كتب رجل لأخيه: يكفيك لطلب العلم سورة العصر، فإنها كما قال الشافعي: لو فكر الناس فيها لكفتهم.
فوقع في يد الشيخ عبد اللطيف، فكتب:
اعلم أن قول الشافعي، رحمه الله تعالى، فيه دلالة ظاهرة على وجوب طلب العلم مع القدرة في أي مكان، ومن استدل به على ترك الرحلة والاكتفاء بمجرد التفكر في هذه السورة، فهو خلي الذهن من الفهم والعلم والفكرة، إن كان في قلبه أدنى حياة، ونهمة للخير، لأن الله افتتحها بالإقسام بالعصر، الذي هو زمن تحصيل الأرباح للمؤمنين، وزمن الشقاء والخسران للمعرضين الضالين. وطلب العلم ومعرفة ما قصد به العبد من الخطاب الشرعي أفضل الأرباح، وعنوان الفلاح، والإعراض عن ذلك علامة الإفلاس والإبلاس؛ فلا ينبغي للعاقل العارف أن يضيع أوقات عمره وساعات دهره إلا في طلب العلم النافع، والميراث المحمود كما قيل في المعنى شعراً:
أليس من الخسران أن اللياليا ... تمر بلا نفع وتحسب من عمري
وفي قوله: { إِنَّ الإِنْسَانَ } تنبيه على أن الجنس كله كذلك، إلا من استثنى؛ وهذا يوجب الهرب والفرار إلى الله بمعرفته وتوحيده والإنابة إليه، ومتى يحصل هذا للجاهل؟
وفي قوله: { لَفِي خُسْرٍ }تنبيه على عدم اختصاص خسره بنوع دون نوع، بل هو قد توجه إليه الخسران بحذافيره من جميع جهاته إلا من استثنى؛ وهذا لا يدخل في المستثنى من زهد في العلم وآثر وطنه وأهله على الميراث النبوي، وتجرع كأس الجهل طول حياته، حتى آل من أمره أنه يستدل على ترك الطلب بالدليل على وجوب الطلب.
وفي قوله تعالى:{ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا } ما يوجب الجد والاجتهاد في معرفة الإيمان والتزامه، لينجو من الخسار ويلتحق بالأبرار والأخيار.
وقد اختلف الناس في الإيمان ومسماه، ولا سبيل إلى معرفة مراد الله به وما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله في ذلك، إلا بطلب العلم ومعرفة ما عليه سلف الأمة وأئمتها.
ثم له شعب وحقائق، وأصول وفروع، لا تعرف إلا بطلب العلم وبذل الجهد والتشمير عن ساق الاجتهاد; ومن آثر الوطن والرفاهية فاته كثير من ذلك أو أكثر، بل ربما فاته كله نعوذ بالله؛ ولذلك تجد من يرغب عن طلب العلم، وعمدته في هذه المباحث تقليد المشائخ والآباء، وما كان عليه أهل محلته، وهذا لا يمكن في باب الإيمان ومعرفته. ولو كنت تدري ما قلت لم تبده.
وفي قوله:{ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } حث وحض على العلم وطلبه، لأن العامل بغير علم وبصيرة ليس من عمله على طائل، بل ربما جاءه الهلاك والآفة من جهة عمله، كالحاطب في ظلماء، والسالك في عمياء؛ ولا سبيل إلى العمل إلا بالعلم، ومعرفة صلاح العمل وفساده لا بد منه، ولا يدرك إلا بنور العلم وبصيرته،
وقوله:{ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ } محتاج مريده وفاعله إلى العلم حاجة وضرورة ظاهرة، لأن الحكم على الشيء بكونه حقاً يتوقف على الدليل والبرهان؛ وإذا كانت "أل" في "الحق" للاستغراق، فالأمر أهم وأجل وأشمل. وأما الصبر فمعرفة حده وتعريفه، ومعرفة حكمه وجوباً واستحباباً، ومعرفة أنواعه وأقسامه ومحله من الإيمان، من أهم ما يجب على العبد ويلزمه، وما أحسن ما قيل:
إن العُلى حدثتني وهي صادقة ... فيما تحدث أن العز في النقل
فظهر أن معنى قول الشافعي: "كفتهم"، في طلبه لا في تركه.
وقال الإمام أحمد رضي الله عنه: الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب، لأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين، وحاجته إلى العلم عدد أنفاسه. وروينا عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة. ونص على ذلك أبو حنيفة، رحمه الله. ومن فارق الدليل ضل السبيل، ولا دليل إلى الله والجنة سوى الكتاب والسنة، وكل دليل لم يصحبه دليل القرآن والسنة فهو من طريق الجحيم والشيطان. فالعلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول.
وقال أبو الفضل البامجي من مشائخ القوم الكبار: ذهاب الإسلام من أربعة: لا يعملون بما يعلمون، ويعملون بما لا يعلمون، ولا يتعلمون ما يعملون، ويمنعون الناس عن التعلم والتعليم؛ قال عمر بن عثمان المكي: العلم قائد، والخوف سائق، والنفس حرون بين ذلك جموح، خداعة رواغة، فاحذرها وراعها بسياسة العلم، وسقها بتهديد الخوف، يتم لك ما تريد.
وقال أبو الوزير، رحمه الله: عملت في المجاهدة ثلاثين سنة، فما وجدت شيئاً عليّ أشدّ من العلم ومتابعته، ولولا اختلاف العلماء لبقيت. وقال الجنيد: الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى آثار الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر، لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة.
تعليق