خطبة الجمعة
الثالث عشر من ربيع الآخر الموافق لثامن عشر من مارس
جمعة التوبة-توبة المليار
الثالث عشر من ربيع الآخر الموافق لثامن عشر من مارس
جمعة التوبة-توبة المليار
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنْ رَسُولِ اللهِ r قَالَ: (( إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً، نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللهُ ] كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(14)[[المطففين]))([1]).
خلقَ اللهُ الخلقَ لعبادتِه، وأمرَهم بطاعتِه ورغبَّهم فيها، ونهاهم عن معصيتِه وحذرَّهم منها، فقال تعالى: ]وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ(92)[ [المائدة]، وقال تعالى: ]وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(13)وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ(14)[[النساء].
(( فالذُّنوبُ والمعاصي تضرُّ الإنسانَ ولابد، وضررُها في القلوبِ كضررِ السُّمومِ في الأبدانِ على اختلافِ درجاتِها في الضَّرر، وليس في الدُّنْيَا والآخرةِ شرورٌ وداءٌ إِلاَّ سببُه الذُّنوبَ والمعاصي.
فهي سببُ حرمانِ العلم، فإِنَّ العلمَ نورٌ يقذفُهُ اللهُ في القلب، والمعصيةُ تطفئُ ذلك النُّور، ولذلك لَمَّا جلسَ الشَّافعيُّ بيْنَ يدي مالكٍ وقرأَ عليه أعجبَهُ ما رأى من وُفورِ فِطْنتِهِ وتوقُّدِ ذكائِهِ وكمالِ فهمِه، فقال له: إِنَّي أرى اللهَ قد ألقى على قلبِكَ نورًا فلا تطفئه بظلمةِ المعصية. وقال الشَّافعي:
شكوتُ إلى وكيعٍ سوءَ حفظِي فأرشدنِي إلى تركِ المعاصِي
وأخبرني بأَنَّ العــلمَ نـورٌ ونورُ اللهِ لا يُهْـَدى لعـاصي
وهي سببُ حرمانِ الرَّزق، فكما أَنَّ التَّقوى مجلبةٌ للرزق، فتركُ التَّقوى مجلبةٌ للفقر.وهي سببُ الوحشةِ الَّتي يجدُها العاصي بيْنَه وبيْنَ الله، وبيْنَه وبيْنَ أهلِ الخيْر.وهي سببُ تعسيرِ الأمورِ فلا يطرق العاصي باباً إِلاَّ أُغلق دونه، ولا يسلك طريقاً إلا تعسر عليه.
وهي سببُ حرمانِ الطَّاعة، لأَنَّ المعصيةَ تصدُّ عن الطَّاعةِ وتقطعُ طرفيها، وتزرعُ أمثالَها، وتولدُ بعضها بعضًا، حتى يعزَّ على العبدِ مفارقتُها والخروجُ منها، كما قال بعضُ السَّلف: إِنَّ من عقوبةِ السَّيئةَ السيئةُ بعدها، وإِنَّ من ثوابِ الحسنةَ الحسنةُ بعدها)).
وهي سببُ سوادِ القلبِ كما في الحديث: (( إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً، نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ))، (( أي جُعِلَتْ في قلبِهِ نكتةٌ سوداء، أي أثرٌ قليل، قال القاري: كقطرةِ مدادٍ تقطرُ في القرطاس، وتختلفُ على حسبِ المعصيةِ وقدرِها، والحملُ على الحقيقةِ أولى من جعلِهِ من بابِ التَّمثيلِ والتَّشبيه)). فإِنَّ رَسُولُ اللهِ r قَالَ: (( نَزَلَ الْحَجَرُ الأَسْوَدُ مِنَ الْجَنَّةِ وَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، فَسَوَّدَتْهُ خَطَايَا بَنِيآدَمَ))، (( قال المحبُّ الطبري: في بقائِهِ أسودَ عبرةٌ لمن له بصيرة، فإِنَّ الخطايا إذا أثرتْ في الحجرِ الصَّلبِ فتأثيرُها في القلبِ أشد)).
فهذه بعضُ مضارِ الذُّنوبِ والمعاصي.
ثُمَّ رغبَّ النَّبِيُّ r في التَّوبةِ فقال: ((فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ صُقِلَ قَلْبُهُ)): ((فَإِذَا هُوَ نَزَعَ)) أي أقلعَ عن الذَّنبِ وتركه ((وَاسْتَغْفَرَ)) اللهَ أو (( وَتَابَ)) إليه توبةً صحيحةً ((صُقِلَ قَلْبُهُ)) أي رفعَ اللهُ تلك النُّكتةَ فينجلي قلبُهُ بنوره، كشمسٍ خرجتْ عن كسوفِها فتجلَّت)).
وقد كثرَ في القرآنِ الكريمِ وأحاديثِ النَّبِيِّ r العظيمِ التَّرغيبُ في التَّوبة:
قال تعالى: ]قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(53)[[الزمر]، ولم يُفرِّقْ سبحانه بيْنَ ذنبٍ وذنب، ولا بيْنَ خطيئةٍ وخطيئة، وإِنَّمَا دعا جميعَ المذنبين وجميعَ المخطئين إلى التَّوبة:
دعا الكفرة فقال: ]قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ(38)[ [الأنفال]، ودعا المنافقين فقال: ]إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا(145)إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ للهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا(146)[[النساء].
ودعا الذين قتلوا أولياءَه فقال تعالى: ] إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ(10)[[البروج]، ((قال الحسن: انظروا إلى هذا الكرمِ والجود، قتلوا أولياءَه وهو يدعوهم إلى التَّوبةِ والمغفرة)).
ودعا الزُّناةَ والقتلةَ والمشركين فقال تعالى: ]وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا ءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا(68)يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا(69)إِلاَّ مَنْ تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا(70)وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا(71)[[الفرقان].
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ y أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا، ثُمَّ أَتَوْا مُحَمَّدًا r فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو لَحَسَنٌ، وَلَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً، فَنَزَلَ: ] وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا(69)[ [الفرقان]، وَنَزَلَ ] يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ(53)[[الزمر])).
وَعَنْ أَبِي مُوسَى t عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ: (( إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا)).
وفي قوله r: ((فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ صُقِلَ قَلْبُهُ))، إشارةٌ إلى فضلِ التَّوبة، وأَنَّهَا تطهِّرُ القلبَ وتُخلِّصُه من دنسِ الذُّنوبِ والمعاصي، كالثَّوبِ الَّذي يتَّسِخُ فيُغْسَلُ فيعودُ نظيفًا. وفضائلُ التَّوبةِ كثيرة:
منها: أَنَّ التَّوبةَ سببُ الفلاح، كما قال تعالى: ] وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(31)[[النور].
ومنها: أَنَّ التَّوبةَ تُكفِّرُ السَّيئات، كما قال تعالى: ] يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ(8)[[التحريم].
ومنها: أَنَّ التَّوبةَ تُبدِّلُ السَّيئاتِ حسنات، كما قال تعالى: ]إِلاَّ مَنْ تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا(70)[[الفرقان].
عَنْ أَبِي ذَرٍّ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ r: (( إِنِّي لأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولاً الْجَنَّةَ، وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، رَجُلٌ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ: اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ وَارْفَعُوا عَنْهُ كِبَارَهَا، فَتُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغَارُ ذُنُوبِهِ، فَيُقَالُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا، وَعَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: نَعَمْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ، فَيُقَالُ لَهُ: فَإِنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً، فَيَقُولُ: رَبِّ قَدْ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لاَ أَرَاهَا هَا هُنَا، فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ r ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ)).
ومن فضائلِ التَّوبةِ أَنَّها سببٌ للمتاعِ الحسنِ في الدُّنْيَا، كما قال تعالى: ]وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ(3)[[هود].
ومنها أَنَّها سببٌ لنزولِ الأمطارِ وزيادةِ قوةِ الأجسام، والإمدادِ بالأموالِ والبنين، كما حكى اللهُ سبحانه عن هودٍ u أَنَّه قال لقومِه: ] وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ(52)[[هود]، وحكى عن نوحٍ u أَنَّه قال لقومه: ]فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا(10)يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا(11)وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا(12)[[نوح].
ومنها: أَنَّ التَّوبةَ توجبُ للعبدِ محبَّةَ الرَّبِّ سبحانه، كما قال تعالى: ] إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ(222)[[البقرة].
ومنها: أَنَّ اللهَ يفرحُ بتوبةِ التَّابئين، كما في الحديث: (( للهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلاَةٍ)). قال ابْنُ القيم: ((ولم يجئ هذا الفرحُ في شيءٍ من الطَّاعاتِ سوى التَّوبة، ومعلومٌ أَنَّ لهذا الفرحِ تأثيرًا عظيمًا في حالِ التَّائبِ وقلبه، ومزيةً لا يُعبَّرُ عنها.
وإنما تثبت هذه الفضائل للتوبة النصوح،التي أمر الله بها في قوله: ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ(8)[[التحريم].
قال الإمامُ النووي: (( قال العلماء: التَّوبةُ واجبةٌ من كلِّ ذنب، فإِنْ كانت المعصيةُ بيْنَ العبدِ وربِّهِ لا تتعلَّقُ بحقِّ آدميٍّ فلها ثلاثةُ شروط:
أحدها: أَنْ يُقْلِعَ عن المعصية.الثَّاني: أَنْ يندمَ على فعلِها. والثَّالث: أَنْ يعزمَ أَنْ لا يعودَ إليها أبدًا، فإِنْ فقدَ أحدَ الثَّلاثةِ لم تصحْ توبتُه.
وإِنْ كانت المعصيةُ تتعلقُ بآدميٍ فشروطُها أربعة: هذه الثلاثةُ وأَنْ يتبرأَ من حقِّ صاحبِها، فإِنْ كانتْ مالاً ونحوَه ردَّه إليه، وإِنْ كان حدًّا أو قذفًا ونحوه مكنَّه منه أو طلبَ عقوبتَه، وإِنْ كان غيبةً استحلَّه منها ما لم يتريبْ على الاستحلالِ مفسدة)).
وزاد بعضُ العلماءِ شرطيْن: (( الإخلاصُ لله، بأَنْ يكونَ قصدُ الإنسانِ بتوبتِهِ وجهَ اللهِ U، وأَنْ يتوبَ اللهُ عليه، ويتجاوزَ عَمَّا فعلَ من المعصية، لا يقصدُ بذلك مراءةَ النَّاسِ والتَّقرُّبَ إليهم، ولا يقصدُ بذلك دفعَ الأذيَّةِ من السَّلطانِ ووليِّ الأمر، وإِنَّمَا يقصدُ وجهَ اللهِ والدَّارَ الآخرة، وأَنْ يعفوَ اللهُ عن ذنوبه.
الثَّاني: أَنْ تقعَ التَّوبةُ في زمنِ تُقْبَلُ فيه، وذلك نوعانِ باعتباريْن: باعتبارِ كلِّ إنسانٍ بحسبه، وباعتبارِ العموم.
أَمَّا اعتبارُ كلِّ إنسانٍ بحسبِهِ فلابدَّ أَنْ تكونَ التوبةُ قبلَ حلولِ الأجلِ وحضورِ الموت، فإِنْ كانت بعد حلولِ الأجلِ فإِنَّهَا لا تنفع، لقوله تعالى: ] إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا(17)وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا(18)[[النساء]، وقال تعالى: ]فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا ءَامَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ(84)فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ(85)[[غافر].
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ y عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ: (( إِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ)).
والنَّوعُ الثَّاني: وهو العمومُ فإِنَّ النَّبِيَّ r قال: ((مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللهُ عَلَيْهِ)). وصرَّحَ بأَنَّ بابَ التَّوبةِ مفتوحٌ إلى طلوعِ الشَّمسِ من مغربِها فإذا طلعتْ من مغربِها أغلقَ بابُ التَّوبة، كما قال تعالى: ]هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلاَئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا(158)[[الأنعام]:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t أَنَّ رَسُولَ اللهِ r قَالَ: (( لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ فَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ، فَذَلِكَ حِينَ] لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا[)).
فلابدَّ من التَّوبةِ في وقتٍ تُقْبَلُ فيه التَّوبةُ فإِنْ لم تكن كذلك فلا توبةَ للإنسان)).
فإذا توفرتْ هذه الشروطُ في التَّوبةِ فهي توبةٌ مقبولةٌ إِنْ شاءَ الله، لأَنَّ اللهَ وعد، ووعدُه الحق، فقال: ]وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ(25)[[الشورى]، وقال: ] قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ(38)[[الأنفال]، فعصاةُ المسلمين أوْلى بهذا الوعد، فمن تابَ توبةً نصوحًا فليحسنِ الظَّنَّ بربِّهِ أَنَّه قد قَبِلَ توبتَه وغفرَ ذنبَه.
فإِنْ قالَ قائل: كيف يُتَغَلَّبُ على الإصْرار؟ وتُحلُّ عُقْدَتُه؟
فالجواب: (( قال القرطبي: قال علماؤنا: الباعثُ على التَّوبةِ وحلِّ عُقدةِ الإصرارِ إدامةُ الفكرِ في كتابِ اللهِ العزيزِ الغَّفار، وما ذكرَه اللهُ سبحانه من نعيمِ الجنةِ ووعدَ به المطيعين، وما وصفَهُ من عذابِ النَّارِ وتهدَّدَ به العاصيين، فإِنَّ ذلك يقوِّي خوفَهُ ورجاءَه، فيخافُ من العقابِ ويرجو الثَّواب)).
وقال الرَّازي في تفسيرِ قول ِالله تعالى: ] وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ(135)[[آل عمران]، قال: (( الذَّكرُ هنا هو الَّذي ضدُّ النِّسيان، والمعنى: ذكروا وعيدَ اللهِ أو عقابَهُ أوجلالَهُ الموجبُ للخشيةِ والحياءِ منه ] فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ[ فكان الاستغفارُ كالأثرِ والنَّتيجةِ للذِّكر، ومعلومٌ أَنَّ الذِّكرَ الَّذي يوجبُ الاستغفارَ ليس إِلاَّ ذكرَ عقابِ اللهِ ونهيه ووعيده)).
فإذا أردتَ أَنْ تَحُلَّ عقدةَ الإصرارِ فافتحْ كتابَ اللهِ واقرأ ما فيه من وصفِ النَّار:
قال تعالى: ]إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا(21)لِلطَّاغِينَ مَآبًا(22)لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا(23)لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلاَ شَرَابًا(24)إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا(25)جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لاَ يَرْجُونَ حِسَابًا(27)وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا(28)وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا(29)فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا(30)[[النبأ]، وقال تعالى: ]وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ(41)فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ(42)وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ(43)لاَ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ (44)إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ(45)وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46)وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ(47)أَوَءَابَاؤُنَا الأَوَّلُونَ(48)قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ(49)لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ(50)ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ(51)لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ(52)فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ(53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ(54)فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ(55)هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ(56)[[الواقعة]، وقال تعالى: ] إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ(43)طَعَامُ الأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ(45)كَغَلْيِ الْحَمِيمِ(46)خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47)ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ(48)ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ(49)إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ(50)[[الدخان]،
فرددْ على سمعِك هذه القوراع (( واصرفِ الفكرَ إلى موردِك فإِنَّك أُخْبِرْتَ بأَنَّ النَّارَ موردُ الجميع، كما جاء في التَّنزيل ]وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا(71)[[مريم]، فأنتَ من الورودِ على يقينِ ومن النَّجاةِ في شك، فاستشعرْ في قلبِك هولَ ذلك الموردِ فعساك تستعدَّ للنجاةِ منه)).
فإِنْ قلتَ ذنوبِي كثيرة؟ قلتُ لك: ]إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا(53)[[الزمر] وقد قال اللهُ في الحديثِ القدسي: ((يَا ابْنَ آدَمَ! لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِي)).
فإِنْ قلتَ: لقد حاولتُ التَّوبةَ كثيرًا ثم انتكست؟ قلتُ لك: لا تيأسْ ولا تحزن، ألستَ حين تتوبُ تعزمُ عزمًا أكيدًا على أَنْ لاَ تعود؟ ستقول: بلى، وإِلاَّ لم تكنْ تائبًا، فما دمتَ كلََّما تبتَ ندمتَ على ما فعلتَ وعزمتَ على أَنْ لا تعودَ فلا تحزنْ إِنْ عدت، ولا تيأسْ من رحمةِ الله، ففي الحديث:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنِ النَّبِيِّ r فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ U، قَالَ: (( أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، قَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ)).
فإِنْ قلتَ: فهل من نصيحةٍ تُعينُ على الثَّبات؟ فالجوابُ نعم، غيَّرِ البيئةَ والرِّفاق، وخالطِ الصَّالحين العابدين، وجالسِ العلماءَ الرَّبانيين ففي الحديث:
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ t أَنَّ نَبِيَّ اللهِ r قَالَ: (( كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لاَ، فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْلَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ، انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، وَلاَ تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ، فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلاً بِقَلْبِهِ إِلَى اللهِ، وَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ، فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ فَقَبَضَتْهُ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ)).
هذا، (( وإنَّ من الأخْطاءِ الشَّائعةِ أنَّهُ إذا تحدَّثَ مُتحدِّثٌ عن التَّوبةِ تبادرَ إلى الذِّهْنِ توْبةُ الأفْرادِ فحسْب، أمَّا توْبةُ الأُمَّةِ بعامَّةٍ فقلَّ أن تخْطُرَ ببالِ، وهذا من الأخطاءِ في بابِ التَّوْبة، ذلك أنَّ سُنَّتَهُ عزَّ وجلَّ في الأفرادِ وهي مغفرتُهُ للتائبينَ وعفْوُهُ عن المُذْنبين، هيَ هيَ سُنَّتُهُ سُبحانهُ في الأممِ والشُّعوب. فالأمَّةُ التي تضلُّ الطَّريقَ وتنْحرفُ عن سواء السَّبيل، ثمَّ تعودُ إلى طريقِ الرَّشادِ وتصْدُقُ في التَّوْبةِِ والإنابةِ إلى ربِّ العباد، يفْتحِ اللهُ لها، ويرْفعُ من شأْنها, ويُعيدُها إلى عزَّتِها ومجْدِها, ويُنقذها من وهْدتِها التي انحدرتْ إليها, ويُنجيها من الخُطوبِ التي تُحيطُ بها، نتيجةَ الذُّنوبِ التي ارْتكبتْها، والمُنكراتِ التي أشاعتْها، من ربًا ومُجون, وتبرُّجٍ وسُفور، وفسْقٍ وشِرْك، وبدعٍ ما أنْزلَ الله بها من سُلطان، ونحْوِ ذلكَ ممَّا هو مؤْذِنٌ بالعقُوبةِ وحُلولِ اللعْنة. فإذا تابتْ إلى ربِّها متَّعها اللهُ بالحياةِ السعيدة, وجعلَ لها الصَّوْلةَ والدَّولة, ورزقها الأمْنَ والأمان، ومكَّنَ لها في الأرض، كما قال تعالى: ]وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِيارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(55)[[النور]،وقد أمر الله تعالى بالتوبة جميع المؤمنين،فقال تعالى: ] وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون[
وأكْبرُ دليلٍ على أهمِّيَةِ توْبةِ الأمَّةِ توْبةً جماعيَّةً قوْلُهُ تعالى: ] فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءَامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا ءَامَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ(98)[[يونس].
روي أن يونس u بعثه الله إلى نينوى من أرض الموصل،يدعوهم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام والأثاون، فلم يستجيبوا له، فغضب عليهم وأنذرهم عذاب الله، ثم خرج من بينهم، فلما فقدوه، وبلغ أميرَهم قولُه تخوفوا نزول العذاب الذي أُنذروا به، فقذف الله في قلب أميرهم الإيمان والتوبة، فنزل عن عرشه، وألقى عنه حلته، والتف بمسح، وجلس على التراب، وآمن بالله، فآمن الناس كلهم، وأمر الأمير أن ينادى بنينوى بالصيام، فلا يذوق أحد طعاما ولا شرابا، وألا ترعى البهائم ولا تسقى، وأن يلبس الناس المسوح، صغيرهم وكبيرهم، وأن يجتمعوا في صعيد واحد، يجهرون بتسبيح الله، والإنابة إليه، والاستغفار له، والتوبة عما أسلفوا من الظلم والجرم، وأن يحضروا أطفالهم وذويهم ومواشيهم معهم، ففعلوا، وتضرعوا إلى الله، واستكانوا لجلاله، وسألوه أن يرفع عنهم العذاب الذي أنذرهم به نبيهم، فلما علم منهم الصدق من قلوبهم، والتوبة والندامة على ما مضى منهم، كشف عنهم العذاب ورحمهم.
وقد قيل إن التوبة عليهم كانت يوم الجمعة.فهل لنا أن نجعل يوم الجمعة القادمة يوم التوبة؟!لقد سمعنا في الأيام الماضية عن :جمعة الغضب، جمعة الزحف، جمعة الرحيل، جمعة الالتحام، فهل لنا أن نسمي الجمعة القادمة: جمعة التوبة، توبة المليار؟! إنها دعوة أرجو أن تجد أذنا واعية،تعي هذه الدعوة،ثم تعمل على تفعيلها وتحقيقها.
إنَّ ممَّا يجبُ أن لا يغيبَ عن عاقلٍ أنَّ سُننَ اللهِ لا تتغيَّرُ ولا تتبدَّل، ولا تُحابي ولا تُجامل، فما نزلَ بقوْمٍ بلاءٌ إلاََََّ بذَنْب, ولا رُفِعَ عنْ قوْمٍ بلاءٌ إلاَّ بتوْبة، كما قال تعالى: ]إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ (11)[[الرعد]، فإذا كانوا على ما يُحبُّ اللهُ ثمَّ انتقلوا عنهُ إلى ما يكْره، انتقلَ اللهُ بهم عمَّا يُحبونَ إلى ما يكْرهون، وإذا كانوا على ما يكرهُ ثمَّ انتقلوا عنهُ إلى ما يُحبُ، انتقلَ اللهُ بهم عمَّا يكْرهونَ إلى ما يُحبُّون، ]إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا(7)[[الإسراء].
نسألُ اللهَ أن يُردَّ المسلمينَ إلى دينهِ ردًا جميلاً، ] وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ(4)بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(5)وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ(6)[[الروم].
تعليق