تأملت يوماً في أحوال أهل الدنيا وأهل الدين؛ فعرفت كم كنت واهماً حين تخيلت إمكانية الجمع بين بعض صفاتهم في أمور حياتي كفرد عادي دون الخروج عن صراط الله المستقيم!!
وازدادت سخريتي من نفسي، حين تمادى بي الوهم، متخيلاً جواز القيام بذلك حتى لمن يتولى أمر المسلمين، إذ لا بأس في أن (يعيش أيام عمره) كما يقولون، فيوسع على نفسه في المسكن أو المركب أو الملبس أو المأكلٍ أو الزينة!!
ولكم تجلت هذه السخرية من نفسي؛ حين توصلت لحقائق دامغة ومذهلة، أصابتني بالدهشة؛ لاسيما حين عاينت حجم جهلنا بها وغفلتنا عنها، على الرغم من كونها تمثل القواعد الرئيسة التي لا بديل عنها؛ لفلاح من يحملون راية هذا الدين، ويرجون نصرة رب العالمين!!
وأولى هذه الحقائق . .
أن هذا الدين ينفرد (بتميز أتباعه) الذين يتبعونه حق الاتباع في كل شيء؛ فلا مجال للخلط أو الالتباس بينهم وبين أتباع المناهج الأخرى.
وثانيها . .
أن لهذا الدين (جوهره الخاص) الذي يجعل أتباعه يستمدون منه القوة ذاتياً دون الحاجة لدعم الآخرين!! وأن هذه الخاصية لا يمكن لأحدٍ الاستفادة منها بحال؛ إلا أذا أخذ بها على الوجه الذي أراده الله، والذي يتمثل في :
· جدية الأخذ به دون تمايع : "خذوا ما آتيناكم بقوة"
· الأخذ به كلياً وليس جزئياً : "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟"
· الانصياع الكامل له : "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم"
· الأخذ به كلياً وليس جزئياً : "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟"
· الانصياع الكامل له : "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم"
فتعالوا معي بالله عليكم؛ لننظر في أحوال أهل الدنيا . .
هل لهم من محركٍ في دنياهم سوى أهوائهم؟!
وهل يعقل أن نطالب من ليس له حتى قوة في الأخذ بأهوائه؛ أن يأخذ أوامر الله بقوة؟!
وهل يعقل لمن تتحكم فيه أهواؤه أن يأخذ دين الله بشموله؟!
أو أن يظن فيه الانصياع الكامل إليه؟!!
إذاً نحن هنا على مفترق طريق واضح . .
فأهل الدنيا قد اختاروا بحسم طريق الضياع!!
ولا يفترض أبداً في أهل الدين أن يأخذوا من سمات ضياعهم شيئاً ولو صغر!!
ثم يحاولون إلباسه بالغصب ثوباً من الأسلمة!! لمرض في نفوس البعض منهم، ممن لم يصدقوا في تطليق دنياهم لوجه الله تعالى!!
وهنا مربط الفرس . .
فالذين نقلوا معهم إلينا فيروس الدنيا الخبيث؛ ليغرسوه في قلوبنا تحت عباءة الدين، هم من خانوا الركب!!
وغرسوا فيه نبتة النفاق التي ما إن نما زرعها؛ حتى قضت على الأخضر واليابس من الإخلاص في القلوب!!
وحولت قبلتها!! وشتتت وجهتها!! وسارت بها نحو طريق الضياع والثبور!!
فالتباين الكامل الذي لا خلط فيه . .
هو الخط الفاصل الذي يميز بين طريقيأهل الدنيا وأهل الدين!!
وإليكم صوراً من الماضي والحاضر تؤكد صدق ما أقول . .
فحين ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته، صوب سهامه على قتل بهارج الدنيا في قلوبهم، فكان مما قاله :" لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تفتح الدنيا عليكم، فتنافسوها كما تنافسوها؛ فتهلككم كما اهلكتهم!!" . . الله أكبر . . بأبي أنت وأمي يا رسول الله . .
إذا كيف لك لو لم تكن رسول الذي يعلم السر وأخفى، أن تخبر عن أحوال أتباعك وما سيقع لهم إلى يوم القيامة!!
لذا فإن من فهم منهم توجيهه صلى الله عليه وسلم، أعرض عن كل ولاية!!
وما كان له أن يقبل بها أبداً؛ خوفاً وشفقة على نفسه من مظالم العباد يوم القيامة!!
وها هو التاريخ يسطر بأحرف من نور، أحوال من أرغموا منهم إرغاماً على قبول الولاية، كيف كانت حياته مضرباً لشظف العيش ومغالبة الصعاب!!
وهم الذين لو تطلعت قلوبهم للدنيا برهة؛ لتربعت بأكملها تحت أقدامهم!!
ولكن صوت النبي صلى الله عليه وسلم الذي ترسخ في قلوبهم، لم يتوقف صداه أبداً وكان لهم دوماً بالمرصاد، عند كل نومة وقومة وأكلة وشربة، إذ كيف ينعمون، وفي الرعية من يعاني شظف العيش؟!
وكيف لهم أن يهنأوا ولو بشربة ماء، وهناك من يعاني الجوع والعطش، فكانوا والله أمراءً . . ولكن إن شئت فسمهم أمراء الزهد في الدنيا، والاستعلاء على متعها الدنيئة الطينية!!
وتعالوا لنناقش الأمر سوياً من زاوية أخرى نفسية . .
فمن تتوقعون أن بإمكانه استشعار شقاء المحرومين، والتفاعل مع مآسيهم؟
أهو المسؤول المدلل الذي يتقلب في شتى ألوان النعيم والترف، وتتلقفه أيادي المنافقين تتسابق أمامه على فرش البسط تحت قدمية؛ كسباً لرضاه؟
أم ذلك الذي عاهد نفسه أن يتحول من حاكم للناس إلى خادمٍ لهم!!
وأبى إلا أن يكون للفقراء رفيق دربٍ، وللضعفاء ولي أمرٍ!!
فأخذ يبالغ في امتهان نفسه هرباً من سخط الله وعقابه، وبراءة من أن يقال له يوم القيامة :
"وضعنا الناس أمانةً في عنقك؛ فأشبعت نفسك وجاعوا، وآويت نفسك وضاعوا!!"
فشكّل خوفه من ذلك السؤال وتلك العاقبة مسار الطريق الذي رسم معالم ولايته خلال فترة حياته!!
ولك أن تقارن حتى في وقتنا الحاضر بين صورتين كانا حاكمين لبلدٍ واحدٍ، هي (أفغانستان)!!
فحاكم طالبان قد بالغ في إنكار ذاته؛ حتى لا يكاد يعرف أحد من أفراد شعبه أوصاف شكله!! فبالغ الناس في حبه؛ حتى لقبوه بوصف (أمير المؤمنين)!!
أما الرويبضة الأقرع، فقد شهد عليه حتى أسياده الذين جلبوه عميلاً لهم على أبناء شعبه، بالسرقة والخيانة والرشوة ونهب ثروات بلده!! وأضحى مضرب الأمثلة في الهزل والسخرية والذل والهوان والخزي والعمالة!!
أما الرويبضة الأقرع، فقد شهد عليه حتى أسياده الذين جلبوه عميلاً لهم على أبناء شعبه، بالسرقة والخيانة والرشوة ونهب ثروات بلده!! وأضحى مضرب الأمثلة في الهزل والسخرية والذل والهوان والخزي والعمالة!!
فانظر يا رعاك الله . .
كيف ميَّز الإسلام أتباعه بمنهج النقاء والطهارة؟!!
وكيف لوثت الدنيا أهلها بألوان الذل والمهانة؟!!
فهل يبقى بعد ذلك قولٌ لمدعي بإمكانية الخلط بين المنهجين؟!
أو محاولة الجمع بين صفات الفريقين؟!!
. . حاشا وألف كلا . .
وعليه فليعلم أهل الحق إن كانوا لا يعلمون . .
أن المناصب في ميزان الله عز وجل . .
· لا تكون أبداً تحت مظلة نظام فاسد يتربع عليه حاكم كافرٍ يحكم بغير ما أنزل الله!!
وفي ظل الخلافة . .· تنحصر فيمن يظن فيهم (أهل الحل العقد) صلاح الدين، فيدفعونهم إليها دفعاً، ويجبرونهم عليها إجباراًّ!! ولا يظن بصالحٍ أبداً أن يسعى إليها، إذ يعتبر السعي إليها أول مؤشرات فساد الدين!!
· أهل الدنيا يسخرون مناصبهم لنماء دنياهم!! أما أهل الدين فيتخذون منها مركباً لتسخير دنياهم لعمار آخرتهم!!
· من يتولى منصباً من أهل الدنيا؛ فإنه ينتقل من منزله المحدود إلى قصره المدود!! أما من يتولاه من أهل الدنيا، فإنه يودع منزله المحدود إلى عالم من الجهد والبذل والعناء والمشقة مواصلاً ليله بنهاره خدمةً لأمته؛ أملاً في النجاة من شقاء البيت الذي سوف يسكنه مع الدود!!
· أهل الدنيا يبالغون في استنفاد طاقتهم استثماراً لمناصب دنياهم!! أما أهل الدين فيبالغون في استحقار دنياهم، وتطليق كافة مظاهر البزخ، تخففاً لحسابهم في أخراهم!!
· أهل الدنيا يقتلهم الهم والحزن كمداً على دنياهم؛ حين يسلبون مناصبهم!! أما أهل الدين فيوم إعفائهم من مناصبهم، هو يوم مناهم بل وسعادتهم حين يلقون عن كاهلهم تلك الأمانة التي يخشون معها أن تفسد عليهم آخرتهم؛ لو فرطوا أو قصَّروا في أداء حقها!!
هذه بعض الملامح التي سعيت من خلالها إلى تعديل الموازين لدى الواهمين من أمثالي، خشية أن يخرج علينا يوماً بعض المدلسين من الذين يتوهمون أنه بوسعهم تحميل الإسلام عقم فهمهم لخاصياته التي اختص بها أتباعه، وجعلها سبباً في عزتهم ومجدهم على مر الأزمان، إذ لا عزَّ لهذه الأمة إلا بهذا الدين، ومهما ابتغت العزَّة في غيره أذلها الله!!
فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقدم بثوبه المرقع على تلك الجموع التي تنتظره لاستلام مفاتيح بيت المقدس، وهو يجر دابة خادمه، في مشهد مهيب، لا يبالي فيه الخليفة بمظهرٍ أو مركبٍ أو ملبسٍ، وكأنه يبعث برسالة إلى وجدان النفس البشرية قائلاً :
" أيها الناس، إن عظمة هذا الدين تكمن في جوهره، وليس في مظاهر دنياكم الكاذبة"
فسطر التاريخ مقدمه بأحرف من نور، بل وانطق رسول كسرى بكلمات سجلها له التأريخ أيضاً بحروف من نور على نور، وذلك حين قال :
"حكمت فعدلت فأمنت فنمت ياعمر!!"
إن هذا الدين بحاجة لأتباعٍ تجردوا لله من أهواء نفوسهم وحظوظ دنياهم، ليفوزوا بشرف تمثيله؛ كخير قدوةٍ للعالمين.
وليس بحاجة لأناس مزجوا بين رغبات نفوسهم، وحظوظ دنياهم، وتوهموا زوراً إمكانية الخلط بين مرادهم ومراد رب العالمين!!
فأمثال هؤلاء لا يمكنهم الله أبداً، ولا يرضى لدينه أن تدنس صورته بتمثيلهم له أمام العالمين!!
إذ قضت سنة الله الكونية في خلقه . .
ألا تمكين للغافلين!!
قال تعالى : (وكذلك نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين)
بقلم : أبو مهند القمري
تعليق