السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الفتنة إذا هاجت لم يعرفها إلا العلماء
(من خطبة الجمعة غرة ربيع الأول العام 1432 من هجرة الحبيب – صلى الله عليه وسلم - بمجمع ابن القيم بالمحلة الكبرى "عطاف")
الخطبة الأولى:
الحمد لله يقول الحق وهو يهدي السبيل ، الحمد لله على كل نعمة أنعم بها وكل بلية صرفها وأصلي وأسلم على نبينا محمد خير من علم وأرشد وعلى آله وصحبه وسلم ... ثم أما بعد ...،
الفتنة إذا هاجت لم يعرفها إلا العلماء
والناس في الفتن أصناف وألوان فقد جاء في الأثر عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه – في معرض كلامه عن تصنيف الناس في الفتن قال: "مُنقاد لأهل الحق لا بصيرة له ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة لا يدري أين الحق. إن قال أخطأ، وإن أخطأ لم يدر، مشغوفًا بما لا يدري حقيقته؛ فهو فتنة لمن فتن به، وإن من الخير كله من عَرَّفه الله دينه، وكفى بالمرء جهلاً ألا يعرف دينه".
قلت:
سبحان الله وهذا حال كثير من الناس إلا من رحم ربي لا يملكون ثوابت ينطلقون منها أو يعودون إليه مذبذبون لا إلى هؤلاء و لا إلى هؤلاء ...
كثيرا ما ألتقي شخصا ما فيعرض رأيا فإذا كان من الغد عرض رأيا آخر فهو يوم من المؤيدين ويوم مع المعارضين فهم كما قال علي رضي الله عنه: "همج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل صائح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجئوا إلى ركن وثيق".
فأنت لا تملك إلا أن تدعو الله أن يرده وأمثاله إلى الحق
والحل الوحيد في ذلك قوله تعالى {ولو ردوه إلى الرسول والى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه}. ...وهم أصحاب العلم
وهذا هو المطلوب ...
أن تكون منطلقاتنا من الكتاب والسنة وإلا هلكنا في الدنيا والآخرة فبهما النجاة والعصمة في زمان الفتن فإن الجهل أهلك أهله.
والواجب علينا في زمان الفتن أن نكون وسطا بين تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين ، ولا يملك أحد النجاة من ذلك إلا من أضاء الله طريقه بنور العلم وهم العلماء الربانيون ومن تبعهم بإحسان فهم يميلون حيث مال الشرع ولو كانت حياتهم ثمنا لما يعتنقونه من الحق.
يجب علينا إذا عند ظهور الخلاف أن نزن أمورنا منطلقين من قوله تعالى:
{قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا؟}.
ومن هنا تتحقق العصمة من الفتن بإذن الله.
أحبتي في الله ... اعلموا
أن الله تعالى بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق ليظهره على كل باطل، فبالهدى يعرف الحق ويعمل به...
و لكن لابد من علم بالحق والفتنة تضاد ذلك فإنها تمنع معرفة الحق فيكون فيها من الشبهات ما يلبس الحق بالباطل فيدور كثير من الناس بين شهوات وشبهات تمنع إرادة الحق.
ولهذا ينكر الإنسان قلبه عند الفتنة ولهذا يقال: فتنة عمياء صماء ويقال فتن كقطع الليل المظلم ونحو ذلك من الألفاظ التي يتبين ظهور الجهل فيها وخفاء العلم،
والواجب على من عرف الحق واستبان له اتباعه والقيام به وإن خالفه من خالفه وجفاه من جفاه .
أحبتي في الله ...
إن ما نراه الآن هو وصفُ صدقٍ وصفه نبينا - صلى الله عليه وسلم - (فتن كقطع الليل المظلم) (فتن صماء عمياء) لا تخضع لصوت العقل المؤيد بالوحي يؤججها الجهل والأفكار المخالفة لتعاليم ديننا فهذه براجماتية نفعية وهذه علمانية إلحادية وهذه ليبرالية وهذه ... وهذه ... فتن كقطع الليل،
وليس لها من دون الله كاشفة.
نعم أحبتي في الله ...
هذا زمان فتن ... نقضت عرى الإسلام عروة عروة , وأعجب كل ذي رأي برأيه واتبع كل هواه إلا من رحم ربي وقليل ما هم فكان القابض على دينه ...
هذا زمان فتن نطقت فيه الرويبضة (التافهون), وأدلت بالباطل والفجور وجعلته الحق والمعروف الذي أمر الله به.
جاء في رواية للترمذي من حديث أنس مرفوعا: ( تَكُونُ بَيْنَ يَدَي السَّاعَةِ فِتَنٌ كَقِطَعِ الليْل المُظْلمِ ، يُصْبِحُ الرَّجُل فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا ، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا ، يَبِيعُ أَقْوَامٌ دِينَهُمْ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا )
قال صاحب الاعتصام في معرض كلامه على حديث البخاري عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قبل الساعة سنون خداعا يصدق فيهن الكاذب ويكذب فيهن الصادق ويخون فيهن الأمين ويؤتمن الخائن وينطق فيهن الرويبضة ) قالوا هو الرجل التافه الحقير ينطق فى أمور العامة كأنه ليس بأهل أن يتكلم فى أمور العامة فيتكلم)
قلت : يعلم الله كم لمست كثيرا وعشت واقعا ملموسا لهذا الحديث العظيم من نبوءات الحبيب – صلى الله عليه وسلم – فكم من تافه هذه الأيام يتكلم في مصائر المسلمين ويتخذ لهم حلولا جاهلية بعيدة كل البعد عن تعاليم الإسلام ولسان حالهم يدل على علم بالدنيا وجهل مطبق بالآخرة.
وينقل لنا صاحب الاعتصام أيضا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: " قد علمت من يهلك الناس ... إذا جاء الفقه من قبل الصغير استعصى عليه الكبير وإذا جاء الفقه من قبل الكبير تابعه الصغير فاهتديا"
قلت مستعينا بالله : التغيير آت لا محالة ولكن هل نتغير إلى ما يرضي الله؟ ... إلى تطبيق الشريعة ... إلى نشر نور الإسلام في الدنيا جهادا ودعوة ... سؤال يدمي القلوب المؤمنة ...
وأقول لكل من اتبع الحق بل وأجزم بذلك : ((أنه لن يستفيد مما يحدث الآن في مصر إلا الأحزان (الأحزاب) السياسية وسيلقى الفتات لذوي الاتجاهات الإسلامية (الإخوان المسلمون) ولن يسمح أعداء الله بغير ذلك، وإلا ستكون لبنان أخرى (نسال الله العافية) وستذكرون ما أقول لكم))
يقول ابن مسعود رضي الله عنه:
" لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم من أكابرهم فإذا أخذوه عن أصاغرهم وشرارهم هلكوا"
يقول الشاطبي – رحمه الله -:
"واختلف العلماء فيما أراد عمر بالصغار فقال ابن المبارك: " هم أهل البدع وهو موافق لأن أهل البدع أصاغر في العلم ولأجل ذلك صاروا أهل البدع"
وقال الباجي – رحمه الله -:
"يحتمل أن يكون الأصاغر من لا علم عنده" قال: " وقد كان عمر يستشير الصغار وكان القراء أهل مشاورته كهولا وشبانا"
وقال: " ويحتمل أن يريد بالأصاغر من لا قدر له ولا حال ولا يكون ذلك إلا بنبذ الدين والمروءة "
قلت:
سبحان الله نعم أصاغر تافهون لا يعلمون من الدين إلا اسمه ولا من الحق والعدل إلا رسمه ...
فهذا يصرخ لا نريد دولة دينية
وهذا يقول دولة مؤسسات
وآخر يقول علمانية
ورابع يقول ديمقراطية
وهكذا نطق الرويبضة التافهون .
وليس لها من دون الله كاشفة
وليس لها من دون الله كاشفة
أقول ما تسمعون وأستغر الله لي ولكم ... ولا تدعوا الآن فإنما شرعت هذه الجلسة لاستراحة الخطيب.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب والحكمة وأقام بهما على عباده الحجة وضمن فيهما السداد والعصمة ... فمن اتبع فقد اهتدى ومن أعرض فقد ضل وغوى ... أما بعد ...،
أحبتي في الله ...
ليكن لنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة وفي كلامه خير هدى يخرجنا من الفتن ولنعتصم بديننا ولنتأمل ما رواه الترمذي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ... َإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلاَلةٌ ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلكَ مِنْكُمْ ، فَعَليْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَليْهَا بِالنَّوَاجِذِ ) صححه الألباني من حديث العرباض بن سارية
ولتعلموا رحمكم الله
أننا لن نستطيع أن نفرق بين الحق والباطل إلا بالعلم ولن نضيع إلا بالجهل.
ويكفينا هنا أن نشير إلى ...
أن انتشار الجهل والزهد في العلم من علامات الساعة التي أخبر عنها النبي - صلى الله عليه وسلم -: عن قبض العلم حيث قال: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" متفق عليه من حديث أبي هريرة و من حديث عبد الله بن عمرو.
وهؤلاء الرؤوس الجهال هم الرويبضة الذين أخبر عنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وبينا حالهم في خطبتنا الأولى بتوفيق الله.
ولتعلموا ...
أن نشر العلم بين الناس هو القادر (بمشيئة الله) على درء تلك الفتن، فإن الله سبحانه وتعالى لم يأمر نبيه بطلب الزيادة في شيء إلا من العلم فقال تعالى: {وقل رب زدني علما}.
ونصيحتي لنفسي وإياكم:
ألا تعرضوا أنفسكم للفتن وأن تنشغلوا بالحق عن الباطل
فصونوا أنفسكم ودينكم عن الشبهات والشهوات
أحبتي في الله:
لا تعرضوا أنفسكم للفتن ...
وتذكروا وصية رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "من سمع بالدجال فلينأ عنه، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات "صحيح رواه أحمد (4/441)، والحاكم (4/531) وصحح إسناده على شرط مسلم عن عمران بن حصين.
نسأل الله أن يجنبنا وإياكم الفتن ما ظهر منها وما بطن وأن يعصمنا وإياكم من الزلل ... اللهم من أراد المسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره واجعل في تدبيره تدميره واجعل دائرة السوء عليه ...
اللهم تب علينا لنتوب .. اللهم تب علينا توبة نصوحا ترضيك عنا ... عبادك غيرنا كثير وليس لنا رب سواك ... دعوناك كما أمرتنا فاستجب لنا كما وعدتنا
وصلِّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ... والحمد لله رب العالمين.
وكتب أبو أنس / أمين بن عباس
عفا الله عنه وعنكم
تعليق