الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، أمّا بعد:
فإنّ حديثنا في هذه الأسطر إنّما هو عن خلقٍ لا يشكّ أحد منّا أنّه أفضل منه رتبة ومكانة، ولو شُبِّهنا به لرأينا فيه ذلاّ ومهانة ..
إنّه الخلق الّذي قال فيه المولى تبارك وتعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام من:38]..
قال سفيان بن عيينة رحمه الله:
" ما في الأرض من آدميّ إلاّ وفيه شبهٌ من البهائم: فمنهم من يهتصر اهتصار الأسد، ومنهم من يعدو عدو الذّئب، ومنهم من ينبح نباح الكلاب، ومنهم من يتطوّس كفعل الطّاووس، ومنهم من يشبه الخنازير لو ألقي إليها الطّعام الطّيب لعافته، حتّى إذا قام الرّجل عن رجيعه ولغت فيه، فلذلك تجد في الآدميّين من لو سمع خمسين حكمة لم يحفظ واحدة منها، وإن أخطأ رجل تروّاه وحفظه ".
وهكذا من العباد من رضي أن يتشبّه بالبهائم في كثير من المواطن، فهذا يشبه الخنزير فلا يغار على عرضه، وذاك يشبه الذّباب فلا يقع إلاّ على الأوساخ فينقلها من مكان إلى مكان، فلا يستر عيبا، ولا يغفر ذنبا، وذاك فيه شبه بالأفعى لا تشرب من شيء إلاّ ومجّته بسمّها، وكلّ إلى طبعه عائد .. وإنّ الله عزّ وجلّ كرّم ابن آدم، فنهاه أن يتشبّه بالحيوان في كثير من المواطن:
ففي الصّلاة نُهِينا عن نقرة كنقرة الغراب، وافتراش كافتراش السّبُع، وبروك كبروك الجمل، والتفاتة كالتفاتة الثّعلب، وإقعاء كإقعاء الكلب، إيطان كإيطان البعير، ممّا يذكّرك بقوله تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70]..
ولكن فوجِئنا بأنّ أكثر النّاس لم يتشبّهوا بالبهائم فحسب، بل كانوا أدنى رتبة وهمّة، وأكثر قبحا وذمّا ..
قال تعالى:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
فهل هناك من هو أحطّ من البهائم ؟! هكذا قال ربّنا:{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً}؛ " لأنّ البهائم لا اختيار لها ولا تمييز ... وإنّما هي مسَخَّرة، ومع ذلك تهرب من المضارِّ، وتطلب لأنفسها من الغذاء الأصلح. والّذين وصفَ الله صفتهم في هذه الآية، مع ما أُعطُوا من الأفهام، والعقول المميِّزة بين المصالح والمضارّ، تترك ما فيه صلاحُ دنياها وآخرتها، وتطلب ما فيه مضارّها، فالبهائم منها أسدُّ، وهي منها أضلّ " [تفسير الإمام الطّبريّ رحمه الله].
وإليكم هذه المُثُل:
تلكم البقرة الّتي يُضرب بها المثل في البلادة علمت حكمة خلق الله لها: روى البخاري ومسلم وأحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم صَلَاةً، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ:
(( بَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إِذْ رَكِبَهَا، فَضَرَبَهَا، قَالَتْ: إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا، إِنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحِرَاثَةِ )). فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ ! بَقَرَةٌ تَتَكَلَّمُ ؟! فَقَالَ: (( فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا، أَنَا، وَأَبُوبَكْرٍ، وَعُمَرُ )) قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: وَمَا هُمَا ثَمَّ.
ولو سألت بعض من حولك عن حكمة خلقه لما وجد إلى الجواب سبيلا صحيحا، ولو علم لكان فعله يكذّب قوله تكذيبا صريحا؛ إذ تراه يبذل لدنياه ومالِه أكثر من دينه وما فيه صلاح أعماله، ولمعاشه أكثر من معاده، فليله نائم، ونهاره هائم، وتلك أضلّ من عيشة البهائم .. قال الله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56)مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ(57)إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُوالْقُوَّةِ الْمَتِينُ(58) } [الذّاريات].
وقال جلّ جلاله:{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [الإسراء:44]..
أو تدري أيّ وصفٍ وصف به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من غفل عن ذكر الله وقت طلوع الشّمس ؟
تأمّل ما رواه ابن السنّي رحمه الله في " عمل اليوم واللّيلة " وأبو نعيم في " الحلية " بإسناد حسن - كما قال الشّيخ الألباني رحمه الله في "صحيح الجامع"- عن عمرو بنِ عَبَسَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( مَا تَسْتَقِلُّ الشَّمْسُ فَيَبْقَى شَيْئٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ إِلاَّ سَبَّحَ اللهَ بِحَمْدِهِ، إِلاَّ مَا كَانَ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَأَغْبِيَاءِ بَنِي آدَمَ ))..
قال الله تعالى عن الهدهد:{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ(22)وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَلِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ(24)أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِيالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ(25) }..
فكيف لو رأى الهدهد غاندي وقومه يعبدون البقر ؟! غاندي الّذي قال:" عندما أرى البقرة لا أجدني أرى حيوانا، لأنّي أعبد البقرة، وأمّي البقرة تفضل أمّي الحقيقيّة، فالأمّ الحقيقيّة تُرضعنا مدّة عام أو عامين، وتتطلّب منّا خدمات طول العمر لأجل هذا، ولكنّ أمّنا البقرة تمنحنا اللّبن دائما ولا تطلب منّا شيئا "..
وهؤلاء لا يقلّون شرّا عن قوم من بني جلدتنا يتكلّمون بألسنتنا، وينتسبون إلى ملّتنا، بل ربّما اتّجهوا إلى قبلتنا، تراهم يرفعون أيديهم إلى ( سيدي فلان ) و( سيدي علاّن )، ويدعونه من دون الرّحمن، ويستغيثون به للسّقيا وكشف اللأواء، ولرفع الدّاء وجلب الدّواء، والعجيب أنّهم سمّوهم أولياء، ونسوا قول ربّ الأرض والسّماء:{أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر:3].
روى الإمام عن أبي سعيدٍ الخدرِيِّ رضي الله عنه قال: عَدَا الذِّئْبُ عَلَى شَاةٍ، فَأَخَذَهَا، فَطَلَبَهُ الرَّاعِي فَانْتَزَعَهَا مِنْهُ، فَأَقْعَى الذِّئْبُ عَلَى ذَنَبِهِ، قَالَ: أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ تَنْزِعُ مِنِّي رِزْقًا سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيَّ ؟ فَقَالَ: يَاعَجَبِي ! ذِئْبٌ مُقْعٍ عَلَى ذَنَبِهِ يُكَلِّمُنِي كَلَامَ الْإِنْسِ ؟! فَقَالَ الذِّئْبُ: أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ ؟ مُحَمَّدٌصلّى الله عليه وسلّمبِيَثْرِبَ يُخْبِرُ النَّاسَ بِأَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ !
قَالَ: فَأَقْبَلَ الرَّاعِي يَسُوقُ غَنَمَهُ حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ، فَزَوَاهَا إِلَى زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهَا، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَأَخْبَرَهُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَنُودِيَ: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ ! ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ لِلرَّاعِي: (( أَخْبِرْهُمْ )) فَأَخْبَرَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى اللهعليه وسلّم: (( صَدَقَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُكَلِّمَ السِّبَاعُ الْإِنْسَ وَيُكَلِّمَ الرَّجُلَ عَذَبَةُ سَوْطِهِ وَشِرَاكُ نَعْلِهِ وَيُخْبِرَهُ فَخِذُهُ بِمَا أَحْدَثَ أَهْلُهُ بَعْدَهُ )).
هذا الذّئب كان بالمدينة، وفهم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دعوته، فهدى الله على يديه رجلا فصار من الصّحـابـة ! فكم هدى الله على أيدينا ؟
وكأنّي بك تقول: وأين العلم والقدرة على هداية من كفر إلى ربّه، وإلى شرح صدره وهداية قلبه ؟!
فاعلم أنّنا: لا نريد الأرباح بقدر ما نرغب في الحفاظ على رأس المال، لا نريد هداية الكافر بقدر ما نرغب في عودة المسلم إلى دينه، وإليك المثال الرّابع:
فمن يعجز عن دعوة أخيه، وجارك الّذي يليه إلى إقام الصّلاة ؟ فانظر إلى هذا المخلوق الضّعيف كيف يدعو إلى الصّلاة:
روى الإمام أحمد وأبو داود عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَا تَسُبُّوا الدِّيكَ فَإِنَّهُ يُوقِظُلِلصَّلَاةِ )).
فانظروا إلى تعظيم الله لهذا الحيوان، فسخّر له سيّد الأنبياء وإمام الأتقياء يدفع عنه السبّ، ويحرّم انتهاك عرضه، لأنّه يوقظ للصّلاة.
فالله الّذي حماه وصانه، وعظّمه ورفع مكانه، لا شكّ أنّه يحميك..
هل سمع هذا الحديثَ قوم يتضجّرون من أذان الفجر، فيسبّون المؤذّن ويلعنوه ؟!
وهل سمع هذا الحديث قوم سمّوا المؤذّنين بكلاب الدوار..؟! {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً}.
وهل سمع هذا الحديث قوم يصدّون النّاس عن العلماء المبرّزين، والدّعاة العاملين، وهم يدعون إلى الصّلاة وغيرها ؟ أفلا يصدق عليهم قوله تعالى:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44].
فقد روى الإمام أحمد والنّسائي عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( مَا مِنْ فَرَسٍ عَرَبِيٍّ إِلَّا يُؤْذَنُ لَهُ عِنْدَ كُلِّ سَحَرٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ: اللَّهُمَّ خَوَّلْتَنِي مَنْ خَوَّلْتَنِي مِنْ بَنِي آدَمَ وَجَعَلْتَنِي لَهُ فَاجْعَلْنِي أَحَبَّ أَهْلِهِ وَمَالِهِ إِلَيْهِ )).
بل ويخبرنا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بإكرام الله تعالى له، فقد روى أبو داود أنّه صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّ هَذَا الفَرَسَ قَدْ اُسْتُجِيبَ لَهُ )).
وقارن هذا الفرس بما رواه البخاري ومسلم عن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه قال: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم رَجُلٌ، فَقِيلَ: مَا زَالَ نَائِمًا حَتَّى أَصْبَحَ ! مَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ !، فَقَالَ صلّى الله عليه وسلّم: (( بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ )).
فمن عجيب ما جاء في السنّة أنّ القردة كانت أحرص على إقامة حدود الله في أرضه من كثير من بني آدم، روى البخاري عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الأَوْدِيِّ رضي الله عنه قَالَ: رَأَيْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرْدَةً اجْتَمَعَ عَلَيْهَا قِرَدَةٌ، قَدْ زَنَتْ فَرَجَمُوهَا فَرَجَمْتُهَا مَعَهُمْ.
ما ينتظر العباد من ربّهم، إن هم عجزوا عن القيام بما يقوم به القرود ؟.. فلا شكّ أنّهم رضوا بالتمتّع بما يقدّم إليهم من أطباق الموز وغيره.. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد: من الآية12].
روى التّرمذي وأبو داود وابن ماجه عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ:
(( إِنَّهُ لَيَسْتَغْفِرُ لِلْعَالِمِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى الْحِيتَانِ فِي الْبَحْرِ )).
وروى التّرمذي عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ، حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّى الْحُوتَ، لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ )).
فكيف بمن نسي حقّهم، وجهل فضلهم ؟!..كيف بمن سبّهم وشتمهم ؟! وكيف بمن نشر أخطاءهم وزلاّتهم، واتّبع غلطاتهم وسيّئاتهم ؟!.. روى أحمد عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:
(( لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ )).
بل كيف بمن قتلهم وشرّدهم ؟! وآذاهم وعذّبهم ؟!..{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران:21]..
وتأمّل عبارة النبيّ صلّى الله عليه وسلّمالدّقيقة: (( لَيْسَ مِنَّا ))، ولو سألت النّمل والحيتان لقالت: وليس منّا ! ويأتيك الجواب من العزيز الوهّاب، ومن أصدق منه قيلا:{بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً}.
تأمّل حال ذلك الحيوان البهيم، الّذي يضرب به المثل في البلادة، الّذي جعل صوته أنكر الأصوات، ولكنّه أفضل من كثير من الأموات.
أو تدري أنّ الحمار يعرف الطّريق إلى داره ؟ قال ابن القيّم رحمه الله في "شفاء العليل":
" ومن هداية الحمار - الّذي هو من أبلد الحيوان - أنّ الرّجل يسير به ويأتي به إلى منزله من بُعد في ليلة مظلمة فيعرف المنزل، ولو خُلّي لجاءه، ويفرّق بين الصّوت الّذي يُستوقَف به، والصّوت الّذي يُحثّ به على السّير ".
هذا هو حال الحمار الّذي صار اسمه ضمن قاموس الشّتائم والسِّباب، فمن لم يعرف طريقه إلى دار الخلود فهو أضل من حمار .. ومن لم يدرك الأمر الّذي أمر به، والنّهي الّذي نهي عنه فهو أضلّ.
ذلكم العالم الّذي حيّر أولي الألباب، وعجب منه العلماء الأنجاب.
يذكر ابن القيّم رحمه الله في "شفاء العليل": أنّ النّحل إذا رأت من بينها نحلة بطّالة قطّعتها، وقتلتها، حتّى لا تُفسد عليهنّ بقيّة العمّال وتعديهنّ ببطالتها !
كأنّي بها سمعت قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ )).
بل الأمر فوق ذلك، فإنّ كلّ نحلة تريد الدّخول إلى الخليّة بعد رجوعها يشمّها البوّاب ويتفقّدها، فإن وجد منها رائحة منكرة أو بها لطخةٌ من قذَرٍ منعها من الدّخول !
وكأنّي بهنّ قد بلغهنّ قوله تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104].
هذا هو دأبه كلّ عشيّة، شعارهنّ: لا يساكننا إلاّ نظيف، ولا يعاشرنا إلاّ كريم، لا يقربنّ سوقنا إلاّ فقيه، ولا يقربنّ مسجدنا من أكل ثوما أو بصلا.
فقوم يرضون بأصحاب المعاصي بينهم أخسّ من النّحل، ولا تتحدّث عمّن يريد طرد الصّالحين ! وتشريد المصلحين ! فهم على درب قوم لوط سائرون:{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56]..
وأختم مقالتي هذه بمثال عن أضعف مخلوق.
عالم لا يقلّ عجبا عن عالم النّحل .. تراها تهجر بيتها لتطلب قوتها، وإن بعدت الطّريق، وفقدت الصّديق، حتّى إذا ظفرت به حملته في تلكم الطّرق المعوجّة، في صعود وهبوطفي غاية من التوعّر، حتّى تصل إلى بيوتها، فتخزّن فيها أقواتها !
فانظر إلى من يترك الأمانة الّتي حمّلها الله إيّاه لأدنى العوائق، وأسهل المزالق ..
ويزداد عجبك إذا علمت أنّ النّملة لا تقترب من الغذاء الّذي يجمعه غيرها، وكأنّها علمت بقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَلَا لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مِنْ مَالِ أَخِيهِ شَيْءٌ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ ))..
ويزداد عجبك إذا رأيتها شديدة الحرص وهي تجمع قوت فصلٍ كامل في فصل كامل، تعدّ العدّة لفصل الشّتاء، فصل الجوع والعراء.
فنحن الآن في ساعتنا هذه في فصل الحياة الدّنيا، فما عسانا نعِدّ لفصل القضاء، ويوم اللّقاء ؟
وسبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
فإنّ حديثنا في هذه الأسطر إنّما هو عن خلقٍ لا يشكّ أحد منّا أنّه أفضل منه رتبة ومكانة، ولو شُبِّهنا به لرأينا فيه ذلاّ ومهانة ..
إنّه الخلق الّذي قال فيه المولى تبارك وتعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام من:38]..
قال سفيان بن عيينة رحمه الله:
" ما في الأرض من آدميّ إلاّ وفيه شبهٌ من البهائم: فمنهم من يهتصر اهتصار الأسد، ومنهم من يعدو عدو الذّئب، ومنهم من ينبح نباح الكلاب، ومنهم من يتطوّس كفعل الطّاووس، ومنهم من يشبه الخنازير لو ألقي إليها الطّعام الطّيب لعافته، حتّى إذا قام الرّجل عن رجيعه ولغت فيه، فلذلك تجد في الآدميّين من لو سمع خمسين حكمة لم يحفظ واحدة منها، وإن أخطأ رجل تروّاه وحفظه ".
وهكذا من العباد من رضي أن يتشبّه بالبهائم في كثير من المواطن، فهذا يشبه الخنزير فلا يغار على عرضه، وذاك يشبه الذّباب فلا يقع إلاّ على الأوساخ فينقلها من مكان إلى مكان، فلا يستر عيبا، ولا يغفر ذنبا، وذاك فيه شبه بالأفعى لا تشرب من شيء إلاّ ومجّته بسمّها، وكلّ إلى طبعه عائد .. وإنّ الله عزّ وجلّ كرّم ابن آدم، فنهاه أن يتشبّه بالحيوان في كثير من المواطن:
ففي الصّلاة نُهِينا عن نقرة كنقرة الغراب، وافتراش كافتراش السّبُع، وبروك كبروك الجمل، والتفاتة كالتفاتة الثّعلب، وإقعاء كإقعاء الكلب، إيطان كإيطان البعير، ممّا يذكّرك بقوله تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70]..
ولكن فوجِئنا بأنّ أكثر النّاس لم يتشبّهوا بالبهائم فحسب، بل كانوا أدنى رتبة وهمّة، وأكثر قبحا وذمّا ..
قال تعالى:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
فهل هناك من هو أحطّ من البهائم ؟! هكذا قال ربّنا:{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً}؛ " لأنّ البهائم لا اختيار لها ولا تمييز ... وإنّما هي مسَخَّرة، ومع ذلك تهرب من المضارِّ، وتطلب لأنفسها من الغذاء الأصلح. والّذين وصفَ الله صفتهم في هذه الآية، مع ما أُعطُوا من الأفهام، والعقول المميِّزة بين المصالح والمضارّ، تترك ما فيه صلاحُ دنياها وآخرتها، وتطلب ما فيه مضارّها، فالبهائم منها أسدُّ، وهي منها أضلّ " [تفسير الإمام الطّبريّ رحمه الله].
وإليكم هذه المُثُل:
1- من جهل الحكمة من خلقه فهو أضلّ من البقر:
(( بَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إِذْ رَكِبَهَا، فَضَرَبَهَا، قَالَتْ: إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا، إِنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحِرَاثَةِ )). فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ ! بَقَرَةٌ تَتَكَلَّمُ ؟! فَقَالَ: (( فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا، أَنَا، وَأَبُوبَكْرٍ، وَعُمَرُ )) قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: وَمَا هُمَا ثَمَّ.
ولو سألت بعض من حولك عن حكمة خلقه لما وجد إلى الجواب سبيلا صحيحا، ولو علم لكان فعله يكذّب قوله تكذيبا صريحا؛ إذ تراه يبذل لدنياه ومالِه أكثر من دينه وما فيه صلاح أعماله، ولمعاشه أكثر من معاده، فليله نائم، ونهاره هائم، وتلك أضلّ من عيشة البهائم .. قال الله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56)مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ(57)إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُوالْقُوَّةِ الْمَتِينُ(58) } [الذّاريات].
وقال جلّ جلاله:{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [الإسراء:44]..
أو تدري أيّ وصفٍ وصف به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من غفل عن ذكر الله وقت طلوع الشّمس ؟
تأمّل ما رواه ابن السنّي رحمه الله في " عمل اليوم واللّيلة " وأبو نعيم في " الحلية " بإسناد حسن - كما قال الشّيخ الألباني رحمه الله في "صحيح الجامع"- عن عمرو بنِ عَبَسَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( مَا تَسْتَقِلُّ الشَّمْسُ فَيَبْقَى شَيْئٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ إِلاَّ سَبَّحَ اللهَ بِحَمْدِهِ، إِلاَّ مَا كَانَ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَأَغْبِيَاءِ بَنِي آدَمَ ))..
2- ومن لم ينكر الشّرك ومظاهره، ويحمي التّوحيد ومعاقله، فليعلم أنّ الهدهد أفضل منه:
فكيف لو رأى الهدهد غاندي وقومه يعبدون البقر ؟! غاندي الّذي قال:" عندما أرى البقرة لا أجدني أرى حيوانا، لأنّي أعبد البقرة، وأمّي البقرة تفضل أمّي الحقيقيّة، فالأمّ الحقيقيّة تُرضعنا مدّة عام أو عامين، وتتطلّب منّا خدمات طول العمر لأجل هذا، ولكنّ أمّنا البقرة تمنحنا اللّبن دائما ولا تطلب منّا شيئا "..
وهؤلاء لا يقلّون شرّا عن قوم من بني جلدتنا يتكلّمون بألسنتنا، وينتسبون إلى ملّتنا، بل ربّما اتّجهوا إلى قبلتنا، تراهم يرفعون أيديهم إلى ( سيدي فلان ) و( سيدي علاّن )، ويدعونه من دون الرّحمن، ويستغيثون به للسّقيا وكشف اللأواء، ولرفع الدّاء وجلب الدّواء، والعجيب أنّهم سمّوهم أولياء، ونسوا قول ربّ الأرض والسّماء:{أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر:3].
3- ومن تقاعس عن الدّعوة إلى الله، ولم يقم بتبليغ كلمة الله، فهو أضلّ من الذّئب:
قَالَ: فَأَقْبَلَ الرَّاعِي يَسُوقُ غَنَمَهُ حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ، فَزَوَاهَا إِلَى زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهَا، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَأَخْبَرَهُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَنُودِيَ: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ ! ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ لِلرَّاعِي: (( أَخْبِرْهُمْ )) فَأَخْبَرَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى اللهعليه وسلّم: (( صَدَقَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُكَلِّمَ السِّبَاعُ الْإِنْسَ وَيُكَلِّمَ الرَّجُلَ عَذَبَةُ سَوْطِهِ وَشِرَاكُ نَعْلِهِ وَيُخْبِرَهُ فَخِذُهُ بِمَا أَحْدَثَ أَهْلُهُ بَعْدَهُ )).
هذا الذّئب كان بالمدينة، وفهم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دعوته، فهدى الله على يديه رجلا فصار من الصّحـابـة ! فكم هدى الله على أيدينا ؟
وكأنّي بك تقول: وأين العلم والقدرة على هداية من كفر إلى ربّه، وإلى شرح صدره وهداية قلبه ؟!
فاعلم أنّنا: لا نريد الأرباح بقدر ما نرغب في الحفاظ على رأس المال، لا نريد هداية الكافر بقدر ما نرغب في عودة المسلم إلى دينه، وإليك المثال الرّابع:
4-ومن تقاعس عن دعوة النّاس إلى الخير فالدّيك أفضل منه:
روى الإمام أحمد وأبو داود عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَا تَسُبُّوا الدِّيكَ فَإِنَّهُ يُوقِظُلِلصَّلَاةِ )).
فانظروا إلى تعظيم الله لهذا الحيوان، فسخّر له سيّد الأنبياء وإمام الأتقياء يدفع عنه السبّ، ويحرّم انتهاك عرضه، لأنّه يوقظ للصّلاة.
فالله الّذي حماه وصانه، وعظّمه ورفع مكانه، لا شكّ أنّه يحميك..
هل سمع هذا الحديثَ قوم يتضجّرون من أذان الفجر، فيسبّون المؤذّن ويلعنوه ؟!
وهل سمع هذا الحديث قوم سمّوا المؤذّنين بكلاب الدوار..؟! {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً}.
وهل سمع هذا الحديث قوم يصدّون النّاس عن العلماء المبرّزين، والدّعاة العاملين، وهم يدعون إلى الصّلاة وغيرها ؟ أفلا يصدق عليهم قوله تعالى:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44].
5-ومن غفل عن الدّعاء قبل الفجر وقت السّحر،فالخيل أكرم منه عندالله:
(( مَا مِنْ فَرَسٍ عَرَبِيٍّ إِلَّا يُؤْذَنُ لَهُ عِنْدَ كُلِّ سَحَرٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ: اللَّهُمَّ خَوَّلْتَنِي مَنْ خَوَّلْتَنِي مِنْ بَنِي آدَمَ وَجَعَلْتَنِي لَهُ فَاجْعَلْنِي أَحَبَّ أَهْلِهِ وَمَالِهِ إِلَيْهِ )).
بل ويخبرنا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بإكرام الله تعالى له، فقد روى أبو داود أنّه صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّ هَذَا الفَرَسَ قَدْ اُسْتُجِيبَ لَهُ )).
وقارن هذا الفرس بما رواه البخاري ومسلم عن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه قال: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم رَجُلٌ، فَقِيلَ: مَا زَالَ نَائِمًا حَتَّى أَصْبَحَ ! مَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ !، فَقَالَ صلّى الله عليه وسلّم: (( بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ )).
6- المبدّلون لشرع الله ومن تبعهم أخسّ عند الله وأحقر من القرود..
ما ينتظر العباد من ربّهم، إن هم عجزوا عن القيام بما يقوم به القرود ؟.. فلا شكّ أنّهم رضوا بالتمتّع بما يقدّم إليهم من أطباق الموز وغيره.. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد: من الآية12].
7- ومن لم يوقّر العلماء، ولم يعرف لطلبة العلم منزلتهم، فيدعو لهم ويعينهم، فهو أحقر من الحيتان والنّمل:
(( إِنَّهُ لَيَسْتَغْفِرُ لِلْعَالِمِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى الْحِيتَانِ فِي الْبَحْرِ )).
وروى التّرمذي عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ، حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّى الْحُوتَ، لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ )).
فكيف بمن نسي حقّهم، وجهل فضلهم ؟!..كيف بمن سبّهم وشتمهم ؟! وكيف بمن نشر أخطاءهم وزلاّتهم، واتّبع غلطاتهم وسيّئاتهم ؟!.. روى أحمد عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:
(( لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ )).
بل كيف بمن قتلهم وشرّدهم ؟! وآذاهم وعذّبهم ؟!..{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران:21]..
وتأمّل عبارة النبيّ صلّى الله عليه وسلّمالدّقيقة: (( لَيْسَ مِنَّا ))، ولو سألت النّمل والحيتان لقالت: وليس منّا ! ويأتيك الجواب من العزيز الوهّاب، ومن أصدق منه قيلا:{بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً}.
8-ومن جهل الطّريق إلى فهو أضلّ من الحمار !
أو تدري أنّ الحمار يعرف الطّريق إلى داره ؟ قال ابن القيّم رحمه الله في "شفاء العليل":
" ومن هداية الحمار - الّذي هو من أبلد الحيوان - أنّ الرّجل يسير به ويأتي به إلى منزله من بُعد في ليلة مظلمة فيعرف المنزل، ولو خُلّي لجاءه، ويفرّق بين الصّوت الّذي يُستوقَف به، والصّوت الّذي يُحثّ به على السّير ".
هذا هو حال الحمار الّذي صار اسمه ضمن قاموس الشّتائم والسِّباب، فمن لم يعرف طريقه إلى دار الخلود فهو أضل من حمار .. ومن لم يدرك الأمر الّذي أمر به، والنّهي الّذي نهي عنه فهو أضلّ.
9-عـالـم النّحـل.
يذكر ابن القيّم رحمه الله في "شفاء العليل": أنّ النّحل إذا رأت من بينها نحلة بطّالة قطّعتها، وقتلتها، حتّى لا تُفسد عليهنّ بقيّة العمّال وتعديهنّ ببطالتها !
كأنّي بها سمعت قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ )).
بل الأمر فوق ذلك، فإنّ كلّ نحلة تريد الدّخول إلى الخليّة بعد رجوعها يشمّها البوّاب ويتفقّدها، فإن وجد منها رائحة منكرة أو بها لطخةٌ من قذَرٍ منعها من الدّخول !
وكأنّي بهنّ قد بلغهنّ قوله تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104].
هذا هو دأبه كلّ عشيّة، شعارهنّ: لا يساكننا إلاّ نظيف، ولا يعاشرنا إلاّ كريم، لا يقربنّ سوقنا إلاّ فقيه، ولا يقربنّ مسجدنا من أكل ثوما أو بصلا.
فقوم يرضون بأصحاب المعاصي بينهم أخسّ من النّحل، ولا تتحدّث عمّن يريد طرد الصّالحين ! وتشريد المصلحين ! فهم على درب قوم لوط سائرون:{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56]..
10-عـالـم النّمـل.
عالم لا يقلّ عجبا عن عالم النّحل .. تراها تهجر بيتها لتطلب قوتها، وإن بعدت الطّريق، وفقدت الصّديق، حتّى إذا ظفرت به حملته في تلكم الطّرق المعوجّة، في صعود وهبوطفي غاية من التوعّر، حتّى تصل إلى بيوتها، فتخزّن فيها أقواتها !
فانظر إلى من يترك الأمانة الّتي حمّلها الله إيّاه لأدنى العوائق، وأسهل المزالق ..
ويزداد عجبك إذا علمت أنّ النّملة لا تقترب من الغذاء الّذي يجمعه غيرها، وكأنّها علمت بقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَلَا لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مِنْ مَالِ أَخِيهِ شَيْءٌ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ ))..
ويزداد عجبك إذا رأيتها شديدة الحرص وهي تجمع قوت فصلٍ كامل في فصل كامل، تعدّ العدّة لفصل الشّتاء، فصل الجوع والعراء.
فنحن الآن في ساعتنا هذه في فصل الحياة الدّنيا، فما عسانا نعِدّ لفصل القضاء، ويوم اللّقاء ؟
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].
تعليق