يعجبني الموت !
أحمد بن صالح الزهراني
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
أكره الموت ، كلّنا يكره الموت لأسباب كثيرة ..
لعل من أهمّها : الإحساس بصعوبة ما نحن مقدمون عليه ، والشعور بالتقصير في الحياة ، ومفارقة الأحباب .
ومع هذا فإنّ الموت يعجبني ، لأنّه يعرّي الحقائق ويكشف الزيف .
فمهما كان الإنسان عنيدا صلبا مكابرا فإنّ كلّ قواه تنهار في لحظة أمام قوة الموت وجبروته ، هذا فرعون الذي قال لقومه ماعلمت لكم إلهاً غيري ، وفعل ببني إسرائيل الأفاعيل ما إن عاين الموت حتى قال : {آمنت أنه لا إله إلاّ الذي آمنت به بنو إسرائيل} .
مرّ على هذه الأمّة فراعنة كثر ، بعضهم تفرعن بسلطانه ، وبعضهم تفرعن بعلمه وبيانه ، كل هؤلاء المتغطرسين المتكبرين على الحق كان له بفرعون الأوّل سبب ، يجمعهم العناد والإصرار على الباطل ، حتى لو تبين لهم الحق : {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلواً} .
والخطاب القرآني يشير إلى هذا في آيات عديدة كقوله: {ذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون} ..
نعم لقد بلغ الشذوذ الفكري والسلوكي في عصرنا هذا مبلغا عظيماً، وأصبح الشواذ يتنافسون أيّهم يبلغ شذوذه المدى حتّى لا يُذكر الشذوذ إلاّ ذكر معه.
دعني أقول إنّ الشاذ فكريا لا يمكن كبح جماحه ..
حاول الأوّلون أن يكبحوا جماح ذلك بالعنف والقوة ومع هذا بقيت للشّواذّ باقية،كُتبت المصنفات والمؤلفات الموسعة والمختصرة ومع هذا بقيت لهم باقية .
طوردوا بالنفي والعزل والهجر وما زالوا على عنادهم وإصرارهم ..
شيء واحد كان يفلّ حديد قناعاتهم، ويصدع أقفال قلوبهم كما صدع قلب فرعون فلا تتمنّع عند ذلك من الحق وقبوله،أتدري ما هو :
إنّه الموت ..
كلّ هؤلاء المعاندين للحق الذي جاء به النّبيّ صلى الله عليه وسلّم سواء من الكفار أو من المنافقين أو الشواذ فكريا، كل هؤلاء إذا عاينوا الموت انكشفت لهم الحقيقة واعترفوا بها، قال تعالى : {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ}.
ولكن يا للخسارة،لأنّه اعتراف متأخر لا ينفع صاحبه،اعتراف في وقت ارتفاع التكليف ونهاية وقت الامتحان ..
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : « وتجد عامة هؤلاء الخارجين عن منهاج السلف من المتكلمة والمتصوفة يعترف بذلك إما عند الموت وإما قبل الموت والحكايات في هذا كثيرة معروفة .. هذا أبو الحسن الأشعري نشأ في الاعتزال أربعين عاما يناظر عليه ثم رجع عن ذلك وصرح بتضليل المعتزلة وبالغ في الرد عليهم ..
وهذا أبو حامد الغزالي مع فرط ذكائه وتألهه ومعرفته بالكلام والفلسفة وسلوكه طريق الزهد والرياضة والتصوف ينتهي في هذه المسائل إلى الوقف والحيرة ويحيل في آخر أمره على طريقة أهل الكشف وإن كان بعد ذلك رجع إلى طريقة أهل الحديث وصنف إلجام العوام عن علم الكلام..
وهذا إمام الحرمين ترك ما كان ينتحله ويقرره واختار مذهب السلف وقال عند موته : « لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت فيما نهوني عنه والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني وهاأنذا أموت على عقيدة أمي أو قال عقيدة عجائز نيسابور » ..
وكذلك أبو عبدالله محمد بن عبدالكريم الشهرستاني أخبر أنه لم يحد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم وكان ينشد :
لعمري لقد طفت المعاهد كلها ***وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر ***على ذقن أو قارعا سن نادم
وابن الفارض من متأخري الاتحادية صاحب القصيدة التائية المعروفة بنظم السلوك وقد نظم فيها الاتحاد نظما رائق اللفظ فهو أخبث من لحم خنزير في صينية من ذهب لما حضرته الوفاة أنشد :
إن كان منزلتي في الحب عندكم ***ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي
أمنية ظفرت نفسي بها زمنا ***واليوم أحسبها أضغاث أحلام
وحكى من كان حاضرا عند موت إمام المنطقيين في زمانه الخونجي صاحب الموجز وكشف الاسرار وغيرهما انه قال عند موته « أموت وما علمت شيئا إلا علمي بأن الممكن يفتقر إلى الواجب ثم قال الافتقار وصف سلبي أموت وما علمت شيئا» ..
وغيرهم كثير،كل هؤلاء الذين يجاهرون بالمنكر الفكري ويعارضون ويعاندون حتى تلك الباحثة عن الأزواج بالشراكة كل هؤلاء سينهارون تماما عند أوّل سكرة ويعلمون أنّ أضواء الفضائيات وبريق الكاميرات ومانشيتات الصحف وتصفيق الجهال لن يغني عنهم ولن ينفعهم ..
وتنكشف لهم عند ذلك الحقائق التي يتمنون العودة للإيمان بها : رأي جديد وبصر حديد .. ولكن لات ساعة مندم : {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} ..
الحياة قصيرة مهما طالت ..
وإذا غاظك ما يفعله ويقوله أهل الشذوذ من كتاب الصحف ومثقفي الاستغراب وأهل الشّكّ والرّيب والملاحدة فردّد معي : {ذرهم يخوضوا}
أحمد بن صالح الزهراني
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
أكره الموت ، كلّنا يكره الموت لأسباب كثيرة ..
لعل من أهمّها : الإحساس بصعوبة ما نحن مقدمون عليه ، والشعور بالتقصير في الحياة ، ومفارقة الأحباب .
ومع هذا فإنّ الموت يعجبني ، لأنّه يعرّي الحقائق ويكشف الزيف .
فمهما كان الإنسان عنيدا صلبا مكابرا فإنّ كلّ قواه تنهار في لحظة أمام قوة الموت وجبروته ، هذا فرعون الذي قال لقومه ماعلمت لكم إلهاً غيري ، وفعل ببني إسرائيل الأفاعيل ما إن عاين الموت حتى قال : {آمنت أنه لا إله إلاّ الذي آمنت به بنو إسرائيل} .
مرّ على هذه الأمّة فراعنة كثر ، بعضهم تفرعن بسلطانه ، وبعضهم تفرعن بعلمه وبيانه ، كل هؤلاء المتغطرسين المتكبرين على الحق كان له بفرعون الأوّل سبب ، يجمعهم العناد والإصرار على الباطل ، حتى لو تبين لهم الحق : {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلواً} .
والخطاب القرآني يشير إلى هذا في آيات عديدة كقوله: {ذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون} ..
نعم لقد بلغ الشذوذ الفكري والسلوكي في عصرنا هذا مبلغا عظيماً، وأصبح الشواذ يتنافسون أيّهم يبلغ شذوذه المدى حتّى لا يُذكر الشذوذ إلاّ ذكر معه.
دعني أقول إنّ الشاذ فكريا لا يمكن كبح جماحه ..
حاول الأوّلون أن يكبحوا جماح ذلك بالعنف والقوة ومع هذا بقيت للشّواذّ باقية،كُتبت المصنفات والمؤلفات الموسعة والمختصرة ومع هذا بقيت لهم باقية .
طوردوا بالنفي والعزل والهجر وما زالوا على عنادهم وإصرارهم ..
شيء واحد كان يفلّ حديد قناعاتهم، ويصدع أقفال قلوبهم كما صدع قلب فرعون فلا تتمنّع عند ذلك من الحق وقبوله،أتدري ما هو :
إنّه الموت ..
كلّ هؤلاء المعاندين للحق الذي جاء به النّبيّ صلى الله عليه وسلّم سواء من الكفار أو من المنافقين أو الشواذ فكريا، كل هؤلاء إذا عاينوا الموت انكشفت لهم الحقيقة واعترفوا بها، قال تعالى : {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ}.
ولكن يا للخسارة،لأنّه اعتراف متأخر لا ينفع صاحبه،اعتراف في وقت ارتفاع التكليف ونهاية وقت الامتحان ..
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : « وتجد عامة هؤلاء الخارجين عن منهاج السلف من المتكلمة والمتصوفة يعترف بذلك إما عند الموت وإما قبل الموت والحكايات في هذا كثيرة معروفة .. هذا أبو الحسن الأشعري نشأ في الاعتزال أربعين عاما يناظر عليه ثم رجع عن ذلك وصرح بتضليل المعتزلة وبالغ في الرد عليهم ..
وهذا أبو حامد الغزالي مع فرط ذكائه وتألهه ومعرفته بالكلام والفلسفة وسلوكه طريق الزهد والرياضة والتصوف ينتهي في هذه المسائل إلى الوقف والحيرة ويحيل في آخر أمره على طريقة أهل الكشف وإن كان بعد ذلك رجع إلى طريقة أهل الحديث وصنف إلجام العوام عن علم الكلام..
وهذا إمام الحرمين ترك ما كان ينتحله ويقرره واختار مذهب السلف وقال عند موته : « لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت فيما نهوني عنه والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني وهاأنذا أموت على عقيدة أمي أو قال عقيدة عجائز نيسابور » ..
وكذلك أبو عبدالله محمد بن عبدالكريم الشهرستاني أخبر أنه لم يحد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم وكان ينشد :
لعمري لقد طفت المعاهد كلها ***وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر ***على ذقن أو قارعا سن نادم
وابن الفارض من متأخري الاتحادية صاحب القصيدة التائية المعروفة بنظم السلوك وقد نظم فيها الاتحاد نظما رائق اللفظ فهو أخبث من لحم خنزير في صينية من ذهب لما حضرته الوفاة أنشد :
إن كان منزلتي في الحب عندكم ***ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي
أمنية ظفرت نفسي بها زمنا ***واليوم أحسبها أضغاث أحلام
وحكى من كان حاضرا عند موت إمام المنطقيين في زمانه الخونجي صاحب الموجز وكشف الاسرار وغيرهما انه قال عند موته « أموت وما علمت شيئا إلا علمي بأن الممكن يفتقر إلى الواجب ثم قال الافتقار وصف سلبي أموت وما علمت شيئا» ..
وغيرهم كثير،كل هؤلاء الذين يجاهرون بالمنكر الفكري ويعارضون ويعاندون حتى تلك الباحثة عن الأزواج بالشراكة كل هؤلاء سينهارون تماما عند أوّل سكرة ويعلمون أنّ أضواء الفضائيات وبريق الكاميرات ومانشيتات الصحف وتصفيق الجهال لن يغني عنهم ولن ينفعهم ..
وتنكشف لهم عند ذلك الحقائق التي يتمنون العودة للإيمان بها : رأي جديد وبصر حديد .. ولكن لات ساعة مندم : {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} ..
الحياة قصيرة مهما طالت ..
وإذا غاظك ما يفعله ويقوله أهل الشذوذ من كتاب الصحف ومثقفي الاستغراب وأهل الشّكّ والرّيب والملاحدة فردّد معي : {ذرهم يخوضوا}
تعليق