جاء (ربيع الثورات العربية) بأحداثه المتتابعة ليطرح كثيراً من النقاشات والآراء حول قضايا فكرية وسياسة ترتبط بمفهوم التغيير وشرعيته ومنهجه وأهدافه.
وفي مقدمة تلك القضايا، كان الحديث حول علاقة الإسلام بمفهوم (الثورة)، ومدى أصالة هذا المصطلح في الفكر الإسلامي، وهل عدم انتشاره في الفكر الإسلامي يعني أن الإسلام يرضى بالخنوع والظلم؟
ابتداءً أحب أن أؤكد على أن ثمة فرقاً بين المفهوم اللغوي لـ (الثورة) والمفهوم الاصطلاحي المعاصر لها؛ لأن المفهوم اللغوي هو - بلا شك - مفهوم أصيل في لغتنا العربية، وقد ورد في القرآن الكريم وفي السنة النبوية، كما تم تداوله في تراثنا الإسلامي.
لكن مفهوم (الثورة) في العصر الحديث كما هو ثابت في العلوم الاجتماعية والسياسية المعاصرة، هو أمر لم يُعرَف في تراثنا الفكري والسياسي لأسباب سأشير إلى بعضها لاحقاً.
لقد جرى استخدام عدة مصطلحات في ثقافتنا الإسلامية للدلالة على معانٍ مشتركة في ما بينها من جهة ومشتركة بصورة مَّا مع مفهوم (الثورة) في العصر الحديث من جهة أخرى؛ فتم استخدام مصطلحات (التغيير) (الإصلاح) (التجديد) (التعمير).
لكن المصطلح الذي وُصِف به الغرض من رسالات الرسل هو (الإصلاح). ولذلك اخترت أن أقابل بينه وبين مصطلح (الثورة).
مفهوم (الإصلاح):
جاء في المعجم الوسيط: (صلَحَ يصلُح صَلاَحاً وصُلُوحاً: زال عنه الفساد، وصلح الشيءُ: كان نافعاً أو مناسباً. وأصلحَ في عمله أو أمره: أتى بما هو صالح نافع، وأصلحَ الشيءَ: أزال فسادَه) [1].
وقد وردت مادة (ص ل ح) في القرآن الكريم بتصاريف متعددة، منها قوله - تعالى - على لسان نبي الله شعيب مخاطِباً قومَه: {إنْ أُرِيدُ إلاَّ الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]، وقوله - تعالى -: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [البقرة: 25]، وقوله - تعالى -: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220]، {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إصْلاحِهَا} [الأعراف: 56]، {إنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِـحِينَ} [الأعراف: 196]، {إنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْـمُفْسِدِينَ} [يونس: 81].
مفهوم (الثورة):
جاء في (لسان العرب): ( ثار الشيء ثَوْراً وثؤوراً وثوراناً وتثوَّر: هاج، والثائر: الغضبان، ويقال للغضبان أهيج ما يكون: قد ثار ثائرة وفار فائرة، إذا غضب وهاج غضبه. وثار إليه: وثب. ويقال: انتظر حتى تسكن الثورة وهي الهيج، وثار الدخان والغبار وغيرهما: ظهر وسطع) [2].
وجاء في (المصباح المنير): (ثار الغبار: هاج، ومنه قيل للفتنة: ثارت وأثارها العدو، وثار الغضب: احتد، وثار إلى الشر: نهض، وأثاروا الأرض: عمروها بالفلاحة والزراعة) [3].
وجاء في (المعجم الوسيط): (ثارَ يثُور ثَوَرَاناً وثَوْراً وثَوْرةً: هاجَ وانتشر. وأثارَه إثارةً وإثاراً: هيَّجه ونشرَه، وفي التنزيل العزيز: {فَالْـمُغِيرَاتِ صُبْحاً 3 فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً} [العاديات: 3 - 4]، وأثارَ الأرضَ: حرثها للزراعة، وفي التنزيل العزيز: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا} [الروم: 9]. ويقال: أثارَ الأمرَ: بحثَه واستقصاه. وفي الأثر: «أثيروا القرآن؛ فإن فيه خيرَ الأولين والآخرين»[4].
أما (المعجم الفلسفي) لمجمع اللغة العربية بالقاهرة فعرَّف (الثورة) بأنها: (نقطة تحوُّل في حياة المجتمع لقلب النظام البالي وإحلال نظام تقدمي جديد محلَّه، وهي بهذا تتميز من الانقلاب الذي يتلخص في نقل السلطة من يد لأخرى) [5].
وفي (المعجم الفلسفي) لجميل صليبا جاء: (الثورة تغيير جوهري في أوضاع المجتمع لا تتبع فيه طرق دستورية.. والثورة مقابلة للتطور: فهي سريعة وهو بطيء، وهي تحوُّل مفاجئ وهو تبدُّل تدريجي) [6].
ونحن نلاحظ من خلال هذه التعريفات لمفهومي (الإصلاح) و (الثورة) أمرين مهمين:
الأول: أن مفهوم (الإصلاح) يفيد زوالَ الفساد والتحوُّلَ للأفضل، ويشير إلى معنى التدرُّج في التغيير؛ بينما مفهوم الثورة يرتبط بالهياج والانتشار والفجائية والتغيير الجذري. كما أن (الإصلاح) في المفهوم الإسلامي يبدأ متصاعداً بالفرد ومن داخل النفس، لينتهي بالمجتمع والدولة: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11]. بينما مفهوم (الثورة) يتجه إلى تغيير النظام السياسي.
الثاني: أن (رسالات الرسل وصفت بأنها (إصلاح) مع أنها كانت التغيير الأشمل والأعمق للواقع والفكر الذي بُعثوا فيه) [7]، فقد كانت تغييراً جذريّاً على مستوى العقيدة والأخلاق والمفاهيم، ومع ذلك لم توصف بأنها (ثورة)، كما جاء على لسان سيدنا شعيب: {إنْ أُرِيدُ إلاَّ الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: 88]؛ لأن هذه الدعوات على الرغم من أنها حملت تغييراً جذريّاً إلا أنها اتسمت بالتدرُّج والهدوء والمرحلية والسِّلْمِية، وهي المعاني التي لا يعرفها المعنى اللغوي للثورة فضلاً عن المعنى المعاصر لها في العلوم الغربية.
فقد ارتبط مفهوم الثورة - خاصة في القرن العشرين - بالصراعات الدموية وأعمال العنف التي حصدت مئات الأرواح في سادية غريبة على نوع بني البشر، كما أن الفكر الماركسي - خاصة - يعتمد (العنفَ) و (التحولَ الدمويَّ) وسيلةً وحيدةً للثورة والانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، ويرفض قيام الثورة من خلال الوسائل السلمية.
فالاشتراكية تؤكد - حسب نظريتها في (الصراع الطبقي) - أن تناقض مصالح الرأسمالية والبروليتاريا (الطبقة العاملة) يحتم الصراع بينهما، ويحتم أن تتمسك الرأسمالية بوضعها وامتيازاتها فوق البروليتاريا، فلا تجد البروليتاريا مخرجاً - مع نموها الكمي والكيفي ومع تعاظم قوَّتها وبلوغ شعورها بالصراع الطبقي ذروته - إلا بالثورة الدموية التي تحطِّم بها أغلالها.
فيقول مفكرهم (ماو) في كتابه (قضايا الحرب والإستراتيجية): (على كل شيوعي أن يدرك هذه الحقيقة: من فوهة البندقية تنبع السلطة السياسية)، كما يقول في الكتاب نفسه: (وبهذا المعنى يمكننا أن نقول: إنه لا يمكن إصلاح العالم كله إلا بالبنادق) [8].
وبدوره يؤكد (لينين) حتمية التحول الدموي، فيقول: (إن ديكتاتورية البروليتاريا تفترض اللجوء إلى عنف صارم لا هوادة فيه، سريع وحازم؛ بُغْية سحق مقاومة المستثمرين الرأسماليين والملاكين العقاريين وأذنابهم. ومن لم يفهم هذا، فليس بثوري وينبغي طردُه من مركزه كقائد أو كمستشار للبروليتاريا) [9].
تعليق