لمحات من دور المسلمة في الهجرة النبوية
منذ أن نزل الوحي على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أول مرة في غار حراء؛ لم تكن المرأة في معزل عنه، ولم تكن مستبعدة على مدى التاريخ الإسلامي المشرق من المبادرة أو المشاركة في مسيرة الأمة بكل أحداثها.
وإذا تتبعنا دور المرأة منذ بداية الوحي فإننا نلمحه واضحاً بلا غموض، بارزاً بلا توهم، لقد عاد - صلى الله عليه وسلم - من غار حراء خائفاً مما رأى فإذا بزوجه تطمئن قلبه، وتربت على كتفه، بل وتستشرف الخير مما رأى، فتحيل خوفه أمناً وسكينة، ساعية لدى ابن عمها (ورقة بن نوفل) تستوثق لزوجها مما رأى فتزيده ثقة وتأكيداً وتكون بذلك أول إنسان يوحّد الله بعد محمد - صلى الله عليه وسلم -، متحملة بعد ذلك عبء الرسالة على نحوٍ لم يعرفه تاريخ امرأة من قبل (1) .
وإذا عرفنا أن (سمية بنت خياط) أول شهيدة في الإسلام وهي سابع سبعة في الإسلام، وإذا ثبت أن أسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ هي الرقم السابع عشر ممن دخلوا الإسلام؛ تبين لنا مسارعة النساء إلى الدخول في الإسلام، وربما كانت النساء سبباً في دخول الرجال الإسلام، فهن (أرق عاطفة، وأكثر اندفاعاً، وأسمح نفساً، وأطيب قلباً) (2) .
ولا شك أن من يتصف بهذه الصفات يمكنه أن يفعل الكثير (فالمرأة إذا آمنت بشيء لم تبالِ في نشره والدعوة إليه بكل صعوبة، وعملت على إقناع زوجها وإخوتها وأبنائها به) (3) .
والتاريخ يذكر أن (سفانة بنت حاتم الطائي) لما عفا عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأسلمت لم تزل بأخيها (عدي) الفارّ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى عاد مسلماً جندياً في الصف الإسلامي.
وكذلك امرأة عكرمة ابن أبي جهل ـ رضي الله عنهما ـ ألم تخرج هذه المرأة في طلب زوجها، قاطعة المسافات الطوال مجازفة ومخاطرة حتى أمنته وعادت به ليكون أحد صناديد الإسلام؟!
هذان النموذجان يقطعان الطريق على من يحاول بَخْسَ المرأة قدرَها أو التقليل من قدرتها على أن ينتظم بها الصف وينضبط في مشاركة فعّالة، ومساهمة أكثر من إيجابية، وهكذا دائماً وفي أي عصر نجد أن (حركة الإصلاح الإسلامي ستظل وئيدة الخطى، قليلة الأثر في المجتمع حتى تشترك فيها المرأة) (4) .
وعودة إلى رصد دور المرأة في الهجرة بوجه عام، والهجرة النبوية على وجه
الخصوص فإننا ندرك الحقائق التالية:
1 ـ في الهجرة إلى الحبشة كان عدد الرجال أحد عشر رجلاً وأربع نسوة في رواية، وفي أخرى أن أول عشرة هاجروا إليها كان نصفهم من النساء.
2 ـ في الهجرة نفسها نجد أن الزوجات لم يفارقن أزواجهن بل صاحبْنهم متحملات معهم مفارقة الأهل والعشيرة، وصعوبة الرحلة ومشاقّ الطريق.
3 ـ يصل إصرار المرأة على الهجرة بدينها مداه حين تتكرر الهجرة مرة إلى الحبشة وأخرى إلى المدينة، فأول من قدم المدينة مهاجراً (أبو سلمة المخزومي) وزوجته (أم سلمة) - رضي الله عنهما ـ، وحين حيل بينها وبين الهجرة يذكر لنا التاريخ صفحة مشرفة يندر أن تتكرر في إصرارها على اللحاق بزوجها فتخرج كل يوم إلى أطراف مكة تستشرف من يرافقها في هجرتها، وأمام إصرارها يرقُّ لها من لا يزال على كفره فيصحبها في هذه الرحلة الطويلة حتى يبلغها مأمنها، وهذا الإصرار العجيب نجده في زوج (عامر بن ربيعة) فقد هاجرت مرة إلى الحبشة بصحبته وأخرى إلى المدينة.
4 ـ وإذا ثبتت رواية (أم معبد) فسوف نجدها أول من أسلم أثناء الهجرة ما بين مكة والمدينة إذ بايعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام.
فإذا ركزنا النظر في الهجرة النبوية فإننا نلحظ ما يلي:
1 ـ لم يعلم بهجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا علي وأبو بكر وابنتاه أسماء وعائشة ـ رضي الله عنهم ـ ومن ذلك نستنتج أنه جعل أسماء وعائشة ـ رضي الله عنهما ـ محلَّ ثقته وسره ولم يخشَ منهما على أمر الهجرة، وهو أعظم حدث في تاريخ الإسلام بدليل أنه لم يتحدث مع أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ في أمر الهجرة إلا بعد معرفته بأنهما وحدهما الموجودتان عنده، وإلا لأخرجهما من البيت لينفرد بالسر هو وأبو بكر وحدهما، وهذا في حد ذاته دليل دامغ ندفع به من يتصنعون الخوف على الدعوة والحركة فيستبعدون العنصر النسائي كما لو كان شراً مستطيراً ستضيع به الدعوة، وتهلك به العصبة.
2 ـ لم يتوقف دور المرأة على مجرد العلم وكتمان السر، إذ يقف نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام على باب أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ فتخرج إليهم أسماء ـ رضي الله عنها ـ، وعندما يستفسرون عن أبيها تنكر معرفتها وتأبى أن تجيبهم إلى ما يريدون، وكان أبو جهل فاحشاً خبيثاً إذ يلطم خدها لطمة تطرح منها قرطها ولا تبالي (5) .
وفي دعوتنا ومسيرتها الحالية نجد من يهمش المرأة ظاناً أنها بضربة كف تكشف الدعوة وتدل على رجالها ولا ثقة في تربية أو قدوة.
3 ـ ولما كانت الرحلة طويلة، فإنها تحتاج إلى إعداد وتجهيز، ومَن غير المرأة يجيد هذا الدور؟
لقد دفع أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ بالراحلتين ـ اللتين أعدَّهما للهجرة ـ إلى أسماء وعائشة ـ رضي الله عنهما - فجهزتاهما أحثّ الجهاز، إذ صنعتا لهما سفرة في جراب وقطعت أسماء ـ رضي الله عنها ـ قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب كما روت السيدة عائشة رضي الله عنها (6) .
4 ـ وإذا كان الرحل سيمكث على أطراف مكة ثلاث ليال فإن التاريخ لم يجهل دور المرأة، ولم تقف هي بإيجابيتها إلى هذا الحد فقد ينفد الزاد وهنا لا بد أن يستمر دور المرأة ولا يتجمد في أي مرحلة من مراحل الدعوة مهما كان حجم هذا الدور ومهما كانت طبيعة المرحلة، وهنا تكون المرأة أقدر على تأمين الزاد وهو دور يناسبها كامرأة كما ناسب أخاها عبد الله نقل الأخبار إذ هو بطبيعته أقدر وأوثق (7) .
ومن ثم فإننا:
(لا نستطيع أن نمر دون الإشارة إلى شخصية أسماء العجيبة ـ رضي الله عنها ـ وهي الأنثى الحامل في شهورها الأخيرة، تصعد الجبل الذي يعجز المسلم العادي صعوده) (8) .
هذه هي المرأة في حدث واحد من أحداث الإسلام الكبرى والأخطر في مسيرته ومرحلته، أضعها بين يدي من ينظر في دور المرأة؛ حتى تكون نظرته متوازنة فلا يكون هناك إفراط في الانطلاق بها دون مراعاة لقدراتها ومناسبة المناط بها لهذه القدرات، ولا يكون هناك تفريط في الجمود بها عن أداء دور بحيث يصل إلى التهميش وربما الإسقاط والإلغاء فتكون العاقبة: تجهيل يؤخر ولا يقدم، بل يعطل ويعوق، والله من وراء القصد.
___________________
تعليق