إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

كيف تُعَدُّ خطبة الجمعة؟!

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • [هام] كيف تُعَدُّ خطبة الجمعة؟!


    الصوت في الخطابة
    أهميته وأثره في انتباه المستمعين


    من دلائل تكريم الإنسان على سائر الحيوان: أن الله ـ تعالى ـ رزق الإنسان القدرة على الإبانة عمّا في نفسه باللسان أو بالإشارة أو بالكتابة.
    وحاجة المرء إلى القدرة على البيان لا تقلُّ أهمية عن حاجته إلى عقله؛ لأنه إن لم يستطع الإبانة عمّا في نفسه قلّت فائدة عقله أو تلاشت. ولهذا فإن الله ـ تعالى ـ ما أرسل رسولاً إلا بلغة قومه؛ ليتحقق المقصود من الرسالة وهو: إبانة الطريق الموصلة إلى الله ـ تعالى ـ وتحذيرهم من سبل الشيطان. قال ـ سبحانه ـ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] ، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم -: «لم يبعث الله نبياً إلا بلغة قومه» (1) .
    ولكل وسيلة من وسائل البيان أصولها وقواعدها وأسلوبها، تعارف البشر على ذلك وتواضعوا؛ إذ لا سبيل إلى التفاهم فيما بينهم إلا بذلك.
    والخطاب المباشر بـ (الخطابة) هو أشهر وسائل البيان والإقناع، وأكثرها استعمالاً عند بني آدم؛ ولذا اعتنوا به من قديم الزمان، وبحثه المتقدمون منهم والمتأخرون، وأدخلوه ضمن علوم الفلسفة قديماً، وأُنشئت له الأقسام في الجامعات، وخُصص له مناهج ومدرسون مختصون، وأُلّفت فيه الكثير من الكتب والرسائل العلمية كما هو مشاهد في عالم اليوم.
    وهذه المقدمة المختصرة تُلقي الضوء على جزء من الخطاب المباشر (الخطابة) يتعلق بصوت الخطيب الذي يلقي الخطبة؛ ذلك أن للصوت تأثيراً ملحوظاً على السامع، وهو الوسيلة الموصلة للمعاني إلى آذان المستمعين.

    - أهمية الصوت:
    صوت الخطيب مُترجِم عن مقاصده، وكاشفٌ عن أغراضه، ومصاحبته للألفاظ إذا كان الإلقاء جيداً بمثابة بيان المعاني التي أرادها الخطيب، وهو المُعَوَّل عليه في إيصال الخطبة إلى السامعين، ومِنْ ثم إلى قلوبهم. وقد سمّاه الأقدمون: نوراً؛ لأنه يحمل شعلة الضياء إلى الأذهان (2) . وكم من الخطباء الذين يُبهرون السامعين بحسن أصواتهم وجودة إلقائهم أكثر من سحر بيانهم.
    ومن دلائل تأثير الصوت في النفوس: أنه قد يقرأ القرآن حافظ متقن مجوِّد؛ لكنه لا يحسن الأداء في القراءة، فلا يؤثر في مستمعيه. وقد يقرأ القرآن من ليس بمجود ولا متقن؛ فيُبكي سامعيه بجودة أدائه، وحسن صوته.
    والخطبة الجيدة إذا ألقاها من لا يحسن الأداء كانت كالسيف البتّار في اليد الضعيفة، والخطيب المصقع الذي يلقي خطبة رديئة كالبطل المغوار الذي يقاتل بسيف كالٍّ. فإذا اجتمعت قوة السيف، وقوة اليد التي تحملها، وقوة قلب صاحبها عملت عملها، وهكذا الخطبة إن كانت جيدة في بلاغتها ولغتها وأسلوبها، وألقاها من يحسن الإلقاء عملت عملها في قلوب السامعين.
    وكم من أشخاص سمعنا خطبهم، وتأثرنا بها! فلما قرأناها مكتوبة لم تكن كما سمعناها، مع أنها لم تزد حرفاً ولم تنقص حرفاً؛ مما يدل على أن للإلقاء والصوت أثراً كبيراً على السامع.

    - هل جمال الصوت خِلقة أم اكتساب؟
    للإجابة عن هذا السؤال لا بد من فهم المقصود منه؛ إذ إن الحكم على جمال شيء أو قبحه أمر نسبي يختلف باختلاف الأذواق، ثم في الذي يُسخَّر له الصوت، وكيفية تسخيره؛ وهذا بلا شك له أثره في الحكم على جمال الصوت أو قبحه.
    وكثير من الخطباء قد يحكم على صوته بأنه سيئ مع أن السوء في أدائه لا في صوته، فيقعد عن تحسين أدائه بحجة أن هذا هو ما أعطاه الله تعالى.
    والأصوات أنواع، ولكل صوت ما يناسبه من طرق الأداء والإلقاء؛ فما يحسن من الأداء في صوت قد يقبح في آخر؛ بدليل أننا نستمع إلى خطيبين يقلد أحدهما الآخر في طريقة الإلقاء، حتى يكاد أن يكون مثله لولا اختلاف نغمة الصوت، ومع ذلك يُقيل الناس على أحدهما، ويستهجنون الآخر؛ والسبب: أن أحدهما ناسب صوته طريقة إلقائه، بعكس الآخر.
    وعلى الخطيب أن يكتشف طريقة الإلقاء المناسبة لصوته ونَفَسه؛ وذلك يكون بتجربة طرق عدة، والنظر في مدى أثرها على السامعين، مع سؤال أهل الخبرة في ذلك، وسيكتشف بعد عدة محاولات طريقة الأداء التي تناسب صوته.

    - الهدي النبوي رفع الصوت في الخطبة:
    روى جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ قال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - إذا خطب احمرَّت عيناه، وعلا صوته، واشتدَّ غضبه؛ حتى كأنه منذر جيش يقول: صبَّحكم مسَّاكم ... » (1) .
    ويفهم من هذا الحديث أمور، منها:
    1 - الاعتناء بشأن الخطبة؛ فإنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يهتم لها وبها، دلّ على ذلك الأحوال التي تعتريه أثناء خطبته؛ فلو لم يكن مهتماً بها لما علا صوته، واحمرَّت عيناه، واشتدَّ غضبه.
    قال النووي ـ رحمه الله تعالى ـ: «يُستدَل به على أنه يستحب للخطيب أن يفخِّم أمر الخطبة، ويرفع صوته، ويجزل كلامه، ويكون مطابقاً للفصل الذي يتكلم فيه من ترغيب وترهيب» (2) .
    2 - لا يفهم من الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم - كان يرفع صوته دائماً، ويشتد غضبه باستمرار، وتحمرُّ عيناه في كل خطبته؛ بل كان ذلك منه في أحوال تستلزم ذلك كذكر القيامة، أو إذا خولف في أمر غضب لله ـ تعالى ـ كما جاء في بعض روايات الحديث: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر الساعة احمرَّت وجنتاه، واشتدَّ غضبه، وعلا صوته..» (3) . فهذا مقيِّد للإطلاق المذكور سابقاً بذكر الساعة.
    وهذا ما فهمه شُرَّاح الحديث. قال القرطبي ـ رحمه الله تعالى ـ: «كونه -صلى الله عليه وسلم - تحمرّ عيناه، ويعلو صوته، ويشتدُّ غضبه في حال خطبته، كان هذا منه في أحوال. وهذا مشعر بأن الواعظ حقه أن يكون منه في وعظه بحسب الفصل الذي يتكلم فيه ما يطابقه؛ حتى لا يأتي بالشيء وضده ظاهر عليه. وأما اشتداد غضبه فيحتمل أن يكون عند نهيه عن أمر خولف فيه، أو يريد أن صفته صفة الغضبان» (4) .
    3 - أن تغيّر أحوال الخطيب وانفعالاته يكون بحسب المعاني التي يلقيها على السامعين؛ كما دل عليه الحديث، وأقوال العلماء الذين شرحوه؛ حتى لا يكون إلقاؤه مخالفاً للمعاني التي يلقيها. فألفاظ الاستفهام والتعجب، والتوبيخ واللوم، والعتاب والزجر، والتفخيم والتهويل والتحزين والحيرة، والوعد والوعيد، ونحوها لها كيفيات صوتية في الإلقاء تدل على المعنى المراد. وكذلك يقال في خفض الصوت ورفعه ولينه وشدته، وتكرار الكلمة وقطعها ومد الصوت بها لها مواضعها في الخطبة؛ حتى يستثير الخطيب السامعين، ويلفت انتباههم، مما يكون عوناً على الاستفادة من الخطبة؛ إذ هو المقصود من شرعيتها.
    ولا شكَّ في أن الخطيب إذا لم يراعِ معاني الألفاظ في صوته فقدت معانيها، ولربما استعجمت على السامعين، وفي هذا المعنى يُذكر أن رجلاً اتُّهم بالسرقة، وليس ثمة دليل يدينه، فوعده القاضي بأن يطلق سراحه بشرط أن يقوم أمام الناس ويعترف بأنه لص! فوافق، فلما صار أمامهم قال بصيغة السؤال والاستنكار: «أنا لص؟!» كأنه يستنكر ذلك؛ فتعاطف الناس معه، ولم يحقق القاضي ما أراده» (5) .

    - ما ينبغي مراعاته في الصوت:
    1 - موافقته لظروف الخطبة؛ فإن الصوت يختلف باختلاف الحضور واختلاف المكان والزمان، وموضوع الخطبة. فصوت الخطيب يختلف في مناسبة الفرح عنه في مناسبة الحزن، كما يختلف في المكان الضيق عنه في المكان الرحب الغاص بالمستمعين (1) . فعلى الخطيب أن يراعي مثل هذه الظروف، ويكيِّف صوته بما يتناسب معها.
    ويرى بعض الباحثين أن المناسب في الخطبة أن يبدأ بها خافضاً صوته، ثم يعلو شيئاً شيئاً؛ لأن العلو بعد الانخفاض سهل، ووقعه على السامعين مقبول. أما الخفض بعد الارتفاع فلا يحسن وقعه (2) .
    وعلى الخطيب أن يعرف قدراته الصوتية، فلا يتحمس حماساً يرفع صوته عالياً بحيث لا يستطيع إكمال خطبته على هذا النمط؛ لأنها طويلة، وقدرته الصوتية ضعيفة؛ فيقع في حرج بالغ، ويُفسد انجذاب السامعين إليه.
    2 - ألا يجعل صوته نمطياً؛ بحيث يكون على وتيرة واحدة؛ فإن ذلك يلقي في السامعين سآمة وملالاً، بل يغيّر النبرة الصوتية بما يتناسب مع المعاني التي تحويها الألفاظ. وقد كان كثير من الخطباء ـ خاصة كبار السن ـ يرتلون الخطبة كترتيل القرآن، أو كقراءة المتون العلمية على المشايخ، وهذا لا يتناسب مع الخطبة، وإن وجد السامعون له لذة في مسامعهم؛ لكنها ليست لذة بالمعاني والألفاظ، وإنما هي بصوت الخطيب ـ ولا سيما إن كان صوته حسناً ـ وذلك يشغلهم عن معانيها وفوائدها، ولربما أنهم لم يدركوا ما فيها من معانٍ وألفاظ رغم طربهم بها.
    3 - أن يفرِّغ فكره أثناء الإلقاء للمعاني التي يلقيها، ويحرك بها قلبه، ويتفاعل معها قدر استطاعته. وللإخلاص في إعداد الخطبة وإلقائها حظ كبير في تحرك القلب بها، ولا سيما إن كان في القلب حرقة لدين لله تعالى، ولنفع إخوانه المسلمين. والشواغل الذهنية أثناء الإلقاء تؤثر كثيراً على القلب، وتفقده الكثير من الخشوع والتدبر.
    فانشغال الخطيب أثناء الإلقاء مثلاً بالنحو ـ أي خوف اللحن ـ يجعله يركّز على الإعراب، وينصرف عن المعنى. وسبب ذلك في الغالب: أنه لا يراجع خطبته قبل إلقائها مراجعة تجعله يتقنها، ولا يخاف اللحن فيها. ومن كان دائم الانشغال بذلك حتى لو راجعها كثيراً فينبغي له أن يعربها ـ أي يضبطها بالشكل ـ لأن تفريغ ذهنه للمعاني أهم من انشغاله بأمور يستطيع إصلاحها قبل الإلقاء.
    وقد يكون الخطيب مرتجِلاً ـ يخطب بلا ورقة ـ فينشغل بما سيقوله عن تدبر ما يقول، أي: أن فكره يسبق كلامه، فيهيئ في ذهنه الجملة التي سيقولها وهو لا زال في الجملة الأولى، وهذا بلا شك يجعله لا يتدبر، وربما دخلت الجملة الثانية قبل اكتمال الأولى، فيفسد المعنى كما هو ملاحظ على كثير ممن لا يحسنون الارتجال.
    وبكل حال فإن الإعداد الجيد للخطبة مع الإخلاص كفيل بانفعال الخطيب في خطبته، ومن ثم انفعال المستمعين. وكلما ضعف الإعداد وقلّ الإخلاص كان الانفعال أقلّ وتأثير الخطبة أضعف. وفي هذا المعنى قال عامر بن عبد القيس ـ رحمه الله تعالى ـ: «الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان» (3) ، ولما سأل معاوية ـ رضي الله عنه ـ صحار بن عياش العبدي عن سر بلاغتهم قال: «شيء تجيش به صدورنا فتقذفه على ألسنتنا» (4) ، وقال الحسن البصري ـ رحمه الله تعالى ـ لواعظ لم تؤثر فيه موعظته: «يا هذا! إن بقلبك لشراً أو بقلبي» (5) .
    4 - عناية الخطيب بأجهزة الصوت التي توصل خطبته للسامعين؛ فهذه الأجهزة نعمة من الله ـ تعالى ـ خدمت الخطباء وأراحتهم من رفع أصواتهم رفعاً يُضِرُّ بهم. ومعنى العناية بها: أن يكون الصوت فيها موزوناً بما لا يزعج المستمع ولا يشوّش عليه. وبعض الخطباء لا يرتاح حتى يرتد إليه صوته من شدة جلبة مكبرات الصوت، وبعضهم قد تكون أجهزته لا توصل الصوت من شدة خُفوتها، والموازنة مطلوبة، وأصوات الناس تختلف، والأجهزة أيضاً تختلف، فينبغي أن يضبط صوت الجهاز بما يتناسب مع صوت الخطيب ضعفاً وقوة؛ فإن كان في صوت الخطيب ضعف رفع صوت الجهاز حتى يسمع الناس، وإن كان الخطيب جهير الصوت خفض صوت الجهاز حتى لا يحصل الإزعاج؛ فالإزعاج وضعف الصوت مانعان من الاستفادة من الخطبة.
    5 - الاعتدال في سرعة الصوت؛ فلا يتمهل تمهلاً يصيب السامعين بالملال، ولا يسرع سرعة تمنعهم التدبر وفهم المعاني. والسرعة تجهد الصوت لا سيما في الخطب الطويلة. وحدد بعضهم متوسط ذلك بما يقارب (120) كلمة في الدقيقة (6) . وفي ظني أن هذا يختلف باختلاف الأصوات وطريقة الإلقاء، ولكل خطيب ما يناسبه.
    ولو أسرع في بعض الجمل ليتمهل في كلمة منها بقصد لفت الانتباه إلى أهميتها؛ فذلك أسلوب من أساليب شد الانتباه، وقد كان بعض مشاهير خطباء الإفرنج ينطق بعدة كلمات بسرعة كبيرة حتى يصل إلى الكلمة أو العبارة التي يريد تأكيدها، ثم يبطّئ صوته عندها، ويضغط عليها (7) .
    6 - أن يجتنب الخطيب ما قد يضايقه ويضعف صوته كالضغط على الحنجرة بأزرار الثوب، وإن كان ممن يحتاج إلى ماء لتقوية صوته فلا بأس أن يشرب قبل الخطبة، أو في الجلسة بين الخطبتين، أو حتى في الخطبة إن لم يخش انقطاع الأفكار، وانصراف المستمعين عنه.
    وعلى كل حال فإنه ينبغي للخطيب العناية بما يكمل خطبته، ويجعلها مؤثرة في قلوب المستمعين، محصلة لمقاصدها التي شرعت من أجلها، كذلك ينبغي العناية بالصوت، والبحث عن الطريقة الإلقائية الملائمة له.
    وتمرينات الحلق واللسان على الأساليب الخطابية؛ مما يجب على الخطباء صرف الاهتمام له؛ فليس ذلك بأقلّ من الاهتمام بإعداد الخطبة موضوعاً ولغة، وبلاغة ومعنى؛ إذ الصوت ناقل لها، وبجمال الإلقاء تكون الخطبة جميلة، وبرداءة الإلقاء تكون الخطبة رديئة، ولو كان إعدادها جيداً.
    __________

    (1) أخرجه أحمد من حديث أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ (5/185) ، وصححه السيوطي في الجامع الصغير (7357) ثم الألباني في صحيح الجامع (5197) .
    (2) انظر: الخطابة، د. نقولا فياض، طبعة دار الهلال بمصر، 1930م، ص 53، وفن الخطابة للشيخ علي محفوظ، طبعة دار الاعتصام، ص 65، وفن الإلقاء، محمد عبد الرحيم عدس، دار الفكر، الأردن الطبعة الأولى، ص 41 الخطابة أصولها، تاريخها، في أزهر عصورها عند العرب، للشيخ محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، الطبعة الثانية، 1980م، ص 148.
    (1) أخرجه مسلم في الجمعة باب تخفيف الصلاة والخطبة (867) ، والنسائي في العيدين باب كيف الخطبة (3/188 ـ 189) ، وابن ماجه في المقدمة باب اجتناب البدع والجدل (45) وغيرهم.
    (2) شرح النووي على صحيح مسلم (6/222) .
    (3) هذه الرواية صححها ابن خزيمة (1785) ، وابن حبان (3062) .
    (4) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (2/506) ، وانظر أيضاً: شرحَي الأبي والسنوسي على صحيح مسلم (3/ 232 ـ 233) ، وشرح الطيبي على المشكاة (4/1283) .
    (5) فن الإلقاء (17) ، وانظر أيضاً: الخطابة في صدر الإسلام، د. محمد طاهر درويش، طبعة دار المعارف، مصر (46) ، وفن الخطابة د. أحمد محمد الحوفي، دار النهضة، مصر، الطبعة الرابعة (31) ، وقواعد الخطابة، د. أحمد غلوش، 1399هـ (183 ـ 184) ، والخطابة، للشيخ أبو زهرة (147) .
    (1) انظر: فن الخطابة، لأنطوان القوَّال، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى (24) .
    (2) الخطابة، لمحمد أبو زهرة (149) ، وفن الخطابة، لمحفوظ (68) .
    (3) فن الخطابة، لمحفوظ (68) ، عن البيان والتبيين، للجاحظ، (1/84) ، والحيوان (4/ 210) .
    (4) فن الخطابة، للحوفي (26) .
    (5) البيان والتبيين، للجاحظ، (1/84) ، طبعة دار الجيل بيروت.
    (6) فن الخطابة، أنطوان القوال، ص 25.
    (7) انظر: قواعد الخطابة، لغلوش (184) .
    التعديل الأخير تم بواسطة راجية جنة الرحمن; الساعة 08-01-2013, 11:44 PM. سبب آخر: تعديل الخط

  • #2
    من خصائص الخطاب الدعوي لخطيب الجمعة


    من خصائص الخطاب الدعوي لخطيب الجمعة


    1 - موقع خطبة الجمعة ومكانة الخطيب في الأمة:
    تعد خطبة الجمعة واحدة من وسائل الدعوة إلى الله التي وضع أسسها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، شرعت مرة كل أسبوع لتذكير الناس بأمور دينهم وحسن توجيههم وتوعيتهم وتثقيفهم.
    وعلى هذا فالخطيب داعية إلى الله، ومهمة كل داع إلى الله النيابة عمن بعثهم الله لعباده؛ إذ الدعوة في أصلها رسالة الرسل والأنبياء، وبعد غيابهم ورثها عنهم العلماء لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ - وَرَّثُوا الْعِلْمَ - مَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» (1) .
    والعالِم هو ناقل علم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أمته، بتوضيح الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة؛ وهو قائم في الأمة مقام الأنبياء، وسراج الأمة وضياؤها بلا مراء، يبين لهم الأحكام ويفرق لهم الحلال من الحرام، ويخرجهم من الآثام ويوضح لهم شرائع الإسلام.
    وهو كالعين العذبة نفعها دائم، وكالغيث حيث وقع نفع، وكل عالم مصباح زمانه يستضيء به أهل زمانه وعصره، وكالسراج من مر به اقتبس.
    وكل من يعتلي منبر الخطابة فهو يعتلي منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وخصوصاً في جانبه الدعوي التوجيهي، لهذا وجب على الخطيب أن يسد ثغرة خطيرة، ويتخصص في جانب مهم من أمور الدين يمنع به ما قد يؤذي المسلمين.
    وربنا يقول: {فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] . ويقول -صلى الله عليه وسلم-: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين» (2) .
    إضافة إلى كل ما ذكر فمخاطبة الناس زيادة على ما تستلزمه من شروط ينبغي توفرها في الخطيب، تتطلب موهبة خاصة يهبها الله ـ سبحانه ـ لمن اعتلى منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فهناك من يُفتح له في هذا المنبر وهو بذلك يستحق اعتلاءه، وهناك من لا يُفتح له فيه فيجب بالضرورة أن لا يعتليه.
    فقد روي عن الإمام مالك ـ رضي الله عنه ـ أنه قال مجيباً العمري العابد لما كتب له يحضه على الانفراد والعمل، ويرغب به عن الاجتماع إليه في العلم؛ حيث قال له: «إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق فرُبَّ رجل فُتِِح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصيام، وآخر فتح له في الجهاد ولم يفتح له في الصيام؛ ونشرُ العلم وتعليمه من أفضل البر، وقد رضيت بما فتح الله لي فيه من ذلك، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كِلانا على خير، ويجب على كل واحد منا أن يرضى بما قُسم له والسلام» (3) .
    فالحديث في أمور الدين ليس من السهولة بمكان كما قد يفهم الكثيرون، لهذا يجب أن يتولاها أهلها المستحقون لها، وقد حذر النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- من عكس هذا فقال: «لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله» (1) .
    كما يجب أن يكون خطاب الخطيب للناس خطاباً يسير وفق الأصل النبوي، خطاباً مبنياً على حسن البيان، والاختصار والإفهام؛ فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي وَائِلٍ قال: «خَطَبَنَا عَمَّارٌ فَأَوْجَزَ وَأَبْلَغَ؛ فَلَمَّا نَزَلَ قُلْنَا: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ! لَقَدْ أَبْلَغْتَ وَأَوْجَزْتَ، فَلَوْ كُنْتَ تَنَفَّسْتَ! فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: إِنَّ طُولَ صَلاَةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلاَةَ وَأقْصُرُوا الْخُطْبَةَ، وإن مِنَ الْبَيَانِ سِحْراً» (2) .
    كما أن الخطاب يجب أن يكون هادياً ومحبباً الناس بالإسلام، وهو ما أشار إليه الإمام علي ـ رضي الله عنه ـ في قوله: «إن الفقيه حق الفقيه من لم يقنِّط الناس من رحمة الله، ولم يرخِّص لهم في معاصي الله، ولم يؤمِّنهم من عذاب الله، ولم يَدَع القرآن رغبة إلى غيره» (3) .
    فرواد الجمعة هم كل المجتمع، فيهم الأمي والمثقف، والجاهل والعالم، والصغير والكبير، والرجل والمرأة، والمتحزب وغيره، ويمكن تصنيفهم إلى أربع فئات - من حيث فهمهم وما يلزمهم - اجتهد في وضعها الخليل بن أحمد الفراهيدي ـ رحمه الله ـ حيث قال: «الناس أربعة: رجل يدري ويدري أنه يدري فذلك عالم فاتبعوه، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فذلك نائم فأيقظوه، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فذلك مسترشد فارشدوه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذلك جاهل فارفضوه» (4) .
    وكلهم يحضرون بقصد الاستفادة من توجيه الخطيب، والتعلم من العلم النافع الذي يخدم مسيرة كل واحد منهم في حياته؛ فمنهم من يأتي للاستفادة، ومنهم من يحتاج إلى من يوقظه من غفلاته وسهواته، ومنهم من يرغب في الإرشاد، ومنهم من يستحق التنبيه والتحذير.
    2 - خصائص الخطاب الدعوي لخطيب الجمعة:
    إن المتفحص في نصوص شريعتنا، يستخلص خصائص مهمة للخطاب الديني الذي يجب على خطيب الجمعة الالتزام بها، والحرص على تنفيذها للإسهام في توجيه مسار الأمة نحو الخير والوسطية التي جاء بها ديننا الحنيف - باعتبار أن الخطيب هو واحد من دعاة الأمة الذين يوجهون للناس خطابهم الأسبوعي دون مناقشة أو استفسار، وينصتون إليه بكل شغف وشوق، ويعطونه آذانهم دون كلل أو لغو، ويحرصون على الاستفادة من خطابه لحسن معاشهم ومعادهم - وخصوصاً أن نص الحديث يحيط بهم بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْصِتْ وَالإمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ» (5) .
    لهذا على الخطيب أن يراعي في خطابه جملة من الخصائص تتمثل في الآتي:
    1 - أن يكون خطابه شرعياً ربانياً؛ حيث يحرص في خطابه على دعوة الناس إلى توحيد الله وعبادته وحده وعدم الإشراك به؛ فالأصل في بعثة الأنبياء والرسل الدعوة إلى عبادة الله وحده، وتصحيح عقيدة الناس التي انحرفت؛ وخير مثال على ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بعث مُعَاذاً ـ رضى الله عنه ـ عَلَى الْيَمَنِ قَالَ: «إنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ. . .» (6) .
    وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَارِزًا يَوْماً لِلنَّاسِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: مَا الإيمَانُ؟ قَالَ: الإيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَبِلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ. قَالَ: مَا الإسْلاَمُ؟ قَالَ: الإسْلاَمُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكَ بِهِ شيئاً. .» (7) .
    فالله ـ سبحانه ـ أخبر بأن المغفرة تشمل كل الخطايا والذنوب باستثناء الشرك فقال: {إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48] . كما حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- منه بقوله فيما رواه عن ربه: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» (8) .
    لهذا يبقى خطاب الدعوة العقدي أصل الخطاب الذي ينبغي أن لا يغيب، ولا بأس بتكراره، وتجديد الحديث فيه بطرق ووسائل تبليغية تواكب مستجدات الشرك ومستحدثاته، كما تبدع في وسائل الخطاب الذي يحاربه، وبلغة سهلة ميسرة تصل إلى القلوب قبل الأسماع.
    2 - أن يكون الخطيب هادياً لا جابياً:
    أي يحرص في خطابه على هدي الناس إلى البر، مع تجنب الجباية أو طلبها بخطابه؛ فالهادي ضد الجابي، والله في عون كل من رغب في هداية الناس إلى الخير ويوفقه ويجازيه خير الجزاء، ويكفي في بيان أجر ذلك حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- لعلي بن أبي طالب ومن خلاله لكل الأمة: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم» (9) . فأحب العباد إلى الله الذين يحببون الله إلى الناس، وهو ما بينه النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديثه: «إن أحب عباد الله إلى الله الذين يحببون الله إلى الناس» (10) .
    والخطيب إن تمثل الحكمة في خطابه كان من أفضل المحببين الله لعباده؛ وهذا بالتركيز على أن الهداية بيد الله، وأن مهمة الخطيب لا تتجاوز التذكير؛ لأن من هو أسمى من كل خطيب قد وُجه إليه هذا الخطاب في قوله ـ تعالى: {إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} [القصص: 56] .
    3 - أن يكون خطابه اجتهادياً:
    أي ليس توقيفياً؛ فالمطلوب من الخطيب الاجتهاد في خطابه، والإعداد الجيد لمواضيعه، والإبداع المستمر لما يقدمه للناس، مع تجاوز المكرر من الخطاب حتى لا يمل الناس فيملوه.
    فالخطبة موعظة، والموعظة كلها توفيقية؛ فليس هناك نمط واحد لا يتغير في الأسلوب الذي يمكن مخاطبة الناس به، بل لا بد من التجديد والابتكار دون الخروج عن الأصول والثوابت؛ فألوان الخطاب كلها وسائل يستعان بها لحسن التبليغ، لكن الوسيلة في شرعنا غير مبررة بالغاية، بل لا بد من إخضاعهما معاً لشرع الله.
    4 - أن يكون خطابه متدرجاً:
    وهذا أمر بدأ به أمر الدين وخُتم؛ فكل ما حُرِّم على الأمة حرم تدريجياً وعلى مراحل، وما أمر الخمر والربا والإرث وغير ذلك في تنزيلات القرآن بخافٍ على المسلم.
    فعلى الخطيب إن قصد بخطابه توجيه النصح أو الرغبة في تغيير ما يستحق التغيير أن يعرف كيف يعالج الأمر، وأن يستلهم منهجه ذلك من منهج رسول الإنسانية والرحمة المهداة للعالمين، ويكفي لبيان ذلك حديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لعائشة ـ رضي الله عنها ـ إذ كان يرغب في تغيير معالم الكعبة، بل هدمها وتجديدها؛ حيث قال لها: «لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية (أو قال بكفر) لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها بالأرض، ولأدخلت فيها من الحِجْر» . وفي رواية: «لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين: باباً شرقياً وباباً غربياً، وزدت فيها ستة أذرع من الحِجْر؛ فإن قريشاً اقتصرتها حين بنت الكعبة» (1) .
    إنه التدرج والتأني، ومراعاة أحوال الناس وقوة إيمانهم أو ضعفه لحسن تقبُّل الأمر الصعب الذي قد لا يوافق رغبتهم وهواهم، أو قد لا يحسنون فهمه.
    5 - أن يكون خطابه متفاعلاً مع الواقع:
    أي يكون خطاباً يعترف بالواقع ومشكلاته، ويعرف كيف يُخرج الناس من مشاكل الحياة وصعوباتها، ويقدم لهم الحلول المناسبة التي تهدئ النفوس وتطمئن القلوب، وهذا يقتضي من الخطيب حسن التفقه في الدين وحسن التعرف على الواقع، وحسن التفقه في كيفية تنزيل النص الشرعي على الواقع.
    كما يقتضي من الخطيب أن لا يتقوقع أو يدعو إلى القوقعة في مواضيعه التوجيهية فيما لا يعود بالنفع على المسلمين، بل لا بد أن يعيش واقع الناس ويوجههم للمشاركة الايجابية في المجتمع، وعلى مخالطة الناس بالتي هي أحسن، ويعلِّمهم أن الأصل والأفضل هو المخالطة وليس الانعزال، لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» (2) .
    6 - أن يكون خطابه جامعاً لا مفرقاً:
    فالخطيب للجميع ومعلم لهم، مثل شجرة الزيتون «لا شرقية ولا غربية» ينير ضوؤه طريق كل الناس، بمختلف ألوانهم وأشكالهم، يحترم الجميع ويسعى لهداية وتعليم الجميع دون تحيز أو ميل، يجمع ويوحد، يصلح ولا يفسد، مفتاح للخير، مغلاق للشر كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للشر؛ فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه» (3) .
    ويبني عمله وخطابه هذا على قول الله ـ تعالى ـ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 103 - 105] .
    وهذا يقتضي استخدام الكلمة المسؤولة استخداماً أميناً، مع جمال التعبير والعرض، والتذرع بأخلاق أهل الإيمان، التي تنفِّر من الحقد والوقيعة وسوء الظن، كما تنفر من الجهر بالسوء، لتصل إلى الحوار المنصف، والخطاب الصحيح السليم، مع تجنب التعيين والوصف والتشنيع؛ لأنه لم يثبت عن سيد الخطباء أن عيّن يوماً في خطابه أو خطبه أحداً باسمه، بل كان خطابه دائماً عاماً، لا يعدو أن يقول فيه: «ما بال أقوام» أو «ما بال أحدكم» . وهلمَّ جراً. ومن أمثلة ذلك:
    ـ ما أخرجه البخاري في صحيحه عَنْ أَبِِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلاً مِنَ الأَسْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ ـ قَالَ عَمْرٌو وَابْنُ أَبِي عُمَرَ عَلَى الصَّدَقَةِ - فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا لِي أُهْدِي لِي. قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: «مَا بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي؟ أَفَلاَ قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ فِي بَيْتِ أُمِّهِ حَتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لاَ ... ؟» (4) .
    - وعَنْ مَسْرُوقٍ: قَالَتْ عَائِشَةُ: صَنَعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- شَيْئاً فَرَخَّصَ فِيهِ فَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَخَطَبَ، فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ، قَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَيْءِ أَصْنَعُهُ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً» (5) .
    - وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَأَى نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يَقُومُ مُسْتَقْبِلَ رَبِّهِ فَيَتَنَخَّعَ أَمَامَهُ؛ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يُسْتَقْبَلَ فَيُتَنَخَّعُ فِى وَجْهِهِ؟ فَإِذَا تَنَخَّعَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَنَخَّعْ عَنْ يَسَارِهِ تَحْتَ قَدَمِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَقُلْ هَكَذَا ... » (6) .
    هذه بعض خصائص خطاب الجمعة، ما أحوجنا إلى فقهها واستيعابها، فهل من سبيل لتطبيق ذلك على الوجه الأحسن؟
    من خصائص الخطاب الدعوي لخطيب الجمعة ملتقى الخطباء
    يقول الله ـ تعالى ـ في محكم التنزيل: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] .
    تعيش الأمة الاسلامية اليوم زمناً اختلطت فيه المفاهيم والتبست، وكثرت فيه التوجيهات عبر وسائل الإعلام المختلفة سواء منها المكتوبة أم المرئية أم المسموعة.
    ومما وقع فيه الخلط الشديد، وأصبح محط جدال ونقاش خطاب خطيب الجمعة: كيف يجب أن يكون؟ وما هي خصائصه؟
    ولعل أول ما يجب أن يوضح في هذا
    __________


    (1) صحيح البخاري كتاب العلم: 10، وصحيح ابن ماجه: 183/222/ج/1/92.
    (2) الفردوس بمأثور الخطاب لأبي شجاع الديلمي الهمذاني: 5 /537/ 9018، والتمهيد لابن عبد البر: 1/28.
    (3) التمهيد لابن عبد البر: 7/185.
    (1) المستدرك للحاكم: 8571 /279/ وصححه الذهبي.
    (2) صحيح مسلم كتاب الجمعة باب 13 رقم: 2046.
    (3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 14/343.
    (4) إحياء علوم الدين للغزالي: 1/74.
    (5) صحيح البخاري كتاب الجمعة باب 36 رقم: 934.
    (6) صحيح البخاري باب 41 كتاب الزكاة رقم: 1458.
    (7) صحيح البخاري الايمان باب 37 رقم: 50.
    (8) صحيح البخاري رقم الحديث: 2942 و 3009 و 3701 و 4210.
    (9) صحيح مسلم: رقم الحديث: 2985.
    (10) المستدرك للحاكم: 1 / 116 /164/164.
    (1) صحيح البخاري كتاب الحج باب 4 رقم: 1586، و 7243.
    (2) سنن ابن ماجه: 2 / 338 /4033.
    (3) صحيح ابن ماجه، رقم: 195 /237.
    (4) صحيح مسلم كتاب الامارة باب 7 رقم: 4843.
    (5) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب 72 رقم: 6101.
    (6) صحيح البخاري، كتاب المساجد، باب 13 رقم: 1256.

    تعليق


    • #3
      رد: الصوت في الخطابة أهميته وأثره في انتباه المستمعين

      جزاكم الله خيرا

      اسئلكم الدعاء ﻻخي بالشفاء العاجل وان يمده الله بالصحة والعمر الطويل والعمل الصالح

      تعليق


      • #4
        كيف تُعَدُّ خطبة الجمعة؟!



        كيف تُعَدُّ خطبة الجمعة؟!


        كثير من الخطباء لا يكتبون خطبهم التي يلقونها على الناس، ويكتفون بالارتجال ـ وبعضهم يضع عناصر أو رؤوس أقلام في ورقة صغيرة ـ أو يأخذ خطبة لغيره؛ وذلك باستعارتها أو تصويرها من كتبهم.
        ومن سيئات الارتجال: أن الخطبة تُنسى وتَدْرس بانتهاء إلقائها، وبعض الخطباء المتميزين تُسجَّل خطبهم وتباع في التسجيلات، وهذا أيضاً يحفظها مدة معينة، ثم تضيع بعد ذلك، ولو سألت عن محاضرات أو خطب سجلت وانتشرت، وطارت في الآفاق قبل عشر سنوات لما وجدت لها أثراً لا عند الناس، ولا في التسجيلات إلا عند بعض من يهتمون بحفظ مقتنياتهم، وهم قليل، ومع قلتهم أنّى لك العثور عليهم؟ لكنك لو سألت عن كتاب طُبِعَ قبل خمسين سنة أو أكثر؛ فالظن أنك ستجده في المكتبات العامة، ومكتبات الجامعات، وعند أناس كثيرين.
        وهذا يدلنا على أهمية الكتابة في حفظ جهود المحاضرين والخطباء؛ بل وطلاب العلم والعلماء؛ فكم من عالم طار صيته في الآفاق، إذا قرأت ترجمته عجبت من ثناء العلماء عليه، ليس له من التأليف إلا القليل؛ فكان أكثر نفعه مقصوراً على من حضروا زمنه، وتلقوا عنه! وكم من عالم أكثرَ من التأليف مع دقته وتحقيقه، وجودة ما يكتب؛ فنفع الله ـ تعالى ـ الأمة بكتبه سنين عدداً؛ بل قروناً متتابعة. وهذه كتب الأئمة: مالك، والشافعي، وأحمد، والبخاري، ومسلم، وغيرها انتفعت بها الأمة منذ أن كتبوها في المائة الثالثة والرابعة إلى اليوم؛ بل وإلى ما يشاء الله تبارك وتعالى.
        إن الخطيب قد يُعِدُّ خطبة فيتقنها، ثم تؤخذ منه فتُصوَّر وتوزع أو تطبع في كتاب، أو تُدخل في الشبكة العالمية (الإنترنت) ؛ فيخطب بها مائة خطيب، أو ألف خطيب، أو أكثر في أنحاء مختلفة من الأرض؛ فينتفع بها خَلْق لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، لم يكن الخطيب وقت إعدادها يتصور انتفاع هذا العدد الهائل بها.
        ولعل ما سبق ذكره يدفع الخطباء إلى كتابة خطبهم، والعناية بإعدادها، مثل عناية المؤلف بكتابه؛ بل هم مطالبون بما هو زيادة على ذلك؛ فإن المؤلف لا يستطيع أن يقرأ كتابه على عشرة ينصتون إليه باهتمام. والخطيب يقرأ خطبته التي كتبها على مئاتٍ يتعبدون الله ـ تعالى ـ بالإنصات إليه؛ وذلك من فضل الله ـ تعالى ـ على الخطباء، وهو ما يوجب عليهم أن يشكروا الله ـ تعالى ـ على هذه النعمة العظيمة؛ وذلك بالإخلاص في إعداد الخطبة، والاجتهاد فيها، واحترام عقول من ينصتون إليهم، وإفادتهم قدر المستطاع.

        - لكل خطيب طريقته:
        يختلف مَنْ يُعِدُّون خطبهم بأنفسهم من الخطباء تبعاً لاختلاف اهتماماتهم، وعلمهم، وثقافتهم، ونوعية المصلين معهم، ومدى تفاعلهم مع الخطيب.
        فبعض الخطباء يكتفي بأفكاره وخطراته عن الرجوع إلى المراجع والمصادر، ويخط بنانه ما يوحي به ذهنه وقت الكتابة، بغض النظر عن أهمية ما يكتب من عدمه، أو ترابط الموضوع من تفككه.
        وبعض الخطباء يكتفي بمرجع واحد ينقل منه، أو يختصره ويُعدِّل عليه، ويرى أنه أحسن من غيره، ممن لم يكتب، أو كتب من ذهنه وخواطره.
        ومن الخطباء من لا يكتب خطبته حتى يقرأ في موضوعها عدداً من الكتب، ويراجع فيها مراجع كثيرة، وهؤلاء قلة، وفي الغالب تكون خطبهم متميزة ومفيدة.
        كذلك يختلف الخطباء في مدى اهتمامهم بالخطبة؛ فبعض الخطباء لا يفكر في موضوع الخطبة إلا ليلة الجمعة أو صباحها، أو قبل صعود المنبر بوقت قصير، بل إنني سمعت مرة خطيباً في مجلس يفاخر بأنه يصعد المنبر وليس في ذهنه موضوع محدد، فيطرأ عليه الموضوع والمؤذن يؤذن، وهذا فيه استخفاف بعقول الناس، واستهانة بخطبة الجمعة التي أوْلاها الشارع الحكيم عناية كبيرة.
        بينما سمعت أن بعض الخطباء المتميزين يبدأ تفكيره بموضوع الخطبة منذ نزوله من المنبر في الخطبة الماضية. وبين هذا وذاك مراحل متفاوتة من الحرص والاهتمام والفائدة.
        وقبل عرض مقترح لكيفية إعداد الخطبة أحب التنبيه إلى أن الخطبة مثل الكتاب، والخطيب مثل المؤلف. ولكل كاتب أو خطيب أو مؤلف أو باحث طريقته في البحث؛ بيد أن عرض التجارب في هذه المجالات يحقق جملة من الفوائد، لعل من أبرزها:
        1 - توجيه المبتدئ ومساعدته، بإعطائه منهجاً مجرّباً في إعداد الخطبة.
        2 - قد تكون الطريقة التي يُعدُّ بها الخطيب خطبته فيها شيء من العسر، وهناك طرق أيسر منها، فإذا اطَّلع عليها أخذ بها.
        3 - الإنسان في الأصل ناقص العمل، معرض للخطأ، والناس يكمل بعضهم بعضاً بتبادل تجاربهم وخبراتهم، وفي اطلاع الخطيب على تجارب الآخرين وطرائقهم في إعداد الخطبة تكميل للنقص عنده، أو إصلاح لخطأ في طريقة الإعداد.
        لهذا ولغيره فإنني أدعو كل خطيب أن يطرح على الخطباء طريقته في إعداد خطبته؛ حتى تتلاقح الأفكار، ويستفيد بعضنا من تجربة بعض. على أن لا يزعم الواحد منا أن طريقته هي أحسن الطرق لكل الخطباء؛ فالطريقة التي تناسبني قد لا تناسبك، وقد استفيد من تجربتك كلها أو بعضها ولو كان قليلاً، والمسألة اجتهادية، ومهارات الخطيب وثقافته وعلمه وذوقه عوامل مؤثرة في ذلك.
        ويمكن عرض الخطوات اللازمة لإعداد الخطبة على النحو التالي:
        1 - اختيار الموضوع.
        2 - جمع النصوص والنقول والأفكار والعناصر للموضوع المختار، وبعد الجمع سيتضح للخطيب أن مادة الخطبة: إما أن تكون كثيرة فيقسمها إلى أكثر من موضوع، وإما أن تكون مناسبة فيكتفي بها، وإما أن تكون قليلة فيزيد البحث في مظان أخرى، فإن ضاق عليه الوقت أجَّل هذا الموضوع، وبحث عن موضوع آخر تكون مادته متوافرة.
        وينبغي في الجمع مراعاة ما يلي:
        أ - البدء بالمصادر المتخصصة وجعلها أصلاً، ثم البحث عن مصادر أخرى مساعدة؛ فلو اختار مثلاً موضوع (الشكر) فإنه يبدأ بالكتب المتخصصة في ذلك: ككتاب الشكر لابن أبي الدنيا، ثم يرجع إلى آيات الشكر في القرآن، وما قاله أهل التفسير، ثم الأحاديث وشروحها، ثم أبواب الشكر في كتب الآداب والمواعظ والأخلاق..؛ لأن الكتب المتخصصة في الموضوع ستكفيه ما يقارب ثلثي الموضوع أو نصفه على الأقل؛ فتخفف عنه مؤنة البحث والتقصي. والكلام على مصادر الخطبة يحتاج إلى مقدمة مستقلة.
        ب - أن ينطلق في عناصره وأفكاره من النصوص التي جمعها؛ فذلك أدعى للإقناع، وأيسر عليه. وبعض الخطباء قد تقدح الفكرة في ذهنه فتعجبه فيكتبها، ثم يعيا في البحث عن دليل يعضدها، ويقنع السامع بها؛ فيضيع وقته هدراً في ذلك، ثم يشعر باليأس، وربما توقف عن الكتابة، أو يذكرها بلا دليل فلا تقنع السامع، وربما كانت خاطئة وهو لا يدري.
        ولذا فإن صياغة الأفكار، ووضع العناصر على ضوء النصوص والنقول التي جمعها يُؤَمِّنُه من الخطأ بإذن الله تعالى، ويريحه من التعب، ويقنع المستمعين؛ وبناءً عليه فإن جمع النصوص والنقول يكون قبل وضع الأفكار والعناصر للموضوع.
        3 - بعد اختيار النصوص والنقول التي سيجعلها في خطبته يضع لها عناصر مختصرة (عناوين تدل عليها) ؛ فمثلاً عنده نص وهو قول الله ـ تعالى ـ: {وَإذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] ، يجعل له عنواناً أو عنصراً: (الشكر يزيد النعمة) ، وهكذا في بقية النصوص والنقول.
        4 - يرتب العناصر التي وضعها بنصوصها حسب رؤيته التي يراها مناسبة لوضعها في الخطبة، فيجعل العناصر المترابطة متوالية؛ فمثلاً في موضوع الشكر سيكون عنده عناصر في فوائد الشكر، وعناصر في عاقبة الكفر (كفر النعمة) ، وعناصر في نماذج للشاكرين، وعناصر في نماذج لمن كفروا النعمة..، فيضم العناصر بعضها مع بعض تحت موضوعاتها. ويكون هذا الترتيب بالترقيم والإشارة إلى العناصر لا بالكتابة من جديد، حتى لا يُثقِل على نفسه، ثم يسير في صياغة الموضوع وفق الأرقام التي لديه؛ فلا يفوته شيء، ويكون موضوعه مترابطاً منسجماً.
        5 - بعد الفهرسة والترتيب يقرر ما للخطبة الأولى، وما للثانية من العناصر المذكورة.
        6 - ثم يبدأ بالصياغة حسب الخطة التي وضعها، والمادة التي جمعها.
        وهناك أمور ينبغي التنبه لها أثناء الصياغة منها:
        أ - الإخلاص لله ـ تعالى ـ في كتابته، واستحضار النية الخالصة، ومجاهدة النفس في ذلك؛ فلا تعجبه نفسه أثناء الكتابة، أو يتذكر مدح المصلين له، وماذا سيقولون عن خطبته؛ فإنه إن أخلص لله ـ تعالى ـ بارك الله في كتابته وجهده، ونفع به الأمة.
        ب - أن يعيش مع الخطبة بقلبه، ويضع نفسه محل السامع؛ أي كأنه المخاطَب بهذه الخطبة؛ لأن ذلك سيجعله يختار العبارات التي يرضاها ويحبها وتقنعه؛ فمثلاً لو كان يوجه نصيحة لواقعٍ في معصية معينة؛ فليضع نفسه مكان صاحب هذه المعصية، وكأنه المخاطَب بهذا الخطاب؛ فذلك أدعى للتأثر، وأجود في انتقاء الألفاظ المناسبة.
        وبعض الخطباء الذين لا يراعون هذه الناحية تجدهم يترفعون على صاحب المعصية، ويخاطبونه من علو؛ فيكون عتابهم عنيفاً، وربما لا يقبله صاحب المعصية، لكنه لو وضع نفسه مكان صاحب المعصية، وبدأ بالعتاب فسيكون عتاباً رقيقاً، تقبله النفوس وتتأثر به.
        ج - إنْ أحسّ الخطيب أن القلم لا يجاريه في الكتابة، وأن أفكاره مشتتة، وذهنه مشوَّش فليتوقف عن الكتابة حتى يزيل ما يشغله أو ينساه، ثم يعود إليها مرة أخرى.
        د - إذا أشكلت عليه بعض الكلمات أو الجمل من جهة إعرابها، أو صرفها، أو دلالتها على المعنى الذي يريده، أو كونها غير فصيحة فله خياران:
        1 - الرجوع إلى المعاجم اللغوية للتأكد من صحة الكلمة، ومناسبتها للمعنى الذي أراده، أو سؤال من يعلم ذلك من أهل اللغة والنحو.
        2 - استبدال الكلمة أو الجملة التي يشك فيها بكلمة، أو جملة أخرى يعلم صحتها، واللغة العربية غنية بالمترادفات من الكلمات والجمل.
        وإن كنتُ أستحسن الطريقة الأولى؛ لكي ينمِّي الخطيب مهاراته اللغوية، وتزداد حصيلته من الكلمات والجمل.
        هـ - العناية بعلامات الترقيم، وبداية الجمل ونهايتها؛ حتى يعينه ذلك على قراءة الخطبة بشكل صحيح، وعدم التعتعة والإعادة، وكثرة التوقف والتلكؤ.

        - أجزاء الخطبة:
        أولاً: المقدمة: وهي التي يستهل بها الخطيب خطبته، ويهيئ السامعين لسماعها، ويجذبهم بها إليه. ونجاح الخطيب فيها كفيل بالنجاح في بقية خطبته؛ إذ إن عسيرات الأمور بداياتها. وينبغي أن يراعي الخطيب فيها جملة أمور منها:
        أ - أن تكون ذات صلة وثيقة بموضوع الخطبة، وممهدة له، ومهيئة الأذن لسماعه.
        قال ابن المقفع: «وليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك» .
        وعلق عليه الجاحظ فقال: «فرِّق بين صدر خطبة النكاح وبين صدر خطبة العيد، وخطبة الصلح، وخطبة الواهب؛ حتى يكون لكل فن من ذلك صدر يدل على عجزه؛ فإنه لا خير في كلام لا يدل على معناك، ولا يشير إلى مغزاك، وإلى العمود الذي إليه قصدت؛ والغرض الذي إليه نزعت» (1) .
        ب - أن تكون مناسبة في طولها وقصرها لمجموع الخطبة، والملاحظ أن بعض الخطباء يطيل في المقدمة إطالة قد تستوعب أكثر الخطبة أو نصفها، وهذا قد يصيب السامعين بالملال، وربما يئسوا من الدخول في الموضوع، فانصرفت أذهانهم عن الخطيب. وعكس هؤلاء الخطباء مَنْ لا يعتنون بالمقدمة، فيشرعون في الموضوع مباشرة، ولمَّا يتهيأ المستمعون بعدُ، وكِلا الأمرين غير حسن، والمطلوب: الاعتدال في ذلك.
        ثانياً: صُلْب الموضوع: فبعد أن يمهد الخطيب لموضوعه في المقدمة، ويتهيأ السامعون لسماعه؛ يبدأ في الموضوع، وينبغي أن يراعي ما يلي:
        أ - ترتيب الأفكار وتسلسلها: بحيث لا ينتهي من فكرة إلا وقد أعطاها حقها من الاستدلال والإقناع، سواء كان الاستدلال لها بالنقل أم بالعقل، ولا يقفز إلى فكرة أخرى، ثم يعود إلى الأولى مرة أخرى؛ فإن ذلك يُربك السامع ويشوش عليه. ولا يتأتى ذلك للخطيب إلا إذا جمع مادة الخطبة من نصوص واستدلالات ونقولات وأفكار، ثم سلسلها ورتبها قبل أن يبدأ بصياغتها.
        ب - التوازن بين الأفكار: فلا يُشبِع فكرة ويطيل فيها على حساب الأخريات. ومما يلاحظ عند كثير من الخطباء عدم التوازن في ذلك؛ فتراه في أول الخطبة يُشبِع كل فكرة ويطيل فيها، ويحشد النصوص لها، ثم لما يحسّ بأنه تعب، وأتعب السامعين، وأطال عليهم؛ سرد الأفكار الباقية سرداً بلا استشهاد ولا إقناع، رغم أهميتها، وربما تكون أهم مما طرحه في الأول، وسبب ذلك أن الخطيب ليس عنده تصور كامل لخطبته وما فيها من مادة، وكم تستغرق من وقت؟
        وعلاج هذه المشكلة: أن يقدر الخطيب وقت خطبته، ويُستحسن ألا تزيد عن ثلث ساعة، فإن زاد لأهمية الموضوع فنصف ساعة على الأكثر لكِلا الخطبتين. ويقدر كم تكون من ورقة حسب خطه وإلقائه، ويحسب كم فكرة عنده، وكم لها من نص، ومن ثم يسجِّل الأفكار مع نصوصها، وما تحتاجه من صياغة على الأوراق التي قدَّرها من قبلُ، فلا تخلو حينئذ من إحدى حالات ثلاث:
        1 - أن تكون الأفكار بنصوصها وصياغتها متناسبة مع حجم المساحة التي قدرها ـ أي زمن الخطبة ـ فيبدأ بالصياغة مرتباً الأفكار كما سبق ذكره، معطياً كل فكرة حقها من الأسطر بلا زيادة ولا نقص إلا شيئاً يسيراً لا يُخلُّ بالخطبة.
        2 - أن تكون الأفكار بنصوصها وصياغتها أقل من المساحة التي قدرها، وفي هذه الحالة له خيارات عدة:
        أ - أن يقصر الخطبة فتكون أقلَّ من ثلث ساعة، فهو ينظر إلى استيعاب الموضوع، ولا يلتفت إلى الوقت.
        ب - أن يزيد أفكاراً ذات صلة بالموضوع بقدر المساحة المتبقية.
        ج - أن يسترسل في الصياغة؛ أي: يطيل في صياغة كل فكرة، بحيث يغطي النقص.
        د - أن يزيد في الاستدلالات لكل فكرة.
        وعلى الخطيب أن يقدر الأصلح في ذلك، بما يتناسب مع أحوال المصلين معه.
        3 - أن تكون الأفكار بنصوصها وصياغتها أطول من المساحة المقدرة؛ فإن كان الطول يسيراً فيمضي، وإن كان كثيراً فلا يخلو من إحدى حالتين:
        أ - أن يمكن قسمة الموضوع إلى موضوعين فأكثر؛ بحيث يكون كل موضوع وحدة مستقلة، فيقسمه. ومثال ذلك: لو أراد الخطيب أن يتكلم عن حشر الناس يوم القيامة، وابتدأ حديثه منذ بَعْثِهم من قبورهم ثم حَشْرِهم في العرصات ... فسيجد أن موضوع البعث صالح لأن يكون موضوعاً مستقلاً؛ لكثرة ما فيه من نصوص، وهكذا موضوع الحشر، ثم ما بعد الحشر وهو فصل القضاء، فيجعلها موضوعات عدة.
        ب - أن لا يمكن قسمته بهذا الشكل؛ كأن يكون الموضوع بطوله وحدة متكاملة لا تُجَزَّأ. مثال ذلك: الحديث عند فوائد الأمراض، وهي كثيرة، وفيها نصوص كثيرة أيضاً؛ فلو قدرنا أن فوائد الأمراض المنصوص عليها عشرون فائدة، وفيها من النصوص ثلاثون نصاً؛ فلا شك أن خطبة واحدة لا يمكن أن تستوعبها ولا اثنتين؛ لكن بالإمكان ذكر سبع فوائد في كل خطبة؛ بحيث تصير ثلاث خطب، أو عشر فوائد في كل خطبة؛ بحيث تصير خطبتين؛ فيسرد الخطيب في كل من الخطبتين أو الثلاث فوائد الأمراض جملة وتفصيلاً في الفوائد التي اختارها لهذه الخطبة بنصوصها. ثم في خطبة أخرى يسرد ما فصّله في الأولى جملة، ويفصل فيما لم يذكره وهكذا. ويكون عنده أكثر من خطبة في الموضوع.
        ثالثاً: الخاتمة: بعضهم يجعلها في الخطبة الأولى، وينتقل في الخطبة الثانية إلى موضوع آخر في الغالب يكون موضوعاً وعظياً معتاداً يذكِّر بالنار، ويحث على التقوى، ويكون مسجوعاً، وهذا الأسلوب كان مستخدماً عند خطبائنا قبل سنوات، ولا يزال بعض كبار السن منهم ينهجونه إلى اليوم.
        وأكثر الخطباء في هذا العصر ـ حسب علمي ـ يجعلون الخطبة الثانية موصولة بالأولى وفي موضوعها نفسه، وينهجون في ذلك منهجين:
        أ - أن يلخص فيها موضوع الخطبة بعبارات مركزة؛ فتكون كخاتمة مركزة للموضوع.
        ب - أن يذكر المطلوب من السامعين حيال الموضوع الذي طرحه، ولعلّ هذا المنهج أحسن لتلافي التكرار، ولحصول الفائدة من عرض الموضوع؛ ذلك أن المستمعين استمعوا في الخطبة الأولى إلى عرض الموضوع بأدلته النقلية والعقلية، فاقتنعوا بأهميته، وهم ينتظرون من الخطيب أن يبين لهم ما يجب عليهم تجاهه؛ فإن كان الموضوع عن سُنَّة مهجورة حفزهم لإحيائها، وإن كان منكراً حثهم على إنكاره، وإن كان نصرة للمسلمين بيّن لهم طرق النصرة ومسالكها.

        - تنبيه مهم:
        يلاحظ أن كثيراً من الخطباء يجتهدون في جمع مادة الموضوع، وحشد النصوص له، وحسن الصياغة، وهذا يُقنع المستمع بما أُلقي عليه؛ لكنهم لا يذكرون واجب المستمع تجاه ما أُلقي؛ حتى كأن الخطبة لم توجَّه للمستمع، ومن ثم لا تؤدي النتيجة المرجوة منها، وتجد أن الناس خرجوا من عند الخطيب متأثرين، مثنين على خطبته وجمالها وقوتها، وأهمية موضوعها؛ لكنهم لم يدركوا ما هو المطلوب منهم تجاه الموضوع المطروح.
        وربما أن بعضهم لفطنته فهم أنه معنيٌّ بهذا الموضوع، ومخاطَب به، وعليه واجب تجاهه؛ لكنه لا يدري ماذا يفعل؟ أو ربما اجتهد فأخطأ؛ فينبغي للخطيب أن يلخص واجب كل مسلم تجاه الموضوع الذي أُلقي، سواء على وجه الإجمال، أو بشيء من التفصيل والبيان؛ إذ إن هذا هو مقصود الخطبة: وهو أن يخرج الناس من المسجد وهم متشوقون لأداء ما يجب عليهم تجاه ما ألقاه الخطيب.
        __________

        تعليق


        • #5
          رد: من خصائص الخطاب الدعوي لخطيب الجمعة

          جزاكم الله خيرا اخانا الفاضل
          سلسلة رائعة تتناول موضوع الخطابة فاسمحوا لنا بدمجها معا حتى يتحقق الهدف منها


          اسئلكم الدعاء ﻻخي بالشفاء العاجل وان يمده الله بالصحة والعمر الطويل والعمل الصالح

          تعليق


          • #6
            رد: من خصائص الخطاب الدعوي لخطيب الجمعة

            تفضلوا بعمل الازم
            ولو يثبت بعض الايام
            للافادة

            تعليق


            • #7
              رد: كيف تُعَدُّ خطبة الجمعة؟!

              تم تثبيت الموضوع

              اسئلكم الدعاء ﻻخي بالشفاء العاجل وان يمده الله بالصحة والعمر الطويل والعمل الصالح

              تعليق


              • #8
                رد: كيف تُعَدُّ خطبة الجمعة؟!

                جزاك الله خيرا

                J'ai l'amour de Dieu et l'Islam


                تعليق


                • #9
                  رد: كيف تُعَدُّ خطبة الجمعة؟!

                  تعليق

                  يعمل...
                  X