كتبه/ محمد إسماعيل
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فَعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: رَأَى سَعْدٌ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ لَهُ فَضْلاً عَلَى مَنْ دُونَهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلا بِضُعَفَائِكُمْ) (رواه البخاري)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا يَنْصُرُ اللَّهُ هَذِهِ الأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلاتِهِمْ وَإِخْلاصِهِمْ) (رواه النسائي، وصححه الألباني). وفي رواية: (هَلْ تُنْصَرُونَ إِلاَّ بِضُعَفَائِكُمْ بِدَعْوَتِهِمْ وَإِخْلاَصِهِمْ) (رواه أبو نعيم في الحلية، وصححه الألباني).
فكم مِن نصر أو فضل عبر التاريخ نُسب -في الدنيا- لأسماء بارزة مِن أعلام المجاهدين والعلماء والقادة.. وأما عند الله وفي الآخرة؛ فقد يكون له سبب آخر خفي، هو دعوة صادقة خالصة من رجل من أغمار الناس لا يعلمه أحد، ولا يفطن أحد إليه: (كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طَمْرَيْنِ لاَ يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى الله لأَبَرَّهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
هو فارس نعم.. ولكن ليس في الميدان، وإنما هو من فرسان الأسحار والمحاريب. هو قائد نعم.. ولكن ليس في معركة الوغى، وإنما معركته خفية؛ هي معركة القلوب والإخلاص، قلبه احترق واشتعل غيرة على دين الله.. ذرف الدمع وما معه من سبيل إلا سهم دعائه يرمي به من وتر قوس قلبه إلى الهدف.. إلى السماء.. فتصل الاستغاثة ويأتي المدد.. وتنقلب الموازين.. وتتبدل مجريات الأمور في لطف وخفية من الناس، وبغير سبب ظاهر لهم.. ولكن كل ذلك عند ربي في كتاب (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى) (طه:52).
ويشهد لذلك قصة الحديث:
إذ رأي سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- لنفسه فضلاً وسبقًا؛ ليس كبرًا ولا غرورًا ولا عجبًا.. وحاشاه -رضي الله عنه-.. فإنه مِن العشرة المبشرين بالجنة، ومِن السابقين الأولين من المهاجرين: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:100)، بل هو سادس مَن أسلم من المسلمين، وأول من رمى بسهم في سبيل الله، وفدّاه النبي -صلى الله عليه وسلم- جامعًا له أباه وأمه -عليه الصلاة والسلام-، فقال في غزوة أحد: (يَا سَعْدُ ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي) (متفق عليه).
وهو أحد الستة أصحاب الشورى الذين أوصي عمر -رضي الله عنه- لأحدهم بالخلافة من بعده، ومناقبه لا تحصي.. ويكفي أنه من أصحاب محمد -عليه الصلاة والسلام- الذين قال فيهم ابن مسعود -رضي الله عنه-: "أولئك أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، أرق هذه الأمة قلوبًا وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا".
وإنما استحضر سعد -رضي الله عنه- نعمة الله عليه، ورأى ما خصه به من دون الكثير من السبق للإسلام والجهاد في سبيل الله؛ رآها رؤية شاكر لا رؤية عجب وغرور: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس:58).
ولعل لما سيكون له من شأن ولما سيوليه الله من أمر المسلمين، أراد معلمه -صلى الله عليه وسلم- أن يزيده علمًا وأدبًا مع ربه، ويزيده هو والمسلمين من ورائه بصيرة بفقه الأسباب الظاهرة والخفية، وأن هناك أسبابًا خفية أنجع وأشد -وإن لم تشاهدها أنظار الناس-, بل وقد تكون هي السبب الحقيقي، ورب ألف سبب لا خير فيه, ورب سعي بغير بركة ولا ثمرة, ورب جهد جهيد يصير هباءً منثورًا (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ) (المدثر:31).
- فـ (إنما) أسلوب قصر وآكد منه (الاستفهام.. وإلا.. ) أي أن هذا هو السبب الوحيد، أو أنه السبب الحقيقي.
فالأمر على حالين -والله أعلم-:
الأول:
انعدام الأسباب الظاهرة فيكون المقصود منها أنه السبب الوحيد.
الثاني:
وجود الأسباب الظاهرة سواء كانت كافية أم لا؟ فيكون المقصود أنه السبب الحقيقي، وذلك بجامع التوكل على الله في كلتا الحالتين: وجود الأسباب أو عدمها...
ومثال الأول:
وهو من الأعاجيب.. إذ بعد أن حفظ سعد هذا الحديث في قلبه ظل مستحضرًا إياه، حافظًا وصية خليله -صلى الله عليه وسلم- أيامًا وسنين حتى جاءت لحظة كان يُعد سعد لها في فتح المدائن أمام الفرس فصل بينهم وبين المسلمين نهر دجلة، نهر هادر لا يقل عمقه عن ستة أمتار، وما من سبيل للمسلمين يخلصون به إلى الفرس، فنظر إليه سعد وكلمات المصطفي -صلى الله عليه وسلم- تدندن في أذنيه، فخطب في أصحابه كما ينقل أهل السير (الطبري 119/3)، وكان مما قال: وقد رأيت من الأوفق أن تبادروا جهاد العدو بنياتكم قبل أن تحصركم الدنيا.. ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم. فقالوا جميعًا: عزم الله لنا ولك على الرشد, فافعل.. ثم قال لهم: قولوا: نستعين بالله ونتوكل عليه حسبنا الله ونعم الوكيل, ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم. (الطبري 4/48)، وكان عبورًا لا مثيل له في التاريخ.. عبرت الخيول سابحة وعلي رأسهم الفرسان يقاتلون.
ومن ذلك:
قصة أصحاب الغار الذين غلقت عليهم الصخرة، وما من سبب بين أيديهم يأخذون به إلا أن دعا كل منهم ربه بدعوة صادقة، وبعمل ظن فيه الإخلاص لله -جل وعلا-، حتى انزاحت عنهم الصخرة.
ومن ذلك أيضًا:
لما انعدمت الأسباب أمام موسى وبني إسرائيل، ومِن ورائهم فرعون وجنوده (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ . قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ . فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ . وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ . وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ . ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ . إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ . وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الشعراء:61-68).
ومثال الثاني:
"معركة تستر".. لما حاصرها المسلمون في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، واستعصت على المسلمين مع ما كان معهم من عدة وعتاد، ففطن بعض المسلمين أن من بينهم البراء بن مالك -رضي الله عنه- وقد سمعوا من النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طَمْرَيْنِ لاَ يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى الله لأَبَرَّهُ). فقالوا: يا براء إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إنك لو أقسمت على الله لأبرك, فأقسم على الله. فقال -رضي الله عنه-: "أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم، وألحقني بنبي -صلى الله عليه وسلم-". فمنحوا أكتافهم وقتل البراء شهيدًا. (أخرجه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي).
ومن ذلك:
ما كان في غزوة "بدر"، إذ كان عدد المشركين حوالي ثلاثة أضعاف عدد المسلمين مع تفاوت عظيم في سلاح الفريقين، إلا أنها كانت هذه هي أسباب المسلمين وما يستطيعون، فقضي -صلى الله عليه وسلم- الليل يدعو: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ اللَّهُمَّ إِنْ تَشَأْ لا تُعْبَدْ بَعْدَ الْيَوْمِ). فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ: حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ، وَهُوَ يَثِبُ فِي الدِّرْعِ. فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (رواه البخاري)، وأخذ -صلى الله عليه وسلم- كفًا من الحصى فاستقبل بها المشركين فرمي بها، وقال: (شَاهَتْ الْوُجُوهُ) (رواه مسلم)، فما تركت أحدًا من المشركين إلا وجاء في عينه منها، وأنزل -جل وعلا-: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) (الأنفال:17)، وكانت غزوة بدر.
ومن ذلك:
ما سيكون في آخر الزمان، إذ يقول -صلى الله عليه وسلم-: (سَمِعْتُمْ بِمَدِينَةٍ جَانِبٌ مِنْهَا فِي الْبَرِّ وَجَانِبٌ مِنْهَا فِي الْبَحْرِ؟). قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَغْزُوَهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ بَنِي إِسْحَقَ فَإِذَا جَاءُوهَا نَزَلُوا فَلَمْ يُقَاتِلُوا بِسِلاحٍ وَلَمْ يَرْمُوا بِسَهْمٍ قَالُوا: لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ فَيَسْقُطُ أَحَدُ جَانِبَيْهَا الَّذِي فِي الْبَحْرِ ثُمَّ يَقُولُوا الثَّانِيَةَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ فَيَسْقُطُ جَانِبُهَا الآخَرُ ثُمَّ يَقُولُوا الثَّالِثَةَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ فَيُفَرَّجُ لَهُمْ فَيَدْخُلُوهَا فَيَغْنَمُوا.. ) (رواه مسلم).
فليس الأمر دومًا حسابات مادية فحسب، بل هناك أمورًا خفية قد تكون أنجع وأشد، ولما يرى أحدنا مكر الليل والنهار منذ ظهور نتيجة الاستفتاء على التعديلات الدستورية،
وقد علم الجميع لمن القوة الحقيقية في الشارع وبين الناس، وأصبح من المسلَّم عند الجميع تقريبًا أن البرلمان القادم -بإذن الله- ستكون أغلبيته للإسلاميين، ومِن ثمَّ لجنة وضع الدستور، ومِن ثمَّ سيكون الدستور الذي سيحكم مصر عشرات أو مئات السنين أقرب للإسلام -بإذن الله-.. ففزع القوم من كل حدب وصوب على اختلاف مناهجهم.
الكل يحاول منع ذلك أو تعطيله أو تأجيله؛ بالكذب تارة وتشويه صورة الإسلام والإسلاميين تارة أخرى، أو محاولات استدراج إلى معارك فتنة طائفية، أو محاولات لإجهاض الثورة وإجهاض مكتسباتها وتعطيلها، ووقيعة بين الجيش والشعب أو قفز على إرادة أغلبية الشعب -والتي أفصحت عنها نتيجة الاستفتاء- بأي وكل وسيلة يقدرون عليها، وأمورًا كثيرة لا يحصيها القلم.. كل يوم نصبح على مكر جديد.. وآخر ذلك: تعيين لجنة لوضع "المواد فوق الدستورية"، والتي هي أخطر وأهم مواد الدستور، ولن تعرض للاستفتاء أصلاً، بل ويرأس هذه اللجنة من يصرح بليبراليته وعالمانيته؛ كل ذلك مضادةً لإرادة الأغلبية، ومكرًا بالمسلمين أهل هذه البلاد، ومنعهم مما اختاروه وارتضوه!
كل ذلك ظلمًا وعدوانًا، ولن يسكت عنه ذو إرادة أبية أبدًا؛ حتى وإن دسوا فيها موادًا تدغدغ عواطف المسلمين احتيالاً عليهم، بل هي مرفوضة جملةً وتفصيلاً -والله المستعان-.
ولما لم يكن لنا طاقة -ظاهرة- بهذا المكر الذي يمكرونه بالليل والنهار، ولا علم لنا ما الذي سيؤول إليه الأمر، ولا من أين ستأتي هجمتهم التالية (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا) (النساء:45)، ولا قبل لنا بمثل كيدهم، وبالفعل قد يستقل البعض منا ما بأيدينا من أسباب، فهنا تعتصر القلوب وتحترق.. هنا يخرج السهم الذي لا يخيب.. يرمي به صاحبه رمية فارسٍ يستميت في الدفاع عن حصنه، والأعداء حوله من كل جانب، وليس معه إلا هذا السهم.. ولا أمل له وقد خلت يداه عن أي سبب غيره إلا أن ينجع سهمه ويصيب الهدف؛ حينئذ يرمي به متوكلاً على ربه (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ) (الطلاق:3)، بكل تركيز وجماع قلبه على سيده ومولاه (ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاَهٍ) (رواه الترمذي والحاكم، وحسنه الألباني)، بكل قوة (ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ)، (إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيُعَظِّمِ الرَّغْبَةَ فَإِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لاَ يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ) (رواه ابن حبان، وصححه الألباني)، ومِن ثمَّ يأتي المدد -بإذن الله- وتتغير الموازين -وإن طال الأمر- (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف:21).
فالضعف المقصود في الحديث.. ضعف مادة.. ضعف أسباب، وأما القلوب فهي دائمًا مستعلية بإيمانها وتقواها: (وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:139)، (لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى) (طه:68)، قوية بثقتها بالله وحسن ظنها بربها -جل وعلا-: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي) (متفق عليه)، وفي رواية: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، قوية بثقتها بمنهجها وبدينها (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) (الأحزاب:22)، قوية بالتزام طاعة الله وطاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) (الطلاق:4).
أعجز الناس:
ولا عذر لأحد منا في ترك هذا السبب، فقد قال -صلى الله عليه وسلم- (أعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجزَ عن الدُّعاءِ) (رواه البيهقي، وصححه الألباني)، فلا يقولن أحد: "ما معي من سبيل أنصر به الدين، وهذه البلاد.. هذا يدعو إلى الله ويبين للناس.. وهذا يعلي صوته وينذر الناس.. وهذا يسعي بمشاركات مادية أو سياسية أو اقتصادية أو معنوية، أو.. أو.. وأنا لا أحسن هذا ولا ذاك، والكيد يشتد من كل جانب.. ".
نقول:
ليضرب كل منا بما استطاع من سبيل بسهم، أو بما يقدر عليه، ولا يدخر في ذلك وسعًا سواء كان بنفسه أو مع غيره أو بنصيحة من يقدر على ما لا يقدر هو عليه، ولكن لا ينسى أبدًا أن مع كل منا ذاك السهم الذي لا يخيب -بإذن الله جل وعلا-، فإنه جماع الخير، و"رب دعوة خالصة من قلب مؤمن مغمور لا يؤبه له تكون سببًا في تغير الموازين، وحصول الخير للبلاد والعباد".
- وليست هذه الدعوة للتخذيل أو ترك الأسباب، وإلا فإن الله كان قديرًا أن ينصر نبيه -صلى الله عليه وسلم- في كل موطن بالدعاء فقط، وبغير أسباب أصلاً، فالأخذ بالأسباب سنة كونية، ولقد كان -عليه الصلاة والسلام- يظاهر أحيانًا بين درعين، ويستفرغ وسعه في الأسباب الظاهرة متوكلاً على ربه -جل وعلا-: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (آل عمران:122)، ولكنه لا ينسى أبدًا أعظم الأسباب: (بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلاتِهِمْ وَإِخْلاصِهِمْ).
فلنجتهد في الدعاء ولنتحلى بآدابه، ولنحرص على أوقات الإجابة؛ لا سيما ونحن مقبلون على "رمضان" شهر الدعاء، ودعوة الصائم لا ترد: (ثَلاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ: دَعْوَةُ الصَّائِمِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ) (رواه البيهقي، وصححه الألباني)، وكذلك وقت السحر والنزول الإلهي في ثلث الليل الآخر، وغير ذلك من أوقات الإجابة من ليل أو نهار، رمضان وغيره من الشهور والأيام، ولا تكل الألسنة ولا القلوب من الدعاء؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم- (لاَ يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلاَّ الدُّعَاءُ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، و(أفْضَلُ العِبادَةِ الدُّعاءُ) (رواه الحاكم، وصححه الألباني).
ولا تفتر ألسنتنا ولا قلوبنا عن الذكر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الأنفال:45)، (أنا مَعَ عَبْدِي ما ذَكَرَني وَتَحَرَّكَتْ بي شَفَتاهُ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني).
ولنجتهد في الصلاة، فإنها الصلة بين العبد ومولاه، وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وهي إحدى غايات التمكين كما أنها من أسبابه (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج:41).
ولنحرر الإخلاص في قلوبنا، ولنجردها لله -جل وعلا-، فإننا في لحظات فارقة في عمر أمة الإسلام، ليس في هذا البلد فحسب (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ) (الأحزاب:51)، (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (آل عمران:154)، فهل فعلاً نستشعر خطورة الموقف، وضرورة العمل والتحرك، وهل فعلا نوقن ألا ملجأ من الله إلا إليه ولا مولى لنا إلا هو، وأنه هو وحده نعم المولى ونعم النصير؟!
فان استحضار ذلك بقلوبنا ومشاهدتنا له لهو أعظم من كل سبب، وهو عند ظن عبده به (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ).
ولنبشر بخير -بإذن الله-، فإن هناك أمرين لو حصل أحدهما كانت الإجابة محتمة -إن شاء الله-: "الظلم والاضطرار"؛ يقول -صلى الله عليه وسلم-: (واتّقِ دَعْوَةَ المَظلومِ فإنهُ ليسَ بَيْنَها وَبَيْنَ الله حِجاب) (متفق عليه)، (اتَّقُوا دَعْوَة المَظْلُومِ فَإنَّهَا تُحْمَلُ على الغَمامِ يَقُولُ الله وعزَّتِي وَجَلالِي لأنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ) (رواه الطبراني: وصححه الألباني)، فكم ظلمنا بافتراءات وأكاذيب واتهامات بالباطل.. ؟!
وكم ظلم هذا الشعب المسلم من محاولات لمنعه من العيش في عهد جديد أقرب للإسلام.. ؟!
وكم ألبس الحق باطلاً والباطل حقًا.. ؟!
وكم من مسلم ومسلمة أرادوا أن يجهروا بالإسلام؛ فأوذوا وحوربوا حتى يظلوا في قيود الكفر والظلم البين، ولا يملك أهل الإسلام له خلاصًا.. ؟
وكم من مسلم أوذي في دينه ونفسه وماله وولده وأهله وعرضه يحال بينه وبين استنشاق نسيم العدل وأن يقتص له من ظالميه..؟!
ولكن عزاء الجميع أن الله لا يخلف وعده أبدًا.. (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة:214)، ولعل كل ما نحن فيه اليوم مما لم يكن يحلم به أحد هو من جرّاء دعوة مظلوم سمعها الملك العلام منه في جوف الليل.. مَن يدري؟!
ويقول الله -جل وعلا-: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) (النمل:62)، ليس إلا هو -جل وعلا-.
والاضطرار:
عظم المصيبة واشتدادها مع فقد الأسباب؛ فلا يرى القلب له ملجأ ولا مأوى إلا الله.. ولا ولي ولا نصير إلا هو -جل وعلا-، وييأس من أسباب الأرض -مع اجتهاده في الأخذ بها-، ويرقى إلى أسباب السماء فيأوي إلى الله فيؤويه، ويتولى ربه بالطاعة والتقوى، والدعاء وحسن الظن، وجميل التوكل؛ فيتولاه مولاه.
فالظلم حاصل نعم.. ولكن هل استفرغنا الوسع في الدعاء لرفعه؟!
والاضطرار حاصل نعم.. ولكن هل شهدته قلوبنا حقا؟!
والله المستعان!
فاللهم امكر لنا ولا تمكر علينا، وأعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وانصرنا على من بغى علينا.
اللهم أبرم لنا أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويهدى فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.
اللهم احفظ بلادنا آمنة مطمئنة رخاء وسائر بلاد المسلمين.
ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا واليك المصير.
ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين.
ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
موقع صوت السلف
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فَعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: رَأَى سَعْدٌ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ لَهُ فَضْلاً عَلَى مَنْ دُونَهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلا بِضُعَفَائِكُمْ) (رواه البخاري)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا يَنْصُرُ اللَّهُ هَذِهِ الأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلاتِهِمْ وَإِخْلاصِهِمْ) (رواه النسائي، وصححه الألباني). وفي رواية: (هَلْ تُنْصَرُونَ إِلاَّ بِضُعَفَائِكُمْ بِدَعْوَتِهِمْ وَإِخْلاَصِهِمْ) (رواه أبو نعيم في الحلية، وصححه الألباني).
فكم مِن نصر أو فضل عبر التاريخ نُسب -في الدنيا- لأسماء بارزة مِن أعلام المجاهدين والعلماء والقادة.. وأما عند الله وفي الآخرة؛ فقد يكون له سبب آخر خفي، هو دعوة صادقة خالصة من رجل من أغمار الناس لا يعلمه أحد، ولا يفطن أحد إليه: (كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طَمْرَيْنِ لاَ يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى الله لأَبَرَّهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
هو فارس نعم.. ولكن ليس في الميدان، وإنما هو من فرسان الأسحار والمحاريب. هو قائد نعم.. ولكن ليس في معركة الوغى، وإنما معركته خفية؛ هي معركة القلوب والإخلاص، قلبه احترق واشتعل غيرة على دين الله.. ذرف الدمع وما معه من سبيل إلا سهم دعائه يرمي به من وتر قوس قلبه إلى الهدف.. إلى السماء.. فتصل الاستغاثة ويأتي المدد.. وتنقلب الموازين.. وتتبدل مجريات الأمور في لطف وخفية من الناس، وبغير سبب ظاهر لهم.. ولكن كل ذلك عند ربي في كتاب (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى) (طه:52).
ويشهد لذلك قصة الحديث:
إذ رأي سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- لنفسه فضلاً وسبقًا؛ ليس كبرًا ولا غرورًا ولا عجبًا.. وحاشاه -رضي الله عنه-.. فإنه مِن العشرة المبشرين بالجنة، ومِن السابقين الأولين من المهاجرين: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:100)، بل هو سادس مَن أسلم من المسلمين، وأول من رمى بسهم في سبيل الله، وفدّاه النبي -صلى الله عليه وسلم- جامعًا له أباه وأمه -عليه الصلاة والسلام-، فقال في غزوة أحد: (يَا سَعْدُ ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي) (متفق عليه).
وهو أحد الستة أصحاب الشورى الذين أوصي عمر -رضي الله عنه- لأحدهم بالخلافة من بعده، ومناقبه لا تحصي.. ويكفي أنه من أصحاب محمد -عليه الصلاة والسلام- الذين قال فيهم ابن مسعود -رضي الله عنه-: "أولئك أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، أرق هذه الأمة قلوبًا وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا".
وإنما استحضر سعد -رضي الله عنه- نعمة الله عليه، ورأى ما خصه به من دون الكثير من السبق للإسلام والجهاد في سبيل الله؛ رآها رؤية شاكر لا رؤية عجب وغرور: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس:58).
ولعل لما سيكون له من شأن ولما سيوليه الله من أمر المسلمين، أراد معلمه -صلى الله عليه وسلم- أن يزيده علمًا وأدبًا مع ربه، ويزيده هو والمسلمين من ورائه بصيرة بفقه الأسباب الظاهرة والخفية، وأن هناك أسبابًا خفية أنجع وأشد -وإن لم تشاهدها أنظار الناس-, بل وقد تكون هي السبب الحقيقي، ورب ألف سبب لا خير فيه, ورب سعي بغير بركة ولا ثمرة, ورب جهد جهيد يصير هباءً منثورًا (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ) (المدثر:31).
- فـ (إنما) أسلوب قصر وآكد منه (الاستفهام.. وإلا.. ) أي أن هذا هو السبب الوحيد، أو أنه السبب الحقيقي.
فالأمر على حالين -والله أعلم-:
الأول:
انعدام الأسباب الظاهرة فيكون المقصود منها أنه السبب الوحيد.
الثاني:
وجود الأسباب الظاهرة سواء كانت كافية أم لا؟ فيكون المقصود أنه السبب الحقيقي، وذلك بجامع التوكل على الله في كلتا الحالتين: وجود الأسباب أو عدمها...
ومثال الأول:
وهو من الأعاجيب.. إذ بعد أن حفظ سعد هذا الحديث في قلبه ظل مستحضرًا إياه، حافظًا وصية خليله -صلى الله عليه وسلم- أيامًا وسنين حتى جاءت لحظة كان يُعد سعد لها في فتح المدائن أمام الفرس فصل بينهم وبين المسلمين نهر دجلة، نهر هادر لا يقل عمقه عن ستة أمتار، وما من سبيل للمسلمين يخلصون به إلى الفرس، فنظر إليه سعد وكلمات المصطفي -صلى الله عليه وسلم- تدندن في أذنيه، فخطب في أصحابه كما ينقل أهل السير (الطبري 119/3)، وكان مما قال: وقد رأيت من الأوفق أن تبادروا جهاد العدو بنياتكم قبل أن تحصركم الدنيا.. ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم. فقالوا جميعًا: عزم الله لنا ولك على الرشد, فافعل.. ثم قال لهم: قولوا: نستعين بالله ونتوكل عليه حسبنا الله ونعم الوكيل, ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم. (الطبري 4/48)، وكان عبورًا لا مثيل له في التاريخ.. عبرت الخيول سابحة وعلي رأسهم الفرسان يقاتلون.
ومن ذلك:
قصة أصحاب الغار الذين غلقت عليهم الصخرة، وما من سبب بين أيديهم يأخذون به إلا أن دعا كل منهم ربه بدعوة صادقة، وبعمل ظن فيه الإخلاص لله -جل وعلا-، حتى انزاحت عنهم الصخرة.
ومن ذلك أيضًا:
لما انعدمت الأسباب أمام موسى وبني إسرائيل، ومِن ورائهم فرعون وجنوده (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ . قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ . فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ . وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ . وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ . ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ . إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ . وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الشعراء:61-68).
ومثال الثاني:
"معركة تستر".. لما حاصرها المسلمون في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، واستعصت على المسلمين مع ما كان معهم من عدة وعتاد، ففطن بعض المسلمين أن من بينهم البراء بن مالك -رضي الله عنه- وقد سمعوا من النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طَمْرَيْنِ لاَ يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى الله لأَبَرَّهُ). فقالوا: يا براء إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إنك لو أقسمت على الله لأبرك, فأقسم على الله. فقال -رضي الله عنه-: "أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم، وألحقني بنبي -صلى الله عليه وسلم-". فمنحوا أكتافهم وقتل البراء شهيدًا. (أخرجه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي).
ومن ذلك:
ما كان في غزوة "بدر"، إذ كان عدد المشركين حوالي ثلاثة أضعاف عدد المسلمين مع تفاوت عظيم في سلاح الفريقين، إلا أنها كانت هذه هي أسباب المسلمين وما يستطيعون، فقضي -صلى الله عليه وسلم- الليل يدعو: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ اللَّهُمَّ إِنْ تَشَأْ لا تُعْبَدْ بَعْدَ الْيَوْمِ). فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ: حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ، وَهُوَ يَثِبُ فِي الدِّرْعِ. فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (رواه البخاري)، وأخذ -صلى الله عليه وسلم- كفًا من الحصى فاستقبل بها المشركين فرمي بها، وقال: (شَاهَتْ الْوُجُوهُ) (رواه مسلم)، فما تركت أحدًا من المشركين إلا وجاء في عينه منها، وأنزل -جل وعلا-: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) (الأنفال:17)، وكانت غزوة بدر.
ومن ذلك:
ما سيكون في آخر الزمان، إذ يقول -صلى الله عليه وسلم-: (سَمِعْتُمْ بِمَدِينَةٍ جَانِبٌ مِنْهَا فِي الْبَرِّ وَجَانِبٌ مِنْهَا فِي الْبَحْرِ؟). قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَغْزُوَهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ بَنِي إِسْحَقَ فَإِذَا جَاءُوهَا نَزَلُوا فَلَمْ يُقَاتِلُوا بِسِلاحٍ وَلَمْ يَرْمُوا بِسَهْمٍ قَالُوا: لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ فَيَسْقُطُ أَحَدُ جَانِبَيْهَا الَّذِي فِي الْبَحْرِ ثُمَّ يَقُولُوا الثَّانِيَةَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ فَيَسْقُطُ جَانِبُهَا الآخَرُ ثُمَّ يَقُولُوا الثَّالِثَةَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ فَيُفَرَّجُ لَهُمْ فَيَدْخُلُوهَا فَيَغْنَمُوا.. ) (رواه مسلم).
فليس الأمر دومًا حسابات مادية فحسب، بل هناك أمورًا خفية قد تكون أنجع وأشد، ولما يرى أحدنا مكر الليل والنهار منذ ظهور نتيجة الاستفتاء على التعديلات الدستورية،
وقد علم الجميع لمن القوة الحقيقية في الشارع وبين الناس، وأصبح من المسلَّم عند الجميع تقريبًا أن البرلمان القادم -بإذن الله- ستكون أغلبيته للإسلاميين، ومِن ثمَّ لجنة وضع الدستور، ومِن ثمَّ سيكون الدستور الذي سيحكم مصر عشرات أو مئات السنين أقرب للإسلام -بإذن الله-.. ففزع القوم من كل حدب وصوب على اختلاف مناهجهم.
الكل يحاول منع ذلك أو تعطيله أو تأجيله؛ بالكذب تارة وتشويه صورة الإسلام والإسلاميين تارة أخرى، أو محاولات استدراج إلى معارك فتنة طائفية، أو محاولات لإجهاض الثورة وإجهاض مكتسباتها وتعطيلها، ووقيعة بين الجيش والشعب أو قفز على إرادة أغلبية الشعب -والتي أفصحت عنها نتيجة الاستفتاء- بأي وكل وسيلة يقدرون عليها، وأمورًا كثيرة لا يحصيها القلم.. كل يوم نصبح على مكر جديد.. وآخر ذلك: تعيين لجنة لوضع "المواد فوق الدستورية"، والتي هي أخطر وأهم مواد الدستور، ولن تعرض للاستفتاء أصلاً، بل ويرأس هذه اللجنة من يصرح بليبراليته وعالمانيته؛ كل ذلك مضادةً لإرادة الأغلبية، ومكرًا بالمسلمين أهل هذه البلاد، ومنعهم مما اختاروه وارتضوه!
كل ذلك ظلمًا وعدوانًا، ولن يسكت عنه ذو إرادة أبية أبدًا؛ حتى وإن دسوا فيها موادًا تدغدغ عواطف المسلمين احتيالاً عليهم، بل هي مرفوضة جملةً وتفصيلاً -والله المستعان-.
ولما لم يكن لنا طاقة -ظاهرة- بهذا المكر الذي يمكرونه بالليل والنهار، ولا علم لنا ما الذي سيؤول إليه الأمر، ولا من أين ستأتي هجمتهم التالية (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا) (النساء:45)، ولا قبل لنا بمثل كيدهم، وبالفعل قد يستقل البعض منا ما بأيدينا من أسباب، فهنا تعتصر القلوب وتحترق.. هنا يخرج السهم الذي لا يخيب.. يرمي به صاحبه رمية فارسٍ يستميت في الدفاع عن حصنه، والأعداء حوله من كل جانب، وليس معه إلا هذا السهم.. ولا أمل له وقد خلت يداه عن أي سبب غيره إلا أن ينجع سهمه ويصيب الهدف؛ حينئذ يرمي به متوكلاً على ربه (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ) (الطلاق:3)، بكل تركيز وجماع قلبه على سيده ومولاه (ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاَهٍ) (رواه الترمذي والحاكم، وحسنه الألباني)، بكل قوة (ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ)، (إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيُعَظِّمِ الرَّغْبَةَ فَإِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لاَ يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ) (رواه ابن حبان، وصححه الألباني)، ومِن ثمَّ يأتي المدد -بإذن الله- وتتغير الموازين -وإن طال الأمر- (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف:21).
فالضعف المقصود في الحديث.. ضعف مادة.. ضعف أسباب، وأما القلوب فهي دائمًا مستعلية بإيمانها وتقواها: (وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:139)، (لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى) (طه:68)، قوية بثقتها بالله وحسن ظنها بربها -جل وعلا-: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي) (متفق عليه)، وفي رواية: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، قوية بثقتها بمنهجها وبدينها (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) (الأحزاب:22)، قوية بالتزام طاعة الله وطاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) (الطلاق:4).
أعجز الناس:
ولا عذر لأحد منا في ترك هذا السبب، فقد قال -صلى الله عليه وسلم- (أعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجزَ عن الدُّعاءِ) (رواه البيهقي، وصححه الألباني)، فلا يقولن أحد: "ما معي من سبيل أنصر به الدين، وهذه البلاد.. هذا يدعو إلى الله ويبين للناس.. وهذا يعلي صوته وينذر الناس.. وهذا يسعي بمشاركات مادية أو سياسية أو اقتصادية أو معنوية، أو.. أو.. وأنا لا أحسن هذا ولا ذاك، والكيد يشتد من كل جانب.. ".
نقول:
ليضرب كل منا بما استطاع من سبيل بسهم، أو بما يقدر عليه، ولا يدخر في ذلك وسعًا سواء كان بنفسه أو مع غيره أو بنصيحة من يقدر على ما لا يقدر هو عليه، ولكن لا ينسى أبدًا أن مع كل منا ذاك السهم الذي لا يخيب -بإذن الله جل وعلا-، فإنه جماع الخير، و"رب دعوة خالصة من قلب مؤمن مغمور لا يؤبه له تكون سببًا في تغير الموازين، وحصول الخير للبلاد والعباد".
- وليست هذه الدعوة للتخذيل أو ترك الأسباب، وإلا فإن الله كان قديرًا أن ينصر نبيه -صلى الله عليه وسلم- في كل موطن بالدعاء فقط، وبغير أسباب أصلاً، فالأخذ بالأسباب سنة كونية، ولقد كان -عليه الصلاة والسلام- يظاهر أحيانًا بين درعين، ويستفرغ وسعه في الأسباب الظاهرة متوكلاً على ربه -جل وعلا-: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (آل عمران:122)، ولكنه لا ينسى أبدًا أعظم الأسباب: (بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلاتِهِمْ وَإِخْلاصِهِمْ).
فلنجتهد في الدعاء ولنتحلى بآدابه، ولنحرص على أوقات الإجابة؛ لا سيما ونحن مقبلون على "رمضان" شهر الدعاء، ودعوة الصائم لا ترد: (ثَلاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ: دَعْوَةُ الصَّائِمِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ) (رواه البيهقي، وصححه الألباني)، وكذلك وقت السحر والنزول الإلهي في ثلث الليل الآخر، وغير ذلك من أوقات الإجابة من ليل أو نهار، رمضان وغيره من الشهور والأيام، ولا تكل الألسنة ولا القلوب من الدعاء؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم- (لاَ يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلاَّ الدُّعَاءُ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، و(أفْضَلُ العِبادَةِ الدُّعاءُ) (رواه الحاكم، وصححه الألباني).
ولا تفتر ألسنتنا ولا قلوبنا عن الذكر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الأنفال:45)، (أنا مَعَ عَبْدِي ما ذَكَرَني وَتَحَرَّكَتْ بي شَفَتاهُ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني).
ولنجتهد في الصلاة، فإنها الصلة بين العبد ومولاه، وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وهي إحدى غايات التمكين كما أنها من أسبابه (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج:41).
ولنحرر الإخلاص في قلوبنا، ولنجردها لله -جل وعلا-، فإننا في لحظات فارقة في عمر أمة الإسلام، ليس في هذا البلد فحسب (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ) (الأحزاب:51)، (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (آل عمران:154)، فهل فعلاً نستشعر خطورة الموقف، وضرورة العمل والتحرك، وهل فعلا نوقن ألا ملجأ من الله إلا إليه ولا مولى لنا إلا هو، وأنه هو وحده نعم المولى ونعم النصير؟!
فان استحضار ذلك بقلوبنا ومشاهدتنا له لهو أعظم من كل سبب، وهو عند ظن عبده به (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ).
ولنبشر بخير -بإذن الله-، فإن هناك أمرين لو حصل أحدهما كانت الإجابة محتمة -إن شاء الله-: "الظلم والاضطرار"؛ يقول -صلى الله عليه وسلم-: (واتّقِ دَعْوَةَ المَظلومِ فإنهُ ليسَ بَيْنَها وَبَيْنَ الله حِجاب) (متفق عليه)، (اتَّقُوا دَعْوَة المَظْلُومِ فَإنَّهَا تُحْمَلُ على الغَمامِ يَقُولُ الله وعزَّتِي وَجَلالِي لأنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ) (رواه الطبراني: وصححه الألباني)، فكم ظلمنا بافتراءات وأكاذيب واتهامات بالباطل.. ؟!
وكم ظلم هذا الشعب المسلم من محاولات لمنعه من العيش في عهد جديد أقرب للإسلام.. ؟!
وكم ألبس الحق باطلاً والباطل حقًا.. ؟!
وكم من مسلم ومسلمة أرادوا أن يجهروا بالإسلام؛ فأوذوا وحوربوا حتى يظلوا في قيود الكفر والظلم البين، ولا يملك أهل الإسلام له خلاصًا.. ؟
وكم من مسلم أوذي في دينه ونفسه وماله وولده وأهله وعرضه يحال بينه وبين استنشاق نسيم العدل وأن يقتص له من ظالميه..؟!
ولكن عزاء الجميع أن الله لا يخلف وعده أبدًا.. (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة:214)، ولعل كل ما نحن فيه اليوم مما لم يكن يحلم به أحد هو من جرّاء دعوة مظلوم سمعها الملك العلام منه في جوف الليل.. مَن يدري؟!
ويقول الله -جل وعلا-: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) (النمل:62)، ليس إلا هو -جل وعلا-.
والاضطرار:
عظم المصيبة واشتدادها مع فقد الأسباب؛ فلا يرى القلب له ملجأ ولا مأوى إلا الله.. ولا ولي ولا نصير إلا هو -جل وعلا-، وييأس من أسباب الأرض -مع اجتهاده في الأخذ بها-، ويرقى إلى أسباب السماء فيأوي إلى الله فيؤويه، ويتولى ربه بالطاعة والتقوى، والدعاء وحسن الظن، وجميل التوكل؛ فيتولاه مولاه.
فالظلم حاصل نعم.. ولكن هل استفرغنا الوسع في الدعاء لرفعه؟!
والاضطرار حاصل نعم.. ولكن هل شهدته قلوبنا حقا؟!
والله المستعان!
فاللهم امكر لنا ولا تمكر علينا، وأعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وانصرنا على من بغى علينا.
اللهم أبرم لنا أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويهدى فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.
اللهم احفظ بلادنا آمنة مطمئنة رخاء وسائر بلاد المسلمين.
ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا واليك المصير.
ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين.
ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
موقع صوت السلف
تعليق