الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن الله - تعالى - أرسل رسله، وأنزل عليهم الكتاب بالحق ليكون حاكماً بين الناس؛ ولذا أمر الله بطاعة رسله واتباع كتبه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59]. وجعل ذلك علامة للإيمان ودليلاً عليه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّـمُوا تَسْلِيمًا}. [النساء: 65]
وبيَّن أنه لا يجتمع الإيمان بالله ورسله مع التحاكم لغير شرع الله: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا}. [النساء: 60]
وأخبر أن رغبات الناس وأهواءهم بخلاف ما جاء في شرعه: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْـحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ} [المؤمنون: 71].
{أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 41].
وجعل اتباع الهوى مضاداً للحق وعدَّه قسيماً له: {يَا دَاوُودُ إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْـحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26].
فلا يكون عبد مؤمناً حتى يحكم بشريعة الله - تعالى - راضياً بها مطمئناً إليها.
ونحن في هذه الوريقات نعرض لهذا الأصل العظيم من أصول الإيمان، وهو تحكيم الشرع ضمن محاور نعرضها تباعاً.
تحكيم الشريعة من أصول الإيمان وأهم الواجبات:
الحكم بما أنزل الله - تعالى - فرض من فروض الدين العظيمة، فقد جعله الله غاية إنزال الكتب كما قال - تعالى -: {إنَّا أنزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105].
ومن أصول العقيدة الإسلامية أن الحكم والتشريع حق لله وحده كما قال - تعالى -: {إنِ الْـحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْـحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57].
وقال - تعالى -: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّـمُوا تَسْلِيمًا}. [النساء: 65]
(وفي هذا الوعيد الشديد ما تقشعرُّ له الجلود وترجف له الأفئدة؛ فإنَّه أولاً أقسم بنفسه مؤكداً لهذا القسم بحرف النفي بأنهم لا يؤمنون، فنفى عنهم الإيمان، الذي هو رأس مال صالحي عباد الله حتى تحصل لهم غاية هي تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ضم إلى التحكيم أمراً آخر وهو عدم وجود حرج في صدورهم، فلا يكون مجرد التحكيم والإذعان كافياً حتى يكون من صميم القلب عن رضاً واطمئنان وانثلاج صدر وطيب نفس، ثم ضم إليه قوله: (ويسلِّموا)؛ أي: يذعنوا، وينقادوا ظاهراً وباطناً فلا يثبت الإيمان لعبد حتى يقع منه هذا التحكيم، ولا يجد الحرج في صدره بما قضـى عليه، ويسلم لحكم اللـه وشـرعه تسـليماً لا يخالطه ردٌّ، ولا تشوبه مخالفة) [1].
والتحاكم إلى غير ما أنزل الله من صفات المنافقين؛ كما قال - تعالى -: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْـمُؤْمِنِينَ} [النور: 47].
وقال: {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْـمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} [النساء: 61].
فهذه الآيات وأمثالها (ناطقةٌ بأنَّ من صَدَّ وأعرض عن حكم الله ورسوله عمداً، ولا سيما بعد دعوته إليه وتذكيره به، فإنه يكون منافقاً لا يُعتَدُّ بما يزعمه من الإيمان وما يدعيه من الإسلام) [2].
فمن كان يعتقد أن الحكم بما أنزل الله ليس من فروض الدين ولا من واجباته، أو أن للناس خيرةً في اتباع الشرع أو تركه فقد ناقض النصوص الشرعية القطعيَّة، بل قال ابن تيمية: (ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر؛ فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه عدلاً من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر؛ فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل، وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرها، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله: كسواليف البادية وأوامر الـمُطاعين فيهم، ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة، وهذا هو الكفر) [3].
والمقصود أن الحكم بالشرع أحد واجبات الدين الظاهرة التي لا تخفى؛ وإلا فإذا كان للناس اختيار الحكم بالشرع أو بغيره، فَلِمَ أنزل الله كتبه المشتملة على شرائعه وأمر فيها بطاعته وأمر رُسُله بتعليمها للناس؟ وهذا كله من مقرر عقائد المسلمين الذي لا ينكره إلا مكابر.
من مقاصد الكفار ألا يطبق المسلمون شريعتهم:
وهذا الأمر وضَّحه الله - تعالى - بأجلى صورة؛ فإن أهل الكفر لا يرضون عن قيام المسلمين بدينهم: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120].
{وَإذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إنْ أَتَّبِعُ إلاَّ مَا يُوحَى إلَيَّ إنِّي أَخَافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس: 15].
{وَإن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} [الإسراء: 73].
وقد جاء وفد ثقيف للنبي صلى الله عليه وسلم وطلبوا أن يعفيهم من بعض تشريعات الإسلام: (قالوا: أفرأيت الزنا فإنا قوم نغترب ولا بد منه. قال: هو عليكم حرام؛ إن الله يقول: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء: 32]. قالوا: أفرأيت الربا، فإنه أموالنا كلها. قال لكم رؤوس أموالكم؛ إن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278]. قالوا: أفرأيت الخمر فإنه لا بد لنا منها. قال: إن الله - تعالى - قد حرَّمها. ثم سألوه أن يعفيهم من الصلاة فقال: لا خير في دين لا صلاة فيه، فسألوه أن يدع لهم اللات ثلاث سنوات، فأبى أن يدعها لهم[4].
وكذلك فعل المشركون في مجادلتهم للنبي صلى الله عليه وسلم في مسألة أكل الميتة، وأكل ما لم يُذكَر اسم الله عليه، فقد أنزل الله فيهم : {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإنَّهُ لَفِسْقٌ وَإنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَـمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121].
فبين أنهم مشركون بطاعتهم، وهذا الإشراك في الطاعة واتباع التشريع المخالف لما شرعه الله - تعالى - هو المراد بعبادة الشيطان المذكورة في القرآن [5].
ومقصود المشركين ترك تسمية الله تحايلاً على المسلمين للتمويه عليهم، فإذا توصَّلوا منهم إلى تخطئة أحكام الإسلام أو الشك في صحتها، بأن لا فرق بين ما سُميَ عليه اللهُ وما لم يذكًَر عليه اسمُه، وقعوا في الشرك، وإن لم يدَّعوا لله شركاء [6].
ويدل على هذا أيضاً قوله - تعالى -: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ} [المائدة: 49].
فمن مرادات أعداء الإسلام أن يترك المسلمون الحكم بما أنزل الله، وهذا سبب لضعفهم وتخاذلهم ووقوع بأسهم بينهم. قال ابن تيمية: (وإذا خرج ولاة الأمر عن هذا، فقد حكموا بغير ما أنزل الله ووقع بأسهم بينهم. قال صلى الله عليه وسلم: «ما حكم قوم بغير ما أنزل الله إلا وقع بأسهم بينهم» [7]. وفي رواية: «إلا فشا فيهم الفقر»[8]. وهذا من أعظم أسباب تغيُّر الدول، كما جرى مثل هذا مرة بعد مرة في زماننا وغير زماننا، ومن أراد الله سعادته جعله يعتبر بما أصاب غيره فيسلك مسلك من أيَّده الله ونصره)[9].
وقد جاء في تقرير مؤسسة راند ( RANDCorporation). الصادر عام 2007م وهي التي تحاول رسم خطة السياسة الأمريكية في التعامل مع الأحداث، والدعاء لبناء شبكات مسلمة معتدلة، وجعلت معيار المسلم المعتدل هو الذي لا يرغب تطبيق الشريعة، وأما المتطرِّف فهو الذي يطبق الشريعة.
ومَن كان مِن رعايا هذه المؤسسة وفروعها في العالم العربي [10] لا عجب أن يسعى في إبعاد المسلمين عن تطبيق الشرع، والله متمُّ نوره ولو كره المشركون.
تعليق