العاطفة البادية في عبارة هذا الشرطي الورع الذي لم يلجأ إلى ما لجأ
      إليه إلا بعد أن بلغ السيل الزبى ، وجاوز الحزام الطُّبَيين ! وإلا فهو - وكذلك بنو
      جلدته - من أشد الناس معرفة بحرمة المساجد ومراعاة مشاعر المسلمين ! !
      أخي القارئ الكريم :
      اقرأ هذه الفقرة ، وعاود قراءتها حتى تمل ، وإياك أن تظن أن كاتبها أدونيس
      بل هو الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي صاحب حوالي عشرين مؤلفاً حول
      القضايا الإسلامية ، وسلسلة من ثمانية كتيبات بعنوان : أبحاث في القمة .
      أي القمم ؟ !
      وأخيراً ، فإن مما لا يليق بالشيخ أيضاً أن يشتم ويسب ( السلفيين ) ويصفهم
      (بالكاذبين والمخادعين والمضللين) [ص255] فهذه والله كبيرة ، وأن يصف
      ( السلفية ) - كمصطلح - بقوله : ( تلك الكلمة المَيْتَة [2] التي لا تنحط ( ! ! ) إلا
      على واقع يضم أخلاطاً ومذاهب شتى من الناس ) .
      وهذه أكبر !
      اللهم هذا ليس بكلام مسته بركة العلم الشرعي ، واستروح نسائم الأدب
      الإسلامي !
      غرور وادعاء :
      تكثر العبارات والفقرات الثقيلة التي محورها النفس والهوى - والعياذ بالله -
      فهناك من الجمل الفضفاضة الكثير في ثنايا الكتاب ، ونحن نشهد أن الكاتب حاول -
      جهده - أن يكف كثيراً من هذه العبارات التي تتزاحم لتندلق على صفحات كتابه ،
      وتتجسد كلاماً يقرأ وتحسب له الحسابات ، ولكن على رغم من جهده وعنائه في
      كفكفتها ؛ فإن قدراً منها لا بأس به قد غلبه وخرج يتلألأ ويلوح !
      خذ مثلاً قوله [ص69] :
      ( ولابد أن نقول هنا كلمة وجيزة نضمنها عصارة ما هو مدون في المطولات
      والموسوعات التي تناولت هذا الموضوع عموماً ، وهو منهج المعرفة بصورة عامة ،
      والتي ركزت على هذا المدخل الذي نحن بصدده خصوصاً ) .
      انظر ، ضمّن كتابه هذا العصارة ! عصارة ماذا ؟ عصارة ما هو مدون في
      المطولات والموسوعات ، فالمطولات وحدها لا تشفي غليل الشيخ ، بل لا بد من
      الموسوعات ، والمطولات والموسوعات هضمها الشيخ هضماً ، وعصرها عصراً ،
      حتى أخرج لنا هذه الآبدة !
      صدق مَن قال : ( المرء حيث وضع نفسه ) !
      وهذه ثانية :
      ( ومع ذلك فلنتبع هذا الباب ، بباب آخر يزيد من وضوحه ، نضع فيه النقاط
      على الحروف ، وننتقل فيه من البيان النظري الواضح الجلي ! إلى التطبيقات الحية
      كي نسد بذلك كل ثغرة قد يتسلل إلى الذهن منها وسواس ، أو يتشابه من خلالها حق
      بباطل . والله المستعان ) . [ص 94 ] .
      إن الشيخ تعجبه نفسه كثيراً ! وهو معجب بأسلوبه أكثر ! ولو أن مقرّظاً قرّظ
      كتابه بمثل هذا الكلام لصح أن يقال له : مهلاً ، هوّن عليك ، رحمة بالرجل فقد
      قطعت عنقه !
      فليت شعري ، ماذا نقول للرجل وهو يتحدث عن نفسه هكذا ؟ !
      وثالثة :
      اسمعه يصف منهجه :
      ( وسنزداد يقيناً ، على أعقاب ذلك ، بأن هذا المنهج هو الميزان
      والمقياس الوحيد لتصنيف الناس في مجال البحث عن هوياتهم ( ! ) الاعتقادية
      والسلوكية ، في أي عصر من العصور عاشوا ، ومن أي القبائل أو الشعوب
      انحدروا ، وهو المحور الذي أدرنا عليه سائر بحوث هذا الكتاب) .
      [ص 98].
      ونحن نضيف على وصفه منهجه هذه العبارة :
      ( حتى لو أن قائلاً قال : إنه هو الميزان الذي عناه أبو طالب بقوله
      في قصيدته اللامية :
      بميزان قِسطٍ لا يَخيسُ شعيرةً له شاهد من نفسه غير عائل
      لما أبعد !
      ورابعة :
      ( ولقد أصغينا طويلاً ، ونقبنا كثيراً ، فلم نسمع بهذا المذهب في أي
      من العصور الغابرة ! ) [ص231] . لم يقل لنا الشيخ : لمن أصغى ، ولا أين
      نقب ؟ ولكن هذا معلوم بديهة ؛ فقد أصغى طويلاً لأهل العلم ، ونقب كثيراً في
      بطون الكتب ( والمطولات والموسوعات ) وعصرها عصراً ، لن ننسى ذلك أن
      الشيخ يجهد نفسه ، ويحملها على أوعر الطرائق من أجل أن يُجهّل ويُبدّع ويُسخّف
      هؤلاء السلفيين ، ويخرجهم من دائرة أهل السنة والجماعة !
      لقد أتعبت نفسك يا رجل ، ألا تستريح !
      وخامسة أخيرة :
      بعد أن أظهر لنا في كتابه أنه ابن بَجْدة الفقه والأصول ( ومنهج المعرفة
      وتفسير النصوص ) أراد أن يستولي على الأمد فيتسلق إلى علم العربية ،
      فوقع .
      استمع إليه وهو يتمايل ويتخايل :
      ( يدلك على ذلك أن ( بل ) لا تقع إلا بين نقيضين ( ! ) فليس لك أن تقول ،
      وأنت عربي : لست جائعاً بل أنا مضطجع ، وانما تقول : بل أنا شبعان (هكذا ! )
      وليس لك أن تقول : ما مات خالد بل هو تقي ، وانما تقول : بل هو حي ، ولا
      تقول : ما قتل الأمير ، بل هو ذو درجة عالية عند الله ، لأن ثبوت درجته العالية
      عند الله لا ينافي قتله (فافهم ! ) وانما تقول : بل هو ما زال حياً . ) [ص 126] .
      لا يغترّنّ أحد بحسم الشيخ وجزمه في قوله : ( إن بل لا تقع إلا بين نقيضين ).
      فهذا من ( عندياته ) وتهويلاته ، أما كتب النحو ففيها شيء آخر ، قال ابن
      هشام في المُغني :
      ( بل ) حرف إضراب ، فإن تلاها جملة كان معنى الإضراب إما :
      - الإبطال ، نحو : ] وقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ ولَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ [
      [ الأنبياء : 26] ، أي : بل هم عباد ، ونحو ] أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ [
      [ المؤمنون : 70] .
      - وإما الانتقال من غرض إلى آخر ومثاله : ] قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وذَكَرَ
      اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا [ [الأعلى : 4ا-6ا] ، ونحو : ] ولَدَيْنَا
      كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وهُمْ لا يُظْلَمُونَ * بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا [ [المؤمنون
      62-63] ، وهي في ذلك كله حرف ابتداء - لا عاطفة - على الصحيح .
      ومن دخولها على الجملة قوله :
      بل بلدٍ ملءُ الفجاج قَتَمُهْ
      إذ التقدير : بل رب موصوف بهذا الوصف قطعته . ووهم بعضهم فزعم أنها
      تستعمل جارّة .
      وإن تلاها مفرد فهي عاطفة .
      ثم إن تقدمها أمر أو إيجاب ك ( اضرب زيداً ، بل عمراً ، وقام زيد بل عمرو )
      فهي تجعل ما قبلها كالمسكوت عنه فلا يحكم عليه بشيء ، وإثبات الحكم لما بعدها .
      وإن تقدمها نفي أو نهي فهي لتقرير ما قبلها على حالته ، وجعل ضده لما بعده ،
      نحو : ( ما قام زيد بل عمرو ولا يقم زيد بل عمرو ) [ مغني اللبيب ، ص 151] .
      وقد يلومنا بعض القراء أن وضعنا هذا المثال من تعالُم الشيخ تحت عنوان :
      ( غرور وادعاء ) ولم نضعه تحت عنوان : ( التواء وتهويل ) فنقول :
      الالتواء والتهويل ليسا بعيدين كثيراً من الغرور والادعاء ، بل بينهما لُحمة
      وكيدة وعلاقة وطيدة ، تهويل يؤدي إلى الادعاء ، وغرور يسوق إلى التهويل . ففي
      هذا المثال ؛ لولا الغرور والادعاء والإعجاب بالنفس التي تدفع بالشيخ لتجشم مثل
      هذه الصعاب لما هوّل علينا بهذه الأمثلة التي يريد من ورائها إيهام قرائه أنه قادر
      على الفتوى ليس في ( السلف والسلفية ) فحسب ؛ بل في العربية أيضاً ! وأمامك -
      فانظر - فتاواه في هذين الشأنين .
      *يتبع *
      ________________________
      (1) طبعاً يستسيغ الشيخ أن يضحك على هذا الموقف ، ولكن يبكي مَن ماذا وعلى ماذا ؟ ! .
      (2) الضبط للكلمة من الشيخ نفسه ، ولعل هذا الضبط أشفى لصدره ! يقول الشيخ الطاهر بن عاشور
      في تفسيره ( التحرير والتنوير ) ، 2/111 : والميتة - بالتخفيف - هي في أصل اللغة : الذات التي
      أصابها الموت ، فمخففها ومشددها سواء ، كالميْت والميّت ، ثم خُص المخفف مع التأنيث بالدابة
      التي تقصد ذكاتها إذا ماتت بدون ذكاة فقيل : إن هذا من نقل الشرع ، وقيل : هو حقيقة عرفية قبل
      الشرع وهو الظاهر بدليل إطلاقها في القرآن على هذا المعنى .

      (( مجلة البيان ـ العدد [‌ 36 ] صــ ‌ 7 رجب 1411 ـ فبراير 1991 ))

      تعليق


      • #4
        رد: حول البوطي وعقيدته وأمور أخرى

        وقفة البوطي مع ابن تيمية
        عبد القادر حامد
        لا تقل : كيف يكون هذا ؟ وكيف يستوقف البوطي ابن تيمية ؟ فهكذا كان !
        افترض أنه استوقفه ! ولكن هل وقف ، رحمه الله ، وهل أصاخ لتحرشات البوطي
        بعد ستمائة وثمانين سنة من وفاته ، لقد تُحرِّش به كثيراً في حياته وبعد مماته إلى
        الآن ، ولم يهادن ، ولم ينحن ، بل هاهو ما يزال يزداد على التحرشات سطوعاً
        وانتشاراً . لقد تعاوره ناس من طبقات شتى ، وناشته أسلحة عمالقة وأقزام ، كلهم
        يحاول جهده ، ويجرب حظه ! ولكن أين هؤلاء ، ومن يذكرهم ؟ ! ومن يقرأ لهم ؟
        نحن نجيب : لا يقرأ لهم - في الأغلب - إلا من يريد أن يجرب حظه مع ابن
        تيمية من جديد ، ليجرد عليه أسلحة ثبت أنها إما كليلة أو فليلة .
        مجلدات ، رسائل مجردة ، فتاوى ، قصائد ، ترجمات .. كلها ساهمت في هذه
        الملحمة التي بدأت في حياة ابن تيمية ولمّا تنته بعد : أهواء يختلط فيها الحسد
        والغيرة ، بالتصوف الأعجمي ، بالعداء للسنة ، بالحقد على الصحابة ، بالحرص
        على المنصب ، بحب الظهور عند جهة مدخولة العقيدة ، بالشعوبية المبنية على كره
        كل ما هو عربي ، بالتعصب للمذاهب والأشخاص ، بكثير مما يصعب حصره من
        الدوافع التي تظهر خطوطها في كلام أصحابها بادية للعيان ، أو تلك التي تتوارى
        وتتدارى وتتلفف وتتدثر ، ولكن تدل عليها رائحتها وفحيحها من وراء الكلمات . كل
        ذلك وأكثر منه قد أُرصِد ويُرصَدُ كي يخفت صوت ابن تيمية ، ويسدل الستار على
        المنهج الذي نصب له جهده وحياته . ولكن هل نجح ذلك الإرصاد في خفت صوته
        وتغييب منهجه ؟ ما أحرى ابن تيمية بمعنى قول المتنبي :
        كم قد قتلتُ وكم قد متُّ عندكم ثم انتفضتُ فزال القبر والكفن
        قد كان شاهد دفني قبل قولهم جماعة ، ثم ماتوا قبل من دفنوا
        هذا أمر ومنهج قد استتب ، وهو إلى قوة وانتشار بحمد الله ومنه وكرمه .
        إننا لا ندافع عن ابن تيمية ، فابن تيمية يدافع عن نفسه بأسلوبه ، وعلى
        الرغم من ضياع كثير مما كتب ، فيما بقي من تراثه كفاء خصومه ، وإذا أشرنا إلى
        فقرات من آرائه في مؤلفاته ، فهذا ليس تعبيراً عن تعصب للرجل ، بل إنصافاً
        للحق المجرد الذي نؤمن به وندين الله عليه ، فإذا أحبه محبوه فللحق الذي ينافح عنه ،
        وإذا تحامل عليه من تحامل فللباطل الذي يمدون إليه بسبب أو أكثر .
        كما لا نظن بابن تيميه العصمة ، فهو بشر يصيب ويخطئ ، ولكن المناقشة
        العلمية شيء ، والتحامل الصارخ ، والتشفي العاري شيء آخر .
        لا زال مغروساً في ذاكرتي ذلك الموقف الذي كنت عاجزاً عن فهمه وتحليله
        يوم حدث ، وذلك أني كنت طالباً في كلية الشريعة في دمشق ، وكانت مقررة علينا
        مادة سموها : الفقه المقارن ، وكان تدريسها مسنداً للدكتور الذي نناقش بعض ما
        جاء في كتابه هذا ، وكان صنف ورقات تحتوي عدة مسائل فقهية خلافية . وكان
        من بين هذه المسائل مسألة : الطلاق بلفظ الثلاث ، هل يقع ثلاثا أم واحدة ، وهي
        مسألة مشهورة ، وابن تيميه يخالف في هذه المسألة المفتى به عند الفقهاء ، وطبيعي
        أن الشيخ البوطي ينصر رأي الفقهاء ولا لوم عليه في ذلك ، لكن الذي استوقفني في
        ذلك الوقت أمران :
        1- وضع الأدلة وسياقها كما ناقشها البوطي حتى ننتهي إلى ما انتهينا إليه من
        تأييد رأي الجمهور ، فعلى الرغم من الجهد الواضح والحشد وكثرة الأقوال ، إلا أنه
        ظل في أعماق النفس شيء من هذه الاستدلالات وطريقة عرضها .
        2- الصورة التي عرض البوطي علينا المسألة فيها .
        فلا أزال أذكر أنه عندما عرض الأدلة وبدأ يناقشها تغيرت صورته التي
        أعرفها أنا على الأقل ، فارتفعت لهجته واحتدت ، وهذه الحدة كانت ترافق عرض
        الحجج التي يعتمدها ابن تيمية ، بل كنت أحس أن الشيخ - وهو الهادئ الرزين في
        نظري -كان يتهيأ للنهوض عن كرسيه بغضب ظاهر ليدفع خصماً أمامه لم يبق له
        معه كلام ، ولا بد من اللجوء إلى لغة الدفع باليد ، بعد عجز لغة الحجة والبرهان .
        طبعاً لم يخلف هذا الموقف في نفسي شيئاً نحو الشيخ حتى عندما سعر الحرب بينه
        وبين خصومه الذين يحرص على نعتهم بأقبح الصفات ، لم تكن هذه الحروب من
        اهتماماتي ، فلم أتابع ما قال كل طرف في الآخر . حتى قرأت له هذا الكتاب ،
        فعجبت أن يكتبه دكتور سلخ مدة ليست بالقصيرة من عمره يدرس ويحاضر ويؤلف .
        هل النضج يؤدي إلى هذه النتيجة ؟ أم هي فتنة يفتن بها الشيخ بعد هذا العمر ؟
        أم هذا ديدنه في سائر إنتاجه ؟
        وبعد أن قرأت « وقفته مع ابن تيمية » أدركت تلك الصورة الغريبة ، التي
        عجزت عن تفسيرها في ذلك الوقت المبكر ، لأنني لم أكن قد اطلعت على شيء
        كاف مما كتب ابن تيمية ، تؤهلني لإدراك ما وراء الآكام .
        تتجمع خصائص البوطي في التأليف والجدل ، وتحتشد على نحو بارز
        وطريف حينما يتصدى لابن تيمية (منبهاً إلى أخطاء وقع فيها ومعتذراً له ! ) ،
        وحتى يكون لتصديه هذا مؤيدون فلا بد من اللجوء إلى رمز له جمهوره ، وهكذا فما
        إن افتتح البوطي اللعبة التي سماها : « وقفة مع ابن تيمية » ، حتى دلف وألقى
        الرمز بين يدي جمهوره ! هذا الرمز هو الغزالي ..
        والمجيء بالغزالي إلى هذا المعمعان حيلة يراها البوطي ناجحة ، فلا بد من
        إثارة العواطف ، وهذه لا تثور إلا بندب وتفجع وتوجع ! ولا بد أن يكون موضوع
        هذا الندب والتفجع والتوجع رمزاً معروفاً ، ولعله يستخدم هذه الوسيلة تأثرً بالذين
        يستغلون حب المسلمين قاطبة لآل البيت من أجل الوصول إلى أهـداف أخرى .
        وهو الذي تحول بآخره إلى الاحتطاب بحبلهم !
        وسبب آخر وهو تحويل المعركة من طرفين يشك الجمهور في تكافئهما ؟
        وهما : البوطي وابن تيمية ، إلى طرفين قد يوجد من الناس من يقول بتكافئهما وهما :
        الغزالي وابن تيمية ! والتبعة على البوطي ستكون أخف وأهون - أو هكذا يظن
        - إذا ما جعل هذين الإمامين يتصارعان وعندها قد يقف على مبعدة منهما يفرك
        يديه ضاحكاً قائلاً :
        وكتيبةٍ لبستها بكتيبةٍ حتى إذا التبست نفضتُ لها يدي
        يقول البوطي [ص 160] :
        « ولكن ابن تيمية أنحى باللائمة- على الغزالي بسبب خوضه في تلك
        المصطلحات والمقاييس (مصطلحات ومقاييس الفلاسفة) واتهمه أكثر من مرة بما
        كان جديراً به أن يشكره عليه ، انطلاقاً من قراره الجازم بأن الاشتغال بعلم الكلام
        لإحقاق الحق الذي جاء به القرآن والسنة ، عمل مبرور لا حرج فيه ولا مانع منه .
        ويضع البوطي على طريقته في الإيهام والتلبيس في الحاشية ما يشير إلى أن
        مضمون ما قاله موجود في صفحة 184 من الجزء التاسع من مجموع فتاوى ابن
        تيمية .
        ولكن - قبل أن نرجع إلى الموضوع المشار إليه - ما مضمون كلامه ؟
        إن مضمونه أن ابن تيمية :
        1 - أنحى باللائمة على الغزالي بسبب خوضه في مصطلحات ومقاييس
        الفلاسفة .
        2- اتهمه أكثر من مرة بما كان جديراً أن يشكره عليه !
        ولكن ما هذا الذي كان يجب على ابن تيمية أن يشكر الغزالي عليه ؟ ! لقد
        تركه البوطي مبهماً !
        3- إن لابن تيمية قراراً جازماً لا مثنوية فيه بأن الاشتغال بعلم الكلام لإحقاق
        الحق الذي جاء به القرآن والسنة عمل مبرور لا حرج فيه ولا مانع منه .
        نقول :
        أما إن لابن تيمية كلاماً في الغزالي فلا ينكر ذلك أحد ، وأما أن يكون هذا
        الكلام حقاً أو باطلاً في نفسه فهذا متروك للعلماء ليقرروه ، وهو مباح لكل ناظر
        وباحث - لكن بشروط البحث والنظر - لينظر فيه ويبحث عن وجه الحق فيما
        احتواه . ولكن غير المباح ، بل المعيب ؟ أن تدعى دعاوى لا دليل عليها لمجرد
        تشويه السمعة والصد ليس إلا ! وإذا كان البوطي غيوراً على من يحب - وهذا حقه
        - فاللائق به أن يجمع أطراف كلام ابن تيمية في الغزالي ، وأن يناقش ذلك مناقشة
        العلماء ، وأن لا يقصقص أطراف النقول والاستشهادات حتى توافق هواه ، وتتفق
        مع ما في نفسه من دخن على ابن تيمية .
        ولنعد إلى ص 184 من الجزء التاسع من مجموع الفتاوى .
        يتكلم ابن تيمية عن عيب نظار المسلمين طريق أهل المنطق ، وبيانهم
        قصورها وعجزها ، ورأيهم في المنطق جملة فيقول :
        « ومازال نظار المسلمين يعيبون طريق أهل المنطق ، ويبينون ما فيها من
        العي واللكنة ، وقصور العقل وعجز النطق ؛ ويبينون أنها إلى إفساد المنطق العقلي
        واللساني أقرب منها إلى تقويم ذلك . ولا يرضون أن يسلكوها في نظرهم
        ومناظراتهم ، لا مع من يوالونه ولا مع من يعادونه .
        وإنما كثر استعمالها في زمن « أبي حامد » ؛ فإنه أدخل مقدمة من المنطق
        اليوناني في أول كتابه « المستصفى » ، وزعم أنه لا يثق بعلمه [1] إلا من عرف
        هذا المنطق .
        وصنف فيه « معيار العلم » و « محك النظر » ؛ وصنف كتاباً سماه :
        « القسطاس المستقيم » ، ذكر فيه خمس موازين : الثلاث الحمليات ؛ والشرطي
        المتصل ، والشرطي المنفصل . وغير عباراتها إلى أمثلة أخذها من كلام المسلمين ،
        وذكر أنه خاطب بذلك بعض أهل التعليم ، وصنف كتاباً في تهافتهم ، وبين كفرهم
        بسبب مسألة قدم العالم ، وإنكار العلم بالجزئيات ، وإنكار المعاد وبين في آخر كتبه
        أن طريقهم فاسدة ؛ لا توصل إلى يقين ؟ وذمها أكثر مما ذم طريقة المتكلمين .
        وكان أولاً لا يذكر في كتبه كثيراً من كلامهم : إما بعبارتهم ؟ وإما بعبارة أخرى ،
        ثم في آخر أمره بالغ في ذمهم ؛ وبين أن طريقهم متضمنة من الجهل والكفر ما
        يوجب ذمها وفسادها أعظم من طريق المتكلمين ؟ ومات وهو مشتغل بالبخاري
        ومسلم .
        والمنطق الذي كان يقول فيه ما يقول ؟ ما حصل له مقصوده ، ولا أزال عنه
        ما كان فيه من الشك والحيرة ؛ ولم يغن عنه المنطق شيئاً .
        ولكن بسبب ما وقع منه في أثناء عمره وغير ذلك ، صار كثير من النظار
        يدخلون المنطق اليوناني في علومهم ، حتى صار من يسلك طريق هؤلاء من
        المتأخرين يظن أنه لا طريق إلا هذا ، وأن ما ادعوه من الحد والبرهان هو أمر
        صحيح مسلم عند العقلاء ، ولا يعلم أنه مازال العقلاء والفضلاء من المسلمين
        وغيرهم يعيبون ذلك ويطعنون فيه . وقد صنف نظار المسلمين في ذلك مصنفات
        متعددة ، وجمهور المسلمين يعيبونه عيباً مجملاً لما يرونه من آثاره ولوازمه الدالة
        على ما في أهله مما يناقض العلم والإيمان ويفضي بهم الحال إلى أنواع من الجهل
        والكفر والضلال » . [مجموع الفتاوى 9/184 -185] .
        هذا ما جاء فيه ذكر الغزالي في هذا الموضع ، فهل فيه اتهامات ؟ فقد قال ابن
        تيمية أن نظار المسلمين يعيبون طريق أهل المنطق ، وأن هذه الطريق كثر
        استعمالها منذ زمن الغزالي ، وأنه أدخل مقدمة من المنطق اليوناني في أول كتابه
        «المستصفى » ، وزعم - أي الغزالي - أنه لا يوثق بعلم من لا يعرف المنطق ،
        وصنف في المنطق كتباً مثل : « معيار العلم » و « محك النظر » ، وصنف أيضاً
        « القسطاس المستقيم » و « تهافت الفلاسفة » ، فهل هذا كذب على الغزالي ؟
        وبين أن الغزالي بيَّن كفر الفلاسفة وأسبابه ، وكذلك ادعى على الغزالي أنه
        حكم بفساد طريق المعرفة على طريق الفلاسفة وادعى ذمه لطريق المتكلمين ؛ فهل
        هذه مجرد دعاوى لا دليل عليها ، أم أن أدلتها مبثوثة في كتب الغزالي المعروفة ؟
        وكذلك ذكره التطور الذي حصل لأبي حامد وأنه مات وهو مشتغل بالبخاري
        ومسلم ، هل هذه دعوى غير صحيحة ؟ أم أنها لوم وشيء معيب أن يسند للغزالي ؟
        هل في قول من قال في عالم من العلماء : إنه قال كذا‎ ، وفعل كذا وبيان
        أسباب ذلك ظلم لهذا العالم أو تهمة أو لوم ؟
        ثم ما معنى قولك :
        « بل إن ابن تيمية - رحمه الله - ازداد حماسة في الهجوم على المنطق
        ومقاييسه واصطلاحاته ، حتى لكأن فرط الحماسة أنساه ما قد قرره بشأن علم الكلام ،
        وجواز الاستفادة من اصطلاحات المناطقة وأساليبهم في بيان الحق ، فأخذ يقرر
        بأن ما يعتمده النظار من أهل الكلام من الأدلة العقلية شيء لا حاجة إليه ولا موجب
        للاشتغال به ؛ فإن القرآن جاء بما يغني عنه » ، [ص 160] .
        لماذا تغار على المنطق غيرتك على الغزالي حتى لكأنهما توأمان ؟ ، وهل
        علم المنطق وعلم الكلام شيء واحد في نظرك ؟ إن ابن تيمية لم يخرج عن ما قرره ،
        ولم يناقض نفسه -كما يحلو لك أن تثبت ، وتقيم ما تسميه أنت أدلة على ذلك -
        فالموضع الذي تشير إليه على أن ابن تيمية تحدث فيه طويلاً في علم الكلام ، وحكم
        دراسته وممارسته والاحتجاج في مسائل العقائد الإسلامية به ؛ وانتهى بحمد الله إلى
        أن ممارسته ليست بدعة ، والاعتماد عليه في الدفاع عن العقائد الإسلامية ليس
        محرماً ، إذا لم يقصد به الاستدلال بالأدلة الفاسدة أو تبني ما قد يكون من المقولات
        الباطنة !
        نقول : هذا الفعل منك تحميل لكلام ابن تيمية ما لا يحتمل ، وعلى طريقتك
        في البتر والقصقصة والتشويه تستدل على ما تريده ، وتلوي كلام ابن تيمية عن
        مقصده ، متوهماً أنك بهذا البتر والتشويه تصير كلامه ملائماً لهواك .
        ولكن هيهات ! فأي عاقل يقرأ كلام ابن تيمية في سياقه التام يكتشف استهانة
        وتلاعباً بالنصوص لا يليقان بطلبة العلم فضلاً عن الذين نصبوا أنفسهم للتدريس
        والإرشاد .
        ولو وضعنا - هنا - الكلام الذي يحيل على شذراته ؛ بتمامه ؛ لطال
        الموضوع ، ولأمللنا القارئ ، فليرجع من يشاء إلى ذلك الموضوع من مجموع
        الفتاوى 9/293 - 327 ، وليقرأ كلاماً كانت له روح هناك ، فجاء البوطي وانتزع
        روحه ، وجعله عضين ، وقدمه على أنه هو الذي يقول به ابن تيمية !
        والغريب أنه لا يفطن لهذا التشويه ؛ فيبني عليه ، أو يستنتج منه آراء شائهة
        من مثل قوله : « فإن أحداً منهم لم يتبن المضامين الباطلة للفلاسفة والمناطقة
        اليونانيين » [ص 159] .
        وقوله : « وقد انعكس هذا الاضطراب في كلام ابن تيمية على أذهان كثير
        ممن يقرءون له بسطحية ودون صبر أو استيعاب » [ص 61] ، ففي كلامه هذا
        أمور :
        1- وصف لكلام ابن تيمية بالاضطراب .
        2- انعكاس هذا الاضطراب على أذهان كثير ممن يقرءون لابن تيمية
        بسطحية ودون صبر أو استيعاب ، وهذه العبارة ملتوية أشد الالتواء ، وبيان ذلك أن
        وصف كلام ابن تيمية بالاضطراب تركه البوطي معلقاً ، حتى إذا قال له قائل : يا
        شيخ ، كثير عليك أن تحكم على كل كلام ابن تيمية بالاضطراب ، لربما قال : لا ،
        أنا لا أقصد جميع كلامه ؟ وإنما أصف بالاضطراب هذه الفقرة التي نقلتها من
        الجزء التاسع ص 225 من مجموع الفتاوى ! فيقال له : حتى على هذه النية ، أين
        الاضطراب في هذا الكلام ؟ وهل هذه الفقرة وحدها كافية لبلبلة أفكار من يحكم
        عليهم البوطي هذا الحكم الجائر ؟ فإن كان كلام ابن تيمية مضطرباً كله فهو يعني
        قراءه ، وأنت منهم ! إلا أن تحصن ذهنك من الاضطراب بالابتعاد عنه ، والفرار
        منه فرارك من مجذوم ! وياليتك فعلت هذا ؟ إذن لكفيت واستكفيت ، ولكن ها أنت
        من قراء ابن تيمية ! لكن استغفر الله ، فقد كدنا ننسى ما قلت ، فأنت من القلة القليلة
        التي أفادها مفهوم كلامك السابق ، والتي تقرأ له بعمق وصبر واستيعاب ! ، فالحمد
        لله الذي عصمك - عند نفسك - من الاضطراب !
        مثال من المبالغة والتحدي الفارغ :
        قد يظن ظان أن هجوم البوطي على ابن تيمية ، واستظهاره بالغزالي آت من
        دراسة مستفيضة لعلم الرجلين ، ومن تعمق فيما كتبا ، ثم من تبيُّن عادل لما كتبه
        ابن تيمية حول الغزالي ؛ أو حول المسائل العلمية التي تعرض لها ، ومن توصل
        إلى أن وجه الحق في هذه المسائل كان إلى جانب الغزالي ...
        والحق أن كل ذلك لم يكن - وسوف نبرهن على ذلك - وإنما الذي كان أن
        البوطي
        سمع من المتعصبين مثله أن ابن تيمية عاب على الغزالي ، وهو بنظر
        هؤلاء (قدس الأقداس) الذي لا يُمس ولا يُنتقد .
        ومن جهة ثانية يريد البوطي أن يجعل هذه المشكلة - انتقاد ابن تيمية للغزالي
        - سلاحاً من الأسلحة التي يرمي ابن تيمية بها ، لعله يصيب منه مقتلاً بعد أن تيقن
        أن علمه وآراءه لم تمت ، وأنه لا زال حياً على الرغم من قول متعصب شعوبي
        حاقد من المتأخرين [2] فيه : « وحيث لم يكن له شيخ يرشده في العلوم النظرية
        أصبح علمه لا يرتكن على شيء وثيق خليطاً كثير التناقض ، توزعت مواهبه في
        أهواء متعبة ، ثم أفضى إلى ما عمل وزالت فتنته برد العلماء عليه » .
        ولا شك أن البوطي قد مر بهذه العبارة المظلمة ، ولا ندري هل أمَّن عليها ؟
        أم أشاح عنها وجهه لقبحها وعفونة رائحتها ؟ ! إن كان أمَّن عليها فقد أمَّن على
        كذب ، وإن كان أشاح عنها فمضمون كلامه عن ابن تيمية مخالفة عملية لهذه
        الإشاحة !
        وحتى نقيم الدليل على مجازفات البوطي ننقل فقرة من فقر كتابه تدلك على ما
        حكمنا به عليه من قلة التعمق والتبين التي سببها العجلة أو الهوى أو كلاهما ، يقول
        عن الغزالي :
        « ... وأما أنه قد انطلى عليه شيء من أوهامهم أو انزلق إلى أي من الباطل
        الذي ضلوا في أوديته ، فهذا ما شهدت الدنيا كلها بنقيضه ، بل شهد بنقيض ذلك ابن
        تيمية نفسه (سبحان الله) ، وما عرف تاريخ الفلسفة رجلاً مزق الأوهام الفلسفية
        بمباضع المقاييس الفلسفية ذاتها (هذه استعارة مكنية ! ) ، وانتصر للحق الذي دل
        عليه كتاب الله عز وجل ، بالاصطلاحات الفلسفية نفسها كالإمام الغزالي »
        [ص 163] .
        ليس ابن تيمية وحده من ينقض أمثال هذه الفقرة التهويلية التي جادت بها
        قريحة الشيخ البوطي ، بل هو عندما يشير إلى أن الغزالي تأثر بأساليب الفلاسفة
        ينقل كلام العلماء قبله من جهة ، ويعتذر للغزالي من جهة أخرى ؛ لأنه لم يتيسر له
        العلم بالسنة ، التي تعصم الإنسان من العدوى بطرق الفلاسفة وأساليبهم ، ومعروف
        أن الغزالي قال : « بضاعتي في الحديث مزجاة » ، وكتبه - ومن أشهرها الإحياء
        - تشهد بذلك (ولا ندري أينكر البوطي ذلك ؟ ! ) ، وابن تيمية في نقده ينهج المنهج
        الأعدل ، فيبين أوهامه وأسبابها وعذره فيها ، ويذكر ما له من محاسن ، ويذكر
        أقوال العلماء فيه فلا يقبل ما جاء به دون نقاش ، ولا يرد كل ما جاء به دون دليل ،
        يقول عن الغزالي :
        « ولكن كان هو وأمثاله -كما قدمت - مضطربين لا يثبتون على قول ثابت ؛
        لأن عندهم من الذكاء والطلب ما يتشوفون به إلى طريقة خاصة الخلق ، ولم يقدر
        لهم سلوك طريق خاصة هذه الأمة ، الذين ورثوا عن الرسول - صلى الله عليه
        وسلم - العلم والإيمان ، وهم أهل حقائق الإيمان والقرآن ، - كما قدمناه - ، وأهل
        الفهم لكتاب الله والعلم ، والفهم لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وإتباع
        هذا العلم بالأحوال والأعمال المناسبة لذلك ، كما جاءت به الرسالة .
        ولهذا كان الشيخ « أبو عمرو بن الصلاح » يقول - فيما رأيته بخطه - :
        « أبو حامد كثر القول فيه ومنه ، فأما هذه الكتب (يعني المخالفة للحق) فلا يلتفت
        إليها، وأما الرجل فيسكت عنه ، ويفوض أمره إلى الله » . ومقصوده : أنه لا
        يذكر بسوء ، لأن عفو الله عن الناسي والمخطئ وتوبة المذنب تأتي على كل ذنب ،
        وذلك من أقرب الأشياء إلى هذا وأمثاله ، ولأن مغفرة الله بالحسنات منه ومن
        غيره ، وتكفيره الذنوب بالمصائب تأتي على محقق الذنوب ، فلا يقدم الإنسان على
        انتفاء ذلك في حق معين إلا ببصيرة ، لاسيما مع كثرة الإحسان والعلم الصحيح ،
        والعمل الصالح والقصد الحسن . وهو يميل إلى الفلسفة ، لكنه أظهرها في قالب
        التصوف والعبارات الإسلامية .
        ولهذا : فقد رد عليه علماء المسلمين ، حتى أخص أصحابه أبو بكر بن
        العربي ، فإنه قال : « شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة ، ثم أراد أن يخرج
        منهم فما قدر » . وقد حكي عنه من القول بمذاهب الباطنية ما يوجد تصديق ذلك
        في كتبه . ورد عليه أبو بكر الطرطوشي ، ورد عليه أبو الحسن المرغيناني ورفيقه ،
        رد عليه كلامه في مشكاة الأنوار ونحوه ، ورد عليه الشيخ أبو البيان ، والشيخ
        أبو عمرو ابن الصلاح ، وحذر من كلامه في ذلك هو وأبو زكريا النواوي وغيرهما ،
        ورد عليه ابن عقيل ، وابن الجوزي ، وأبو محمد المقدسي وغيرهم » . [مجموع
        الفتاوى 4/65-66] .
        ويقول عن كتابه الإحياء :
        « و (الإحياء) فيه فوائد كثيرة ؛ لكن فيه مواد مذمومة ، فإنه فيه مواد فاسدة
        من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد ، فإذا ذكر معارف الصوفية كان
        بمنزلة من أخذ عدواً للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين . وقد أنكر أئمة الدين على
        « أبي حامد » هذا في كتبه ، وقالوا : مرضه (الشفاء) يعني شفاء ابن سينا في
        الفلسفة .
        وفيه أحاديث وآثار ضعيفة ؛ بل موضوعة كثيرة . وفيه أشياء من أغاليط
        الصوفية وترهاتهم . وفيه مع ذلك من كلام المشايخ الصوفية العارفين المستقيمين
        في أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة ، ومن غير ذلك من العبادات والأدب ما
        هو موافق للكتاب والسنة ، ما هو أكثر مما يرد منه ، فلهذا اختلف فيه اجتهاد الناس
        وتنازعوا فيه » . [مجموع الفتاوى10/551-552] .
        وهكذا يتبين لنا من هاتين الفقرتين السابقتين حقيقة الدعوة العريضة من قول
        البوطي
        : « فهذا ما شهدت الدنيا كلها بنقيضه » ! ياليته ذكر لنا أسماء من أهل هذه
        الدنيا ! وقوله كذلك : « بل شهد بنقيض ذلك ابن تيمية نفسه » ! فهلا ذكر الشيخ
        أين شهد ابن تيمية بنقيض ذلك ؟ ! وما تبق من فقرة الشيخ فهو صراخ وحدة
        وتحدي « قبضايات » لا علماء .
        على أننا نضع هنا بين يدي البوطي درساً في النقد يعلمناه ابن تيمية لعله
        ينتفع به ، فتهدأ نفسه وتعتدل ، ويضعه نصب عينيه إذا كتب في المستقبل معلماً
        ومرشداً وناقداً ، إذن ، يكفر عن تحامله وأخطائه التي يقتحم فيها بدافع العجلة
        والهوى ، ولا ريب عندنا وعند الشيخ أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في
        الباطل .
        يقول ابن تيمية في معرض ذكره شيئاً مما ينتقد على أبي ذر الروي واعتذاره
        له ، ولمن ينتقد عليه شيء من العلماء ، وذكره ما هو معروف عنه من العلم والدين
        والمعرفة بالحديث والسنة ، وغير ذلك من المحاسن والفضائل :
        « ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساع مشكورة ، وحسنات
        مبرورة ، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع ، والانتصار لكثير من أهل
        السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم ، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل
        وإنصاف ، لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداءً من المعتزلة ، وهم
        فضلاء عقلاء احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه ، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما
        أنكره المسلمون من أهل العلم والدين ، وصار الناس بسبب ذلك : منهم من يعظمهم ؛
        لما لهم من المحاسن والفضائل ، ومنهم من يذمهم ، لما وقع في كلامهم من البدع
        والباطل ، وخيار الأمور أوساطها .
        وهذا ليس مخصوصاً بهؤلاء ، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين ،
        والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات ؟ ويتجاوز لهم عن السيئات ،
        ] رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولإخْوَانِنَا الَذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ ولا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا
        رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ [ [الحشر 10] .
        ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول -صلى الله
        عليه وسلم- وأخطأ في بعض ذلك فالله يغفر له خطأه ، تحقيقاً للدعاء الذي استجابه
        لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا : ] رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [ [البقرة 286] .
        ومن اتبع ظنه وهواه فأخذ يشنع على من خالفه بما وقع فيه من خطأ ظنه
        صواباً بعد اجتهاده ، وهو من البدع المخالفة للسنة ، فإنه يلزمه نظير ذلك أو أعظم
        أو أصغر فيمن يعظمه هو من أصحابه ، فقلّ من يسلم من مثل ذلك في المتأخرين ،
        لكثرة الاشتباه والاضطراب ، وبعد الناس عن نور النبوة وشمس الرسالة الذي به
        يحصل الهدى والصواب ، ويزول به عن القلوب الشك والارتياب ، ولهذا تجد
        كثيراً من المتأخرين من علماء الطوائف يتناقضون في مثل هذه الأصول ولوازمها ،
        فيقولون القول الموافق للسنة ، وينفون ما هو من لوازمه ، غير ظانين أنه من
        لوازمه ، وبقولون ما ينافيه ، غير ظانين أنه ينافيه ، ويقولون بملزومات القول
        المنافي الذي ينافي ما أثبتوه من السنة ، وربما كفروا من خالفهم في القول المنافي
        وملزوماته ، فيكون مضمون قولهم : أن يقولوا قولاً ويكفروا من يقوله ، وهذا يوجد
        لكثير منهم في الحال الواحد لعدم تفطنه لتناقض القولين ، ويوجد في الحالين ،
        لاختلاف نظره واجتهاده .
        وسبب ذلك ما أوقعه أهل الإلحاد والضلال من الألفاظ المجملة ، التي يظن
        الظان أنه لا يدخل فيها إلا الحق ، وقد دخل فيها الحق والباطل ، فمن لم ينقب عنها
        أو يستفصل المتكلم بها - كما كان السلف والأئمة يفعلون - صار متناقضاً أو مبتدعاً
        ضالاً من حيث لا يشعر .
        وكثير ممن تكلم بالألفاظ المجملة المبتدعة ، كلفظ الجسم والجوهر والعرض
        وحلول الحوادث ونحو ذلك ، كانوا يظنون أنهم ينصرون الإسلام بهذه الطريقة ،
        وأنهم بذلك يثبتون معرفة الله وتصديق رسوله ، فوقع منهم من الخطأ والضلال ما
        أوجب ذلك ، وهذه حال أهل البدع كالخوارج وأمثالهم ، فإن البدعة لا تكون حقاً
        محضاً موافقاً للسنة ، إذ لو كانت كذلك لم تخف على الناس ، ولكن تشتمل على حق
        وباطل ، فيكون صاحبها قد لبس الحق بالباطل : إما مخطئاً غالطاً ، واما متعمداً
        لنفاق فيه وإلحاد . كما قال تعالى : ] لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُوا
        خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ وفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [ [التوبة 47] . فأخبر أن المنافقين لو
        خرجوا في جيش المسلمين ما زادوهم إلا خبالاً ، ولكانوا يسعون بينهم مسرعين ،
        يطلبون لهم الفتنة ، وفي المؤمنين من يقبل منهم ويستجيب لهم : إما لظن مخطئ ،
        أو لنوع من الهوى ، أو لمجموعهما ؛ فإن المؤمن إنما يدخل عليه الشيطان بنوع من
        الظن واتباع هواه ، ولهذا جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه
        قال : « إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ، ويحب العقل الكامل عند
        حلول الشهوات » .
        وقد أمر المؤمنين أن يقولوا في صلاتهم : ] اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ *
        صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [ [الفاتحة 6-7] ،
        فالمغضوب عليهم عرفوا الحق ولم يعملوا به ، والضالون عبدوا الله بلا علم .
        ولهذا نزه نبيه عن الأمرين بقوله : ] وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ
        ومَا غَوَى [ [النجم 1-2] ، وقال تعالى : ] واذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وإسْحَاقَ ويَعْقُوبَ
        أُوْلِي الأَيْدِي والأَبْصَارِ [ [ص 45] . [درء تعارض العقل والعقل 2/102 - 105] .
        صورة ابن تيمية كما رسمها البوطي :
        إنه لشيء مؤسف لي أن أجمع خطوط صورة ابن تيمية كما رسمتها ريشة
        البوطي
        الصناع ، وأبرزها للقراء ؛ حى يطلعوا على هذا الفن الذي يضطلع به
        الرجل ويأخذ به نفسه ، وبادئ ذي بدء فإني أهـمس في أذن الشيخ البوطي همسة
        لعلها تفيده في دنياه ، وهي أن في هذا العصر - عصر ثقافة التلفاز - قد شاع هذا
        النوع من الكتاب الذين يكتبون لهذا الجهاز ، ويغذون برامجه بإنتاجهم ، فيكتبون
        قصصاً وحكايات يستخدمها ويعتمدها منتجو هذه البرامج والمسلسلات .
        وقد كشفت في تصوير الشيخ لابن تيمية - رحمه الله - ، هذه الموهبة النادرة
        في التصوير الذي يناسب أهـداف أصحاب هذه المسلسلات ومن يقف وراءهم ،
        وبخاصة إذا كانت مادتها تتعلق بشخصيات إسلامية تاريخية لها دور في البناء
        الاجتماعي والفكري والحضاري للمسلمين ، فتراهم ينتقون من الكتابات أكثرها
        سطحية وتشويهاً ، أو يتعاقدون مع « خياطي » الكتابة الذين يكتبون لا عن مبدأ أو
        عقيدة ، خلا عقيدة الارتزاق (والشيخ البوطي ليس من هؤلاء) ، فيسطون على
        الكتب والمراجع ، ويقصون منها ما يناسب شروط العقد ! ويفصلونه زياً على
        حسب الطلب ، صيفياً أو شتائياً ، رجالياً أو نسائياً ، طويلاً ضافياً فضفاضاً ، أو
        قصيراً ممسوخاً ، كاسياً عارياً ، أو منتعلاً حافياً ، وهكذا .. وابن تيمية من هذه
        الشخصيات التي تعتبر موضوعاً غنياً لكتاب المسلسلات هؤلاء ، والنفس المستفاد
        مما صوره به البوطي نفس هؤلاء الكتاب : دعاوى عريضة ، وتشويه مقصود ،
        وهوى غلاب والعياذ بالله .
        هذه أمثلة مما جادت به قريحة الشيخ في تصوير ابن تيمية :
        اللوحة الأولى :
        هذه مائدة الفلسفة مفروشة ، مصفوفة أطباقها - بتنسيق وترتيب جميل ، وقد
        أعدت وجهزت حتى يرتادها الناس ، كل الناس ، وفجأة يدخل صبي صغير طائش ،
        وإن شئت فرجل أخرق مجنون يذود الناس يميناً وشمالاً عن هذه المائدة ، يريد أن
        يختص بها لنفسه فقط ، لا يستفيد منها ، بل « ليعثو [3] بأطباقها كما يحب » ،
        تكسيراً وتحطيماً وتخليطاً ، يضع من هذا الطعام على ذاك ، دون مراعاة للأذواق أو
        المراسم ! وهو بين هذا وذاك « يصيح في كل من حوله » [4] ! !
        هذه صورة ابن تيمية عند هذا الرجل الداعية الذي يحترم العلم والعلماء !
        أليس هذا ما ينطق به كلامه التالي :
        « أما الثاني (أي ابن تيمية) فقد تربى على مائدة الفلسفة يتناول منها ويعثو
        بأطباقها كما يحب ، ويصيح في كل من حوله ! يطردهم عن المائدة ، ويحذرهم من
        أن يذوقوا منها مذاقاً ، لأن كل ما عليها طعام آسن ضار غير مفيد ! ! »
        [ص 163 ] .
        صورة طريفة مع أنها مزعجة ، وبخاصة عندما يختلط صراخ ابن تيمية -
        رحمه الله - بصوت الأطباق التي ينهال عليها تكسيراً وتفتيتاً . وقديماً قيل : أعذب
        الشعر أكذبه !
        ولوحة ثانية :
        هذا ابن تيمية قد طوح بنفسه في بحر الفلسفة ، وتعرض لما لا يحسن أن
        يتعرض له ، وخدعته نفسه حين ظن أنه قادر على السباحة في هذا البحر ،
        والسلامة من أخطاره ، فها هو يتطوح هكذا وهكذا مضطرباً تائهاً لا يدري كيف
        الخلاص ، كشخص فقد دليله في مفازة مترامية الأطراف لا يدري أين طريق النجاة ..
        اقرأ قول البوطي بنصه التالي وتأمل :
        « والعجب الثاني ، أنه - وهو المحذر من سمادير الفلاسفة وأوهامهم - لم
        ينج من هذه الأوهام والسمادر ، بل أصابه بعض رشاشها ، بل أصابه بعض من
        أخطار رشاشها ؟ ومع ذلك فهو لم يتبنها ويعتقد بها من منطلق التثبت العلمي الجازم ،
        ولكن تطوح في شأنها تطوح المضطرب ، وناقض نفسه في حديثه عنها مناقضة
        التائه وقع في مهمه لا يتبين سبيلاً للخلاص منه » [ص 163] .
        وبعد :
        فإن هذا الأسلوب الذي يكتب به البوطي ابن تيمية يناقض ما جاء في حاشيته
        على (وقفته مع ابن تيمية) ص 158 والتي يقول فيها :
        « ليس الهدف من عرض ما قد يؤخذ على ابن تيمية هنا ، تفسيقه أو تبديعه ،
        كما فعل بعض خصومه ، وإنما القصد أن ننبه إلى خطأ ما وقع فيه ، ثم إلى
        التماس العذر له من خلال العثور على نصوص أخرى يناقض فيها نفسه في هذه
        النقاط التي أخذت عليه .. » .
        لو أن البوطي فسق أو بدع لكان الخطب أهون والتبعة أخف محملاً على نفسه ،
        إذا لا يعدو بعمله ذاك أن يكون كرر شيئاً قد قيل من قبل ، ولم يأت بجديد ، ولكن
        الشيخ البوطي يأبى إلا أن يبذ الأوائل ببدواته وإبداعه ، فيسخر ويتشفى ، ويتعالى
        ثم يتواضع ، ويقدر ثم يعفو ، ويدين المجرم بجرائمه الواضحة ، ثم - لفرط
        إنسانيته وفروسيته - يذهب ويفتش في حيثيات القضية ، لعله يعثر على ما يجعله
        يتجاوز عن إنزال العقوبة الرادعة المستحقة . هذا ما تدل عليه حاشيته تلك التي تلح
        علينا بأن يكون لنا معها وقفة أخرى .
        *يتبع*
        ________________________
        (1) هكذا في مجموع الفتاوى ولعلها : لا يوثق بعلم .
        (2) زاهد الكوثري في مقدمته لكتاب تبيين كذب المفتري لابن عساكر .
        (3) يراجع معنى يعثو في لسان العرب و (يعثو) هذه أخت (ينغصون) التي وصف بها الصحابة ! .
        (4) اقرن هذه العبارة بالعبارة الواردة في كتابه [ص 245] : (فصاح فيه أن يخرج) ! والتي أشرنا
        إليها في مجلة البيان العدد السابق (36) ص 14 وليُعلم أن هذه ليست عربية صحيحة ولا فصيحة ولا
        لائقة ، بل هي - لسوء حظه وحظنا - لغة أزقَّة يزين بها الشيخ أسلوبه الراقي ! .

        (( مجلة البيان ـ العدد [‌ 37 ] صــ ‌ 6 رمضان 1411 ـ مارس 1991 ))

        تعليق


        • #5
          رد: حول البوطي وعقيدته وأمور أخرى

          تتمة وقفة البوطي مع ابن تيمية[*]
          عبد القادر حامد
          مر معنا في المقال السابق تصوير البوطي لابن تيمية ، وقد كانت تلك
          الصورة على ما قد بيناه من استهزاء وبعد عن الإنصاف ، وحطة في الأسلوب
          تعكس نفساً قلقة بعيدة عن الاتزان .
          وقد حاول البوطي جهده في رسمه تلك الصورة أن يضع في وهم قرائه أن
          ديدن ابن تيمية هو هكذا : اضطراب وتطويح وتناقض ، وصال وجال مشيراً إلى
          هنة هنا ، وهنة هناك ، مما يعتبره هو مآخذ على ابن تيمية ، ولكن حينما أحس أن
          هذه الهنات قد لا تقنع قراءه برأيه في ابن تيمية هز كتفيه ونفض كنانته ؛ فأخرج
          منها هاتين الفاقرتين :
          1- المسألة الأولى :
          تعليق لابن تيمية على كتاب (مراتب الإجماع) لابن حزم .
          2- المسألة الثانية :
          رأي ابن تيمية في مسألة الكسب عند الأشاعرة .
          أما المسألة الأولى ؛ فهي مسألة حاول أعداء ابن تيمية قديماً وحديثاً أن
          يستخدموها للنيل منه ، فراشوا بها سهامهم ، والبوطي يسير على هدي الكوثري عند
          تعرضه لهذه المسألة ، ورأي الكوثري في ابن تيمية معروف ومشهور . أما تحليل
          هذا الموقف وأسبابه فلا زال يحتاج إلى مزيد من إلقاء الضوء عليه ، لأن نتائج هذا
          التحليل لها صلة بالمنهج العام الذي تقبل بمقتضاه الأقوال أو ترد ، ويقوم على
          أساسه فهم المسلم لتاريخه الفكري ، وتتضح على ضوئه المؤثرات التي كان لها فعل
          سيئ في حياة المسلمين خلال القرون الماضية . وشخص كالكوثري في تركيبته
          الفكرية وخلفيته التربوية لا يمكن إلا أن يكره ابن تيمية وكل ما جاء به .
          فابن تيمية له رأي فذ في العلاقة بين العرب والإسلام ، وارتباط الإسلام باللغة
          العربية ، ويرى أن كره العرب نفاق ، هذا مع أنه يقول : ( فضل الشخص لا
          يستلزم فضل الجنس ) والكوثري أبسط ما يقال فيه من هذه الناحية أنه شعوبي ،
          وشعوبيته قد أدخلته مداخل صعبة وعنته عناء يعرفه من قرأ له .
          وابن تيمية حر التفكير ، حرب على التقليد والجمود ، لا يسير خطوة دون
          الاهتداء بالدليل والكوثري مقلد جامد ومتعصب ضيق العطن ، حبس نفسه في حدود
          المذهب الحنفي ، ويرى أن الإسلام هو هذا المذهب فقط ، فهو لذلك حرب على
          الشافعية ، والمالكية ، وسم زعاف على الحنابلة ، أما كبار علماء الحديث فأقل ما
          يقوله فيهم أنهم ( حشوية ) ، أما ما يقوله في كل واحد منهم على انفراد : من تجن
          وتحامل وتعسف ، ومن تهم باطلة ، ومن بعد عن منهج العلماء في النقد ؛ فأمره
          مشهور وشرحه يطول . وهكذا فقد حجّر واسعاً ، ورسم لنفسه دائرة ضيقة من
          دخلها فهو منه ، ومن لا فلا !
          هذا هو الكوثري الذي يسير البوطي على خطاه ، فهل مثل هذا الصنف من
          يقبل قوله في خصمه ؟ ! أخصم وحكم ؟ !
          ولنعد الآن إلى المسألة التي اعتبرها البوطي مقتلاً من مقاتل ابن تيمية ، وهي
          ما جاء في تعليقه على مراتب الإجماع لابن حزم والتي قامت لها قيامة البوطي .
          ونريد أن نناقش بعض ما ساقه من الدعاوى واحدة واحدة باختصار ، فنقول :
          هل صحيح أن ابن تيمية ( يكفر خصومه لأدنى المواقف الاجتهادية التي قد
          يخالفهم فيها ) ؟ ! لم يسق لنا البوطي دليلاً واحداً على ذلك ، بل إن هذه المسألة التي
          اهتم لها وحشد لها بعض ما في جعبته من رخص التهم العشوائية دليل على أن ابن
          تيمية ليس ممن يهجم بالتكفير لأدنى المواقف الاجتهادية التي تخالف رأيه ، ولينظر
          الشيخ البوطي في هذه المسألة هادئ النفس والنَفَس وسيتبين له ذلك ، وكذلك
          فإن لابن تيميه كلاماً في غير موضع من كتبه يدلي بصريح العبارة على عكس
          ذلك ، فمن ذلك قوله :
          ( ... هذا مع أني دائماً - ومن جالسني يعلم ذلك مني - إني من أعظم الناس
          نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير ، وتفسيق ، ومعصية ، إلا إذا علم أنه قد قامت
          عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة ؛ وفاسقاً أخرى ، وعاصياً
          أخرى ، وأني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها ، وذلك يعم الخطأ في المسائل
          الخبرية القولية ، والمسائل العملية ) [مجموع الفتاوى 3/299] .
          ومن ذلك أيضاً قوله : ( مما يصلح أن يكون ضابطاً للتكفير ) ، ودرساًً
          للذين يلقون الكلام على عواهنه- :
          ( ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه ، كالمسائل التي
          تنازع فيها أهل القبلة ، فإن الله تعالى قال : ] آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ
          وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا
          سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ [ وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى
          أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم .
          والخوارج المارقون الذين أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتالهم قاتلهم
          أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين . واتفق على قتالهم أئمة
          الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم . ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن
          أبي وقاص وغيرهما من الصحابة ، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم ، ولم يقاتلهم
          حتى سفكوا الدم الحرام وأغاروا على أموال المسلمين ، فقاتلهم بدفع ظلمهم وبغيهم
          لا لأنهم كفار . ولهذا لم يسب حريمهم ولم يغنم أموالهم .
          وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله
          ورسوله -صلى الله عليه وسلم- بقتالهم ، فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه
          عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم ؟ فلا يحل لأحد من هذه الطوائف
          أن تكفر الأخرى ولا تستحل دمها ومالها ، وإن كانت فيها بدعة محققة ، فكيف إذا
          كانت المكفرة لها مبتدعة أيضاً ؟ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ ، وقد تكون بدعة
          هؤلاء أغلظ ، والغالب أنهم جميعاً جهال بحقائق ما يختلفون فيه .
          والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمه من بعضهم على
          بعض لا تحل إلا بإذن الله ورسوله . قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لما خطبهم
          في حجة الوداع : » إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا
          في بلدكم هذا في شهركم هذا « وقال -صلى الله عليه وسلم- : » كل المسلم على
          المسلم حرام : دمه وماله وعرضه « وقال -صلى الله عليه وسلم- : » من صلى
          صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ذمة الله ورسوله « وقال : » إذا
          التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار « ، قيل : يا رسول الله ؛ هذا
          القاتل ، فما بال المقتول ؟ قال : » إنه أراد قتل صاحبه « وقال : » لا ترجعوا
          بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض « ، وقال : » إذا قال المسلم لأخيه يا كافر !
          فقد باء بها أحدهما « ، وهذه الأحاديث كلها في الصحاح .
          وإذا كان المسلم متأولاً في القتال أو التكفير لم يكفر بذلك كما قال عمر ابن
          الخطاب لحاطب بن أبي بلتعة : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق ،
          فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : » إنه شهد بدراً ، وما يدريك أن الله قد اطلع
          على أهل بدر ، فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ؟ « وهذا في الصحيحين .
          وفيهما أيضاً : من حديث الإفك : أن أسيد بن الحضير قال لسعد بن عبادة :
          إنك منافق تجادل عن المنافقين ، واختصم الفريقان ، فأصلح النبي -صلى الله عليه
          وسلم- بينهم . فهؤلاء البدريون فيهم من قال لآخر منهم : إنك منافق ، ولم يكفر
          النبي -صلى الله عليه وسلم- لا هذا ولا هذا ، بل شهد للجميع بالجنة .
          وكذلك ثبت في الصحيحين عن أسامة ببن زيد أنه قتل رجلاً بعد ما قال لا إله
          إلا الله ، وعظم النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك لما أخبره ، وقال : » يا أسامة ،
          أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله ؟ « وكرر ذلك عليه حتى قال أسامة : تمنيت أني لم
          أكن أسلمت إلا يومئذ . ومع هذا لم يوجب عليه قوداً ، ولا دية ولا كفارة ، لأنه كان
          متأولاً ظن جواز قتل ذلك القائل لظنه أنه قالها تعوذاً .
          فهكذا السلف قاتل بعضهم بعضاً من أهل الجمل وصفين ونحوهم وكلهم
          مسلمون مؤمنون كما قال تعالى : ] وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا
          بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن
          فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ [ فقد بين الله تعالى
          أنهم مع اقتتالهم ، وبغي بعضهم على بعض إخوة مؤمنون ، وأمر بالإصلاح بينهم
          بالعدل .
          ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضاً موالاة الدين ؛ لا يعادون
          كمعاداة الكفار ، فيقبل بعضهم شهادة بعض ، ويأخذ بعضهم العلم عن بعض
          ويتوارثون ويتناكحون ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض ؟ مع ما كان
          بينهم من القتال والتلاعن وغير ذلك .
          وقد ثبت في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سأل ربه » أن لا
          يهلك أمته بسنة عامة فأعطاه ذلك ، وسأله أن لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم
          فأعطاه ذلك ، وسأله ألا يجعل بأسهم بينهم فلم يعطه ذلك « وأخبر أن الله لا يسلط
          عليهم عدواً من غيرهم يغلبهم كلهم حتى يكون بعضهم يقتل بعضاً وبعضهم يسبي
          بعضاً .
          وثبت في الصحيحين لما نزل قوله تعالى : ] قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ
          عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ [ قال : » أعوذ بوجهك « ] أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ [ قال :
          » أعوذ بوجهك « ] أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ [ قال : » هاتان
          أهون « .
          هذا مع أن الله أمر بالجماعة والائتلاف ، ونهى عن البدعة والاختلاف ، وقال :
          ] فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [ وقال النبي -صلى الله عليه
          وسلم- : » عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة « وقال : » الشيطان مع
          الواحد وهو من الاثنين أبعد « وقال : » الشيطان ذئب ، الإنسان كذئب الغنم
          والذئب إنما يأخذ القاصية والنائية من الغنم « [مجموع الفتاوى 3/283-286] .
          وكذلك يشير إلى ضوابط تكفير أهل البدع في 3/353 من مجموع الفتاوى
          فليراجع .
          فلا ندري بعد ذلك ماذا سيقول الشيخ في هذه النصوص من أقوال ابن تيمية ،
          لعله يهز كتفيه ويقول : يعني ماذا ؟ لقد أثبتنا في كتابنا هذا أن ابن تيمية متناقض !
          وعندها يكون السكوت أفضل .
          وبعد أن سقنا من أقوال ابن تيمية ما يكذب الدعوى بأنه ( يكفر خصومه لأدنى
          المواقف الاجتهادية التي يخالفهم فيها ) نقول أيضاً : إن هذه المسألة التي يتواصى
          بها خصومه شاهد على عكس ذلك ، أي على أن ابن تيمية يتريث ، ويبحث ،
          ويتوثق قبل أن يحكم . ويتحرج من إلقاء تهمة الكفر ، أو إعلان الإجماع عليها دون
          تثبت . فكيف ذلك ؟ فلننقل عبارة ابن تيمية التي نقلها البوطي ، وتحكم فيها ما تحكم ،
          وحذف منها ما حذف ، وفهم منها ما فهم ، وسخر منها ما سخر ، ولنضعها بين
          حاصرتين ولننظر فيها نظر من يريد أن يفهم ؛ لا من يريد أن يصطاد ويشوه .
          يقول ابن تيمية :
          ( قلت : أما اتفاق السلف وأهل السنة والجماعة على أن الله وحده خالق كل
          شيء فهذا حق . ولكنهم لم يتفقوا على كفر من خالف ذلك ، فإن القدرية الذين
          يقولون : إن أفعال الحيوان لم يخلقها الله ؟ أكثر من أن يمكن ذكرهم من حين
          ظهرت القدرية في أواخر عصر الصحابة إلى هذا التاريخ . والمعتزلة كلهم قدرية ،
          وكثير من الشيعة ، بل عامة الشيعة المتأخرين ، وكثير من المرجئة والخوارج
          وطوائف من أهل الحديث والفقه نسبوا إلى ذلك منهم طائفة من رجال الصحيحين .
          ولم يجمعوا على تكفير هؤلاء ) . [نقد مراتب الإجماع 168]
          ما معنى هذا ؟
          إن هذا النص سيق أصلاً للرد على من ادعى إجماع السلف من أهل السنة
          والجماعة على تكفير من خالف هذه المقدمة : ( الله وحده خالق كل شيء ) .
          فالمسألة هنا ليست مسألة إثبات هذه الحقيقة ونفي عكسها ؛ وإنما هي إثبات
          دعوى الإجماع على أمر آخر ، وهو تكفير من قال قولاً يخالف ما انطوى عليه هذا
          العموم ، فالسلف وأهل السنة والجماعة الذين اتفقوا على أن الله خالق كل شيء ؛ لم
          يتفقوا على تكفير من خالف ذلك ، أي إن منهم من كفر ؛ ومنهم من لم يكفر . ثم
          استطرد ابن تيمية مفصلاً ، فذكر من هؤلاء الذين لم يجمع السلف على تكفيرهم :
          القدرية ، وكثير من الشيعة ، بل عامة الشيعة المتأخرين ، وكثير من المرجئة
          والخوارج ، وطوائف من أهل الحديث والفقه ، بل وبعض رجال الصحيحين نسب
          إليه القول بأن : ( أفعال الحيوان لم يخلقها الله ) .
          إذن ؛ هناك رجل (وهو ابن حزم) يقول : اتفق السلف على كفر من خالف
          القول بأن الله خالق كل شيء .
          ورجل ثان (وهو ابن تيمية) يقول : لا ، لم يتفق السلف على كفر من خالف
          ذلك : فمنهم من كفر ، ومنهم من لم يهجم بالتكفير .
          ورجل ثالث (وهو الكوثري) ، يتتبع الثاني بما لا طائل تحته .
          ورجل رابع (وهو البوطي) يؤيد الأول ، ويستصغر بالثالث ، ويتهم الثاني
          ( بالخلط والتخبط ) طبقاً لمبدأ ( رمتني بدائها وانسلت ) !
          أما الأول : فساق القضية مجردة عن الدليل ، على سبيل التعداد .
          وأما الثاني : فذكر أدلته فقال : دليلي على أن لا إجماع على القول بالتكفير
          لمن خالف منطوق أن الله خالق كل شيء أنني وجدت طوائف من المسلمين
          (وسماهم) لم يتفق السلف وأهل السنة والجماعة على تكفيرهم ، بل تنازعوا في
          كفرهم ، ومعلوم أن ابن تيمية ينقل ما يعرف ، وهو الذي عاش في أواخر القرن
          السابع وأوائل القرن الثامن ، ومن يدري فلربما لو كان البوطي معاصراً ، له وبلغه
          قوله هذا لأثبته ، كأن يقول : أما ما قاله البوطي في كتابه السلفية[1] : ( غير أنني
          ما سمعت وما رأيت إلى هذا اليوم أن القدرية يعتقدون أن أفعال الحيوان لم يخلقها
          الله ، وها هي ذي كتب الفرق والملل والنحل أمامنا ، ولم أجد في شيء منها مثل
          هذا النقل عنهم ) فيقال له : ما دامت كتب الفرق والملل والنحل أمامكم فافتح منها
          الجزء الثالث من : (الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم) ص 54 واقرأ :
          ( قال أبو محمد : اختلفوا في خلق الله تعالى لأفعال عباده ، فذهب أهل السنة
          كلهم ، وقل من قال بالاستطاعة مع الفعل ؛ كالمريسي ، وابن عون ، والنجاربة ،
          والأشعرية ، والجهمية ، وطوائف من الخوارج ، والمرجئة ، والشيعة ؛ إلى أن
          جميع أفعال العباد مخلوقة ، خلقها الله عز وجل في الفاعلين لها . ووافقهم على هذا
          موافقة صحيحة من المعتزلة : ضرار بن عمرو ، وصاحبه أبو يحيى حفص الفرد .
          وذهب سائر المعتزلة ، ومن وافقهم على ذلك من المرجئة ، والخوارج والشيعة إلى
          أن أفعال العباد محدثة ، فعلها فاعلوها ، ولم يخلقها الله عز وجل ) .
          فماذا عسى البوطي يقول بعد ذلك ؟ أيصر على تكذيب ابن تيمية ويجمع إليه
          تكذيب ابن حزم الذي يدافع عنه ؟ هذا لا يكون ! لأن القضية تسقط برمتها حيث
          سقط موضوعها .
          لقد كان البوطي في غنى عن هذه النهاية التي انتهى إليها لو أنه قرأ كلام ابن
          تيمية كاملاً[2] ، ولم يحذف منه ما حذف ومع ذلك تراه يقول : ( هذا هو كلام ابن
          تيمية بطوله ) ! ، والقارئ يعجب ويحار في تفسير هذا الحذف في هذا الموضع :
          هل هو الحرص على تكذيب ابن تيمية وعدم الثقة فيما ينقل ، مع أن الرجل لم
          يرمه أحد من خصومه بالكذب والتقول ، وخاصة في نقل آراء الناس والفرق ، بل
          المشهور عنه أن الناس تضبط ما عندها من آراء الفرق والمذاهب على نقله . أم
          لأنه ذكر الشيعة فيمن ذكر ممن يقول بخلق أفعال العباد ؛ فخاف البوطي من تبعة
          النقل ، أو جامل على الأقل ، عادّاً ذلك من الحكمة مثلاً ! أم هو دافع العجلة
          والتسرع وغليان الدم ؟ الله أعلم أي ذلك كان !
          إن الشيخ يثير الشفقة حقاً .
          يثير الشفقة حينما يحرص على أن يصم ابن تيمية بالتناقض .
          ويثير الشفقة حينما يخلط اجتهاداته بكلام الكوثري .
          ويثير الشفقة حين يقول : ( ودونك فاستعرض ما هو مدون في مجموع فتاوى
          ابن تيمية تجده يكرر الحكم بتكفير من ينساق وراء أحد هذين الوهمين في كل
          مناسبة ) .
          ويثير الشفقة حينما يعد بنقل بعض من تلك النصوص ، لكنه لم يفعل ، ولكن ؛
          ألم يعلق الأمر على مشيئة الله ؟ ! إذن ، فلا لوم عليه !
          تبقى مسألة أخيرة تتعلق بهذا الجدل غير المتكافئ ، فالقارئ لتعليق البوطي
          يخرج بنتيجة وهي أن ابن تيمية يرى رأي هؤلاء الذين يقولون : ( إن أفعال العباد
          محدثة ، فعلها فاعلوها ، ولم يخلقها الله عز وجل ) .
          بل يفهم القارئ - من حدته وخوضه يميناً وشمالاً - أن لا أحد يقول بهذا
          القول إلا ابن تيمية ، وهذا واضح من نفيه أن يكون أحد قد قال بذلك ، وأنه ( ما
          سمع ولا رأى ) ، لا هو ولا العلامة المحقق الكوثري[3] أن القدرية يعتقدون ذلك ،
          ولا يدري أن رأي ابن تيمية فيمن يقول بهذا القول يوجد في غير هذا الوضع الذي
          يختص - فقط - في بيان حقيقة بعض الإجماعات التي يدعيها بعض الناس ؟ وقد
          أشار رحمه الله إلى ذلك بعبارة تبين مقصوده ، وتدفع كل توهم فقال : ( والمقصود
          هنا الكلام على ما يظنه بعض الناس من الإجماعات ) . أي لا مجال هنا لتفصيل
          القول فيمن قال بالتكفير ومن لم يقل ، لكن ( الهوى يعمي وبصم ) كما كتب الكوثري
          في واحد من تعاليقه ، وما أصدق هذا القول فيه وفي من يمشي على خطاه .
          ويدعي أيضاً أن ابن تيمية ( يمارس سعادة ولذة كبيرة في نقده معظم الأئمة
          والعلماء ) .
          والجواب على ذلك : أما أن ابن تيمية ينقد كثيراً من العلماء فهذا حق ، ولا
          حرج عليه في ذلك إن شاء الله ، فلم يزل العلماء ينقد بعضهم بعضاً ويرد بعضهم
          على بعض ، وهذا مما يفتخر به الفكر الإسلامي ، ونعتبره مظهراً من مظاهر حرية
          الفكر التي طبعت هذا التاريخ ، وأما أنه يمارس سعادة ولذة كبيرة في النقد فهذا
          يحتاج إلى بينة : إما من إقرار ابن تيمية نفسه ؛ كأن يقول مثلاً : ما أسعدني حين
          أنقد عالماً ! أو : ما ألذ الهجوم على فلان من العلماء ؛ أو ما في معنى ذلك ! أو أن
          ينقل لنا البوطي شيئاً مما نقد به ابن تيمية غيره ، ويضع أصابعنا على تلك السعادة
          وتلك اللذة ! وحيث إنه لا إقرار من ابن تيمية ، بل عكس ذلك كثير ومثبوت في
          تضاعيف مؤلفاته ؛ ولا نقل من البوطي ، ولم يدع هو لنا -كما لم نعهد عنده -
          القدرة على التدسس في مشاعر وأحاسيس ونوايا غيره ؛ فستظل هذه دعوى لا تضر
          إلا مدعيها .
          ويتطرف البوطي في أوهامه وتقديراته ، فيرى أن ابن تيمية يستسيغ
          ويستجيز تبرئة الفلاسفة القائلين بقدم العالم من الكفر إذا كان في ذلك وسيلة لتخطئة
          ابن حزم وبيان جهله ! وهذه عبارته :
          ( .. إذ لما كان في الانتصار لمذهب الفلاسفة في هذه المسألة ، بإبعاد
          تهمة الكفر عنهم بسببها على أقل تقدير ، ما يظهر ابن حزم في الإجماع الذي نقله ،
          في مظهر المخطئ المتسرع الذي لا يتثبت في الأحكام ، فلقد كان للجنوح إلى
          مذهب الفلاسفة وتهوين القول بالقدم النوعي للمادة ، ما يبرره ! ولعل - من
          أقوى المبررات في نظره وشعوره[4] أن يصل إلى تخطئة ابن حزم وبيان جهله ! )
          [كتابه ص 173] .
          وحتى يكتمل عجبنا من هذه الجرأة ، (ونستحي أن نسميها بغير هذا الاسم)
          لنستمع إلى رأي ابن تيمية بابن حزم الذي يدافع عنه البوطي هذا الدفاع المبطل ،
          ويرى أن ابن تيمية يستحل الكفر إذا كان ذلك سبيلاً إلى ماذا ؟ ! إلي أمر بسيط
          بالنسبة للكفر ؟ تخطئة ابن حزم وبيان جهله !
          يقول ابن تيمية معقباً على ذم العلماء لابن حزم بسبب اتباعه الظاهر ، ونفيه
          المعاني في الأمر والنهي والاشتقاق ، وما في كلامه من الواقعية في الأكابر ،
          والإسراف في نفي المعاني ، ودعوى متابعة الظواهر :
          ( ... وإن كان له من الإيمان والدين والعلوم الواسعة الكثيرة ما لا يدفعه إلا
          مكابر ، ويوجد في كتبه من كثرة الاطلاع على الأقوال والمعرفة بالأحوال ،
          والتعظيم لدعائم الإسلام ولجانب الرسالة ما لا يجتمع مثله لغيره . فالمسألة التي
          يكون فيها حديث يكون جانبه فيها ظاهر الترجيح ، وله من التمييز بين الصحيح
          والضعيف والمعرفة بأقوال السلف ما لا يكاد يقع مثله لغيره من الفقهاء ) [مجموع
          الفتاوى 4/19-20] .
          ولا ندري بعد هذا كيف نوفق بين هذه الشهادة التي يشهدها ابن تيمية في ابن
          حزم ، وبين الشهادة التي يستخلصها البوطي ويقول : إنها ديدن ابن تيمية لا مع ابن
          حزم بل مع معظم الأئمة والعلماء ! والأعجب من هذا أنه يعتبر هذه الافتراءات
          والترهات التي أوصله إليها تفكيره دفاعاً عن ابن تيمية حيث يقول :
          ( ولعل خير دفاع عنه (عن ابن تيمية) في تحليل أسباب هذا التناقض
          العجيب الذي تلبس به ، أن نتذكر طبيعته النقدية لمعظم الأئمة والعلماء ، حتى لكأنه
          يمارس سعادة ولذة كبيرة في ذلك ) . أرأيت إلى هذا الدفاع ؟ ! ألا يذكرك بتسمية
          هجوم إسرائيل وإغارتها على ما حواليها من الدول واحتلالها أرضها دفاعاً ؟ !
          بل لا يستحي من تكرار هذا المعنى عندما يقول : ( إن هذا التحليل لهذا
          الاضطراب المتناقض[5] في موقف ابن تيمية في هذه المسألة هو - بنظري -
          أقرب ما ينسجم مع الدفاع عن عقيدته الإسلامية التي لا نحب أن نرتاب فيها )
          والحمد لله على أن وضع هذا الاحتراس : (بنظري) في ثنايا هذه النتيجة التي
          وصل إليها ، فهو احتراس جميل بقدر ما هو منصف ، حيث لم يسد الباب أمام
          أنظار أخرى تقرأ لابن تيمية وتحكم عليه .
          المسألة الثانية : نظرية الكسب :
          ينسب البوطي لابن تيمية مخالفته عامة أهل السنة والجماعة . ومن يسميهم
          عامة أهل السنة والجماعة هنا هم الأشاعرة .
          وعلى عادة البوطي في الإيهام والعبارات الملتوية ، يدعي على الخصم
          ادعاءات ، ثم يبني على هذه الادعاءات نتائج ، ثم يضع هذه النتائج في قوالب
          المسلمات التي لا تقبل الجدل كما فعل هنا . فبعد أن أشار إلى رأي الفلاسفة القدماء
          من أن الأشياء تكمن فيها أسباب ذاتية بالطبع ؛ وإلى رأى بعض الفلاسفة
          (الإسلاميين) كالفارابي وابن رشد من أن الأشياء فيها أسباب أودعها الله فيها ؛
          ويضع قاسماً مشتركاً بين أولئك وهؤلاء ، وهو أن في الأشياء فاعلية كامنة في ذاتها
          تسمى العلة أو السبب ، ليصل إلى نتيجة موافقة ابن تيمية - القائل بالأسباب -
          للفلاسفة ، وهذا ما لا يغتفر .
          ومن حيث الأصل فإن الحكم بصحة الرأي لا ينبني على موافقته لهذا الفريق
          من الناس مهما كانوا ، أو عدم موافقته ، بل لا بد أن يكون هذا الرأي صحيحاً في
          نفسه حتى لو أعرض عنه من أعرض ، أو أخذ به من أخذ ، ولكن العجب لا
          ينقضي من البوطي الذي يتجاوز عن الغزالي في تبنيه منطق اليونان برمته ،
          وحكمه ( أنه من لا يحيط به فلا ثقة بعلومه أصلاً )[6] ، بل يقرر أن ذلك ما هو جدير
          أن يشكره عليه ابن تيمية وغيره ؛ فإذا ما قال ابن تيمية برأي وتبين أن
          للفلاسفة قولاً يوافقه كانت جريمة ، وأي جريمة !
          نقول هذا ونتحفظ كثيراً على أن ابن تيمية وافق الفلاسفة ، فهكذا أراد البوطي ،
          وإلا فابن تيمية يرى رأيه مستنداً قبل كل شيء وبعده إلى الكتاب والسنة - وهذا
          شأنه دائماً - وحتى في هذه المسألة فإن رأيه في غاية الوضوح والسطوع ، ولا
          يعكر عليه إلا الابتسار والتشويه والتدخل المغرض في ليِّ عباراته والتقول عليه ،
          وبتر ما يدفع أي شبهة في فكر الرجل وعقيدته ، وكمثال على هذا البتر المغرض
          فإن البوطي نقل عنه قوله :
          ( ومن قال : إنه يفعل عندها لا بها ، فقد خالف ما جاء به القرآن ، وأنكر ما
          خلقه الله من القوى والطبائع ، وهو شبيه بإنكار ما خلقه الله من القوى التي في
          الحيوان التي يفعل الحيوان بها ، مثل قدرة العبد ) . فسكت البوطي هنا ، ووقف ،
          ووقوفه مريب جداً حيث إن تتمة الفقرة تقول : ( كما أن من جعلها (أي الأسباب)
          هي المبدعة فقد أشرك بالله وأضاف فعله إلى غيره ) . [مجموع الفتاوى 3/112]
          واستبعاد هذه العبارة من الاستشهاد يهدم تهويلة البوطي من أساسها من أن ( ابن
          تيمية يثبت بكلامه هذا العلة الأرسطاطاليسية صراحة ( ! ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍) ويكرر نظرية الغريزة
          بمعناها الفلسفي الذي يعطي المادة فعالية ذاتية مستقلة . وبتعبير أدق : إن ابن تيمية
          يثبت من خلال كلامه هذا في السبب (ماهية) هي في الحقيقة مسبب السبب ( ! ) ،
          وبهذا يخرج ابن تيمية هنا عن روح المذهب الإسلامي ، ويعتنق أكبر الأفكار التي
          يقوم عليها المنطق الأرسطاطاليسي كما يقرر الدكتور علي سامي النشار )
          [كتابه 175] .
          ومرة أخرى ننبه إلى أنه هنا خلط كلامه بكلام النشار ، فبينما يبتدئ الفقرة
          فتظن أن هذا كلامه ؛ إذا به يختتمها محيلاً على النشار ، لكن أين ينتهي كلامه ؛
          وأين يبدأ كلام النشار ؛ فهذا غير مهم عنده .
          ونحن هنا ننقل عبارة النشار للمقارنة ، فهو يقول :
          ( .. أو بمعنى موجز إنه أثبت العلية الأرسططاليسية (زاد البوطي هنا :
          صراحة ! ) فأثبت بقوله هو الغريزة أو النحيزة ، أو الخلق (اجتهد البوطي هنا
          فأضاف كلمة : نظرية ، وأضاف القوسين ، وأضاف جملة : بمعناها الفلسفي الذي
          يعطي المادة فاعليه ذاتية مستقلة . وهذا حتى يثبت إضافته على ما جاء به النشار ،
          فكم ترك الأول للآخر) أو بمعنى أدق : أثبت في السبب ( ماهية ) وجوهراً هو
          مسبب السبب (عبارة البوطي : (ماهية) هي في الحقيقة مسبب السبب) ! وبهذا
          خرج عن روح المذهب الإسلامي ، واعتنق أكبر الأفكار التي يقوم عليها المنطق
          الأرسططاليسي ) [7] .
          البوطي
          والنشار :
          لابد هنا من كلمة تضاف حول النشار ، نضعها لما لها من مساس بمنهج
          البوطي
          ، فقد قرأت ما كتبه النشار في كتابه (مناهج البحث عند مفكري الإسلام)
          وخاصة ما كتبه عن الغزالي وابن تيمية ، ووجدته في الأغلب ينصف الرجلين ،
          ولا يجانبه الصواب إلا في هذا الرأي الذي يقّوِّم فيه رأي ابن تيمية في نظرية
          (الأسباب) ، والنشار بالدرجة الأولى دارس فلسفة ، وقد يكون معذوراً في اعتباره
          أن أهل السنة والجماعة هم الأشاعرة فقط ، وأن من خالف الأشاعرة فقد خالف أهل
          السنة ، وأن نصيبه من الاعتماد على الأدلة - الشرعية في بحثه قليل إن لم يكن
          معدوماً . وإنما قصاراه أقوال يجمعها لهذا وذاك ، ومقارنات بين آراء فلاسفة
          اليونان والغرب ؛ وفلاسفة المسلمين ، وعلى هذا فإذا قال ما قال بحكم التقليد فهذا ما
          أداه إليه علمه ، على أن له في تقييم تراث ابن تيمية ما يغضب البوطي ويضيق به
          صدره ، فهو القائل في ابن تيمية : ( وليس هناك في الحقيقة من تكلم - فيما قبل
          العصور الحديثة بما تكلم به ابن تيمية . لقد وصل حقاً إلى أوج الدرج في فلسفة
          المنهج التجريبي بنقده للمنطق اليوناني القياسي ، وبدعوته إلى المنطق الإسلامي
          التجريبي ، وعبر عن روح الحضارة الإسلامية الحقة في عصر الانهيار الحضاري
          الإسلامي الذي عاش فيه ) [8] .
          ويقول في كتاب ابن تيمية : ( الرد على المنطقيين ) :
          ( أعظم كتاب في التراث الإسلامي عن المنهج ، تتبع فيه مؤلفه تاريخ
          المنطق الأرسططاليسي والهجوم عليه ، ثم وضع هو آراءه في هذا المنطق في
          أصالة نادرة وعبقرية فذة ) [9] .
          من المؤكد أن الشيخ البوطي قد مر على هذه الآراء في كتاب النشار ، ولكن
          لم يختر إلا ما يوافق هواه بغض النظر عن صحته . وكمقارنة بين الرجلين :
          النشار والبوطي ؛ فإن النشار يكتب عن ابن تيمية بعقلية العالم الحيادي ، وحتى لو
          أخطأ في بعض آرائه فلا يمنعه التعصب والهوى أن يعلن ما يعتقد أنه صواب ، وما
          يبدو من خطئه فمرجعه إلى ما ألفه واعتاده من آراء ، أما البوطي فيكتب عن ابن
          تيمية بعقلية الذي يصيح : يالثارات الغزالي ، وعلم الكلام ، وابن حزم ، والصوفية ،
          وابن عربي ، ونظرية الكسب ، يالثارات كل الأشخاص ، وكل المسائل التي
          تعرض لها ابن تيمية وعصف بها . وفي الجملة ؛ فمن الصعب عليه أن ينصف من
          يرى أن مصلحته في الهجوم عليه ، إنه قد يوهمك أنه يحاول الإنصاف ، ولكن
          طبيعته لا تطاوعه في ذلك ، وهذه كتبه هل ترى فيها شيئاً من إنصاف من ينزل
          بساحتهم ، بل هذا كتابه (السلفية) اقرأه وقلب النظر فيه ، فإنك لن تعثر فيه على
          رائحة إنصاف .
          ومما عرضناه حول هاتين المسألتين اللتين جاء بهما البوطي ليستدل على
          تخبط وتناقض ابن تيمية تبين لنا : من المتخبط ومن المتناقض ؟ على أن عدم
          الأصالة في الفهم ؛ وعدم إصابة المعنى الصحيح للكلام قد تغتفر ، فالناس فهوم
          وطاقات . لكن الذي لا يغتفر هو البعد عن الأمانة في النقل ، وتحريف الكلام
          ليوافق الهوى .
          وكلمة أخيرة : فالبوطي ليس مبدعاً في التعرض لهاتين المسألتين : لا من
          حيث اختيارهما ؛ ولا من حيث معالجتهما . ولم يفعل سوى أن دلل على قدرة لا
          يحسد عليها في ادعاء اجتهادات ليست له ، ويا ليتها كانت اجتهادات صحيحة ! إذن
          لهان الخطب ! ولكنها اجتهادات خطأ فأصبحت بتبني البوطي لها وتعليقه عليها خطأ
          مركباً .
          ________________________
          (*) سقطت من عنوان المقال في العدد الماضي كلمة : (البوطي) خطأ، فنرجو المعذرة .
          (1) ص 166 .
          (2) الدفاع لعدم إثبات بقية الكلام هنا ليس العجلة ، بدليل أنه ساق بعد ذلك قطعة من كلام ابن تيمية ،
          لكن بعد إسقاط الفقرة التي ساق فيها ابن تيمية أدلته وأسماء الفرق المخالفة .
          (3) ماأرخص الألقاب التي تكال جزافاً في سوق العلم ! .
          (4) حتى شعور ابن تيمية يدعي البوطي الإحاطة به ! .
          (5) لم أستطع هضم ولا فهم:(الاضطراب المتناقض)،وأرجو ممن يأنس من نفسه القدرة على فهم هذه
          العبارة تفهيمي إياها .
          (6) مناهج البحث للنشار 172 نقلاً عن المستصفى للغزالي 101/1 .
          (7) اختار البوطي الفعل المضارع : يخرج ويعتنق ، ولعل ذلك للدلالة على الاستمرار ، وليطبع الكلام
          بأسلوبه المميز !! .
          (8) مناهج البحث للنشار 270- 271 .
          (9) مناهج البحث للنشار 369 .

          (( مجلة البيان ـ العدد [‌ 38 ] صــ ‌ 16 شوال 1411 ـ أبريل 1991 ))

          تعليق


          • #6
            رد: حول البوطي وعقيدته وأمور أخرى

            دفاع البوطي
            عن دعاة وحدة الوجود
            عبد القادر حامد
            سننقل للقارئ حاشية طويلة من حواشي البوطي ، لما تمثله من تلخيص جيد
            لمنهجه العلمي ، وما تشتمل عليه من مميزاته التي أشرنا إليها في ثنايا ما كتبناه
            سابقاً ، وهذه الحاشية دفاع منه عن ابن عربي ، وهجوم (سماه هو دفاعاً) على ابن
            تيمية وعلى من يقلده وينهج نهجه ، وسنرد على بعض ما جاء في هذه الحاشية ،
            ولن نلزم القارئ بشيء ، ولن نلح عليه بتصديق ما نقول ، وإلا فهو غير « محرر
            قلبه من شوائب العصبيات والأهواء » !
            إن صاحب المنهج الحق لا يستجدي موافقة الآخرين وتصديقهم له ؛ فإن فعلوا
            فهم على الحق ، وقلوبهم متحررة من شوائب الأهواء والعصبيات وإن لم يفعلوا
            كانوا عكس ذلك . إنه يبين منهجه ، ويقول كلمته ، ويفصل بحججه ما وسعه
            التفصيل ، ويثق بعقول قرائه دون وصاية أو إغراء أو تحذير .
            يقول البوطي في صدد دفاعه عن القائلين بوحدة الوجود وتشنيعه على من
            ينتقدهم :
            « ... وخلاصة المشكلة أنه (أي ابن تيمية) ومن يقلده في نهجه يظلّون
            يأخذون ابن عربي وأمثاله بلازم أقوالهم ، دون أن يحملوا أنفسهم على التأكيد من
            أنهم يعتقدون فعلاً ذلك اللازم الذي تصوروه .
            أما أن يكون في كتب ابن عربي كلام يخالف العقيدة الصحيحة ويستوجب
            الكفر ، فهذا ما لا ريبة ولا نقاش فيه . وأمّا أن يدلّ ذلك دلالة قاطعة على أن ابن
            عربي كافر ، وأنه ينطلق في فهم (شهود الذات الإلهية) ، من أصل كفري هو
            نظرية الفيض ، فهذا ما لا يملك ابن تيمية ولا غيره أي دليل قاطع عليه . فإن كتب
            ابن عربي تفيض بالبيانات المفصلة المكررة التي تناقض هذا الأصل الكفري . هذا
            بالإضافة إلى أنه قد بات معلوماً ومؤكداً أن طائفة معلومة من الزنادقة الباطنية دسوّا
            ما شاؤوا أن يدسوّا في كتبه . ذكر ذلك المقري في (نفح الطيب) ، وأكده ابن عماد
            في (شذرات الذهب) ، وأكده في قصة طويلة الإمام الشعراني في (اليواقيت
            والجواهر) ، وذكره الحاجي خليفة في (كشف الظنون) ، ولا نشك في أن ابن تيمية
            ينبغي أن يكون في مقدمة من يعلم ذلك .
            ولست في هذا منطلقاً من عصبية لابن عربي أو غيره . بل إن الميزان
            الوحيد عندي في ذلك هو القاعدة الشرعية التي يجب اتباعها عند الإقدام على تكفير
            أناس أو تضليلهم ، وهي قاعدة معروفة لأهل العلم جميعاً وفي مقدمتهم ابن تيمية -
            رحمه الله - .
            ولقد حكّمت هذه القاعدة في حق ابن تيمية ، قبل تحكيمها في حق ابن عربي ،
            فلقد نقلت فقرات من كلامه الذي يتضمن إقرار الفلاسفة في اعتقادهم بالقدم النوعي
            للمادة ، وبوجود قوة طبيعية مودعة في الأشياء بها تحقق فاعلياتها وتأثيراتها ، بل
            يتضمن الدفاع عنهم ، في ذلك ودعوى أنه الحق الذي لا محيض عنه . وقد ثبت
            للعلماء جميعاً أن الفلاسفة اليونانيين وقعوا في الكفر لثلاثة أسباب ، في مقدمتها ،
            قولهم بالقدم النوعي للعالم . ولا يرتاب مسلم أن الكفر بدعوى قدم العالم ، أو بدعوى
            وجود قوة مودعة في الأشياء بها يتم التأثير ، ليس أقل خطورة وجلاء من الكفر
            الذي تتضمنه عبارات واردة في كلام ابن عربي .
            ولكنا مع ذلك لم نجنح ، لهذا السبب ، إلى تكفير ابن تيميه ولا إلى تضليله ،
            بل انطلقنا إلى النظر في ذلك من تحكيم القواعد الشرعية ذاتها ، فلقد لاحظنا الأمر
            ذاته الذي لاحظناه في كتب الشيخ ابن عربي -رحمه الله- إذ رأينا لابن تيمية كلاماً
            آخر في أكثر من موضع يناقض كلامه الباطل الذي أيّد فيه الفلاسفة في ضلالهم
            الذي كان سبباً من أسباب كفرهما ، بحيث لو أردنا أن نردّ على ابن تيمية هذا
            الباطل الذي تورط فيه ، لما وجدنا كلاماً نرد به عليه ، خيراً من كلام ابن تيمية
            ذاته الذي كرره في عدة مناسبات أخرى .
            فاقتضانا ذلك أن نَعْرِفَهُ بالحق الذي تكرر في كتبه وكلامه ، لا أن ننعته
            بمقتضى الكلمات الباطلة التي دار بها قلمه أو تحرك بها مرة لسانه . ومهما كان
            السبيل إلى حسن الظن بأهل القبلة ميسراً ، فهو الواجب الذي لا محيد عنه ، وما
            أيسر أن تزاح العبارات المشكلة عن السبيل إلى ذلك بأنواع من التأويل والاحتمال .
            وإذا كان لابد من تأويل العبارات الباطلة لتتحول إلى حق فنحافظ بذلك على حسن
            ظننا بصاحبها ، أو من تأويل كلامه الحق ليتحول إلى باطل ، فنجعله معتمدنا في
            إساءة الظن به ، فإن مما لا يرتاب فيه المسلمون قط أن الواجب هو تأويل الباطل
            بما يتفق مع الحق الذي عرف الرجل به لا العكس . لأن حسن الظن هو الأمثل
            بحال الرجل الصادق في إسلامه ، وهو الذي يقضي به قول الله عز وجل :
            ] يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ [ [الحجرات : 12] .
            وإذا أبى ابن تيمية -رحمه الله- إلا أن يحملنا على تكفير ابن عربي استدلالاً
            بالكفريات الموجودة في كلامه ، والإعراض عن الصفحات الطوال التي تناقضها
            وتردّ عليها في مختلف كتبه وأقواله ، فإنها لدعوة منه بلا ريب إلى أن نكفره هو
            الآخر استدلالاً بالضلالات الفلسفية التي انزلق فيها ، وأن نعرض عن كلامه الآخر
            الذي يناقضها ويبرئه من مغبتها . ولكني أشهد أن دين الله عز وجل يأبى أن ندعو
            بهذه الدعوة ، كما أنه يحذر من الانصياع لها .
            ولعل كل متدبر للحق ، محررٍ قلبه من شوائب العصبيات والأهواء ، لا يعجز
            عن تصديق ما أقول ، وعن اليقين بأنه المتفق مع كتاب الله ، و المنسجم مع هدي
            رسول الله -صلى الله عليه وسلم- » [ كتابه ص 204 ، 205 ، 206] .
            القول ولازم القول :
            يبدأ البوطي موهماً باستخدام بعض عبارات العلماء ، فيشير إلى القول ولازم
            القول ، ولكن لا يوضح لقرائه - وهم بحاجة إلى ذلك - القول ولازم القول ؟ حتى
            نعلم : أصحيح أن ابن تيمية - ودعك ممن يقلده في نهجه - يأخذ ابن عربي وأمثاله
            بلازم أقوالهم ، دون أن يحمل نفسه على التأكد من أنهم يعتقدون فعلاً ذلك اللازم ؟
            معنى هذا أنه ليس في كتب ابن عربي ما يدل دلالة واضحة على هذا الذي
            أُخذ عليه ، وإنما هي تخرصات تخرصها ابن تيمية عليه ، لكن هذا الزعم ينقضه
            البوطي
            نفسه في عبارته التالية مباشرة :
            « أما أن يكون في كتب ابن عربي كلام كثير يخالف العقيدة الصحيحة
            ويستوجب الكفر ، فهذا ما لا ريبة ولا نقاش فيه » .
            هذا طرف المعادلة الأول ! وطرفها الثاني هو : « وأما أن يدل ذلك دلالة
            قاطعة على أن ابن عربي كافر وأنه ينطلق في فهم (شهود الذات الإلهية) من أصل
            كفري هو نظرية الفيض ، فهذا ما لا يملك ابن تيمية ولا غيره أي دليل قاطع عليه »
            ما دليل البوطي على فقدان ابن تيمية وغيره الدليل عليه ؟ ! دليله ما يلي : « فإن
            كتب ابن عربي تفيض بالبيانات المفصلة ! المكررة ! (كما نقول نحن اليوم :
            الإحصائيات المفصلة ! ) التي تناقض هذا الأصل الكفري » .
            ودليل آخر :
            « وهذا بالإضافة إلى أنه قد بات معلوماً ومؤكداً (لا نقاش في هذا المعلوم
            والمؤكد الذي كأنه معلوم من الدين بالضرورة عند الشيخ ! ) أن طائفة معلومة ( ! )
            من الزنادقة الباطنية دسوا ما شاؤوا أن يدسوا في كتبه (ما أسهل الدس في كتب
            المشبوهين ! ) . من ذكر ذلك ؟ ذكره صاحب (نفح الطيب) ! وأكده صاحب
            شذرات الذهب ! وأكده في قصة طويلة ! الإمام الشعراني ، (لماذا الشعراني إمام ؛
            والمقَّري وابن عماد ليسا إمامين ؟ ! ) وأين أكده الإمام الشعراني ؟ في (اليواقيت
            والجواهر) ، وذكره الحاجي [1] خليفة في (كشف الظنون) ، بل وقاصمة الظهر أن
            ابن تيمية في مقدمة من يعلم أن تزويراً ودساً حصل في كتب ابن عربي ، (وهذا لا
            يشك فيه البوطي ! ) لكن ما الذي يمنع ابن تيمية من الاعتراف بهذا الذي لا يشك
            فيه البوطي ؟ ! ليس غير حبه للتجني على غيره ، وكتمان الحق المعلوم ، والتشبت
            بالتخرصات التي لا دليل عليها ؛ أو شيئاً في معنى هذا !
            ذكر الشيخ البوطي أسماء كل من صاحب « نفح الطيب » وصاحب
            « شذرات الذهب » وصاحب « اليواقيت والجواهر » وصاحب « كشف الظنون»
            فيمن أكد الدس في كتب ابن عربي ، ووجدنا - لدى رجوعنا إلى ترجمة ابن عربي
            في نفح الطيب ، الذي يعتبره الشيخ البوطي مصدراً يرجع إليه في هذا المجال - ما
            يلي :
            « ومما نسبه إليه - رحمه الله تعالى - غير واحد قوله :
            قلبي قطبي وقالبي أجفاني سري خَضِري وعينه عرفاني
            روحي هارون وكليمي موسى نفسي فرعون والهوى هاماني
            وذكر بعض الثقات أن هذين البيتين يكتبان لمن به القولنج في كفه ويلحسهما
            فإنه يبرأ بإذن الله تعالى قال : قال وهو من المجربات ! وقد تأول بعض العلماء
            قول الشيخ -رحمه الله تعالى- بإيمان فرعون النفس ، بدليل ما سبق ، وحكى في
            ذلك حكاية عن بعض الأولياء ممن كان ينتصر للشيخ -رحمه الله تعالى- » . [نفح
            الطيب 2/372-1373]
            وقد عثرنا في نفح الطيب على غير هذه الطرفة مما لا نستطيع أن ننقله هنا
            لما فيه من نبو عن كل ذوق ، فليُرْجَع إليه في الجزء 2/383 من نفح الطيب ،
            وتبين لنا مما ينقله هذه المؤلف أنه لا يصح أن يعتمد قوله في هذه المسألة لأنه ناقل
            عن الشعراني فلا يصح أن يقال : ذكر ذلك المقري وذكره في قصة طويلة الإمام
            الشعراني ، فما عند المقري حول ابن عربي مصدره الشعراني وغيره من المخرفين .
            أما الشعراني فشهادته في ابن عربي لا تقبل لأن ما يقال في منهج ابن عربي
            يقال في منهجه ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فهو متأخر عن ابن عربي ، فبين
            وفاتيهما حوالي 335 سنة فهل نتعلق بالشعراني ونذر مؤرخاً ثقة كالذهبي مثلاً ؟ !
            يقول الذهبي في ابن عربي :
            « ومن أردأ تواليفه كتاب « الفصوص » فإن كان لا كفر فيه فما في الدنيا
            كفر - نسأل الله العفو والنجاة ، فواغوثاه بالله ! وقد عظمه جماعة وتكلفوا لما صدر
            عنه ببعيد الاحتمالات ، وقد حكى العلامة ابن دقيق العيد شيخنا أنه سمع الشيخ عز
            الدين بن عبد السلام يقول عن ابن عربي : شيخ سوء كذاب ، يقول بقدم العالم ، لا
            يحرم فرجاً .
            قلت : (أي الذهبي) : إن كان محي الدين رجع عن مقالاته تلك قبل الموت فقد
            فاز ، وما ذلك على الله بعزيز » .
            ونحن هنا لا نحقق بل نشير فقط إلى أولية من أوليات البحث العلمي وهي :
            إذا أردنا اعتبار آراء في شخصية ما فأول ما يجب أن ننظر فيه مدى قرب هذه
            الآراء من حيث الزمن من الشخصية المتناوَلة ، ثم مدى وثاقتها وذلك بمعرفة درجة
            أصحابها وقيمة آرائهم في ميزان العلم ، فلا نقبل مثلاً بتزكية صاحب بدعة لرأس
            في بدعته ، كما يرفض رأي المتحامل فيمن عرف بالتحامل عليه ، فلا بد من النظر
            في الجذور ، وفي أقوال أهل العدالة والضبط ممن لا تعنيهم الأسماء أيا كانت ، بل
            يعنيهم الحق ويدورون معه حيث دار .
            وقد كان على الشيخ البوطي - حفظه الله - قبل أن يشير إلى صاحب نفح
            الطيب وصاحب شذرات الذهب وصاحب اليواقيت والجواهر ، وصاحب كشف
            الظنون أن يذكر لنا رأي ابن عبد السلام ، وابن دقيق العيد ، والذهبي ، وابن حجر ،
            ولا عليه بعدها أن لا يتعرض لابن تيمية من قريب ولا من بعيد ، لماذا لم يفعل
            ذلك ؟ هل يتمذهب هؤلاء النفر الكرام بالسلفية التي اعتبرها بدعة طارئة تمزق
            وحدة المسلمين ؛ وتقف حجر عثرة أمام المد الإسلامي ؟ !
            ثم إنه يفهم من هذه الحاشية أنه يعتقد أن ابن تيمية يكفر ابن عربي ، اعتماداً
            منه على رأيه في هجوم ابن تيمية على تكفير العلماء لأدنى شبهة ، وقد بينا خطأ
            هذا الرأي في المقالة السابقة وأن ابن تيمية من أكثر الناس احتياطاً ودقة في هذا
            المجال ، ولعل الذي يدفع البوطي إلى هذا الاعتقاد عدم تفريقه بين قول : هذا القول
            لفلان كفر أو فيه كفر ، والقول بأن فلاناً كافر .
            إن القول الذي هو في نفسه كفر ؛ أو المؤدي إلى الكفر ينبغي أن يبين غاية
            التبيين ، ويحذر منه أشد التحذير -وهذا ما يفعله ابن تيمية عادة في نكيره على هذه
            الأقوال ومناصريها ، وذلك أنه يرنو من خلال كل كتاباته وآثاره إلى قضية جوهرية
            هي الجانب العملي من الفكر الإسلامي ، والبعد عن الترف الفكري ، والخوض فيما
            لا فائدة منه ، والدفاع عن عقائد الإسلام وأحكامه ضد المؤثرات الدخيلة الضارة ،
            ووضع المسلمين على الجادة الصحيحة التي يفهمون فيها دورهم ، ويدركون ما
            اختصوا به من دون الأمم . وعلى هذا ينبغي أن يفهم إنكاره التالي على القائلين
            بوحدة الوجود ، وعلى من يلتمس الأعذار لهم :
            « وأما من قال : لكلامهم تأويل يوافق الشريعة فإنه من رؤوسهم وأئمتهم ،
            فإنه إن كان ذكياً فإنه يُعَرَّف كذب نفسه فيما قاله ، وإن كان معتقداً لهذا باطناً
            وظاهراً فهو أكفر من اليهود والنصارى .
            فمن لم يُكَفِّر هؤلاء وجعل لكلامهم تأويلاً كان عن تكفير النصارى بالتثليث
            والاتحاد أبعد » . [مجموع الفتاوى 2/133]
            أما عن ابن عربي بالذات فيقول : « مقالة ابن عربي في فصوص الحكم :
            وهي مع كونها كفراً فهو أقربهم إلى الإسلام ؛ لما يوجد في كلامه من الكلام الجيد
            كثيراً ولأنه لا يثبت على الاتحاد ثبات غيره ، بل هو كثير الاضطراب فيه ، وإنما
            هو قائم مع خياله الواسع ، الذي يتخيل فيه الحق تارة والباطل أخرى والله أعلم بما
            مات عليه » . [مجموع الفتاوى 2/142] .
            فانظر كيف يفرق بين المقالة وبين صاحبها ، وكيف ينصفه فينسب إليه كثرة
            الجيد في كلامه ، وبأنه لا يثبت على الاتحاد مثل غيره من القائلين بوحدة الوجود ،
            وكيف أنه لا يغمطه حقه ولا ، يهضمه مميزاته التي امتاز بها كسعة الخيال ، وكيف
            يجوز أنه قد يكون تاب من أقواله المنكرة تلك .
            أوهام على قواعد وهمية :
            إن الشيخ فيما يكتب لا يرمي إلى دفاع عن هذا العالم أو ذاك ، وليس هو
            بصدد الإحسان إلى الغزالي أو ابن حزم أو ابن عربي ؛ إنما يرمي إلى هدف محدود
            جداً يعرفه كل من تصفح كتابه هذا ، وهو الهجوم على قوم خطَّؤوه وعقبوا على
            قول أو أقوال له ، وقد اشتهروا بأشياء ، فهو يظن أنه إذا تتبع هذه الأشياء وحاول
            أن يهوِّن من شأنها سيصيب ضالته ، وهي إخماد صوت هؤلاء وتشويه صورتهم ،
            فتراه يعنِّي نفسه هذا العناء ، ويخوض مخاضات تكشف دعاواه ، وهو لا يحاول أن
            ينجو من واحدة إلا ويرمي نفسه في أخرى ، هدانا الله وإياه .
            لو كان يرمي إلى تجلية شبهات ، والرد على أخطاء ، والدفاع الصحيح عمن
            يدعي الغيرة عليهم والغضب لهم لكان هناك طريق آخر لذلك يتمثل في تحديد
            القضية المختلف عليها ، وإزالة الإبهام عنها عن طريق نقل آراء كل من الفريقين
            فيها ، ومناقشة كلام كل منهما « حسب منهج المعرفة وقواعد تفسير النصوص »
            التي دندن بها كثيراً في كتابه ، ولكن شيئاً من ذلك لم يحصل .
            والعجيب منه أنه يوهمك أنه ينطلق في أحكامه هذه من قواعد ؛ حيث لا
            قواعد ! ويضع نفسه في مكان القاضي الذي يمسك بالميزان الذي يزن به ابن تيمية
            مرة ؛ وابن عربي مرة ، أسمعه يقول :
            « ولقد حكمت هذه القاعدة في حق ابن تيمية ، قبل تحكيمها في حق ابن
            عربي » ما هذه القاعدة الشرعية ؟ وهل مر لها ذكر ؟ ! وبناء على هذه القاعدة
            الوهمية يرى أن ابن تيمية يقر الفلاسفة في اعتقادهم بالقدم النوعي للمادة (وقد تبين
            لنا مبلغ هذه الدعوى من الصحة في المقال السابق) ثم يؤكد بصلافة أن ما توصل
            إليه ؛ مما يحلو له أن يلصقه بابن تيمية ليس أقل خطورة وجلاءً من الكفر الذي
            تتضمنه عبارات واردة في كلا ابن عربي ! لماذا هذا التعسف كله ؟ هل يريد أن
            يأخذ ابن تيمية رهينة ؛ فيهدده بالكفر والتضليل إن لم يقلع أتباعه عن القول بابن
            عربي ما يقولون ؟ ! هذا ما تدل عليه حاشيته .
            لكنه يحاول أن يظهر للقارئ شيئاً من الفروسية والعفو عند المقدرة ، وإن
            شئت فشيئاً من الورع عن التقحم بالقول بلا علم ، وذلك حين ينكص عن التكفير
            والتضليل تبعاً للقاعدة أو القواعد الشرعية الموهومة التي حكمها فتراه يقول :
            ( ولكنا مع ذلك لم نجنح ، لهذا السبب (لا ندري أي سبب ؟ ! ) إلى تكفير ابن تيمية
            ولا إلى تضليله ، بل انطلقنا إلى النظر في ذلك من تحكيم القواعد الشرعية ذاتها !
            (ليلاحظ القارئ أنها كانت قاعدة ، ثم فرخت فأصبحت قواعد ! وليحل بنفسه هذه
            الأحجية ، بل هذه المعجزة ، ولا يستغرب كيف تصبح القاعدة قواعد ؛ فلعل هذا
            التكاثر حدث بانشطار الخلايا ! ولا ينسى المعجزة الكبرى ، وهي أن القاعدة
            الشرعية الأولى لا وجود لها ؛ ومع ذلك فقد ولدت قواعد ! من قال إن أدب
            اللامعقول لم يترك في الفكر الإسلامي الحديث بصمات ؟ ! )
            تسوية :
            إن البوطي يحس بالمشكلة التي تحيط بالمقلدين الذين ربطوا أنفسهم
            بالأشخاص ، فأصبحوا أسرى لكل ما يصدر عن هؤلاء الأشخاص ، فبينما يحاول
            جاهداً أن يضع بين يديك منهجاً يعصمك من الخطأ ، ويعترف انطلاقاً - من منهجه
            هو - أن في كتب ابن عربي كلاماً كثيراً يخالف العقيدة الصحيحة ويستوجب الكفر ؛
            (وهذه عبارته) تراه يلتف على هذا الاعتراف بطريقة بهلوانية لتفريغه من مدلوله
            ومحتواه ، وذلك :
            1- بالإشارة إلى ما يناقضه من (البيانات المفصلة المكررة) الموجودة في
            كتب ابن عربي [2] .
            2- وبترداد خرافة الدس في كتب ابن عربي .
            3- وبأن ابن عربي ليس بدعاً في أن يوجد في آثاره كفر وإيمان ؛ فابن تيمية
            مثله عنده هذا وهذا !
            ولا شك أن هذه النقطة الثالثة اكتشاف جديد فتح الله به على الشيخ البوطي ،
            وهو يحس بهذا الفتح ، فتراه يبدئ فيه وبعيد ، وكأنه يتصور أن هذا الفتح هو الذي
            سيلجم الخصوم ، ويلقمهم حجراً لن يستطيعوا بعده كلاماً ولن يحيروا جواباً ! وهو
            في غمرة نشوته بهذا الفتح الذي ادُّخر له إلى هذا العصر يسترسل في جلاء هذه
            النقطة حتى لا يبقى على عينها قشة ! فيأتي ببدائع أخرى ما نظن أنه سُبق إليها ،
            فقضايا الكفر والإيمان داخلة في مبدأ حسن الظن ، والعقائد والعبارات الدالة عليها
            خاضعة - في رأيه - لأنواع من التأويل والاحتمال ، « وإن كان لا بد من تأويل
            العبارات الباطلة لتتحول إلى حق فنحافظ بذلك على حسن ظننا بصاحبها ، أو من
            تأويل كلامه الحق ليتحول إلى باطل فنجعله معتمدنا في إساءة الظن به ، فإن مما لا
            يرتاب فيه المسلمون قط (لاحظ هذا الجزم) أن الواجب هو تأويل الباطل بما يتفق
            مع الحق الذي عرف الرجل به لا العكس » .
            إن هذا العبث الذي يلبسه البوطي ثوب الجدية يلتقي مع العبث الذي يهذي به
            اللادينيون الذين يهيمنون على أجهزة التوجيه والثقافة في ردهم على دعاة الإسلام ،
            مع فرق واحد وهو أن البوطي يجعل من هذا الكلام قاعدة يريد تطبيقها على ابن
            عربي وأمثاله ، وهم يطبقونها على أنفسهم ، ويطاردون بها من يقف في وجه
            ميوعتهم وزندقتهم ، حيث إن كثيراً منهم يحمل أسماء إسلامية ، وقد يقوم ببعض
            الشعائر الإسلامية ، في الوقت الذي يلاحق فيه كل قضية إسلامية عملية وحيوية ،
            فإذا ما قال لهم أحداً لا ؛ جابهوه بهذا الكلام الذي يختلط فيه الحق بالباطل ،
            ويستشهد فيه بالحق على الباطل ، والذي ينبع خطره من التوائه وغموضه
            واستشهاده بمسلَّمات إسلامية من أجل التحلل من الإسلام . وهؤلاء العلمانيون
            اللادينيون لا يخفون إعجابهم بمثل ابن عربي الذي يهتف بمبدئهم ودينهم :
            لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعىً لغزلانٍ وديرٌ لرهبانِ
            وبيتٌ لأوثانٍ وكعبة طائف وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآنِ
            أدينُ بدينِ الحبَّ أَنَّى توجهتْ ركائِبُهُ ، فالحبُّ ديني وإيماني [3]
            إن هذه السنة التي يستنها البوطي ؛ وهي وجوب تأويل الباطل ليتفق مع
            الحق ؛ فيها من الجرأة بقدر ما فيها من الجهل ، فضلاً عن أنها مستحيلة عند
            التطبيق ، حتى من قبل الدعاة إليها . فسلوك البوطي مع خصومه مخالفة عملية لهذه
            السنة التي يرفع لواءها ، فهل هو يحمل باطل خصومه على ما يعرفون به من حق
            حين يطلق لسانه فيهم وينعتهم بما ينعتهم به ؟ ! وهبه اطلع على ما نكتبه حول
            كتابه الذي ما أحببنا - والله - أن يكون قد كتبه ، لما فيه من الإساءة إليه وإلى لقبه
            العلمي ، ووددنا لو تصدق فيه أسطورة أن هذه الترهات قد دُسَّت عليه ، كما يصدِّق
            هو هذه الأسطورة في كتب ابن عربي ، .. نقول : هبه اطلع على هذه المقالات في
            نقد ما كتب ؛ فكيف سيستقبلها ؟
            هل سينشرح لها صدره ويحسن الظن بكاتبها ؟ ! إن ما عرف به مخالف لهذه
            السنة التي يبشر بها .
            إن هذه الدعوة هدم لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بل إماتة للفكر
            الصحيح البعيد عن الزغل في دنيا المسلمين ، وإشاعة لمبدأ : « أغمض عينيك
            واتبعني » ، وترك الحبل على الغارب لكل من يقول قولاً دون الالتزام بمبدأ خير
            القرون ، فمهما قرأ المسلم أو سمع عن شخص قال كذا وكذا - مما فيه نظر -
            فليس له أن يستجلي حقيقة هذا القول بل عليه أن يذهب ويفتش ملف هذا الشخص :
            هل فيه شيء من الخير ، فإن وجد خيراً فليسكت ، حملاً لما سمع من الباطل على
            ما وجد من خير و (ظُنَّ خيراً ولا تسأل عن الخبر) ، وإلا فهو سيئ الظن بالناس ،
            متعرض لما لا يعنيه ، وهكذا لن يبقى هناك من يشار إلى أنه أخطأ في مسألة ، أو
            ترتب على رأي غير سديد له مشكلة ، أو سرت آثار بدعته في الأمة حتى اتسع
            الخرق على الواقع ، وأصبح اقتلاع هذه البدعة متعسراً أو متعذراً ، وهكذا سيجلس
            أمثال : الجعد بن درهم ، والحلاج ، وابن عربي ، وابن الراوندي ، والنصير
            الطوسي ، مع مثل : أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وابن المبارك ،
            والليث بن سعد .. إخواناً على سرر متقابلين ! حيث إنه من « المعلوم والمؤكد »
            أن كل من قيل فيه أو أنكر عليه شيء في التاريخ الإسلامي لا يخلو من جانب من
            جوانب الخير ، حتى اللصوص وقطاع الطرق والظلمة والطغاة في كل عصر لا
            يخلون من ذلك ، بل إن البدعة لا يصعب تمييزها ويقع الناس فيها إلا لخفائها عليهم
            من جراء اختلاطها بجانب من جوانب الخير ، فهل نترك القول في ذلك حتى لا
            نرمى بإساءة الظن ، وهل ترك هو النكير على مما سماه (بدعة السلفية) حتى يكون
            لدعوته وثاقة ؟ ليتذكر القارئ ركن : « التخبط والتناقض » من أركان منهج
            البوطي
            .
            ألا يعلم الشيخ أن علماً قائماً بنفسه ، خاصاً بالمسلمين ، ومفخرة من مفاخرهم
            قد قام على ما يخالف دعوته هذه ، وهو علم الجرح والتعديل ؟ وهل على ما
            استشهد عليه يُسْتَشْهَدُ بالآية الكريمة : ] يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ
            إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ [ ؟ !
            ابن تيمية تحت طائلة التهديد : .
            ثم يختم حاشيته بتهديد ابن تيمية بأن يضعه تحت طائلة التكفير ، أو بكف
            الإشارة إلى كفريات ابن عربي ، لأنه إن لم يفعل ويرتدع عن التعرض لابن عربي ؛
            يكون قد جنى على نفسه بنفسه (والبوطي لا ذنب له في ذلك) ودعا الناس (بلا
            ريب) أن يكفروه بسبب ما عنده من ضلالات فلسفية ! لكن يا لهول هذه الخاتمة ويا
            لسوء عاقبة من يأخذ بها ! إنه الورع يأخذ بحجزة الشيخ البوطي أن يقتحم هذه
            المخاضة ! وهو الورع نفسه يفتقده ابن تيمية فيأبى إلا أن يحملنا على تكفير ابن
            عربي . هذا وجه من وجوه فهم عبارة الشيخ !
            ولكن مهلاً ، هناك وجه آخر ؛ كيف يتورع البوطي ويتحرج من شيء لا يد
            له فيه ولم يفعله هو ، بل هو « دعوة بلا ريب من ابن تيمية » إلى تكفير ابن تيمية ؟ !
            أرأيت ؟ ! ابن تيمية يدعو الناس إلى تكفيره ويلح عليهم أن يدعوا إلى تكفيره ولكن
            الشيخ البوطي يشهد : « أن دين الله عز وجل يأبى أن ندعو بهذه الدعوة ، كما أنه
            يحذر من الانصياع لها » .
            فالورع إذن ليس من أجل سواد عيني ابن تيمية خوفاً من أن يظلم أو يُفترَى
            عليه ؛ بل تورعاً عن استجابة دعوته الملحة للناس أن يكفروه ! فأي جريمة وأي
            ذنب يماثل ذلك ؟ ! وكيف يقدم مثل البوطي على ذلك ؟ هاهنا الورع يتدخل ، فيحل
            المشكلة !
            هذا كلام له خَبئٌ معناه ليست لنا عقول !

            وبقي غموض يسير يحتاج إلى تجلية وهو مرجع الضمير في الفعل « نكفره »

            من قوله : « فإنها لدعوة منه بلا ريب إلى أن نكفره » فقد رجعته حينما شرحت
            كلامه إلى الناس (ومنهم البوطي) ، وقد يكون مرجعه الشيخ البوطي نفسه فقط ! كما
            يقال : نحن الملك ، أو نحن رئيس الجمهورية نرسم بما يلي ، وأي المعنيين اختار
            القارئ فهو مصيب ، ويصعب على الناقد الحكم : أي المعنيين أبلغ !
            عود على بدء :
            ولكن عجباً ! يبدو الشيخ البوطي وكأنه يكتب رسالة تهديدية إلى ابن تيمية ،
            وبينهما قرون طويلة ! ألا يعلم الشيخ - أطال الله عمره - أن ابن تيمية الآن في
            مقام الذي لا يستطيع أن يقبل أو يرفض فيوجه إليه هذا الإنذار النهائي ؟ !
            إنه الأدب يا صاحبي .
            ومن صَحِبَ الليالي عَلَّمَتْهُ خداعَ الإلفِ والقيلَ الُمحالا
            وغيَّرت الخطوبَ عليه حتى تريهِ الذرَّ يحملنَ الجْبالا
            خاتمة التعليق على الحاشية :
            أنت - أيها القارئ الكريم ، أمام البوطي - أحد رجلين :
            1) إذا لم تعجز عن تصديق ما يقول ؛ وساعدتك قواك العقلية والنفسية على
            الإيمان بأن قوله هو المتفق مع كتاب الله ، والمنسجم مع هدي رسول الله -صلى
            الله عليه وسلم- فأنت متدبر للحق ، محرر قلبك من شوائب : العصبيات والأهواء .
            2) وإذا - لا سمح الله - عجزت عن ذلك لسبب من الأسباب - والأسباب
            كثيرة ! - فأنت على الضد من ذلك ، يقول : « ولعل كل متدبر للحق ، محرر قلبه
            من شوائب العصبيات والأهواء ، لا يعجز كل عن تصديق ما أقول ، وعن اليقين
            بأنه المتفق مع كتاب الله ، والمنسجم مع هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم » .
            إنها دعوة تهديدية للموافقة ، فمن يحب أن يكون معرضاً عن الحق ؟ ، مملوءاً
            قلبه بشوائب العصبيات والأهواء ؟ ! لا خيار لقارئ الشيخ البوطي ، وكأن هذا
            الأسلوب التسلطي متأثر بالمناخ الذي يخيم على بلادنا العربية وشعوبنا الإسلامية ،
            والاستفتاءات التي تطالعنا كل بضع سنين ، والتي لا خيار لك فيها إلا أن تقول :
            نعم ، وإلا فأنت عميل ، أو خائن ، أو طابور خامس ، أو غير ذلك مما في معاجم
            تجار الشعارات من الأوصاف المقززة وعندها فالويل والثبور لك !
            وقد تكرر منه أمثال هذه العبارات التي تدل بمنطوقها ومفهومها على أن طرق
            المعرفة كلها ينبغي أن تُسَدّ ، إلا ما يوصل إليه ، مع أنه ينعى على هذا الأسلوب
            التسلطي الذي يمنيك وينعم عليك بكريم الأوصاف تحريضاً على موافقته على
            استنتاجاته ، فإن لم تفعل وكان عندك تحفظ ما ؛ سلّط عليك عكس تلك الأوصاف
            صراحة أو بمفهوم المخالفة .
            في العدد القادم الحلقة الأخيرة
            ________________________
            (1) لا ندري لماذا أضاف (ال) التعريف لهذا الشخص ؟ لعله ليزيده تعريفاً وإلا فهو مشعور بدون (ال) ،
            أو لعل الـ هربت من ابن العماد إلى حاجي خليفة .
            (2) يا ليت الشيخ ذكر لنا بياناً واحداً على سبيل المثال فقط ، ليكون قد قدم خدمة جُلَّى لمن لا
            يقرؤون لابن عربي ! .
            (3) ترجمان الأشواق لابن عربي ص 19 .

            (( مجلة البيان ـ العدد [‌ 39 ] صــ ‌ 9 ذو القعدة 1411 ـ مايو 1991 ))

            تعليق


            • #7
              رد: حول البوطي وعقيدته وأمور أخرى

              بعضَ عنائك يا شيخ
              عبد القادر حامد
              لِمَ كل هذه الحملة المرهقة ، والمعاناة الناصبة التي يتكلفها الشيخ البوطي ؟ لم
              هذا الحشد المنظم لهذه الأفكار المضطربة حول تيار لازال يشق طريقه بتصميم
              وعزيمة جادة في ثنايا الحياة الإسلامية ، وهذا التصميم وهذه العزيمة تناسب
              الصعوبات المبثوثة في طريقه ، وعلى الرغم من هذه الصعوبات فإن المؤمنين بهذا
              التيار يعتقدون أن أمره جد ، لأنه دين ، وأنهم بهذا الاعتبار ليسوا ثلة قليلة منعزلة ،
              ولا جماعة مشاغبة همها التفريق - كما يحاول الشيخ البوطي أن يصوره - بل
              جموع جرارة متعطشة إلى عودة الإسلام ليظلل حياة الناس من جديد .
              إن المسلمين في كل البقاع ملوا من اللافتات التي ترفع باسم الإسلام هنا
              وهناك ، وضاقت صدورهم بالإسلام « الرسمي » الذي قيد بالقيود والسلاسل
              والأغلال ، الذي يقدم إليهم على أنه هو الإسلام الذي أنقذ به الله البشر ، وصموا
              آذانهم عما يلق عليهم من فتاوى هذا الإسلام « الحكومي » ، وفروا إلى تاريخهم
              وسير رجالهم لعلهم يجدون فيها شيئاً من السلوان عن هذا الظلام المخيم ، فهل
              وجدوا السلوى ؟
              نعم وجدوا .. فإن قراءة فكر ابن تيمية تكشف عن رجل كانت حياته وأفكاره
              تمثيلاً لقضايا المسلمين المصيرية ، وشرحاً عملياً ونظرياً لقوة ونصوع الإسلام ؛
              وللعقبات والصعوبات التي تعترض سبيله لينتشر ويسود . بل وجدوا فيه أكثر من
              ذلك ؟ وجدوا فيه رجلاً عاش عصره وتفاعل مع مشاكله تفاعل المعتز بدينه ،
              الواثق به ، على رغم كل المصاعب ، وتصدى لجبهات كثيرة ، فما طأطأ لها رأساً ،
              ولا لانت له قناة . هذه الجبهات التي قد يبدو التصدي لها لبعض الناس - ومنهم
              علماء - أمراً لا طائل تحته ، ولا ثمرة منه غير التعب الذي يجني على صاحبه
              ويسيء إليه . ولكن تصدي ابن تيمية لها بهذه الروح من أبرز بواعث الحياة في
              حقل الدعوة الإسلامية فيما بعد عصره إلى اليوم . وذلك لأن مقصود هذه الجبهات
              في حربها للإسلام واحد وهو تغييبه عن مسرح الحياة ، أو تحييده وتجميده على
              الأقل . بل إن ذلك هو أوضح دليل على وحدة المنهج الفكري والتطبيقي عند ابن
              تيمية ، فالسلبيات التي تعترض سبيل الإسلام يجب أن تبين أصولاً وفروعاً ،
              وأعداء الإسلام التاريخيون ينبغي أن يرشد المسلمون إلى أساليبهم ومواصفاتهم ،
              دون مواربة ولا مداهنة . والبدع التي طرأت على مسيرة المسلمين لابد من كشف
              جذورها ، ومصادر حياتها ، وأخطارها ، دون غمغمة ولا مجاملة .
              صورة التيار السلفي عند البوطي :
              يرى البوطي أتباع هذا التيار أنهم مجموعة تحاول اختلاق مذهب جديد
              والانغلاق عليه . وأنهم جماعة تريد تفريق كلمة المسلمين ، بل وتصد عن الإسلام ،
              وأن كلمة « السلف » تضم الصالح والطالح ، ولم تعرف هذه الكلمة ، ولم يستخدمها
              المسلمون للدلالة على جماعة لها مواصفات معينة . « كيف ولو أنهم عبروا عن
              كينونتهم الجماعية ووحدتهم المذهبية بهذا الشعار إذن لدخل معهم في تلك الكينونة
              الجامعة سائر تلك الفرق الجانحة عن الحق الشاردة عن كتاب الله وسنة رسوله -
              صلى الله عليه وسلم- ، إذ إنهم جميعاً (أي الفرق الجانحة عن الحق) مصبوغون
              بصبغة هذا الشعار ، سواء انتموا أم لم ينتموا إليه (هكذا بالإكراه ! ) ، بل إنهم
              السلف أنفسهم لا المذهب الذي ينتمي إليهم (يا ناس ! ) ، فهم بكل فئاتهم وأشتاتهم
              أصل هذا المذهب وجذوره ، دون أي تفريق بين مهتد وزائغ ، وبين صالح
              وطالح » [1] .
              ويرى أن ظهور شعار « السلفية » كان في مصر إبان الاحتلال البريطاني
              لها ، وأيام ظهور حركة الإصلاح الديني التي قادها وحمل لواءها كل من جمال
              الدين الأفغاني ومحمد عبده ، ثم استحلى أتباع (المذهب الوهابي) هذا الشعار ؛ لما
              بين أتباعه وبين حركة الأفغاني ومحمد عبده من قاسم مشترك ! وهو لا ينسى أن
              يعرض بدعوة محمد بن عبد الوهاب مدعياً « بأن ينبوع مذهبه - بكل ما يتضمنه
              من مزايا وخصائص - يقف عند الشيخ محمد بن عبد الوهاب » ، وهي عبارة
              ملتوية لو طولب البوطي بشرحها لدار وناور ، ولكان له موقف منها حسب هوى
              من يكلمه فيها .
              ويرى أن ضيق وتبرم أتباع ابن عبد الوهاب بكلمة (الوهابية) جعلهم
              يستبدلون كلمة (السلفية) بها ، ليوحوا إلى الناس بأن أفكار هذا المذهب لا تقف عند
              محمد بن عبد الوهاب ، بل ترقى إلى السلف ، وأنهم في تبيينهم لهذا المذهب ،
              أمناء على عقيدة السلف وأفكارهم ، ومنهجهم في فهم الإسلام وتطبيقه [2] . [236
              من كتابه ] .
              ويضع تعريفاً طريفاً للسلفي فيقول :
              « والسلفي اليوم كل من تمسك بقائمة من الآراء الاجتهادية المعينة ( ! ) دافع
              عنها ، وسفه الخارجين عليها ونسبهم إلى الابتداع ، سواء منها ما يتعلق بالأمور
              الاعتقادية ، أو الأحكام الفقهية والسلوكية » [3] [ص237] .
              ويقول أيضاً في كلام كأنما يصف نفسه : « فكل من حصر الحق في الرأي
              الذي انتهى إليه ، وعد صاحب الرأي الثاني مبتدعاً أو زائغاً ، على الرغم مما
              وضحناه من أن كلا الرأيين نابتان في حقل المنهج المتفق عليه ، فهو المبتدع حقاً [4] ،
              وهو المفرق لجماعة المسلمين ، والمتسبب لإثارة البغضاء فيما بينهم دون أي
              موجب أو عذر ، وهو المتنكب عن إجماع المسلمين .. » ، [ص 238] .
              ويرى أن (السلفية) مذهب جديد مخترع في الدين ، وهو مجموعة آراء
              اجتهادية في الأفكار الاعتقادية والأحكام السلوكية ، انتقيت من مجموع آراء اجتهادية
              كثيرة مختلفة ، قال بها كثير من علماء السلف وخيرة أهل السنة الجماعة ، لكن
              على غير أساس علمي ، بل « اعتمادا على ما اقتضته أمزجتهم وميولاتهم الخاصة
              بهم » [5] ، بل ويختم هذه التخرصات بالإعلان أن هذه البدعة لا سابقة لها في أي
              عهد من عهود السلف أو الخلف ، و « من أشنع مظاهر البدع الدخيلة على الدين »
              بل ويقسم بحياته أنه لا يعرف للبدعة معنى غير ابتداع لفظة السلفية فيرفع
              عقيرته قائلاً : « ولعمري ، لئن لم يكن هذا كله ابتداعاً في الدين ، فما هو المعنى
              المتبقي للبدعة إذن ، وفي أي مثال أو مظهر يبرز ويتجسد ؟ ! » [ كتابه
              ص 242]
              وقد سقنا هذه العبارات والفقرات ليتضح لنا تصور الشيخ لهذه الكلمة التي
              أطارت النوم من جفونه وكلفته هذا العناء ، ولا نريد مناقشة ما جاء به من تعريفات
              وتأكيدات حتى لا يطول الكلام ، ولكن نكتفي بطرح النقاط التالية :
              لا شك أن الشيخ على علم بالعبارة المأثورة عند أمثاله ممن يدرسون ويدرسون
              العقيدة على طريقة المتكلمين وهي : (مذهب السلف أسلم ، ومذهب الخلف أحكم) [6] ،
              ألا تعني هذه العبارة أن هناك شيئاً اسمه مذهب السلف ، وشيئاً اسمه مذهب
              الخلف ؟
              هل الشيخ متأكد أن الناس قبل هذا العصر لم يستخدموا كلمه السلف ليدلوا
              على تيار معين في المسلمين ؟ وليضرب صفحاً عن آثار ابن تيمية وابن القيم
              وأتباع هذه المدرسة ؛ ألا يجد في كتب الحديث والتراجم شيئاً يدل على ذلك ؟
              أما نحن فنجد ذلك واضحاً كل الوضوح ، وأن التيار المتمسك بالكتاب والسنة
              وفهمهما كما فهمهما الصحابة والتابعون وتابعوهم (وهم خير القرون) تيار واضح
              القسمات في كتب العلم .
              قال الخطابي : « هذا الحديث وما أشبهه من الأحاديث في الصفات كان
              مذهب السلف فيها : الإيمان بها وإجراءها على ظاهرها ونفي الكيفية عنها » [7] .
              وجاء في الأعلام للزركلي ، 8/6 : « نبا بن محمد بن محفوظ القرشي ،
              المعروف بابن الحوراني ، الشيخ أبو البيان ، شيخ الطائفة البيانية ، من المتصوفة
              بدمشق ، قال ابن قاضي شهبة : كان عالماً عاملاً ، إماماً في اللغة ، شافعي المذهب ،
              سلفي العقيدة ، له تآليف ومجاميع وشعر كثير » .
              ويقول الدكتور وهبة الزحيلي عن الشيخ جمال الدين القاسمي : « كان سلفي
              العقيدة ، لا يقول بالتقليد » [8] ، فهل الشيخ الزحيلي مبتدع في استخدامه هذا
              المصطلح ؟ وإذا كان كذلك فما هو المقابل لهذه الكلمة في وصف عقيدة الشيخ جمال
              الدين القاسمي يا ترى ؟ !
              وقد غفل البوطي أو تغافل - في حمى حملته على خصومه - أن « السلفية »
              مصطلح يختلف معناه الاصطلاحي بين قوم وقوم ، فأعداء الإسلام عرباً وعجماً ،
              على اختلاف مشاربهم وتعدد نظرياتهم ؟ يطلقونه على كل من يتمسك بدينه ولا
              يتنازل عن عقيدته ، ولا يتخلى عن الأصول التي لا يجوز التخلي عنها بحجة أنها
              قديمة ، فالشيخ البوطي عند هؤلاء سلفي ؛ لأنه يعتقد أن في الإسلام واتباع منهجه
              نجاة البشرية وهدايتها ، ولا يفرقون بين مسلم ومسلم ، سواء في جزيرة العرب أو
              بلاد الشام أو شمال إفريقيا أو شبه القارة الهندية أو في أوروبا وأمريكا .. إذا كان
              هؤلاء المسلمون يعتزون بدينهم ويرونه منهجاً كاملاً شاملاً يحكم الحياة ويصلح دنيا
              البشر وآخرتهم .
              والبوطي والمتصوفة وكثير من المشايخ المتأثرين بالمدارس ذات المناهج التي
              كانت سائدة في عهد المماليك ، ثم عهد الدولة العثمانية يحصرون هذا المصطلح
              بأتباع دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومن تأثر بها ، وبأفكار شيخ الإسلام ابن
              تيمية وتلميذه ابن القيم .
              أما « السلفيون » أنفسهم الذين كرّس البوطي جهاده ضدهم ، فلا يرون أنهم
              يخترعون ويبتدعون مذهباً جديداً ، وإنما يقولون : إن هناك تياراً لازال موجوداً منذ
              عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى عصرنا هذا ، يعتمد جعل الكتاب والسنة
              وإجماع الصحابة المنهج الذي يجمع المسلمين كافة ، وهذا المنهج كان واضحاً كل
              الوضوح في عصر الصحابة والتابعين ، وهو المنهج الذي سار عليه أكابر علماء
              الأمة فيما بعد ذلك ، وقد عكر على هذا المنهج مؤثرات غريبة عنه تسللت بأسباب
              وأساليب شتى ، وما زال الأمر كذلك ، حتى ظهور مدرسة ابن تيمية وتلاميذه التي
              أحدثت هزة عنيفة في ذلك الوقت ، وعلى الرغم من وقوف الحكومات وعلماء
              السلطة في وجه هذه المدرسة وعملهم المستميت في كبت صوتها ، إلا إن القوة التي
              تميز بها هذا الصوت لم تتلاش ولم تندثر ، بل بقي الصدى يتردد هنا وهناك ، ولا
              نرى حاجة في تفصيل أسباب ذلك وآثاره هنا ، بل نقول : إننا نرى الجهود التي
              تصدت لمنهج ابن تيمية في السابق هي هي الجهود التي تحتشد لاجتثاث هذا المنهج
              من حياة المسلمين ، ولكن هل يمكن ذلك ؟ هذا سؤال متروك لأصحاب هذه الحملة
              ليجيبوا عليه بالقول الصريح ، أو بالفعل المقنع .
              وأتباع هذا المنهج لا يدعون العصمة ، كما أنه إذا بدا في سلوك بعضهم ما
              يغضب غيرهم ؛ فماذا في ذلك ؟ إن من طبيعة النفس البشرية أن يضيق صدرها
              بما يخالف ما هي عليه ، والإنسان عدو ما يجهل ، وكذلك فإن الخطأ والظلم من
              هؤلاء ممكن ومتصور ؟ أليسوا بشراً ؟ وقد قال الله عز وجل : ] إنَّا عَرَضْنَا
              الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ والأَرْضِ والْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وأَشْفَقْنَ مِنْهَا وحَمَلَهَا
              الإنسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [ [الأحزاب 72] .
              وإنه « ما من طائفة إلا وفي بعضهم من يقول أقوالاً ظاهرها الفساد . وهي
              التي يحفظها من ينفر منهم ، ويشنع بها عليهم ، وإن كان أكثرهم ينكرها ويدفعها » [9]
              وهذا ما فعله الشيخ البوطي عندما استضافته « رابطة العالم الإسلامي » عام
              1406 هـ شاكى هو ، وكثير من ضيوف الرابطة الذين جاءوا من أوروبا
              وأمريكا وآسيا وإفريقيا ، تشاكوا بمرارة وأسى مشكلة وحيدة هي الخلافات
              والخصومات الطاحنة ( ! ) التي تثيرها بينهم جماعة السلفية [10] ! هذا ولعله من
              رحمة الله بالمسلمين ، ومن فضله وستره على السلفيين ؛ أننا منذ ذلك التاريخ
              المشار إليه - وهو تاريخ حضور الشيخ البوطي لذلك الموسم الثقافي الذي دعت
              إليه « رابطة العالم الإسلامي » - لم نسمع بعدها عن شيء مما أشار إليه الشيخ
              والشاكون إليه ، فها نحن منذ عام 1405هـ وإلى الآن - قرب نهاية عام 1411
              هـ - نعيش في بلد أوربي فيه عدد لا بأس به من المسلمين من مختلف الأصقاع
              والمشارب ، لم نسمع عن شيء من هذه « الخلافات والخصومات الطاحنة » التي
              يتقلب البوطي منها على مثل جمر الغضا .. ! وهل على أحد لوم إذا ما ذكرته هذه
              العبارة « الطاحنة » بأبيات زهير التي يصف فيها الحرب من معلقته :
              وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمُ وما هو عنها بالحديث المرَجَّمِ
              متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً وتَضرَ إذا ضرَّيتموها فَتَضْرَمِ
              فَتَعرُكُكُم عَرْك الرحى بثِّفالها وتَلْقَحْ كَشافاً ثم تُنْتَجْ فتُتْئِم
              وقبل أن نضع القلم نحب أن نتوجه بكلمتين إلى شيخنا البوطي .
              الكلمة الأولى :
              في الناس من يقرأ لابن تيمية ولغيره ، وفيهم من له عقل يستطيع أن يميز
              بين السقيم والسمين ، وبين النافع والضار ، وهذه كتب العلم لم تزل مبذولة تشهد
              على كاتبيها ، وقد أصبحت منتشرة أكثر والوصول إليها أسهل بحمد الله ؛ فمن يا
              ترى من العلماء يرشح لنا الشيخ البوطي حتى نتخذ منه نافذة نطل بها على تراثنا
              الإسلامي العظيم نقلاً وعقلاً وفهماً واستنباطاً ، ومن كتب في مناحٍ المسلمُ أحوج ما
              يكون إليها في هذا العصر الهائج المائج ؟
              سيقول الشيخ : وهل تدعون أن أحداً من العلماء أحاط بكل ما يحتاجه
              المسلمون ، وأجاب عن كل تساؤل يعرض لهم ؟ إذا كنتم تدعون ذلك فقد أبعدتم
              النجعة ، وبالغتم مبالغة مذمومة ، وبلغتم بابن تيمية أو غيره ممن تتعصبون له درجة
              لا تطاق ولا تقرون عليها ! إن هذا العلم قدر مشترك لكل علماء المسلمين ، وكل
              منهم ساهم في هذا البناء المتماسك .
              فنقول : نعم ، لا ندعي لأحد الإحاطة ، ولا نغمط أحداً حقه ولا نبخسه ما
              وهبه الله ، يأبى علينا الإنصاف ذلك ، ولكننا - مع اعترافنا لكل ذي حق بحقه -
              ننظر إلى ما هو موجود ، وإلى نفعه للمسلمين من الجانب العملي ، وإلى مردوده
              على ما نتطلع إليه من الانتقال بحالهم من التراجع والضعف ؛ إلى النظر إلى
              المستقبل بثقة وثبات ، وإلى تحويل إمكاناتهم من قوة كامنة إلى قوة دافعة ، أي كتب
              تقترحها علينا نطل من خلالها على الإسلام الصافي بقوة حججه ، وسمو أخلاقه ،
              ووضوح أفكاره ، وحرارة الإيمان ، وفاعلية العقيدة فيه :
              الفتوحات المكية أم اقتضاء الصراط المستقيم ؟ !
              فصوص الحكم أم منهاج السنة النبوية ؟ !
              اليواقيت والجواهر أم الصارم المسلول ؟ !
              إرشاد المغفلين من الفقهاء والفقراء إلى شروط صحبة الأمراء ! أم السياسة
              الشرعية ؟ !
              الكبريت الأحمر وشرح وصية المتبولي أم درء تعارض العقل والنقل [11] ؟
              الكلمة الثانية :
              هناك مجال ما أجداه على الدعوة الإسلامية لو اقتحمه الشيخ البوطي ، فبدلاً
              من اقتصاره على الحديث ناقداً ومشنعاً على إخوانه أتباع الكتاب والسنة ، وشنه هذه
              الحملات المتكررة عليهم في داخل بلده وخارجه ؛ حبذا لو خرج من هذه الدائرة
              المغلقة والتفت إلى تربية الدعاة والاهتمام بنشر العلم الشرعي الذي استؤصلت
              معالمه بشكل مقصود وأساليب ملتوية مفضوحة ، إلا بقايا من الجهود الفردية التي لا
              تفي بالحاجة ولا تقوى على التحديات المحيطة ، وإن في إمكانات الشيخ البوطي -
              « التي لا نحب أن نرتاب فيها » - البركة ، فهو في حال - من البحبوحة الكلامية ،
              وحرية التحرك - يغبطه عليها الكثير ، وله قدم صدق عند أصحاب الحل والعقد ،
              فلم لا يستثمر هذه الفرصة بما يعود على الإسلام والمسلمين بالخير ، وينشِّط
              « الصحوة الإسلامية » التي نوه بها بقوله مرة : « إن معين الصحوة الإسلإمية
              من الشام ، وهي من الشام تنتشر ، وسرها في الشام ، وقد كان ذلك فيما مضى ،
              واليوم ، وسيبقى بعد اليوم » [12] . بشره الله بالخير ، ولو أزال الشيخ الغموض
              الكامن في عبارة « وسرها في الشام » لأجاد وأفاد ، ووفى بالمراد ، ولشكر له
              المنتظرون سماع هذه التطمينات شكراً لا مزيد عليه . وكذلك قوله الآتي في
              كلمته تلك فيه غموض يحتاج إلى تفصيل وشرح ، ولا يقدر على ذلك سواه -
              حفظه الله - فهلا فعل ؟ ! يقول :
              « إن المكائد تضاعفت ليس من أفراد فقط أو جماعات ؟ بل من حكومات
              تعادي الإسلام ... وإذا كانت الشام منبع أعداء الإسلام فلتنهض الشام نهضتها ،
              ولينهض الشعب متعاوناً مع رئيسه » [13] . كيف يكون معين الصحوة في الشام ؛
              ومنبع أعداء الإسلام من الشام ؟ ! ومن الأفراد ، ومن الجماعات ، ومن الحكومات
              التي تعادي الإسلام ؟ ولم لا تضع دليلاً يستخدمه أهل الشام لاكتشاف هؤلاء الأفراد ،
              والجماعات ، والحكومات ؟ ! كل ذلك يحتاج إلى تجلية وبيان من أجل النشء
              الذي وقفت جهودك لتوعيته ، لتستبين سبيل المجرمين . فضع إصبعك على
              الجروح الناغرة يا شيخ ، ولا تخف ، وخذِّل عن المسلمين ، ولا يكن همك كهمِّ
              المتنبي فقط ؛ ضيعة أو ولاية [14] ، فما أنت فيه خير من الضيعة أو الولاية ،
              وكن على ذكر من كلمة إبراهيم بن أدهم أو غيره : « لو يعلم الملوك ما نحن فيه
              لجالدونا عليه بالسيوف » . واعتبر بأصحاب الضيعات حواليك - ضباع تتهارش
              على الجيف في العاجلة ، وتذهب - مخلفة روائح الجيف ورائها - إلى الآجلة .
              *انتهى*
              ________________________
              (1) خاتمة هذه العبارة تذكر بعبارة شمشون الجبار : عليَّ وعلى أعدائي ياربَّ ! .
              (2) كلام خطير يبين دخيلة البوطي على حقيقتها وموقفه ممن لا يرون رأيه المريض في دعوة الشيخ
              محمد بن عبد الوهاب حيث يريد أن يقطع - بتفسيره المدخول - صلة هذه الدعوة بجذور العقيدة
              الإسلامية الصحيحة ، ومع أن كلامه هذا ظاهر التهافت ؛ وهو يحس بذلك ؛ لذلك فقد قال في الكلمة
              التي وشح بها ظهر غلاف كتابه : إنما أخرجت هذا الكتاب لناشئة الأمة ، ولكن من أين له أن يغطي
              الشمس غرباله ؟ ! .
              (3) ألا ينطبق هذا التعريف عليه ؟ ! .
              (4) مر قبل كلامه هذا أنه يعتبر السلفيين مبتدعين بلا ريب ، وأن الابتداع ثابت في اتخاذ كلمة (السلفية)
              هذه ، وعلى الرغم من قذفه وشتائمه المتكررة فإنه لم يستطيع أذ يثبت بكلمة موثقة أن السلفيين الذين
              يشهر بهم بأوصافه هذه يقولون بهذه الآراء واللوازم التي يتخايل بها .
              (5) سبحانك هذا بهتان عظيم .
              (6) نحن نستشهد بهذه العبارة على سبيل الإلزام ، لا اقتناعاً بفحواها ؛ بل نرى أن مذهب السلف أسلم
              وأحكم .
              (7) جلاء العينين ص 404 .
              (8) بحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب 2/235 .
              (9) مجموع فتاوى ابن تيمية 17/362 .
              (10) ليلاحظ القارئ الكريم أن هذا التشاكي لم يكن جماعياً بل كل واحد من الضيوف كان يشكو للشيخ
              البوطي
              على انفراد من هذه المحنة .
              (11) الفتوحات المكية ، وفصوص الحكم ، كتابان لابن عربي واليواقيت والجواهر ، وإرشاد المغفلين
              والكبريت الأحمر ، ووصية المتبولي كتب للشعراني الصوفي وهي كتب مشهورها كمجهولها في
              الضرر أو قلة النفع عند العقلاء .
              (12) صحيفة تشرين 18/4/1990 .
              (13) صحيفة تشرين 18/4/1990 .
              (14) إشارة إلى قوله في مدح كافور الإخشيدى :
              إذا لم تَنط بى ضيعة أو ولاية فجودك يكسوني وشغلك يسلُبُ .

              (( مجلة البيان ـ العدد [‌ 40 ] صــ ‌ 7 ذو الحجة 1411 ـ يونيو 1991 ))

              تعليق


              • #8
                رد: حول البوطي وعقيدته وأمور أخرى

                وهذا رد الشيخ الفوزان على البوطي

                نظرات وتعقيبات على ما في كتاب ‏"‏السلفية‏"‏ لمحمد سعيد رمضان من الهفوات

                الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وبعد‏.‏‏.‏‏.‏

                فقد اطلعت على كتاب من تأليف الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي بعنوان ‏"‏السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي‏"‏ فاستغربت هذا العنوان لما يوحي به من إنكار أن يكون للسلف مذهب ومنهج تجب علينا معرفته والتمسك به وترك المذاهب المخالفة له ولما قرأت الكتاب وجدت مضمونه أغرب من عنوانه حيث وجدته يقول فيه إن التمذهب بالسلفية بدعة ويشن حملة على السلفيين، ونحن نتساءل هل الذي حمله على أن يشن هذه الحملة التي تناولت حتى القدامى منهم كشيخ الإسلام ابن تيمية وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب هل الذي حمله على ذلك كراهيته للبدع فظن أن التمذهب بالسلفية بدعة فكرهه لذلك‏؟‏ كلا ليس الحامل له كراهية البدع لأننا رأيناه يؤيد في هذا الكتاب كثيرا من البدع يؤيد الأذكار الصوفية المبتدعة ويؤيد الدعاء الجماعي بعد صلاة الفريضة وهو بدعة، ويؤيد السفر لزيارة قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو بدعة فاتضح لنا‏.‏ والله أعلم أن الحامل له شن هذه الحملة هو التضايق من الآراء السلفية التي تناهض البدع والأفكار التي يعيشها كثير من العالم الإسلامى اليوم وهي لا تتلائم مع منهج السلف وقد ناقشت في هذه العجالة الآراء التي أبداها في كتابه المذكور حول السلفية والسلفيين وذلك من خلال التعقيبات التالية وهي تعقيبات

                مختصرة تضع تصورا لما يحتويه كتابه من آراء هي محل نظر وإذا كان الدكتور يعني بحملته هذه جماعة معينة فلماذا لا يخصها ببيان أخطائها دون أن يعمم الحكم على جميع السلفيين المعاصرين وحتى بعض السابقين‏.‏


                والآن إلى التعقيبات‏:‏


                التعقيب الأول‏:‏

                قوله في العنوان ‏"‏ السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي ‏"‏

                هذا العنوان معناه أن السلف ليس لهم مذهب يعرفون به وكأنهم في نظره عوام عاشوا في فترة من الزمن بلا مذهب ومعناه أيضا أن تفريق العلماء بين مذهب السلف ومذهب الخلف تفريق خاطئ لأن السلف ليس لهم مذهب، وعلى هذا لا معنى لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ‏(‏عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ وقوله لما سئل عن الفرقة الناجية من هي‏؟‏ قال ‏(‏هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي‏)‏ لا معنى لهذا كله لأن السلف ليس لهم مذهب ولعل قصد الدكتور من ذلك هو الرد على الذين يتمسكون بمذهب السلف في هذا الزمان ويخالفون المبتدعة والخرافيين‏.‏

                التعقيب الثاني‏:‏

                قوله في ‏(‏ص5‏)‏‏:‏

                ‏"‏ هذا الكتاب لا يتضمن أي مناقشة لآراء السلفية وآفكارهم التي يعرفون بها كما لا يتضمن تصويبا ولا تخطئة لها ‏"‏‏.‏

                ومعنى هذا أن الآراء السلفية قابلة للمناقشة والتخطئة، وهذا فيه إجمال لأن السلفية بمعناها الصحيح المعروف لا تخالف الكتاب والسنة فلا تقبل المناقشة والتخطئة‏.‏ وأما السلفية المدعاة فهي محل النظر وهو لم يحدد المراد بالسلفية فكأن كلامه موهما عاما يتناول السلفية الصحيحة والسلفية المدعاة‏.‏

                التعقيب الثالث‏:‏

                في ‏(‏ص12‏)‏ المقطع الأول يعلل فيه أن وجوب اتباع السلف بكونهم أفهم للنصوص لسلامة لغتهم ولمخالتطهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -‏.‏

                وهذا فيه نقص كبير لأنه أهمل قضية تلقيهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعلمهم منه وسؤالهم إياه ومشاهدتهم التنزيل على رسول الله وتلقيهم التأويل عنه - صلى الله عليه وسلم -?، وهذه مرتبة من العلم لم يبلغها غيرهم، وقد أهمل ذكرها وتناساها تماما كما أنه في آخر هذه الصفحة يقرر أن اتباع السلف لا يعني أخذ أقوالهم والاستدلال بمواقفهم من الوقائع وإنما يعني الرجوع إلى القواعد التي كانوا يحتكمون إليها‏.‏ ومعنى هذا الكلام أن أقوال السلف وأفعالهم ليست حجة وإنما الحجة هي القواعد التي كانوا يسيرون عليها‏.‏ وهذا كلام فيه تناقض لأن معناه أننا نلغي أقوالهم ونأخذ قواعدها فقط ونستنبط بها من النصوص غير استنباطهم، وهذا إهدار لكلام السلف ودعوة لكلام جديد وفهم جديد يدعي فيه أنه على قواعد السلف‏.‏ التعقيب الرابع‏:‏ في ‏(‏ص13و14‏)‏ ينكر أن تتميز طائفة من المسلمين من بين الفرق المختلفة والمفترقة وتسمى بالسلفية ويقول‏:‏ لا اختلاف بين السلف والخلف ولا حواجز بينهم ولا انقسام‏.‏ وهذا فيه إنكار لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم‏)‏‏.‏ وقوله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة‏)‏ قيل من هي يا رسول الله قال‏:‏ ‏(‏هم من كان على مثل ما أنا عليه أنا وأصحابي‏)‏ فهذا الحديثان يدلان على وجود الافتراق والانقسام والتميز بين السلف وأتباعهم وبين غيرهم‏.‏ والسلف ومن سار على نهجهم ما زالوا يميزون أتباع السنة عن غيرهم من المبتدعة والفرق الضالة ويسمونهم أهل السنة والجماعة وأتباع السلف الصالح ومؤلفاتهم مملوءة بذلك، حيث يردون على الفرق المخالفة لفرقة أهل السنة وأتباع السلف‏.‏ والدكتور يجحد هذا ويقول‏:‏ لا اختلاف بين السلف والخلف ولا حواجز بينهم ولا انقسام‏.‏ وهذا إنكار للواقع مخالف لما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجود الانقسام والافتراق في هذه الأمة وأنه لا يبقى على الحق منها إلا فرقة واحدة‏.‏ التعقيب الخامس‏:‏ من ‏(‏ص14 - 17‏)‏ يحاول أن يسوغ قوله بعدم وجوب الأخذ بأقوال السلف وأعمالهم وتصرفاتهم بأن السلف أنفسهم لم يدعوا الناس إلى ذلك، وبأن العادات تختلف وتتطور في اللباب والمباني والأواني‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ ما ذكره وهذا الكلام فيه جهل وخلط وتلبيس من وجهين‏:‏ الوجه الأول‏:‏ قوله إن السلف لم يدعوا إلى الأخذ بأقوال السابقين‏.‏ وهذا كذب عليهم فإن السلف من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين يحثون على امتثال ما أمر الله به ورسوله من الاقتداء بالسلف الصالح والأخذ بأقوالهم والله قد أثنى على الذين يتبعونهم فقال تعالى ‏{‏وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الآية وقال - صلى الله عليه وسلم - عن الفرقة الناجية‏:‏ ‏(‏هم من كان على مثل ما أنا عليه أنا وأصحابي‏)‏ وقال - صلى الله عليه وسلم - ‏(‏عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي‏)‏ وقال عبد الله بن مسعود‏:‏ من كان مستنًّا فليستن بمن مات فإن الحيّ لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبر الناس قلوبا وأغزرهم علمًا وأقلهم تكلفا‏.‏ وقال الإمام مالك بن أنس‏:‏ لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها‏.‏ ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلى غير ذلك مما تضمنته الكتب المؤلفة في عقائد السلف والمسماة بكتب السنة ككتاب السنة لعبد الله ابن الإمام أحمد وكؤتاب السنة للآجري وكتاب السنة لابن أبي عاصم وغيرها تذكر أقوال السلف وتحث على الأخذ بها‏.‏ الوجه الثاني‏:‏ أنه جعل مسائل العادات كالمباني والأواني والملابس كمسائل العلم والعقائد والعبادات تختلف باختلاف الأزمنة والأعراف، وهذا منه جهل أو تلبيس فإن الفرق في ذلك معروف لأقل الناس ثقافة وعلما، كل يعرف أن العادات تختلف وأما العبادات وأحكام الشريعة فهي ثابتة‏.‏ التعقيب السادس‏:‏ في ‏(‏ص19‏)‏ المقطع الأخير، يقول‏:‏ ‏"‏ إن السلف لم يجمدوا عند أقوال صدرت عنهم ‏"‏‏.‏ ومراده أن السلف لا يبقون على أقوالهم بل يتحولون عنها، ومن ثم لا يجب علينا الأخذ بأقوالهم، وهذا فيه إجمال، فإن كان مراده أقوالهم في العقيدة فهو كذب عليهم؛ لأنهم ثبتوا على أقوالهم ولم يتحولوا عنه‏.‏ وإن كان مراده أقوالهم في المسائل الاجتهادية فهم لا يجمدون على القول الذي ظهر لهم أنه خطأ بل يتركونه إلى الصواب‏.‏ التعقيب السابع‏:‏ قوله‏:‏ ‏"‏ فكل من التزم بالمتفق عليه من تلك القواعد‏(1) والأصول وبنى اجتهاده وتفسيره وتأويلاته للنصوص على أساسها فهو مسلم ملتزم بكتاب الله وسنة رسوله ‏"‏‏.‏ نقول‏:‏ ضابط الإسلام قد بينه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديث جبريل وهو ‏(‏أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا‏)‏‏(2) فالمسلم هو الملتزم بالإسلام المقيم لأركانه، فلا حاجة إلى هذا التعريف الذي ذكره مع تعريف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم إن تعريفه فيه إجمال وعدم وضوح، فهو يتيح لكل أحد أن يفسر الإسلام بما يريد‏.‏ يدل على ذلك قوله فيما بعد‏:‏ ‏"‏ نعم إن من قواعد هذا المنهج ما قد يخضع فهمه للاجتهاد من ثم فقد وقع الخلاف‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ ‏"‏ فهل الإسلام قابل للاختلاف‏؟‏ كلا بل إن أصول الإسلام والعقيدة ليست مجالا للاجتهاد، وإنما هذا في المسائل الفرعية فمن خالف في أصول الدين وعقيدته فإنه يكفر أو يضلل بحسب مخالفته؛ لأن مدارها على النص والتوقيف ولا مسرح للاجتهاد فيه‏.‏ التعقيب الثامن‏:‏ قوله‏:‏ ‏"‏ إن السلفية لا تعني إلا مرحلة زمنية، قصارى ما في الأمر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصفها بالخيرية كما وصف كل عصر آت من بعد بأنه خير من الذي يليه، فإن قصدت بها جماعة إسلامية ذات منهج معين خاص بها فتلك إذن أحد البدع ‏"‏ اهـ‏.‏ ونقول هذا التفسير منه للسلفية بأنها مرحلة زمنية وليست جماعة - تفسير غريب وباطل، فهل يقال‏:‏ للمرحلة الزمنية بأنها سلفية‏؟‏ ‏!‏ هذا لم يقل به أحد من البشر، وإنما تطلق السلفية على الجماعة المؤمنة الذين عاشوا في العصر الأول من عصور الإسلام، والتزموا بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ووصفهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله‏:‏ ‏(‏خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم‏)‏ الحديث‏.‏ فهذا وصف لجماعة وليس لمرحلة زمنية، ولما ذكر - صلى الله عليه وسلم - افتراق الأمة فيما بعد قال عن الفرق كلها أنها في النار إلا واحدة، ووصف هذه الواحدة بأنها هي التي تتبع منهج السلف وتسير عليه فقال‏:‏ ‏(‏هم من كان على مثل ما أنا عليه أنا وأصحابي‏)‏ فدل على أن هناك جماعة سلفية سابقة وجماعة متأخرة تتبعها في نهجها، وهناك جماعات مخالفة لها متوعدة بالنار، وما ذلك إلا لضلال هذه الفرق المخالفة للفرق الناجية، لا كما يقول فيما سبق في ‏(‏ص 20/21‏)‏‏:‏ ‏"‏ ومن حق صاحب أحد الرأيين أو الآراء في تلك المسائل الاجتهادية أن يطمئن إلى أن ما ذهب إليه هو الصواب، ولكن ليس من حقه أن يجزم بأن الذين خالفوه إلى الآراء الأخرى ضالون خارجون عن حظيرة الهدى ‏"‏ اهـ‏.‏ ونقول له‏:‏ ليس هذا على إطلاقه إنما هو في المسائل الفروعية التي هي مسرح للاجتهاد‏.‏ أما مسائل العقيدة فلا مجال للاجتهاد فيها وإنما مدارها على التوقيف ومن خالف فيها ضُلِّل أو كُفِّر بحسب مخالفته وقد ضُلل السلف القدرية والخوارج والجهمية وحكموا على بعضهم بالكفر لمخالفتهم منهج السلف‏.‏ التعقيب التاسع‏:‏ زعم في ‏(‏ص27 – 31‏)‏ أن الصحابة لم يكن بهم حاجة إلى تحكيم ميزان علمي في الاستنباط‏.‏ وهذا فيه إجمال، فإن أراد بالميزان العلمي فهم النصوص ومعرفة معانيها وما يراد بها فهم أغزر الناس علمًا في ذلك وأقلهم تكلفا، وإن أراد بالميزان العلمي منهج الجدل وعلم الكلام فهذا ميزان جهلي لا ميزان علمي وهم أغنى الناس عنه، وقد تركوه وحذروا منه وضللوا أصحابه؛ لأنه لا يوصل إلى حقيقة ولا يهدي إلى صواب وإنما آل بأصحابه إلى الشك وإن زعم من ابتلي به أنه ميزان علمي، ووصفوا أنفسهم بأن طريقتهم أعلم وأحكم وأن طريق السلف أسلم، ويصفون السلف بأنهم ظاهريون كما وصفهم الدكتور بذلك في هذا الكتاب في ‏(‏ص 31‏)‏ فقال‏:‏ فإن الشأن فيما ذكرناه عنهم من ابتعادهم عن ساحة الرأي وعدم الخوض فيما تلقوه من أنباء الغيب وغوامض المعاني ووقوفهم في ذلك مع ظاهر النص دون تعطيل ولا تشبيه، فهذا معناه أن طريقة السلف طريقة بدائية تقف عند ظاهر النصوص، وليست طريقة علمية تنفذ إلى غور النصوص ومقاصدها‏.‏ التعقيب العاشر‏:‏ من ‏(‏ص 42 – 47‏)‏ يحاول أن يسوغ مخالفة بعض الخلف لمنهج السلف باتساع بلاد الإسلام ودخول أجناس من البشر في دين الإسلام، وهم يحملون ثقافات أجنبية وبتوسع في مجالات الحياة المعيشية باختلاف الملابس والمباني والأواني والصناعات والأطعمة‏.‏‏.‏‏.‏ إلى غير ذلك مما ذكره من الكلام الطويل، إلى أن قال في النهاية‏:‏ فلو كانت اتجاهات السلف واجتهاداتهم هذه حجة لذاتها لا تحتاج هي بدورها إلى برهان أو مستند يدعمها؛ لأنها برهان نفسها، إذ لوجب أن تكون تلك النظرات ‏"‏ يعني نظرات السلف ‏"‏ المتباعدة المتناقضة كلها حقا وصوابا، ولوجب المصير _ ودون أي تردد إلى رأي _ المصوبة (3)‏، ولما احتاج أولئك السلف رضوان الله عليهم أن يلجؤوا أخيرا من مشكلة هذا التناقض والاضطراب إلى منهج علمي يضبط حدود المصالح‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ ما قال‏.‏ ونحن نجيبه عن ذلك بجوابين‏:‏ الجواب الأول‏:‏ أن السلف لم يختلفوا في مسائل العقائد والإيمان وإنما اختلفوا في مسائل الاجتهاد الفرعية، وليس ذلك اضطرابا وتناقضا كما يقول، وإنما هو اجتهاد‏.‏ الجواب الثاني‏:‏ أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمرنا باتباعهم بقوله‏:‏ ‏(‏عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي‏)‏ وقال عن الفرقة الناجية‏:‏ ‏(‏هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم أنا وأصحابي‏)‏ وأثنى الله على من اتبعهم ورضي عنه معهم فقال سبحانه ‏{‏وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ‏}‏ والإمام مالك بن أنس - رحمه الله - يقول‏:‏ لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها‏.‏ فيجب اتباعهم والأخذ بأقوالهم لا سيما في العقيدة؛ لأن قولهم حجة كما هو مقرر في الأصول‏.‏

                تعليق


                • #9
                  رد: حول البوطي وعقيدته وأمور أخرى


                  تابع
                  رد الشيخ الفوزان على البوطي

                  نظرات وتعقيبات على ما في كتاب ‏"‏السلفية‏"‏ لمحمد سعيد رمضان من الهفوات


                  التعقيب الحادي عشر‏:‏

                  في ‏(‏ص 53 – 54‏)‏ وصف الكوثري بأنه محقّق، ونقل كلاما له ذكر فيه أن عدة من أحبار اليهود ورهبان النصارى وموابذة المجوس بثوا بين أعراب الرواة من المسلمين أساطير وأخبارا في جانب الله فيها تجسيم وتشبيه وأن المهدي أمر علماء الجدل من المتكلمين بتصنيف الكتب في الرد على الملحدين والزنادقة(4)‏ وأقاموا البراهين وأزالوا الشبه وخدموا الدين‏.‏ هكذا وصف الكوثري رواة الإسلام بأنهم أعراب راجت عليهم أساطير اليهود والنصارى والمجوس، وهذه الأساطير بزعمه هي الأخبار المتضمنة لأسماء الله وصفاته لأنها تفيد التشبيه والتجسيم عنده وأثنى على علماء الكلام الذين ردوا هذه الروايات ووصفهم بالدفاع عن الإسلام والرد على الملحدين والزنادقة‏.‏

                  وأما علماء الكتاب والسنة فليس لهم دور عند الكوثري في الذب عن الإسلام والرد على الملاحدة والزنادقة‏.‏ وقد نقل الدكتور كلامه هذا مرتضيا له ووصفه بالمحقق والله المستعان‏.‏


                  التعقيب الثاني عشر‏:‏

                  في ‏(‏ص 63‏)‏ يرى في فقرة ‏(‏1‏)‏ أنه يجب التأكد من صحة النصوص الواردة والمنقولة عن فم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرآنا كانت هذه النصوص أو سنة‏.‏

                  ونقول له‏:‏ أولا‏:‏ هل القرآن يحتاج إلى تأكد من صحته‏؟‏ أليس هو متواترا تواترا قطعيا‏؟‏ وإذا كان يريد بعض القراءات فلماذا لم يبين ويقيد كلامه بذلك‏؟‏

                  ثانيًا‏:‏ هل القرآن من فم الرسول - صلى الله عليه وسلم - كالسنة أو هو وحي كله، لفظه ومعناه من الله تعالى والرسول مبلغ فقط أن كلامه هذا يوهم أن القرآن من كلام الرسول كالسنة، وليس هو كلام الله تعالى‏.‏


                  التعقيب الثالث عشر‏:‏

                  قال في ‏(‏صفحة 63 – فقرة ج‏)‏ أنه يجب على الباحث عرض حصيلة تلك المعاني ‏"‏ أي معنى النصوص الصحيحة ‏"‏ التي وقف عليها وتأكد منها على موازين المنطق والعقل لتمحيصها، ومعرفة موقف العقل منها‏.‏ ا هـ‏.‏

                  ونقول‏:‏ هل للعقل موقف وسلطة مع النصوص الصحيحة‏؟‏ فهذا لم يقل به إلا المعتزلة ومن وافقهم، أما أهل السنة فيسلمون لما صح عن الله ورسوله، سواء أدركته عقولهم أم لا، ولا سيما في نصوص الأسماء والصفات وقضايا العقيدة، فإن العقول لا مجال لها في ذلك؛ لأنه من أمور الغيب، مع العلم أن الشرع لا يأتي بما تحيله العقول، لكنه قد يأتي بما تحار فيه العقول ولا تدرك كنهه‏.‏


                  التعقيب الرابع عشر‏:‏

                  في ‏(‏ص 64‏)‏ المقطع الثالث يستنكر تقسيم المسلمين إلى سلفيين وبدعيين، وهذا رد للنصوص التي أخبرت عن افتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، والتي أخبرت عن حدوث الاختلاف الكثير وحثت على التمسك بسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسنة الخلفاء الراشدين عند ذلك، وكتابه يدور حول هذه النقطة، وهو إنكار لما هو واقع من الانقسام والافتراق في هذه الأمة، فهو إنكار للواقع المحسوس وكان الأجدر به أن يحث المتخلفين والمفترقين إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة بدلا من أن يطمئنهم على ما هم عليه من فرقة ومخالفة وبأنهم على الحق‏.‏

                  التعقيب الخامس عشر‏:‏

                  في ‏(‏ص 65 – 67‏)‏ يشكك في صحة الاستدلال بالخبر الصحيح الذي لم يبلغ حد التواتر في الاعتقاد فيقول‏:‏

                  ‏"‏هذا القسم لا تتكون منه حجة ملزمة في نطاق الاعتقاد بحيث يقع الإنسان في طائلة الكفر إن هو لم يجزم بمضمون خبر صحيح لم يرق إلى درجة المتواتر ‏"‏‏.‏

                  ونقول‏:‏ هذا كلام غير سليم ولا سديد، فإن خبر الآحاد إذا صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجب تصديقه والتسليم له والجزم بمضمونه في العقائد وغيرها‏.‏ وهذا القول الذي ذكره قول مبتدع في الإسلام فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يرسل رسله آحادا ويقبل المرسل إليه خبره من غير توقف ولا تشكك في صحة ما جاءوا به، وكذلك الصحابة وأتباعهم كانوا يتقبلون الأحاديث الصحيحة ويحتجون بها، ولا يشكون في مضامينها في العقائد وغيرها، ولا يوجد هذا التفريق في كلام السلف، وإنما وجد في كلام بعض الخلف فهو تفريق مبتدع‏.‏ التعقيب السادس عشر‏:‏ في ‏(‏ص 99‏)‏ ذكر الدكتور البوطي الأصول والأحكام التي لا مجال للاختلاف فيها، وذكر منها اليقين بأن الله عز وجل واحد في ذاته وصفاته وأفعاله، وهذا الذي ذكره لا يزيد على توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون وجمهور الأمم، فالإقرار واليقين به وحده لا يكفي حتى ينضاف إليه توحيد الألوهية، وهو إفراد الله بالعبادة وترك عبادة ما سواه، وهذا أيضا أصل لا مجال للاختلاف فيه‏.‏ وقوله في هذه الصفحة في الفقرة ‏(‏4‏)‏ عن صفات الله أنها قديمة قدم ذاته، هذا ليس على إطلاقه، إنما يقال في صفات الذات، أما صفات الأفعال كالاستواء والنزول والخلق والرزق فهي قديمة النوع حادثة الآحاد، وكذا قوله عن كلام الله فهو قديم ليس على إطلاقه؛ لأنه من صفات الأفعال، فهو قديم النوع حادث الآحاد كغيره من صفات الأفعال، وهذا التفصيل معروف عند أهل السنة والجماعة‏.‏ التعقيب السابع عشر‏:‏ قوله في ‏(‏ص 99‏)‏ ‏"‏ وكل ما قد وصف الله به ذاته أو أخبر به عنها مما يستلزم ظاهرة التجسيد والتشبيه نثبته له كما قد أثبت ذلك لنفسه وننزهه عن الشبيه والنظير والتحيز والتجسد‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏‏.‏ نقول‏:‏ ليس في صفات الله ما يستلزم ظاهره التجسيد والتشبيه، وإنما ذلك فهم فهمه بعض الجهال أو الضلال ولا ينسب ذلك إلى النصوص؛ لأن لله صفات تخصه وتليق به لا تشبهها صفات خلقه، ولا يدور هذا في ذهن المؤمن الصادق الإيمان، وكلام الله وكلام رسوله ينزه عن أن يكون لازمه باطلا‏.‏ التعقيب الثامن عشر‏:‏ قوله في ‏(‏ص101‏)‏ في الفقرة ‏(‏8‏)‏ إن رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة لا تستلزم تحيزا في جهة معينة‏.‏ اهـ‏.‏ وأقول‏:‏ نفي الجهة عنه الله مطلقا غير صحيح فإنه سبحانه في جهة العلو كما تواترت الأدلة على علوه في خلقه، وإنما ينزه عن جهة غير العلو‏.‏ هذا مذهب أهل السنة والجماعة، بخلاف الجهمية ومن سار على منهجهم في ذلك وغيره‏.‏ التعقيب التاسع عشر‏:‏ قوله في ‏(‏ص101و102‏)‏‏:‏ إن الشفاعة في حق كثير من العصاة والمذنبين ميزة ميز الله بها نبيه عن سائر الرسل‏.‏ هذا كلام غير صحيح، فإن الشفاعة في عصاة الموحدين ليست خاصة بنبينا - صلى الله عليه وسلم - بل ليست خاصة بالأنبياء، وإنما الخاص به - صلى الله عليه وسلم - الشفاعة العظمى التي هي المقام المحمود، وما ورد الدليل باختصاصه به‏.‏ التعقيب العشرون‏:‏ قوله في ‏(‏104‏)‏ في المقطع الأخير‏:‏ والإسلام يستتبع آثاره مستقلا ومنفصلا عن الإيمان في الدنيا‏.‏ هذا الكلام فيه نظر؛ فإن الإسلام الصحيح لا ينفصل عن الإيمان لا في الدنيا ولا في الآخرة، فإن انفصل عنه فليس إسلاما صحيحا وإنما هو نفاق والمنافق لا يسمى مسلما وإنما يسمى منافقا، كما سماه الله ورسوله، ولا يلزم من معاملته معاملة المسلم في الدنيا أنه مسلم حقيقة لا في الدنيا ولا في الآخرة‏.‏

                  تعليق


                  • #10
                    رد: حول البوطي وعقيدته وأمور أخرى

                    تابع رد الشيخ الفوزان على البوطي

                    نظرات وتعقيبات على ما في كتاب ‏"‏السلفية‏"‏ لمحمد سعيد رمضان من الهفوات


                    التعقيب الحادي والعشرون‏:‏

                    قوله في ‏(‏ص107‏)‏‏:‏ والقول بأن الإنسان يخلق أفعال نفسه _ وهو مذهب المعتزلة _ ليس مكفِّرا‏.‏

                    أقول‏:‏ في نفي تكفيره نظر؛ لأن من قال ذلك إن كان مع هذا ينكر علم الله _ كما هو قول غلاة القدرية _ فهو كافر، وإن كان لا ينكره وهو مقلد لغيره فقد أنكر أحد أركان الإيمان _ وهو القدر _ على علم، فكيف لا يكفر من كان هذه حاله‏؟‏

                    وأيضا هو قد أثبت لله شريكا في خلقه، وقد قال السلف عن هذا الصنف‏:‏ إنهم مجوس هذه الأمة، بل ورد تسميتهم بذلك في أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -‏.‏


                    التعقيب الثاني والعشرون‏:‏

                    ما ذكره في ‏(‏ص111 - 112‏)‏ من أنه من أضفى صفات النبوة على عليّ بن أبي طالب وما يعتقده بعض المريدين في أشياخهم من العصمة، وما قاله الإمام الخميني من أن لأئمتهم ما لا يبلغه ملَك مقرَّب ولا نبيّ مرسَل‏.‏

                    إن هذه الأمور تعتبر شذوذات لا تستوجب لكفر أصحابها وخروجهم من الملة‏.‏

                    وكرر ذلك أيضا في ‏(‏ص110‏)‏ وقال في هامش ‏(‏ص112‏)‏ تعليق ‏(‏رقم 1‏)‏‏:‏ سألت بعض الإخوة علماء الشيعة الإيرانيين‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏

                    إن عدم تكفير من يقول هذه المقالات واعتباره أخا خطأ واضح؛ لأنها من أسباب الردة الواضحة، فكيف لا يكفرون بذلك‏؟‏‏!‏

                    التعقيب الثالث والعشرون‏:‏

                    قوله في ‏(‏ص114‏)‏‏:‏ ويقابل التعطيل التجسيم أو التشبيه، وهو أن تترك هذه الآيات ‏(‏أي آيات الصفات‏)‏ على ظاهرها، ويفهم منها المألوف في حياة المخلوقين والمحدثين، فيفهم من اليد الجارحة التي خلقها الله فينا، ويفهم من الاستواء معناه المتمثل في جلوس أحدنا على كرسيه أو سريره، ويفهم من المجيء الحركة التي تتخطى حيزا إلى غيره، وهكذا‏.‏ اهـ‏.‏

                    والجواب عن ذلك أن نقول‏:‏

                    أولا‏:‏ لا بد من ترك الآيات على ظاهرها فإنه حق مراد لله سبحانه، وكون بعض الناس يفهم منها فهما سيئا آفته من فهمه الخاطئ وليس ما فهمه هو ظاهر الآيات‏.‏


                    وَكَمْ مِنْ عائبٍ قولا صحيحا ** وآفُتُه من الفهمِ السقيمِ


                    ثانيًا‏:‏ الآيات تدل على صفات حقيقية لله، فله يد حقيقية تليق به ولا تشبه يد المخلوق، والاستواء له معنى حقيقي فسره به السلف وأئمة السنة واللغة وهو العلو والارتفاع والاستقرار والصعود، وكل هذه المعاني على ما يليق بالله لا كعلو المخلوق وارتفاعه واستقراره وصعوده، تعالى الله عن ذلك‏.‏

                    وكذلك المجيء هو مجيء حقيقي على معناه في اللغة العربية، وكذا الإتيان كما جاء في الآيات الأخرى، ولا يلزم منه مشابهة مجيء المخلوق وإتيانه، والجارحة والحيز ألفاظ مجملة لم يرد نفيها ولا إثباتها في حق الله تعالى‏.‏

                    التعقيب الرابع والعشرون‏:‏

                    في صفحة 118 - 119 أثنى على بعض المتصوفة وبعض مؤلفاتهم كالقشيري، وهذا الثناء في غير محله؛ لأن التصوف أصل مبتدع في الإسلام ودخيل عليه، وقد تطور إلى أفكار إلحادية، وما زال العلماء المحقِّقون يحذرون منه ومن أصحابه، وبالخصوص القشيري، فإن لشيخ الإسلام ابن تيمية ردا مفصلا على رسالته وما فيها من مخالفات وشطحات، وفي الثناء عليه وعلى أمثاله تغرير بمن لا يعرف حقيقتهم‏.‏


                    التعقيب الخامس والعشرون‏:‏

                    تكلم عن صفات الله عز وجل من ص 132 - 144 وقد حصل في كلامه أخطاء كثيرة من أهمها‏:‏

                    1 - عد آيات الصفات من المتشابه وهذا خطأ؛ لأن آيات الصفات عند سلف الأمة وأئمتها من المحكم، ولم يقل إنها من المتشابه إلا بعض المت أخرىن الذين لا يحتج بقولهم ولا يعتبر خلافهم‏.‏

                    2 - ذكر أن آيات الصفات لها محملان‏:‏

                    المحمل الأول‏:‏ أن تجري على ظاهرها مع تنزيه الله عز وجل عن الشبيه والشريك، وقال‏:‏ إن هذا تأويل إجمالي؛ لأن ظاهرها ما هو من صفات المخلوقين‏.‏ والجواب‏:‏ نقول له‏:‏ ليس الأمر كما ذكرت، فليس ظاهرها يدل على مشابهة صفات المخلوقين، وإنما هذا وهم توهمته أنت وغيرك من بعض الخلف، وليس هو ظاهرها؛ لأن ظاهرها هو ما يليق بجلال الله وصفات الخالق تختص به وصفات المخلوق تختص به، ثم قال‏:‏ والمحمل الثاني حملها على المعنى المجازي بأن يفسر الاستواء بالاستيلاء والتسلط والقوة‏.‏ انتهى كلامه‏.‏ والجواب أن نقول له‏:‏ لا يجوز حمل صفات الله عز وجل على المعنى المجازي؛ لأن هذا تعطيل لها عن مدلولها، بل يجب حملها على المعنى الحقيقي اللائق بالله؛ لأن الأصل في الكلام الحقيقة ولا سيما كلام الله عز وجل ولا سيما ما يتعلق به وبأسمائه وصفاته، ولا يجوز حمل الكلام على المجاز إلا عند تعذر حمله على الحقيقة، وهذا ما لم يحصل حمله في نصوص الصفات فليس هناك ما يوجب حملها على المجاز وكتسويغ منه لهذا الباطل الذي ذكره نسب إلى بعض السلف تأويل بعض الصفات، فنسب إلى الإمام أحمد تأويل‏:‏ ‏{‏وَجَاء رَبُّكَ‏}‏ بمعنى جاء أمر ربك، ونسب إلى البخاري تأويل الضحك بالرحمة، ونسب إلى الإمام حماد بن زيد تأويل نزول الله إلى السماء الدنيا بإقباله جل جلاله إلى عباده‏.‏ والجواب أن نقول‏:‏ أولا ما نسبه إلى الإمام أحمد لم يثبت عنه ولم يوثقه من كتبه أو كتب أصحابه، وذكر البيهقي لذلك لا يعتمد؛ لأن البيهقي - رحمه الله - عنده شيء من تأويل الصفات، فلا يوثق بنقله في هذا الباب؛ لأنه ربما يتساهل في النقل، والثابت المستيقن عن الإمام أحمد إثبات الصفات على حقيقتها وعدم تأويلها، فلا يترك المعروف المتيقن عنه لشيء مظنون ونقل لم يثبت عنه، وله - رحمه الله - رد على الجهمية والزنادقة في هذا الباب مشهور ومطبوع ومتداول‏.‏ ثانيًا‏:‏ وما نسبه إلى البخاري غير صحيح، فقد راجعت صحيح البخاري فوجدته قد ذكر الحديث الذي أشار إليه الدكتور (5) تحت ترجمة ‏{‏وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ‏}‏ ولم يذكر تأويل الضحك بالرحمة، وإنما الذي أوله بالرضا هو الحافظ ابن حجر في الفتح، والحافظ - رحمه الله - متأثر بالأشاعرة، فلا عبرة بقوله في هذا‏.‏ ثالثا‏:‏ ما نسبه إلى حماد بن زيد من تأويل النزول بالإقبال يجاب عنه من وجهين‏:‏ الوجه الأول‏:‏ أن هذا لم يثبت عنه؛ لأنه من رواية البيهقي، والبيهقي - رحمه الله - يتأول بعض الصفات، فربما تساهل في النقل، ولو ثبت عن حماد هذا التأويل فهو مردود بما أجمع عليه السلف من إثبات النزول على حقيقته‏.‏ الوجه الثاني‏:‏ أنه لا تنافي بين إثبات النزول على حقيقته وإقبال الله تعالى على عباده، فيقال‏:‏ ينزل ويقبل على عباده ليس في هذا حمل على المجاز كما يظن الدكتور‏.‏ 3 - نسب شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره أنهم قد يفسرون الوجه بالجهة أو القبلة أو الذات وظن أن هذا تأويل للوجه الذي هو صفة من صفات الله عز وجل الذاتية، وهذا الظن منه خطأ واضح؛ فهولاء الأئمة لم يقصدوا ما توهمه؛ لأن الوجه لفظ مشترك تارة يراد به الوجه الذي هو الصفة الذاتية وتارة يراد به الدين والقصد وتارة يراد به الجهة والوجهة، وسياق الكلام هو الذي يحدد المقصود في كل مكان بحسبه، فإذا فسر الوجه في موضع بأحد هذه المعاني لدليل اقتضى ذلك من دلالة السياق أو غيره صح ذلك ولم يكن تأويلا بل هو تفسير لذلك النص وبيان للمراد به‏.‏ وبما ذكرنا يتبين من جواز حمل آيات الصفات وأحاديثها على المعنى المجازي وصرفها عن ظاهرها أنه قول غير صحيح، وأنه لا مستند له فيما ذكره عن بعض السلف إما لأنه لم يصح عنهم أو لأنهم لم يقصدوا ما توهمه‏.‏ 4 - اعتمد على تأويلات الخطابي لبعض الصفات وأشاد به ومدحه من أجل ذلك‏.‏ والجواب عن ذلك‏:‏ أن الخطابي - رحمه الله - ممن يتناولون الصفات فلا اعتبار بقوله ولا حجة برأيه في هذا، وله تأويلات كثيرة، والله يعفو عنا وعنه‏.‏ ثم العجيب في الأمر أن الدكتور تناقض مع نفسه حيث ذكر فيما سبق أنه يجب إثبات صفات الله كما جاءت مع تنزيه الله عن التشبيه والتمثيل كما في صفحة 99 و101 و113 و 115 بينما نراه هنا يجوز تأويلها وحملها على المجاز، هل هذا تراجع عما سبق أو هو التناقض‏؟‏ ‏!‏ التعقيب السادس والعشرين‏:‏ أنه في ص138 يجيز مخالفة السلف في إثبات الصفات على حقيقتها فيقول‏:‏ ‏"‏ بل نفرض أن أحدا من رجال السلف رضوان الله عليهم لم يجز لنفسه أكثر من أن يثبت ما أثبته الله لذاته مع تفويض ما وراء ذلك من العلم، والتفاصيل إلى الله عز وجل، فإن ذلك لا يقوم حجة على حرمة مخالفتهم في موقفهم، هذه حرمة مطلقة ‏"‏ انتهى كلامه‏.‏ ونقول‏:‏ يا سبحان الله ألا يسعنا ما وسع السلف‏؟‏ أليست مخالفتهم وفيهم المهاجرون والأنصار والخلفاء الراشدون وبقية الصحابة رضي الله عنهم والقرون المفضلة أليست مخالفتهم لاسيما في العقيدة بدعة، وكل بدعة ضلالة، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة‏)‏ والله تعالى يقول ‏{‏وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ‏}‏ فشرط سبحانه في رضاه عمن جاء بعدهم اتباعهم للمهاجرين والأنصار بإحسان، والدكتور يقول لا تحرم مخالفتهم في صفات الله عز وجل‏.‏ ألم يخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم خير القرون‏.‏ ومعنى هذا الحث على الاقتداء بهم والنهي عن مخالفتهم لا سيما في أصول الدين، فهل تجوز المخالفة في أمور العقيدة، أليست العقيدة توقيفية لا مجال للاجتهاد فيها والاختلاف فيها‏؟‏‏!‏‏.‏ التعقيب السابع والعشرون‏:‏ في ص146 المقطع الأخير، ذكر أن من البدع القول بفناء النار وأن ذلك داخل بإجماع المسلمين في معنى البدعة‏.‏ وتعقيبنا عليه من وجهين‏:‏ الوجه الأول‏:‏ أنه لم يحصل إجماع على تخطئة القول بفناء النار وعده من البدع كما زعم، فالمسألة خلافية وإن كان الجمهور لا يرون القول بذلك، لكنه لم يتم إجماع على إنكاره وإنما هو من المسائل الخلافية التي لا يبدع فيها‏.‏ الوجه الثاني‏:‏ أن الذين قالوا بفنائها استدلوا بأدلة من القرآن والسنة، وبقطع النظر عن صحة استدلالهم بها أو عدم صحته، فإن هذا القول لا يعد من البدع ما دام أن أصحابه يستدلون له؛ لأن البدع ما ليس لها دليل أصلا، وغاية ما يقال أنه قول خطأ أو رأي غير صواب، ولا يقال بدعة‏.‏ وليس قصدي الدفاع عن هذا القول ولكن قصدي بيان أنه ليس بدعة ولا ينطبق عليه ضابط البدعة وهو من المسائل الخلافية‏.‏

                    تعليق


                    • #11
                      رد: حول البوطي وعقيدته وأمور أخرى

                      تابع رد الشيخ الفوزان على البوطي

                      نظرات وتعقيبات على ما في كتاب ‏"‏السلفية‏"‏ لمحمد سعيد رمضان من الهفوات


                      التعقيب الثامن والعشرون‏:‏

                      في ص149 قال‏:‏ وتفريق الباحث في مسألة القرآن بين ما فيه من المعاني النفسية والألفاظ المنطوق بها، مع ما يلحق بها من حبر وورق وغلاف ليقول إن الأول ‏(‏يعني المعاني النفسية‏)‏ قديم غير مخلوق، والثاني حادث مخلوق، أيعد بدعة محظورة لأن هذا التفريق لم يُعلم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -?، ومن ثم يجب إطلاق القول بأن القرآن قديم غير مخلوق‏.‏ والثاني حادث مخلوق أيعد بدعة محظورة لأن هذا التفريق لم يُعلم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -?ومن ثم يجب إطلاق القول بأن القرآن قديم غير مخلوق دون تفصيل ولا تفريق، أم لا يعد بدعة وإنما هو شرح وبيان لما علمه الصحابة من قبل على وجه الإجمال، ومن ثم فلا مانع _ لاسيما في مجال التعليم _ من هذا التفريق والتفصيل اهـ‏.‏

                      وتعقيبا عليه أقول‏:‏ كلامه هذا يتمشى مع مذهب الأشاعرة الذين يفرقون في كلام الله بين المعنى واللفظ فيقولون‏:‏ المعنى قائم بالنفس وهو قديم غير مخلوق، وهذا كلام الله عندهم، وأما اللفظ فهو عندهم تعبير عن هذا المعنى من قبل جبريل أو النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مخلوق‏.‏

                      وهذا تفريق باطل(6)، ومذهب أهل السنة سلفا وخلفا أن كلام الله تعالى هو اللفظ والمعنى، وكلاهما غير مخلوق؛ لأنه كلام الله تعالى وصفة من صفاته، وصفاته غير مخلوقة‏.‏

                      وقوله إن الصحابة علموا هذا التفريق بين اللفظ والمعنى في كلام الله هو تقول على الصحابة، ونسبة إليهم ما هم منه براء‏.‏


                      التعقيب التاسع والعشرون‏:‏

                      في ص149 تساءل عن التوسل بجاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته، أو بجاه من عرفوا بالصلاح والاستقامة بعد وفاتهم هل هو بدعة أو يقاس على التوسل به - صلى الله عليه وسلم - حال حياته وهو شيء ثابت دلت عليه الأحاديث الصحيحة، ومن ثم فهو ليس من البدعة في شيء‏.‏ ولم يجب عن ذلك التساؤل بل ترك القارئ في حيرة والتباس‏.‏

                      وأقول، أولا‏:‏ التوسل بالجاه ليس أصلا لا في حياته ولا بعد موته فهو بدعة بلا شك‏.‏

                      ثانيًا‏:‏ أما التوسل بدعائه - صلى الله عليه وسلم - فهو جائز في حياته؛ لأنه يتمكن من الدعاء فيها أما بعد وفاته فطلب الدعاء منه بدعة ولا يجوز؛ لأنه لا يقدر على الدعاء ولأن الصحابة لم يفعلوا هذا معه بعد وفاته وإنما كانوا يفعلونه حال حياته، ولا تقاس حالة الحياة على حالة الموت لوجود الفوارق العظيمة بينهما عند جميع العقلاء، وإنما يقيس هذا القياس المخرفون، وإن كان هو يزعم في ص 155 أن هذا التفريق لم يعرف إلا عند ابن تيمية وأن السلف لم يفرقوا، ولم تفرق الأدلة بينهما، وكأنه لم يقرأ ما ذكره العلماء في الموضوع وما ذكره ابن تيمية في كتاب التوسل والوسيلة عن السلف والأمة في ذلك أو أن تحامله عليه أنساه ذلك‏.‏

                      ثم إنه نسب إلى السلف ما لم يقولوه، وحمل الأدلة ما لم تحتمله ولم يأت بدليل واحد على ما قال وأنى له ذلك‏؟‏ ‏!‏

                      والواجب أن الباحث أمثال الدكتور البوطي لا يخطئ شخصا ويتحامل عليه حتى يقرأ كلامه وينظر في مستنداته حتى يعرف هل هو مخطئ أو مصيب‏؟‏ هذا هو الإنصاف والعدل، ولا ننسى أن الدكتور البوطي له هنات في غير هذا الكتاب حول هذه المسألة قد قام بالرد عليها الشيخ محمد ناصر الألباني حفظه الله‏.‏

                      ثم إنه في ص146 يهون من شأن المسألة ويقول هي أقل من أن تصدع المسلمين أو تجعل منهم مذهبين‏.‏

                      وأقول كلا والله إنها لمسألة خطيرة تمس صميم العقيدة وتجر إلى الشرك فكيف تكون هينة‏؟‏‏!‏

                      التعقيب الثلاثون‏:‏

                      في ص150و157 أدخل تحت بدعة التزيد في العبادة الأذان الأول ليوم الجمعة الذي دعا به عثمان رضي الله عنه عندما دعت الحاجة إليه، وهذا منه خطأ واضح، فإن عثمان رضي الله عنه من الخلفاء الراشدين، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ‏(‏عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين‏)‏ ففعله هذا يعد سنة لا بدعة وتزيدا حاشاه من ذلك رضي الله عنه وأرضاه‏.‏ وهذا ينسينا ما قاله في حق شيخ الإسلام ابن تيمية أنه ابتدع التفريق بين حالة الحياة والموت إذ أن الخليفة الراشد عنده قد ابتدع في الدين‏.‏ التعقيب الواحد والثلاثون‏:‏ في ‏(‏ص160‏)‏ خلط بين علم الكلام والفلسفة وانتقد شيخ الإسلام ابن تيمية حيث أجاز مناظرة المتكلمين بمثل مصطلحاتهم مع أنه ينكر على الغزالي انشغاله بالفلسفة وكأنه لا يدري أن علم الكلام غير الفلسفة وأن بينهما فرقا واضحا(7).‏ وقد انتقد شيخ الإسلام أيضا في ص162و163 من ناحية أنه يحذر من الإقبال على علم الكلام والمنطق وهو قد تضلّع فيهما وناظر بهما‏.‏ والجواب عن ذلك أنه - رحمه الله - يحذر من الاشتغال بذلك من هم على غير مستوى علمي جيد يمكنهم من التخلص من أضرار علم الكلام، ولأن ذلك يشغل عن تعلم الكتاب والسنة، فأي انتقاد يوجه إليه في ذلك إلا من صاحب هوى وحقد، ثم إن الشيخ - رحمه الله - لا ينكر على من تعلم علم الكلام والمنطق من أجل الرد على المضللين وقتلهم بسلاحهم، وإنما ينكر على من تعلمها بغير هذا القصد‏.‏ التعقيب الثاني والثلاثون‏:‏ من ص 164 - 188 شن هجوما مسلحا على شيخ الإسلام ابن تيمية واتهمه أنه قال بقول الفلاسفة حينما قال إن الحوادث قديمة النوع حادثة الآحاد‏.‏ وهذه المسألة قد شنع بها خصوم شيخ الإسلام ابن تيمية عليه قديما وحديثا وقالوا إنه يقول بحوادث لا أول لها والدكتور في هذا الكتاب اتخذ من هذه المسألة متنفسا له ينفث من خلاله ما في صدره من حقد على شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأنه شيخ السلفيين الذين يضايقونه في هذا الزمان‏.‏ ولكن والحمد لله ليس له في هذه المسألة ولا للذين سبقوه أي مدخل على الشيخ وسيرده الله بغيظه لم ينل خيرا كما رد الذين من قبله، فإن مراد الشيخ - رحمه الله - أن أفعال الله سبحانه ليس لها بداية؛ لأنه الأول الذي ليس قبله شيء‏.‏ قال - رحمه الله -‏:‏ والتسلسل الواجب ما دل عليه الشرع من دوام أفعال الرب تعالى في الأبد، فكل فعل مسبوق بفعل آخر، فهذا واجب في كلامه، فإنه لم يزل متكلما إذا شاء ولم تحدث له صفة الكلام في وقت، وهكذا أفعاله هي من لوازم حياته، فإن كل حي فعال‏.‏ والفرق بين الحي والميت الفعل، ولم يكن ربنا تعالى قط في وقت من الأوقات معطلا عن كماله من الكلام والإرادة والفعل إلى أن قال‏:‏ ولا يلزم من هذا أنه لم يزل الخلق معه فإنه سبحانه متقدم على كل فرد من مخلوقاته تقدما لا أول له، فلكل مخلوق أول والخالق سبحانه لا أول له فهو وحده الخالق سبحانه لا أول له فهو وحده الخالق، وكل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن إلى أن قال‏:‏ والمقصود أن الذي دل عليه الشرع والعقل أن كل ما سوى الله تعالى محدث كائن بعد أن لم يكن‏.‏ أما كون رب العالمين لم يزل معطلا عن الفعل ثم فعل فليس في الشرع ولا في العقل ما يثبته، بل كلاهما يدل على نقيضه‏.‏ هذه خلاصة ما يراه الشيخ في هذه المسألة، وهل في ذلك ما يشنع به عليه كما يظنه الدكتور وأضرابه إلا أنه الهوى والحقد أو الجهل والغفلة، فإن بين ما قاله الشيخ في هذه المسألة وبين قول الفلاسفة القائلين بقدم العالم فروقا واضحة هي الفروق بين الحق والباطل والكفر والإيمان‏.‏ التعقيب الثالث والثلاثون‏:‏ في ص191 - 192 يؤيد عقد حلقات الصوفية التي يسمونها حلق الذكر، ويزعم أنه ليس هناك ما يمنع من إقامتها ويقول‏:‏ إن الذكر مشروع‏.‏ ونحن نجيبه عن ذلك ونقول له‏:‏ الذكر لا شك أنه مشروع، لكن على الصفة الواردة في الكتاب والسنة‏.‏ أما إحداث هيئة للذكر لا دليل عليها كالذكر الجماعي أو الأوراد الصوفية التي ليس عليها دليل أو ربما يشوبها شيء من الألفاظ الشركية فهذه لا شك أنها بدعة وأن الذين يقيمونها مبتدعة داخلون في قوله - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد‏)‏ والشيء قد يكون مشروعا في أصله، لكن الصفة التي يؤدى بها إذا لم يكن عليها دليل فهى بدعة‏.‏ وقد أنكر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على الذين يجتمعون في مسجد الكوفة وفيهم رجل يقول سبحوا مائة كبروا مائة هللوا مائة؛ لأن هذه الصفة ليست من سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -‏.‏ التعقيب الرابع والثلاثون‏:‏ في ص193 - 195 شنع على الذين ينكرون ذكر الله بالاسم المفرد ‏(‏الله‏)‏ ومنهم الشيخ ابن تيمية فإنه وجه إليه قذائف غضبه، وهو في هذا لم يصغ إلى حجج المذكورين، ومنها أن ذكر الله بالاسم المفرد لم يرد في الكتاب ولا في السنة ولا في هدي السلف الصالح، علاوة على أنه لا يفيد شيئا؛ لأن الاسم المفرد لا يأتي بفائدة حتى يتركب مع جملة مفيدة، وما يزعمه الدكتور أن ذكر الله بالاسم المفرد يدخل في قوله تعالى ‏{‏وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا‏}‏ فنحن نسأله ونريد منه الصدق في الجواب دون مراوغة‏:‏ هل ورد في السنة من أمره الله بهذا الأمر وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر الله بالاسم المفرد، إذ لا شك أن سنته تفسير للقرآن هذا من محدثات الصوفية وفهمهم السقيم، وكثيرا ما يكرر الدكتور أن المخالف في هذه المسألة وغيرها لا يضلل‏.‏ ونحن نقول له إن المخالف لا يضلل إذا كان لمخالفته مأخذ من النصوص الشرعية أما إذا كانت مخالفته ليس لها مأخذ من الكتاب والسنة فإنه يضلل؛ لأن الله تعالى يقول ‏{‏فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ‏}‏ وما دل عليه كتاب الله حق وما خالفه فهو ضلال يضلل من قال به‏.‏ التعقيب الخامس والثلاثون‏:‏ في ص196 - 197 يسوغ اصطلاحات الصوفية التي منها تفريقهم بين الشريعة والحقيقة ولم يجد دليلا والحمد لله لهذا التسويغ إلا أن ذلك قول كبار الصوفية كسهل التستري والحارث المحاسبي والجنيد _ وهذا لا أظنه معهم وإن حشره معهم _ ومعروف الكرخي، فهو بهذا الاستدلال كمن فسر الماء بعد الجهد بالماء‏.‏ ‏(8) ثم هل هناك حقيقة تخالف الشريعة حتى يقال‏:‏ الحقيقة والشريعة إلا في اصطلاح الصوفية أن الشريعة للعوام والحقيقة للخواص، وهذا إلحاد واضح وليت الدكتور لم يدخل هذه المجاهل المخيفة‏.‏

                      تعليق


                      • #12
                        رد: حول البوطي وعقيدته وأمور أخرى

                        تابع رد الشيخ الفوزان على البوطي

                        نظرات وتعقيبات على ما في كتاب ‏"‏السلفية‏"‏ لمحمد سعيد رمضان من الهفوات

                        التعقيب السادس والثلاثون‏:‏

                        في ص201 - 212 تحدث عن الصوفية وأحوالهم وأقوالهم، وحاول الدفاع عنهم بكل ما أوتي من قوة والاعتذار لهم بكل ما أوتي من عبارة حتى عمن قال منهم‏:‏ ما في الجبة إلا الله، وعمن قال منهم ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك‏.‏ ورغم ما تحمله العبارتان من كفر وضلال حاول تأويلهما بما لا داعي للإطالة بذكره؛ لأن هاتين العبارتين تنبئان عن نفسهما ولا تقبلان التأويل‏.‏

                        فإن قول القائل‏:‏ ما في الجبة إلا الله صريح في الاتحاد‏.‏ وقوله‏:‏ ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك مخالف لهدي الأنبياء جميعا، حيث وصفهم الله بأنهم يدعونه رغبا ورهبا، ومخالف لصفة المؤمنين الذين يدعون ربهم خوفا وطمعا، ولا يعني هذا أنهم لا يعبدونه إلا من أجل الخوف والطمع بل هم مع ذلك يحبونه حبا شديدا ويذلون له كما قال تعالى ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ‏}‏ وقال تعالى ‏{‏فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏‏.‏ ولا تصح العبادة إلا باستكمال هذه الأركان‏:‏ المحبة والذل والخوف والرجاء‏.‏


                        ثم حاول الدفاع عن ابن عربي وما في كتبه‏:‏ من القول بوحدة الوجود‏:‏

                        ففي هامش ص104 - 105 قال‏:‏ إنه لا يجوز تكفيره بموجب كلامه الذي فيه الإلحاد الصريح حتى يعلم ما في قلبه‏:‏ هل يعتقد ما يقول أم لا‏؟‏

                        ولو صح كلام الدكتور هذا ما كفر أحد بأي قول أو فعل مهما بلغ من القبح والشناعة والكفر والإلحاد حتى يشق عن قلبه ويعلم ما فيه من اعتقاد‏.‏

                        وعلى هذا فعمل المسلمين على قتال الكفرة وقتل المرتدين خطأ على لازم قول الدكتور؛ لأنهم لم يعلموا ما في قلوبهم، وهل هم يعتقدون ما يقولون وما يفعلون من الكفر أو لا‏؟‏

                        واسمع عبارته في ذلك حيث يقول‏:‏ وخلاصة المشكلة أنه يعني شيخ الإسلام ابن تيمية ومن يقلده في نهجه يظلون يأخذون ابن عربي وأمثاله بلازم أقوالهم دون أن يحملوا أنفسهم على التأكد من أنهم يعتقدون(9) فعلا ذلك اللازم الذي تصوروه‏.‏

                        ثم قال إما أن يكون في كتب ابن عربي كلام كثير يخالف العقيدة الصحيحة ويوجب الكفر، فهذا ما لا ريبة فيه ولا نقاش فيه‏.‏ وإما أنه يدل ذلك دلالة قاطعة على أن ابن عربي كافر وأنه ينطلق من فهم الشهود الذاتي من أصل كفري هو نظرية الفيض، فهذا ما لا يملك ابن تيمية ولا غيره أي دليل قاطع عليه‏.‏ انتهى‏.‏

                        وإنما سقت هذا المقطع من كلامه لإطلاع القارئ على ما فيه من تخبط وتناقض ومناقضة لأدلة الكتاب والسنة وعمل المسلمين على كفر من قال كلمة الكفر غير مكره قال تعالى ‏{‏وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ‏}‏ ‏{‏لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ‏}‏ ويلزم من هذا أيضا أنه لا يحكم بإسلام كافر إذا نطق بالشهادتين حتى يعلم ما في قلبه‏:‏ هل يعتقدهما أو لا‏.‏ ولوازم هذا كثيرة ويلزم عليه أن من دعا غير الله لا يكفر حتى يعلم ما في قلبه‏.‏

                        ثم اعتذر عن ابن عربي بأن في كتبه كلاما آخر يناقض كلامه الكفري‏.‏

                        ونحن نقول له‏:‏ الإجابة عن ذلك هل ثبت لديك أنه رجع عن كلامه الكفري وأنه كتب هذا الكلام الذي يناقضه بعدما تاب أو أنه كتبه من باب التغطية والتلبيس، ثم أنت لم تأت بشاهد على ما قلت من كلامه‏.‏

                        ثم قال‏:‏ ‏"‏ وإذا أبى ابن تيمية إلا أن يحملنا على تكفير ابن عربي استدلالا بالكفريات الموجودة في كلامه والإعراض عن الصفحات الطوال التي تناقضها وترد عليها في مختلف كتبه وأقواله فإنه لدعوة منه بلا ريب إلى أن نكفره هو الآخر استدلالا بالضلالات الفلسفية التي انزلق فيها ‏"‏‏.‏

                        ويعني بذلك المسألة التي سبق ذكرها وهي قول الشيخ أن أفعال الله سبحانه ليس لها بداية ونقول‏:‏ يا سبحان الله هل وصف الرب بما يستحقه من الكمال بدوام أفعاله وكماله أزلا وأبدا وتنزيهه عن التعطيل الذي وصفه به أهل الضلال من قولهم‏:‏ إنه تعالى الله عما يقولون مضى عليه وقت لم يفعل شيئا ثم حدث له الفعل بعد ذلك هل هذا هو قول الفلاسفة الذين يقولون بقدم العالم وإنكار الخالق أن الضلال هو قول من يعطل الله من أفعاله ويضرب له مدة لا يفعل فيها شيئا كما هو قول علماء الكلام، وإن قول ابن تيمية هو الحق وقول أهل الحق وأين خطؤه _ لو كان خطأ على فرض _ من كفريات ابن عربي، وقوله بوحدة الوجود، وأن من عبد الأصنام ما عبد إلا الله‏؟‏ ثم إن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - لم ينفرد بتكفير ابن عربي، بل قد كفره كثير من العلماء حتى من الصوفية واقرأ مؤلفاتهم في ذلك، ومنها كتاب ‏"‏ تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي ‏"‏ للبقاعي وغيره من الكتب وللشيخ تقى الدين الفاسي رسالة مستقلة في تكفير ابن عربي، وذكر من قال بذلك من العلماء وهي مطبوعة ومتداولة فإذا كان بإمكان البوطي أن يكفره فليفعل‏.‏ التعقيب السابع والثلاثون‏:‏ في ص236 كتب عنوانا بلفظ التمذهب بالسلفية بدعة، وهذا الكلام يثير الدهشة والاستغراب، كيف يكون التمذهب بالسلفية بدعة، والبدعة ضلالة وكيف يكون بدعة وهو اتباع لمذهب السلف واتباع مذهبهم واجب بالكتاب والسنة وحق وهدى؛ قال تعالى ‏{‏وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ‏}‏ الآية وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ‏(‏عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث فالتمذهب بمذهب السلف سنة وليس بدعة، وإنما البدعة التمذهب بغير مذهبهم، وإذا كان قصده أن التسمي بهذا الاسم حادث كما يظهر من كلامه، ولم يكن معروفا من قبل فهو بدعة بهذا الاعتبار، فمسألة الأسماء أمرها سهل، والخطأ فيها لا يصل إلى حد البدعة، وإن كان قصده أن في الذين تسموا بهذا الاسم من صدرت عنهم أخطاء تخالف مذهب السلف فعليه أن يبين هذا دون أن يتناول السلفية نفسها فالتسمي بالسلفية إذا كان يعني التمسك بمذهب السلف ونبذ البدع والخرافات فهذا شيء محمود وطيب، كما قرر هذا هو في ص233 حيث قال عن حركة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وتسميتها السلفية‏:‏ ‏"‏ فقد كان الشعار الذي رفعه أقطاب هذه الحركة الإصلاحية هو السلفية، وكان يعني الدعوة إلى نبذ كل هذه الرواسب التي عكرت على الإسلام طهره وصفاءه ‏"‏‏.‏ هذا ما قاله عن هذه الحركة وتسميتها بالسلفية ولم يعب عليها هذا التسمي؛ نظرا لسلامة أهدافها عنده‏.‏ فنقول له‏:‏ وهل السلفية اليوم تعني غير ذلك‏؟‏ ‏!‏ التعقيب الثامن والثلاثون‏:‏ وفي ص236 - 237 عبر عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - بالمذهب الوهابي، وقال‏:‏ ‏"‏ الوهابية تبرموا من هذه الكلمة لأنها توحي بأن ينبوع هذا المذهب بكل ما تضمنه من مزايا وخصائص يقف عند الشيخ محمد بن عبد الوهاب فدعاهم إلى أن يستبدلوا بكلمة الوهابية هذه كلمة السلفية‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ ما قال‏.‏ والجواب أن نقول‏:‏ إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ليس له مذهب خاص يدعى بالوهابية؛ لأنه في العقيدة على منهج السلف، وفي الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل الذي كان عليه علماء نجد من قبله وفي عصره ومن بعده‏.‏ التعقيب التاسع والثلاثون‏:‏ في ص129 - 240 تكلم عن زيارة القبر النبوي _ على صاحبه أفضل الصلاة والسلام _ فقال‏:‏ ‏"‏ ولكم اتهمنا واتهم كثير من المسلمين من أهل السنة والجماعة بالابتداع والمروق؛ لأننا ذهبنا إلى ما ذهب إليه الجمهور من علماء السلف وغيرهم من أنه لا ضير في أن يعزم الرجل على زيارة كل من قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومسجده ‏"‏‏.‏ كذا قال‏.‏ والجواب أن نقول‏:‏ إن زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير سفر سنة وليست بدعة ولم يقل أحد إنها إذا كانت على هذه الصفة بدعة ومروق أما السفر لزيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - فهو بدعة لأنه لا يجوز السفر لأجل زيارة القبور لا قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -?ولا قبر غيره من الأولياء والصالحين لقوله‏:‏ - صلى الله عليه وسلم - لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى وعملًا بهذا الحديث لم يكن السلف والأئمة الأربعة وغيرهم من الأئمة المقتدى بهم يسافرون من أجل زيارة القبور وقد أوغل الدكتور في الخطأ حين ادعى أن مذهب الجمهور من علماء السلف وغيرهم أنه لا ضير في أن يعزم الرجل على هذا فإن كان قصده العزم على السفر لزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلماء السلف ينهون عما نهى عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من السفر لزيارة القبور عمومًا قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -?وغيره ثم إن الدكتور خطأ شيخ الإسلام ابن تيمية في استدلاله بالحديث المذكور على منع السفر لزيارة القبور وسماه غلطًا عجيبًا انزلق فيه الشيخ حيث قال ويترتب على هذا الغلط العجيب الذي انزلق فيه ابن تيمية - رحمه الله - إن الإنسان لا يجوز له أن يشد الرحال إلى زيارة رحم أو إلى طلب علم أو إلى انتجاع رزق لأن هذه الأشياء كلها خارج المساجد الثلاثة ونحن نقول له بل الغلط العجيب ما انزلق اليه فهم الدكتور لأن الحديث الشريف يعني منع السفر إلى بقاع مخصوصة لأجل التعبد فيها أو عندها غير المساجد الثلاثة سواء كانت هذه البقاع مساجدَ أو قبورًا أو غيرها أما السفر لزيارة الرحم أو طلب العلم أو طلب الرزق فلم يدخل في مدلول الحديث أصلًا‏.‏ التعقيب الأربعون‏:‏ في ص241 قال عن سبب صبر الإمام أحمد على تحمل محنة القول بخلق القرآن وإنما كان سبب المحنة التي تعرض لها الإمام دون غيره هو ورعه الشديد الذي منعه أن يفصل ويفرق بين اللفظ والمعنى‏.‏ والجواب أن نقول له‏:‏ أولا‏:‏ لم يكن الإمام أحمد وحده الذي تعرض لهذه المحنة بل شاركه في ذلك خلق كثير من العلماء منهم من قتل في ذلك ومنهم من عذب وأوذي لكن يظهر أن الدكتور لم يقرأ التاريخ‏.‏ ثانيًا‏:‏ ليس هناك تفريق بين معنى القرآن ولفظه كلاهما كلام الله منزل غير مخلوق والتفريق بينهما بأن يقال المعنى غير مخلوق واللفظ مخلوق هذا قول المبتدعة لا قول أهل السنة فالإمام أحمد لم يفرق بينهما لأنه كغيره من الأئمة لا يرى فرقا بينهما ولا يعتقد عقيدة الأشاعرة‏.‏ التعقيب الواحد والأربعون وهو الأخير‏:‏ في ص256 - 257 استنكر الرد على كتاب الذخائر المحمدية لمحمد علوي مالكي وبيان ما فيه من الضلالات وقال‏:‏ إن محمد علوي من أهل السنة والجماعة ولم يقرأ الناس في تأليفه وكتاباته ولم يروا في واقع حاله إلا ما يزيدهم ثقة باستقامة دينه وصلاح حاله وسلامة عقيدته‏.‏ والجواب‏:‏ أن نقول له الواجب عليك أن تنظر محتويات كتب هذا الرجل وتعرضها على الكتاب والسنة وعلى عقيدة السلف لتعرف مدى مطابقتها أو مخالفتها لهذه الأصول ولا تعتمد على قراءة الناس وإنما تنظر أنت هل المعترض عليه مصيب أو مخطئ هذا ما يتطلبه الباحث المصنف الذي يحترم ما يقول ويكتب دون التهجم على من اعترض علوي قبل معرفة وجهة اعتراضه ثم هل كون الرجل من أهل السنة والجماعة ومن أهل الاستقامة هل ذلك يمنع من الاعتراض عليه إذا أخطأ‏؟‏ والله أعلم‏.‏ وصلى الله وسلم على نبيينا محمد وعلى آله وصحبه‏.‏

                        تعليق

                        يعمل...
                        X