1- لا شك أن اندحار الباطل نعمة عظيمة تستوجب الشكر كسائر النعم، وقد سجد بعض السلف شكراً لما بلغه موت الحجاج، وقد قال - تعالى -: {وَإذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]، ونحن أشد ما نكون حاجة للزيادة لأن الطريق لا يزال طويلاً وشاقاً، والخطوات نحو استكمال الثورة لا تزال كثيرة وشائكة؛ فيجب استفراغ الجهد في الشكر باللسان والقلب والجوارح. أما الوقوع في الزهو والتعالي - سواء التعالي على عموم الناس أو تعالي بعضنا معشرَ الدعاة على بعضنا الآخر - والوقوف عند الإعجاب بالثورة – والتي لم نبدأها نحن وإنما بدأها غيرنا – فهو أمر لا تدوم معه نعمة ولا تستقر معه قوة، كما قال - تعالى -: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: 25].
2- ومن الأمور الهامة المطلوبة من العلماء والدعاة: التلاحم مع الشعب وتأييده في مطالبه التي تقرُّها الشريعة وإعانة جميع المظلومين في الحصول على حقوقهم.
ومما يتحقق به التلاحم المنشود حُسْن التعامل مع جمهور الناس؛ فذلك مما يقرِّبهم ويؤثر فيهم. أما الانقباض عنهم والجفاء فهما السبيل لانفضاض الناس عنا ولو كنا أتقى الناس، وقد قال الله - تعالى - لخير خلقه محمد صلى الله عليه وسلم {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، فلنقترب من الناس، ولنقترب للجادين من شباب الثورة ليزدادوا رفعة بتعلم الدين والالتزام بتعاليمه وينضموا لقافلة الدعاة إلى تحكيم شريعته، وحذار حذار من سوء التعامل مع الناس في هذا الوقت بالذات؛ فقد يعزوه بعض العامة لارتفاع الضغط الأمني وأن حُسْن الخلق معهم قبل الثورة كان خوفاً لا تديناً.
ومن حسن التعامل إبداء الابتسامة والبشاشة والاحترام للكبير والصغير والعالم والعامي في غير موطن إقرار على فاحشة أو معصية أو استهزاء بالدين.
ومن التلاحم مع الشعب فضُّ النزاع بين المتنازعين، وحل مشاكل الناس، ومساعدة المحتاجين... إلى غير ذلك من الخدمات الاجتماعية التي كان النظام البائد يمنعنا منها خوفاً من ميل قلوب الناس لأهل الدين؛ حتى وصل الحال لاعتقال شباب الدعاة الذين يزورون دور الأيتام في الأعياد، أو الذين حاولوا تقديم خدمات إغاثية للمنكوبين في الزلزال.
ومن التلاحم مع الشعب الالتفاف بالنصح والعون حول من تظهر استقامتهم وجديتهم من المسؤولين الحكوميين قبل أن تؤثر فيهم بطانة السوء.
3- الانطلاق الدعوي في المساجد وغيرها: وقد كان ذلك مجرَّماً في نظام الطاغوت المخلوع، وكم من معتقَل قد زجوا به في غياهب السجون لتحفيظه القرآن للشباب أو إنكاره بالحسنى على من سب الدين أو لقيامه بتعليم أحكام الإسلام للناس أو لذهابه مع بعض أحبابه وجيرانه في رحلة تربوية إلى غير ذلك من صور الطغيان في الصد عن سبيل الله. وقد صار كلُّ ذلك متاحاً الآن، فلا يليق بنا تضييع الفرصة أو التراخي في ذلك مهما كانت المشاغل الشرعية الأخرى؛ فالدعاة وطلبة العلم كثيرون - بفضل الله - ويمكنهم توزيع الأدوار في ما بينهم؛ فنرى دروس ومراكز العلوم الشرعية في كل مكان؛ حيث يتعايش أهل العلم مع طلبتهم ولا نكتفي بالفضائيات أو التعليم عن بعد، كما يجب النشاط في دعوة الأفراد وتربيتهم وتكثير المحاضن العلمية والتربوية، كما ينبغي أيضاً الاهتمام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح للخلق؛ لإشاعة السنة والطاعة ومحاصرة البدع والمعاصي، كل ذلك بالرفق ما أمكن والحكمة والموعظة الحسنة والبيان الواضح الذي يقيم الحجة ويزيل الشبهة. هذا كله بالإضافة لاستمرار التواصل مع الناس عبر الفضائيات والإذاعة والصحف ومواقع التأثير الاجتماعي وغيرها على شبكة «الإنترنت».
4- الترخيص الرسمي لكل ما نحتاج له لنصرة الدين والقيام بمصالح الناس من هيئات أو أنشطة أو صحف وقنوات، والمشاركة القوية في المجالس المحلية ومجلس الشعب - ووجوب تأييد المسلمين لأهل الدين المشاركين في ذلك بمنحهم أصواتهم طبقاً لفتاوى كبار أهل العلم الذين علَّموا الأمة منهج السلف كابن باز وابن عثيمين وغيرهما - رحم الله الجميع - تقليلاً للشر والمخالفات التشريعية دون مجاملات على حساب العقيدة، وكذلك النقابات واتحادات الطلاب والنوادي المهنية وغيرها من أماكن التأثير والتوجيه مما كان يمنعه النظام السابق عن أهل الدين إلا من شهد لهم جواسيس النظام بالاستعداد لمسايرة الظالمين. أما الآن فيمكن استثمار الفرصة في الترخيص لهيئات شرعية وجمعيات دعوية وخيرية وحقوقية، وكتاتيب لتحفيظ القرآن، ومراكز إسلامية متعددة الأنشطة، ومدارس خاصة، ودور نشر، ومعاهد علمية، وترخيصات خطابة، بل وتكوين أحزاب بشرطها الشرعي من عدم قول أو فعل الباطل ومن عدم التعصب أو عقد الولاء والبراء عليها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزب (أي تصير حزباً)؛ فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم. وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا، مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم؛ سواء كان على الحق والباطل. فهذا من التفرُّق الذي ذمه الله - تعالى - ورسوله»[1].
ولا يشغب على هذا قول البعض: إن الحزب السياسي يختلف عن هذا لاشتراط القانون عدم قيامه على أساس ديني! فإن ذلك غير مانع من استطاعتك وضع برنامج للحزب غير مخالف للشريعة؛ وذلك بعدم كتابة الألفاظ التي يرفضها قانون الأحزاب دون أن تكتب ما ترفضه الشريعة؛ فالفرق كبير بين عدم الكتابة وكتابة العدم؛ فعدم الكتابة حصل على يد الرسول صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية حين أمر الكاتب أن يمحو «بسم الله الرحمن الرحيم» ويكتب «باسمك اللهم» وحين محا «محمد رسول الله» وأمر علياً أن يكتب «محمد بن عبد الله» لما اعترض المشركون على المكتوب أولاً. وأما كتابة العدم فهو مثل كتابة أن الله ليس برحمن ولا رحيم، تعالى الله عن ذلك، ومثل كتابة أن محمداً ليس برسول الله، حاشا وكلا صلوات ربي وسلامه عليه. وأما الاعتراض بمنع كثير من الباحثين من تكوين أحزاب سياسية مطلقاً - إسلامية أو غير إسلامية – في ظل دولة الخلافة التي تحكم بكتاب الله وشريعته ووجود أهل الحل والعقد، فذلك ليس في محل النزاع بل المناط قد انعكس حيث إن كلامنا في أحزاب تعمل على نقل البلاد من العلمانية (التي يسمونها الآن في مصر «الدولة المدنية») إلى حكم الشريعة، ومن حياة البعد عن الدين إلى الحياة بالدين[2]. ونختم هذه النقطة بالتنبيه للموسرين من المسلمين بضرورة دعمهم لجميع هذه المؤسسات قياماً بدورهم في نصرة الدين والتمكين له، واحتساباً للأجر والثواب عند الله تعالى.
يتبع
تعليق