إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

تفسير سورة الأنعام بأسلوب بسيط

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • تفسير سورة الأنعام بأسلوب بسيط




    سلسلة كيف نفهم القرآن؟[1]



    تفسير الربع الأول من سورة الأنعام بأسلوب بسيط



    الآية 1: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾: أي الثناء على الله تعالى بصفاته (التي كلّها صفات كمال)، وبنعمه الظاهرة والباطنة،الدينية والدنيوية، فهو سبحانه ﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴿ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ﴾: أي وخلق الظلمات والنور، وذلك بتعاقب الليل والنهار، والشمس والقمر، فالذي أوجد السموات والأرض وما فيهما وما بينهما من سائر المخلوقات وجعل الظلمات والنور (وهما من أقوى عناصر الحياة) هو المستحق للحمد والثناء والعبادة لا غيره، ومع هذا الوضوح في استحقاقه تعالى وحده للعبادة: ﴿ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾: يعني: يساوونه بغيره في العبادة والتعظيم والمحبة والخوف، (إذ معنى يَعدلون: يساوون، وهي مأخوذة من العدل والمساواة)، فالذين كفروا يَعدلون بالله تعالى أصناماً ومخلوقاتٍ فيعبدونها معه، مع أنهم لم يساووا اللهَ في شيءٍ من الكمال، بل هم فقراء عاجزون ناقصون مِن كل وجه.


    الآية 2: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ﴾: يعني هو الذي خلق أباكم آدم من طين (وأنتم سُلالة منه)، ﴿ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا ﴾: يعني ثم كتب مدة بقاء كل إنسان في هذهالحياة الدنيا، ﴿ وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ﴾: أي وكتب أجلاً آخر محدَّدًا معروفاً عنده، لا يعلمه إلا هو جَلَّ وعلا، وهو يومالقيامة.

    واعلم أنَّ في قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ﴾، إعلامٌ بأنه تعالى قادرٌ على أن يعيد خَلق الإنسان بعد الموت كما بدأه أول مرة، قال تعالى: ﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾، وقال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الأحقاف: 33]، بل إنَّ ذلك أهْوَنُ عليه سبحانه، كما قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾، إذ هي نفس الأرض التي خلقه منها، قال تعالى: ﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ﴾، وضرب لنا مثالاً حتى نُوقِنَ بقدرته تعالى على البعث فقال: ﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾، ﴿ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ﴾: يعني ثم أنتم بعد هذا تشُكُّون - أيها المشركون - في قدرة الله تعالى على البعث بعد الموت، كما تشُكُّون في وجوب توحيدِهِ بالعبادة دونَ غيره.


    الآية 3: ﴿ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ هذه الجملة يُفسرها قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ)، يعني وهو المعبود في السماء والمعبود أيضاً في الأرض، لأن كلمة (إله) معناها في اللغة: (المعبود)، وليس كما يَستدل البعض بهذه الآية على أن الله موجود في كل مكان، فهذا لا يليق به سبحانه، إذ قد يقول قائل - بجهل -: (طالما أنه موجود في كل مكان، إذن فهو - حاشَ لله - موجود أيضا في الأماكن الخربة، وغيرها)، تعالى اللهُ عن ذلك عُلُوَّاً كبيراً، بل هو سبحانه فوق عرشه كما أخبر عن نفسه فقال:﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾، أي عَلا وارتفع، وقال سبحانه: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾، وهذه آياتٌ مُحكَمات (يعني لا تَحتمِل أكثر من معنى)، والعرش فوق السماء السابعة، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال - كما في صحيح البخاري - وهو يتحدث عن الفردوس الأعلى من الجنة: (وفوقه عرش الرحمن)، ومعلومٌ أنَّ الجنة بعد السماء السابعة، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بعد صعوده إلى سِدرة المنتهى - في رحلة الإسراء والمعراج - حينَ صعد به جبريل عليه السلام فوق السماء السابعة للقاء ربه تبارك وتعالى، قال تعالى: ﴿ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى.

    فإذا قلنا ذلك: فإننا نجد مَن يقول: (إنَّ معنى استوى على العرش هو: استولى على العرش)، فدعونا نسأل: (هل كانَ العرشُ في يدِ أحد، حتى يستولى اللهُ عليه؟!)، سبحان الله وتعالى عما يصفون، ثم نجدهم يحتجون بأنهم فعلوا هذا التأويل (أي التبديل للمعنى) لأنه سبحانه إذا كانَ فوق العرش، فإنه سيكون مُحتاجاً له للجلوس عليه، وهذه ستكون صفة نقص في حقه تعالى، ونحن نقول: (إذا تصورنا أنني وضعتُ قلماً فوق يدي بحيث يكون ملامساً لها، فإننا سنقول: إن القلم فوق اليد، وكذلك إذا رفعتُ القلم فوق يدي - قليلاً - بحيثُ يكون غير ملامس لها، فإننا سنقول أيضاً: إنّ القلم فوق اليد)، إذن فإنَّ الفوقِيَّة لا تَشترط المُلامَسة، فإذا كانت المُلامَسة للعرش صفة نقصٍ عندهم، فهي أيضاً صفة نقصٍ عندنا، إذن فهو سبحانه فوق العرش - كما أخبر عن نفسه - ولكنْ غير مُلامِسٍ له.

    ولكنْ ليعلم الجميع أنه سبحانه - مع عُلُوِّه - قريبٌ مِن عباده بعِلمه وإحاطته، فعِلمُهُ مُحيطٌ بجميع الخلائق، لا يَخفى عليه شيءٌ منها، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُم أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْض ﴾، ولهذا قال بعدها: ﴿ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ أي إنه سبحانه معكم بعِلمه وإحاطته في كل وقت.

    وهو سبحانه المُهَيمِن على السماوات والأرض ومَن فيهنّ، المُتصرف في الكون كله، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾، وقال تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنّ قلوبَ بَني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلبٍ واحد، يُصَرِّفه حيثُ شاء) (والحديث في صحيح الجامع برقم: 2141)، فهو سبحانه المتصرف في الأمور كلها، فسبحان مَن عَلَّمَ خَلقه أن يتحكموا في الأشياء وهُم على بعدٍ سحيق منها بمختلف أجهزة التحكم الحديثة (مِثل ما يُعرَف بالأقمار الصناعية وغيرها).

    الآية 4، والآية 5: ﴿ وَمَا تَأْتِيهِمْ ﴾: أي وما يأتي الكفار ﴿ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ تدل على وحدانيته تعالى، وصِدْقِ محمد صلى الله عليهوسلم في نبوته، ﴿ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ﴿ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ ﴾: أي كذبوا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وما معه مِن الدين الحق ﴿ لَمَّا جَاءَهُمْ، وسَخِروامِن دعائه؛ جَهلاً منهم، واغترارًا بإمهال الله لهم، ﴿ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾: يعني فسوف يتبين لهم أنَّ ما استهزءوابه هو الحق والصِدق، وسوف يُبَيِّن اللهُ للمكذبين كَذبهم وافتراءهم، ويجازيهم عليه.

    فلما استهزأ مُشركوا قريش بالوعيد: أنزل الله بهم العذاب الذي استهزأوا به، وأوَّل عذاب نزل بهم: هزيمتهم يوم بدر، ثم القحط سبع سنين، ومَن مات منهم على الشِرك: فسوف يُعَذَّب في نار جهنم خالداً فيها أبداً، ويُقال لهم: ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تستهزئون.

    الآية 6: ﴿ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ ﴾: يعني ألم يعلم هؤلاء الكفار أننا قد أهلكنا كثيراً من أهل القرون من الأمم السابقة المُكذبة، (والقرن: مائة سنة)، أفلا يتأملون ما حَلَّ بهم مِنهلاكٍ وتدمير، رغم أننا قد ﴿ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾: أي أعطيناهم من القوة المادية ﴿ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ أيها الكافرون، ﴿ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا ﴾: يعني وأنعمناعليهم بإنزال المطر متواصلاً غزيراً، ﴿ وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ ﴾: أي من تحت مساكنهم، فيَنبُتْ لهم بذلك ما شاء الله من الزروع والثمار، فلم يشكروا نعم اللهَ عليهم، بل أقبلوا على الشهوات وألهَتْهُم المَلَذَّات، فكفروا بنعم الله وكَذَّبوا الرسل، ﴿ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ﴾: أي فأهلكناهم بسبب ذنونهم، لا ظُلماً مِنَّا، ولكنْ بظُلمهم هم لأنفسهم، ﴿ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ ﴾: يعني وأنشأنا من بعدهمأممًا أخرى خَلفُوهم في عمارة الأرض، وكان ذلك علينا يسيراً، فاعتبروا أيها الكفار مما حدث لهم.

    الآية 7: ﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا من السماء ﴿ فِي قِرْطَاسٍ ﴾: أي في أوراق ﴿ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ليتأكدوا منه، فإذا لمسوه بأصابعهم وتَيَقنوا أنه حق: ﴿ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ظلما وتكَبُّراً وجُحوداً: ﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾.


    الآية 8: ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ من السماء; ليساعده ويُصَدّقه - أمام الناس - فيما جاء به من النُبُوّة، فرَدَّ اللهُ عليهم بقوله: ﴿ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا من السماء إجابةً لِطلبهم: ﴿ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بإهلاكهم، إذ ليس مِن شأن الله تعالى أن ينزل الملائكة، ولو أنزل ملكاً لأهْلَكَهم في الحال، لأنّ الأمر أصبح يَقينِيَّاً، وليس قضية إيمان بالغيب، وهذا ما لا يريده الله لهم، ﴿ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ ﴾: يعني ثم لا يُمهَلون - ولو ساعة - ليتوبوا أو يعتذروا.

    الآية 9، والآية 10: ﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا ﴾: يعني ولو جعلنا الرسول المُرسَل إليهم مَلَكًا - إذ لم يقتنعوا بمحمد صلى الله عليهوسلم: ﴿ لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا ﴾: أي لَجَعلنا ذلك الملك في صورة بشر، حتى يستطيعوا السماع منه ومخاطبته; إذليس بإمكانهم رؤية المَلَك على صورته الملائكية، وحينها سيَطلبون أن يكون الرسولُ بشراً، ﴿ وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ﴾: يعني ولو جاءهم المَلَك بصورة رجل:لاشتبَه الأمر عليهم، كما اشتبه عليهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم، إذ هم مُعاندون للحق، مُتَّبِعون لأهوائهم.


    ولمَّا كان طلبهم إنزال الملك على سبيل الاستهزاء بمحمد صلى الله عليه وسلم:بيَّن الله له أن الاستهزاء بالرسل عليهم السلام ليس أمرا جديداً، بل قدوقع من الكفار السابقين مع أنبيائهم، فقال - مُصَبِّراً له على تكذيبهم، ومُهَدِّداً لهم -: ﴿ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ ﴿ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾: أي فأحاط بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون بهويُنكرون وقوعه، فاحذروا - أيها المكذبون - أن تستمروا على تكذيبكم، فيُصيبكم ما أصابهم.


    - الآية 11: ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا بعيونكم، واعتبروا بقلوبكم ﴿ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ إنه الهلاك والخِزي، وانتقام وإبادة الملك الجبار لهم، فاحذروا أن يَحِلَّ بكم مِثل الذي حَلَّ بهم.


    الآية 12: ﴿ قُلْ أيها الرسول لهؤلاء المشركين: ﴿ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؟ ﴿ قُلْ لِلَّهِ كما تُقِرُّون بذلك، فاعبدوه وحده، واعترفوا له بالإخلاص والتوحيد، كما تعترفون بانفراده بالمُلك والخلق والتدبير، واعلموا أنه سبحانه وتعالى قد ﴿ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾: أي أوْجَبَ على نفسه رَحمةَ خَلقه، فلايُعاجلهم بالعقوبة إذا أذنبوا، وقد كتب سبحانه على نفسه أنَّ رحمته تغلب غضبه، وأنه قد فتح لعباده أبواب الرحمة (إن لم يُغلِقوا أبوابها عليهم بذنوبهم).

    واعلم أنّ هذه الرحمة ظاهرة جَلِيَّة في الناس: إذ إنهم يَكفرون به ويَعصونه وهو يُطعمهم ويَسقيهم ويحفظهم، وما حَمدوه قط، وكذلك مِن مَظاهر رحمته تعالى: أن يجمع الناسَ يومَ القيامة ليحاسبهم ويُجازيهم بعملهم: فالحسنة بعشر أمثالها، أما السيئة فبِسَيئةٍ مثلها فقط، ولهذا قال - بعد أن ذَكَرَ رحمته -: ﴿ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الذي ﴿ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾: أي الكائِن الواقع يقيناً بلا شك، وهذا قسَمٌ منه سبحانه، وهو أصدق القائلين، وقد أقام على ذلك من الحجج والبراهين، ما يجعله حق اليقين، ولكنْ أبَى الظالمون إلا جحوداً، وأنكروا قدرة الله على بعث الخلائق، فانغمسوا في معاصيه، وتجرءوا على الكفر به، فخسروا بذلك دنياهم وأُخراهم، ولهذا قال: ﴿ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾: يعني: الذين أشركوا بالله تعالى قد أهلكوا أنفسهم، فهم لا يوحدون الله، ولا يُصدقونبوعده ووعيده، ولا يُقرون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فبذلك استحقوا الخسران المبين.






    تفسير الربع الثاني من سورة الأنعام بأسلوب بسيط






    الآية 13، والآية 14: ﴿ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾: أي وَللهِ تعالى مُلكُ كل شيءٍ في السموات والأرض (سَكَنَ أو تحرَّك، خَفِيَ أو ظهر)، فالجميع عبيدهوخلقه، وتحت قهره وتصَرُّفه وتدبيره، ومِن هنا وَجَبَ اللجوء إليه، والتوكل عليه، والانقياد لأمره ونهيه، ﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ لأقوال عباده ﴿ الْعَلِيمُ بأفعالهم الظاهرة والباطنة.


    واعلم أنَّ في قوله تعالى: ﴿ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾، محذوفاً (بلاغياً) تقديره: (وَلَهُ مَا سَكَنَ وتحرك فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)، لأن كل متحرك يَؤول أمْرُهُ إلى سكون، وذلك كَقوْلِهِ في آيةٍ أخرى: ﴿ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ﴾ أي ملابس تحميكم من الحر والبرد، فاكتفى بذِكر أحدهما لِيَدُلّ على الآخَر.


    ومن الممكن أن يكون المراد أنّ له سبحانه كل ما حَلَّ في الليل والنهار (متحركًا كان أو ساكنًا)، كما يُقال: (فلان سَكَنَ ببلدٍ) أي حَلَّ فيه.


    ثم أمَرَ تعالى رسوله أن يَرُدّ على المشركين الذين يريدونه أن يوافقهم على شِركِهم، وأن يَعبد معهم آلهتهم، فقال له: ﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا ﴾: يعني أغيرَ الله تعالى أتخذ وليًّا ونصيرًا، أعبده كما اتخذتم أنتم أيها المشركون أولياء عَجَزَة تعبدونهم، إنَّ هذا لن يكونَ أبداً، لأنه سبحانه هو وحده ﴿ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾: أي خالق السموات والأرض وما فيهنّ، ﴿ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ ﴾: يعني وهو الذي يُطعِمُ خَلقه لافتقارهم إليه، ولا يُطعِمُهُ أحد لِغِناه المُطلَق عن ذلك، إذ هو سبحانه ليس بمحتاجٍ إلى رزق، ﴿ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ﴾: أي أول مَن خضع لله وانقاد لهبالعبودية مِن هذه الأمة، وقيل لي: ﴿ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الذين يعبدون مع الله غيره من مخلوقاته.


    الآية 17: ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ ﴾: يعني وإن يُصِبْكَ اللهُ بشيءٍ يَضرك كالفقر والمرض والحزن: ﴿ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ ﴾: يعني وإن يُصِبْكَ بخيرٍ كالغِنَى والصحة والفرح: فلا رادَّ لِفضله، ولا مانعَ لِقضائه ﴿ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.


    وقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (يا غلام، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيءٍ: لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء: لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك) (والحديث في صحيح الجامع برقم: 7957).


    الآية 19: ﴿ قُلْ أيها الرسول لهؤلاء المشركين: ﴿ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً ﴾: يعني: أيُّ شيء أعظم شهادة في إثبات صِدقي فيماأخبرتكم به أني رسول الله؟ ﴿ قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ﴾: أي هو سبحانه العالِمُ بماجئتكم به، وهو العالِمُ بما أنتم قائلونه لي، فشهادته تعالى لي بالنبوة هي ما أعطاه لي من المعجزات الباهرة (كانشقاق القمر وغير ذلك)، وكذلك وَحْيُهُ إليّ بهذا القرآن الذي أنذركم به، والذي لا يستطيع أن يقوله بشر، وأنتم تعلمون ذلك لأنكم أبلغ البشر، ولهذا قال بعدها: ﴿ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ ﴾: أي مِن أجل أن أنذركم به عذابَ الله أن يَحلَّ بكم، ﴿ وَمَنْ بَلَغَ ﴾: يعني ولأنذر به كل مَن وصل إليه هذا القرآن، قال القرطبي رحمه الله: (مَن بَلغه القرآن، فكأنما قد رأي محمداً صلى الله عليه وسلم وسمع منه)، وفي هذا دليلٌ على أنّ الأصل أن يُعذَرَ الإنسانُ بجهله حتى يبلغه العلم.


    ولما بيّن تعالى شهادته بصِدق نبيه (وهي أكبر الشهادات على التوحيد)، أمَرَهُ أن يُنكِرَ عليهم الشرك بقوله: ﴿ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى ﴾: يعني إنكم لَتُقِرُّون أنَّ مع اللهِ معبوداتٍ أخرى تشركونها به في العبادة، ﴿ قُلْ: أما أنا فـ ﴿ لَا أَشْهَدُ علىما أقررتم به، ولا أعترف بهذه الأصنام والأحجار التي تعبدونها جهلاً وعناداً، ثم أمره تعالى بعد ذلك أن يقرر ألوهية الله وحده، وأن يتبرأ من آلهتهم المزعومة، فقال له: ﴿ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا شريك له، وهو الله الواحد الأحد الصمد (أيالسيد الذي يُلجأ إليه عند الشدائد والحوائج)، ﴿ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾.


    الآية 20: ﴿ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ ﴾: أي الذين آتيناهم التوراة والإنجيل، يعرفون محمدًا صلى الله عليه وسلم بصفاتهالمكتوبة عندهم ﴿ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ، فكما أنَّ أبناءهم لا يَشتَبِهون عليهم بغيرهم،فكذلك محمد صلى الله عليه وسلم لا يَشتَبِه عليهم بغيره، لِدقة وَصْفِهِ في كُتبهم، ولكنهماتبعوا أهواءهم، فخسروا أنفسهم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، ولهذا قال: ﴿ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾.


    الآية 21: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ ﴾: يعني لا أحد أشَدّ ظلمًا ﴿ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فزعم أنّ له شركاء فيالعبادة، أو ادَّعى أنّ له ولدًا أو زوجة، ﴿ أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ ﴾: يعني أو كَذَّبَ ببراهينه وأدلته التي أيَّدَبها رسله، ﴿ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾: يعني إن الظالمين الذين افتروا على الله الكذب لا يُفلحون في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يَنجون من عذاب الله يوم القيامة.


    الآية 22، والآية 23، والآية 24: ﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ﴿ ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾: يعني أين آلهتكم التي كنتم تزعمون أنهم شركاء مع الله تعالى ليشفعوا لكم؟، ﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ ﴾: يعني: ثم لم تكن إجابتهم حين فُتِنوا بالسؤال عن شركائهم ﴿ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾: يعني أنهم تبرؤوا منهم، وأقسموا بالله ربهم أنهم لم يكونوا مشركين معه غيره، وذلك لأنهم قد رأوا أن المشركين لا يُغفَرُ لهم ولا يَنجون من عذاب الله.


    ثم أمر الله رسوله أن يتعجب من هذا الموقف المُخزي لهم، فقال له: ﴿ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ حينتبرؤوا من الشرك؟ ﴿ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾: أي ذهب وغاب عنهم ما كانوا يظنونه من شفاعة آلهتهم لهم يوم القيامة.


    الآية 25: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ﴾: يعني ومِن هؤلاء المشركين مَن يستمع إلى القرآن الذي تتلوه، فلا يصل إلى قلوبهم،لأنهم - بسبب اتباعهم أهواءهم: ﴿ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا ﴾: أي جعلنا على قلوبهم أغطية، حتى لا يفقهوا القرآن،وجعلنا في آذانهم ثِقلاً وصَممًا فلا تسمع ولا تفهم شيئًا، ﴿ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا ﴾: يعني وإن يروا الآياتالكثيرة الدالة على صِدق محمد صلى الله عليه وسلم، لا يُصَدِّقوا بها، ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ أيها الرسول بعد معاينة الآيات الدالة على صِدقك: تراهم ﴿ يُجَادِلُونَكَ فـ﴿ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا - ظلماً وتكبراً -: ﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾: يعني ما هذا الذي نسمع إلا ما تناقله الأولون مِن حكاياتٍ لا حقيقة لها - وهذا مِن جهلهم وعنادهم - وإلاَّ، فكيف يكون هذا الكتاب الحاوي لأنباء السابقين واللاحقين، والحقائق التي جاءت بها الأنبياء والمرسلون، والحق والقسط والعدل التام من كل وجه، أساطيرَ الأولين؟!


    الآية 26: ﴿ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ﴾: يعني: وهؤلاء المشركون ينهون الناس عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم والاستماعإليه، (﴿ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ﴾: يعني ويبتعدون بأنفسهم عنه، ﴿ وَإِنْ يُهْلِكُونَ ﴾: أي وما يُهلكون - بصدهم عن سبيل الله - ﴿ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ أنهم يَسعون في هلاكها.


    الآية 27، والآية 28: (﴿ وَلَوْ تَرَى ﴾) أيها الرسول هؤلاء المشركين يوم القيامة لرأيتَ أمراً عظيماً ﴿ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ ﴾: يعني حين يُحْبَسون على النار، ويشاهدون ما فيها من السلاسل والحميم، فلما رأوابأعينهم تلك الأهوال والأمور العِظام: ﴿ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ إلىالحياة الدنيا، فنُصَدق بآيات الله ونعمل بها، ﴿ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿ بَلْ ﴾: أي وما هم بصادقين في ذلك القول، وإنما هي تمنيات حملهم عليها الخوف من نار جهنم وفضيحتهم أمام أتباعهم حين ﴿ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ﴾: يعني حين ظهر لهم يوم القيامة ما كانوا يَعلمونه مِن صِدقما جاءت به الرسل في الدنيا (رغم أنهم كانوا يُظهرون لأتباعهم خلاف ذلك)، ﴿ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ﴾: يعني ولو فُرِضَ أنهمأُعيدوا إلى الدنيا فأُمْهِلوا ليتوبوا من الشرك والمعاصي والعِناد: لَرَجَعوا إلى ما كانوا عليه، ﴿ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ في قولهم: (لو رُدِدْنا إلى الدنيا: لم نُكذب بآيات ربنا، وكنا من المؤمنين).


    وَمِن لطيف ما يُذكَرُ في قوله تعالى: ﴿ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ ﴾، أنني - شخصياً - قد رأيتُ في مَنامي بأنَّ القيامة قد قامت، وأنَّ الخلقَ واقفونَ في الظلام، ينتظرون العرضَ على اللهِ جَلَّ وَعَلا، فقلتُ - ما مَضمونه - : (هل سأُعْرَضُ الآنَ حقاً على اللِه تعالى، ليحاسبني على كل صغيرةٍ وكبيرة، على كل نعمةٍ وكل ذنب، لا، أنا لستُ مستعداً الآن للقاء اللهِ جَلَّ وَعَلا، يارب، أرْجِعْنِي إلى الدنيا مرة أخرى حتى أستقيمَ على طاعتِك، وأتوبَ من كل الذنوب، وأستعد للقائك)، وأخذتُ أتضرعُ إلى اللهِ تعالى حتى استيقظتُ من النوم، هنا فقط - بعد أن رَدَّ اللهُ عليَّ روحي - أدركتُ معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم - عندما كانَ يستيقظ مِن نومِه: (الحمد لله الذي عافاني في جسدي، وَرَدَّ عَليَّ رُوحي، وأذِنَ لي بذِكْره)، أدركتُ أنَّ كلَ يومٍ من عمري هو - ببساطة - فرصة عظيمة لاستدراك ما فات من الذنوب والعمل الصالح، وأنَّ المَوْتَى يَتمنونَ يوماً واحداً من أيامي، ولو يشترونه بالدنيا وما عليها، فأنتَ الآنَ في أمنيتهم، فاعملْ يا عبدَ اللهِ قبل أن تنامَ فلا تقوم.


    الآية 30: ﴿ وَلَوْ تَرَى حال مُنكِري البعث يوم القيامة لرأيتَ أسوأ حال، ﴿ إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ ﴾: أي حين يُحْبَسون بين يدي الله تعالى لقضائه فيهم، (﴿ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ ﴾): يعني: أليسهذا البعث - الذي كنتم تنكرونه في الدنيا - حقًّا؟ (﴿ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا إنه لَحَقّ، ﴿ قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾: أي فذوقوا العذاب الذي كنتم تكذبون بهفي الدنيا، بسبب جحودكم بعبادة الله تعالى وحده، وبسبب تكبركم عن الإيمان برسوله محمد صلى الله عليه وسلم.


    الآية 31: ﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ ﴾: أي خسروا أنفسهم في جهنم، حيث باعوا الإيمان بالكفر، والتوحيد بالشرك، والطاعة بالمعاصي، فقد خسروا كل شيء يمكن إحرازه من الثواب العظيم، واستمر تكذيبهم(﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً ﴾: أي حتى إذا قامت القيامة فجأة وهم على أقبح حال، وفوجئوابسوء المصير: أظهَروا غاية الندم، فـ﴿ قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا ﴾: يعني يا حسرتنا على ما ضيَّعناه في حياتنا الدنيا، وقد قالوا ذلك ﴿ وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ ﴾: أي أحمال ذنوبهم ﴿ عَلَى ظُهُورِهِمْ (إذ الوِزر هو الحِمل الثقيل)، ﴿ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ﴾: يعني فما أسوأ هذه الأحمال الثقيلة السيئة التييحملونها!!


    الآية 32: ﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا في غالب أحوالها ﴿ إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ﴾: يعني إلا غرور وباطل، ﴿ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ﴾: أي والعمل الصالح لِلدارالآخرة خيرٌ للذين يَخشون الله تعالى، فيتقون عذابه بطاعته واجتناب معاصيه، ﴿ أَفَلَا تَعْقِلُونَ أيها المُغترون بزينة الحياة الدنيا، فتقدِّموا ما يَبقى على ما يَفنى؟


    الآية 33: ﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ﴾: أي إنا لَنَعلم إنه ليُدْخِل الحزنَ إلى قلبك تكذيبُ قومك لك في الظاهر، فاصبرواطمئن ﴿ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ في قرارة أنفسهم، بل يعتقدون صِدقك، ﴿ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾: أي ولكنهم - لِظلمهم وعُدوانهم - يجحدون البراهين الواضحة على ِصدقك، فيكذبونك فيما جئتَ به.


    وقد ثبتَ أنّ الأخنَس بن شريق - قبل إسلامه - أتى أبا جهل، فقال له: (يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعتَ مِن محمد؟)، فقال أبو جهل: (تنازعنا نحن وبنو عبد مَناف الشرف) - وبنو عبد مَناف هم الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم مِن نَسْلِهِم - ، ثم قال أبو جهل موضحاً له التنافس الذي كان بينهم وبين بنو عبد مناف: (أطعَموا فأطعمنا، وحَمَلوا فحَمَلنا، وأعطَوا فأعطينا، حتى إذا تجاثَيْنا على الرُكَب - يعني حتى إذا اشتد السباق بيننا - وكُنَّا كَفَرَسَي رَهَان، قالوا: مِنّا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى نُدرِك نحن هذه؟!، والله لا نؤمن أبداً ولا نصدقه)، فقام الأخنس وتركه.


    الآية 34: ﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا ﴿ وَأُوذُوا فيسبيل الله، فصبروا على ذلك ومضوا في دعوتهم وجهادهم ﴿ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ﴿ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ﴾: والمقصود بكلمات الله: ما أنزل الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم مِن وَعْدِهِ إياهبالنصر على مَن عاداه، ﴿ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ﴾: يعني ولقد جاءك أيها الرسول مِن خبر مَن كان قبلك منالرسل، وما تحقق لهم من نصر الله، وما جرى على مُكَذبيهم من انتقام الله منهموغضبه عليهم، فليَكُن لك فيهم القدوة في الصبر، حتى يأتيك نصرنا على أعدائك، (وفي هذا تسلية وتصبير للرسول صلىالله عليه وسلم).


    الآية 35: ﴿ وَإِنْ كَانَ كَبُرَ أي: شَقَّ ﴿ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ عنالاستجابة لدعوتك - وذلك مِن شدة حرصك عليهم - فأردتَ أن تأتيهم بآيةٍ تُرغِمهم على الإيمان برسالتك، كما يطلبون منك ويُلِحُّون عليك، وهم كاذبون، لأنهم لا يريدون إلا العناد: ﴿ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ:يعني فإن استطعتَ أن تتخذ نفقًا في الأرض، أو مصعدًا تصعد فيه إلى السماء، فتأتيهم بعلامة وبرهان على صحة قولك غير الذي جئناهم به حتى ترضيهم فافعل، فإنه لا يفيدهم ذلك شيئا، وهذا ما لا تستطيعه لأنه فوق طاقتك فلا تُكَلَّف به، وليس في مقدورك أن تهدي مَن لم يُرد الله هدايته، وإذاً فما عليك إلا الصبر، وفي هذا قطْعٌ لطمعه صلى الله عليه وسلم في هداية هؤلاء المعاندين.


    ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى الذي أنت وأصحابك عليه، ولَوَفَّقهم للإيمان، ولكنه لم يشأ ذلك لِحكمةٍ يعلمها سبحانه، ﴿ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾: أي فلا تقف موقف الجاهلين الذين لا يعرفون حقائق الأمور، فاشتد بذلك حزنهم وحسرتهم، فلا تطلب ما لا يريده ربك، فإنك إذا فعلتَ ذلك كنتَ من الجاهلين، ولا نريد لك ذلك، ولا يليق هذا بمثلك، وهذا كلّه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وحَمْلٌ له على الصبر، وهو لكلّ داعٍ إلى الله تعالى يواجه التكذيب والعِناد إلى يوم الدين.



    الربع الثالث من سورة الأنعام


    الآية 36: ﴿ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ لِدَعْوَتِك أيها الرسول: ﴿ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الكلامسماعَ القَبول، أما الكفار فهم كالموتى، لأن الحياة الحقيقية إنما تكونُبالإسلام، ﴿ وَالْمَوْتَى جميعاً (مؤمِنُهم وكافرهم، مَن استجابَ لدعوة الحق ومَن لم يَستجب) هؤلاء جميعاً ﴿ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ من قبورهم أحياء، ﴿ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَيوم القيامةلِيُوَفيهم حسابهم وجزاءهم.


    الآية 37: ﴿ وَقَالُوا ﴾: أي وقال المشركون - استكبارًا وعِناداً -: ﴿ لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ﴾: يعني أفلا يُنَزِّلُ اللهُ علامة من العلامات الخارقة تدل على صِدق محمد؟، ﴿ قُلْ لهم - أيها الرسول -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَعليهم ﴿ آَيَةً ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أنَّ إنزالَ الآيات إنما يكون وَفْقَ حِكمتِهِ سبحانه وتعالى، إذ إنه لو أنزلها ولم يؤمنوا بها، فقد يترتب على ذلك هَلاكهم ودَمارهم، ولكنّه سبحانه أراد الإبقاء عليهم ليخرج من أصلابهم مَن يَعبده ويُوَحِّده.


    الآية 38: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ ﴾: يعني وليس هناك حيوان يَدِبُّ على الأرض، ﴿ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ في السماء: ﴿ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ﴾: أي مثل الأمَّة الإنسانية، تفتقر إلى الله تعالى في خلقها ورزقها وتدبير حياتها، والله وحده هو القائم عليها، فالكل خاضعٌ لتدبيره تعالى.


    واعلم أن هذه المِثلية بين الإنسان وبين دَواب الأرض وطائر السماء تستوجب ألا يَظلم الإنسانُ الحيوانَ والطير، فلا يؤذيهما، ولا يتجاوز حدود ما أمره الله فيهما.


    وقد ذكر الله الجناحين في الآية للتأكيد على أن المقصود: الطير الذي يطير في السماء، لأن العرب كانت تطلق لفظ الطيران على غير الطائر، فتقول للرجل: (طِر في حاجتي) أي: أسْرِع في قضائها.


    ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾: يعني ما تركنا في اللوح المحفوظ من شيئٍ إلا أثبتناه، ﴿ ثُمَّ إن هؤلاء الأمم ﴿ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ يوم القيامة، فيُحاسِب المُكَلَّفين من الجن والإنس بما عملوا.


    واعلم أنه قد قيل في حشر البهائم يوم القيامة: أنّ حشرها هو موتها، وقيل: إنَّ حشرها هو بعثها يوم القيامة حيّة - وإن كان القلم لا يجري عليها في الأحكام - ولكنها تؤاخَذ بما ظلمتْ به بعضها البعض، وهذا هو الصحيح لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال - كما في صحيح مسلم -: "لَتُؤَدَنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يُقاد - (يعني حتى يُقتَصّ) - للشاة الجَلحاء - (أي التي لا قرْنَ لها) - من الشاة القرناء"، ثم صَحَّ في حديثٍ آخر أنه بعد هذا القِصاص: تصيرُ الشاتين تراباً (انظر السلسلة الصحيحة ج 4/606)، وذلك حتى يَتحقق العدل التام يوم القيامة، فلِلَّهِ الحمد والمِنَّة.


    الآية 39: ﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا ﴾: أي بحُجَجِنا الواضحة هم ﴿ صُمٌّ فلا يسمعون ما ينفعهم، ﴿ وَبُكْمٌ فلا يتكلمونبالحق، ولذلك فهم حائرونَ ﴿ فِي الظُّلُمَاتِ ﴾: أي ظلمات الكفر والشرك والمعاصي، وما ينتج عن ذلك من القلق والحيرة، واضطراب النفس، والخوف، والهمّ.


    ثم أخبر تعالى عباده بأنه ﴿ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ إضلاله بِعَدْلِهِ وحِكمته: ﴿ يُضْلِلْهُ، ﴿ وَمَنْ يَشَأْ هدايته بإحسانه وفضله: ﴿ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾: أي يُوفقه إلى الاستمساك بدين الإسلام الواضح الذي لا اعوجاج فيه، والمؤدي إلى سعادة الدنيا والآخرة، (وعلى هذا فمَن أراد الهداية والتثبيت فليطلبهما مِنه سبحانه - بصِدقٍ وافتقار - وهو يقرأ قوله تعالى: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾، فإنه ما مِن قلبٍ إلا وهو بين يديه سبحانه، فإن شاء أقامَه وإن شاء أزاغَه).


    الآية 40، والآية 41: ﴿ قُلْ أيها الرسول لهؤلاء المشركين: ﴿ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ ﴾: يعني أخبروني إن جاءكم عذاب الله وبلاؤه في الدنيا، ﴿ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ التي تُبعَثون فيها والتي فيها عذاب يوم القيامة وشِدَّتُه: ﴿ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ حينها لِكَشْف ما نزل بكم منالبلاء والعذاب ﴿ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ في زَعْمكم أن آلهتكم التي تعبدونها من دون الله تنفع أوتضر؟!


    ثم يقول الله تعالى لهم: ﴿ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ ﴾: يعني بل - حينها - تدعون ربكم الذي خلقكم لا غيره، وتستغيثون به ﴿فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ﴾: أي فيُفرّج عنكم ذلك البلاءالعظيم النازل بكم ﴿إِنْ شَاءَ سبحانه ذلك، لأنه وحده القادر على كل شيء، وحينئذٍ: ﴿وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ﴾: أي وعندها تنسون شركائكم فلا تدعونهم، لِيَأسكم من إجابتهم لكم، وذلك لِضعفهم وحقارتهم.


    وقد كان مشركوا العرب يعبدون الأصنام في حال الرفاهية، وأما في حال الشدة فإنهم يدعون الله وحده لِيَصرف عنهم العذاب والبلاء، وهذا من غريب أحوال الإنسان المشرك، أنه في حال الشدة الحقيقية يدعو الله وحده ولا يدعو معه هذه الآلهة الباطلة التي كان يدعوها في حال الرخاء والعافية.


    الآية 42، والآية 43: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رسلنا ﴿ إِلَى أُمَمٍ ﴾: أي إلى جماعات من الناس ﴿ مِنْ قَبْلِكَ، فكانوا يأمرونهم بالإيمان والتوحيد والعبادة، فكذَّبوهم وعصوا أمرنا ﴿ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ ﴾: أي فابتليناهم في أموالهم بالفقر وضِيق المعيشة،﴿ وَالضَّرَّاءِ ﴾: أي وابتليناهم في أجسامهم بالأمراض والآلام ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ﴾: يعني وذلك رجاء أن يتذللوا لربهم في الدعاء، ويخضعوا لهوحده بالعبادة، ويرجعوا إلى التوحيد بعد الشرك، والطاعة بعد العصيان.


    ولَمَّا لم يَفعلوا ذلك، وَبَّخَهم اللهُ بقوله: ﴿ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا ﴾: يعني أفلا يَتذللون لنا حينما جاءهم بلاؤنا لنكشفه عنهم؟، ﴿ وَلَكِنْ حصل العكس، فقد ﴿ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ من الشرك والمعاصي.


    الآية 44، والآية 45: ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ ﴾: أي فلما تركوا العمل بأوامر الله تعالى وأعرضوا عنها: ﴿ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ، فأبدلناهم بالفقر:رخاءً في العيش، وبالضراء: صحة في الأجسام، وذلكاستدراجاً مِنَّا لهم، ﴿ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا ﴾: يعني حتى إذا تكبروا، واغترُّوا بما أعطيناهم من الخير والنعمة: ﴿ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ﴾: أي أخذناهم بالعذاب فجأة ﴿ فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾: أي فإذا هم يائسون من النجاة، متحسرون نادمون حيثُ لا ينفع الندم.


    ﴿ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾: يعني فاستُؤصِلَ هؤلاء القوم عن آخرهم، وأُُهْلِكوا حينما كفروا بالله وكذَّبوا رسله، فلم يَبْقَ منهمأحدٌ، ﴿ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ على نُصرة أوليائه، وإهلاكأعدائه، فاذكر هذا - أيها الرسول - لقومك لعلهم يرجعون إلى رُشدهم، ويعودون إلى الحق الذي تدعوهم إليه وهم مُعرضون.


    وفي هذا تحذير لكل مَن يَغتر بنعمة الله عليه وهو ما يزالُ مقيماً على معصيته، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: )إذا رأيتَ الله تعالى يعطي العبدَ من الدنيا ما يحب وهو مُقيمٌ على معاصيه: فإنما ذلك منه استدراج) (انظر صحيح الجامع حديث رقم: 561).


    الآية 46: ﴿ قُلْ أيها الرسول لهؤلاء المشركين: ﴿ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ ﴾: يعني أخبروني إن أذهَبَ الله سمعكم فأصمَّكم،وذهب بأبصاركم فأعماكم، ﴿ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ ﴾: أي وطبع على قلوبكم فأصبحتم لا تفهمون قولاً، فـ ﴿ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ ﴾: يعني فأيُّ إلهٍ غيرالله جل وعلا يقدر على رَدِّ ذلك لكم؟! والجواب: لا أحد، إذاً فكيف تتركون عبادة مَن يَملك سمعكم وأبصاركم وقلوبكم ويَملكُ كل شيء، وتعبدون ما لا يملك لكم شيئاً من ذلك؟! أيُّ ضلالٍ أبْعد مِن هذا؟! ثم قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ﴾: يعني انظر كيف ننوِّع لهمالحُجَج والأساليب لزيادة البيان، ولإظهار الحُجَّة، ﴿ ثُمَّ هُمْ بعد ذلك ﴿ يَصْدِفُونَ ﴾: أي يُعرضون عن التذكر والاعتبار.


    الآية 47: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ ﴾: يعني أخبروني ﴿ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً ﴾: أي فجأة، بدون علامةٍ تَسبقه، وأنتم في غفلةٍ من ذلك، ﴿ أَوْ أتاكم ﴿ جَهْرَةً ﴾: يعني بعد مجيء علامةٍ تسبقه، وكان ظاهرًا أمامكم تنظرون إليه: ﴿ هَلْ يُهْلَكُ حينئذٍ ﴿ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ الذين تجاوزوا الحد، فصرفوا عبادة الله تعالى لِمَن لا يستحقها؟ (وهذا استفهام يفيد التقرير وحَصْر الهلاك في أهل الظلم).


    الآية 50: ﴿ قُلْ أيها الرسول لهؤلاء المشركين الذين يعاندونك ويطلبون منك أشياءً لا تُطِيقها: ﴿ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ ﴾: يعني إني لا أدَّعي أني أملك خزائن السماواتوالأرض، فأتصرف فيها وأعطيكم منها ما تطلبون، ﴿ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ﴾: أي ولا أزعُمُ أني أعلم الغيب حتى أخبركم بموعد العذاب الذي ينتظركم، ﴿ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ﴿ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ﴾: يعني وإنماأنا رسول من عند الله، أتبع ما يُوحِيه إليَّ، وأبلِّغ وَحْيَهُ إلى الناس، ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ﴾: يعني هل يستوي الكافر الذي عَمِيَ عن آيات الله تعالى فلميؤمن بها مع المؤمن الذي أبْصَرَ آيات الله فآمَنَ بها؟! ﴿ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ في آيات اللهلِتُبصروا الحق فتؤمنوا به؟


    وفي هذا دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب - إلا ما أعْلَمَهُ الله تعالى منه -، وأنه لا يملك التصرف في شيءٍ من هذا الكون.


    الآية 51: ﴿ وَأَنْذِرْ بِهِ ﴾: أي وخوِّف بالقرآن المؤمنين ﴿ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ ﴾: أي الذين يعلمون أنهم سيُحشَرون إلى ربهم يوم القيامة، فهممصدِّقون بوعد الله تعالى ووعيده، ويخافون عذاب ربهم، ويعلمون أنه ﴿ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ ﴾ ينصرهم، (وَلَا شَفِيعٌ) يشفع لهمعنده تعالى، فيُنقِذَهم من عذابه إلا بإذنه، فهؤلاء ينفعهم إنذارك بالقرآن، لأنهم مُتيَقنون بالانتقال من هذه الدار إلى دار القرار، فلذلك يَستصحبون معهم ما ينفعهم، ويتركون ما يَضرهم، وهذا كقوله تعالى: ﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾، فإنْ أنذرتَ هؤلاء الخائفون من عاقبة ذنوبهم، فإنه يُرجَى لهم أن يتقوا الله بفعل أوامره واجتنابنواهيه، وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾.


    الآية 52: ﴿ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ﴾: أي ولا تُبْعِد أيها النبي عن مُجالَسَتِك فقراء المسلمين الذين يعبدون ربهم أولالنهار وآخره، و ﴿ يُرِيدُونَبذلك ﴿ وَجْهَهُ ﴾: أي يريدون بأعمالهم الصالحة رضا الله تعالى وَجَنَّتِه، والنظر إلى وجهه الكريم.


    ومُبالَغةً في النهي عن ذلك، فقد قال تعالى له: ﴿ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ﴾: يعني ما أنت بمسؤول عن خطايا هؤلاء الفقراء - إن كانت لهم خطايا -، إنما حسابهم على الله تعالى، ﴿ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ ﴾: يعني ولا هم بمسئولين عنك فلِماذا تطردهم إذاً؟


    ﴿ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾: يعني فإن طرَدتَهم وأبعدتَهم عن مجالستك:فإنك تكونُ من المتجاوزين لحدود الله تعالى، الذين يضعون الشيء في غير موضعه، فلم يُبعِدهم النبي صلى الله عليه وسلم - امتثالاً لأمر ربه.


    واعلم أن سبب نزول هذه الآية أن بعض المشركين في مكة اقترحوا على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُبعد من مجلسه فقراء المؤمنين - مثل بلال وعَمّار وصُهَيْب - حتى يجلسوا إليه ويسمعوا عنه، فقالوا له: (اطرد هؤلاء عنك حتى لا يَجْترئوا علينا)، فهَمَّ الرسول صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك (رجاء هداية أولئك المشركين)، فنهاه الله تعالى عن ذلك بقوله: ﴿ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ...﴾.


    الآية 53: ﴿ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ﴾: أي وكذلك ابتلى اللهُ بعضَ عبادِهِ ببعض، وذلك باختلاف حظوظهم من الرزق والصحة وغير ذلك،فجعل بعضهم غنيًّا وبعضهم فقيرًا، وبعضهم قويًّا وبعضهم ضعيفًا، فبذلك جعل بعضهم يحتاجإلى بعض، وذلك اختبارًا منه تعالى لهم ﴿ لِيَقُولُوا ﴾: أي ليقول الكافرون الأغنياء: ﴿ أَهَؤُلَاءِ الضعفاء الفقراء ﴿ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بالهداية إلى الإسلام ﴿ مِنْ بَيْنِنَا ونحن الرؤساء وهم العبيد؟!، فرَدَّ الله عليهم بقوله: ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ الذين يشكرون نعمته، فيوفقهم إلى الهداية لدينه؟ والجوابُ: بلى، فالشاكرون هم المستحقون لإنعام الله عليهم بكل خير.


    الآية 55: ﴿ وَكَذَلِكَ ﴾: أي وبِمِثل هذا البيان الذي بيَّنَّاه لك: ﴿ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ ﴾: يعني نُبَيِّن الحجج الواضحة علىكل حقٍ يُنكِرُه أهل الباطل، ونُبَيِّن طريق الهدى من طريق الضلال، وذلك ليظهر الحق الذي ينبغي سلوكه، ﴿ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ﴾: أي ولِتتبَيَّنَ أيها الرسول - أنت وأمتك - طريق أهل الباطل الموصلة إلى سخط الله وعذابه، فإنَّ سبيل المجرمين إذا ظهرتْ واتضحتْ: أمْكَنَ اجتنابها، والبُعد عنها.


    الآية 57: ﴿ قُلْ أيها الرسول لهؤلاء المشركين: ﴿ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ﴾: يعني على حُجَّةٍ واضحةٍ، وبصيرةٍ ويقينٍ من شريعة ربي التيأوحاها إليَّ، وذلك بوجوب توحيده وطاعته، وإفراده وحده بالعبادة، ﴿ وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ﴾: يعني وقد كذَّبتم بذلك كله، وكذبتم بالعذاب الذي أنذرتُكم به، و ﴿ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ﴾: يعني وليس في قدرتيإنزال العذاب الذي تستعجلونني به، ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ﴾: أي وما الحكم في تأخر ذلك إلا إلى الله تعالى، فكما أنه هو الذي حَكَمَ بالحُكم الشرعي فأمر ونهى، فإنه هو الذي يَحكُم بالحكم الجزائي فيُثِيب ويعاقب، وذلك بحسب ما تقتضيه حِكمته، وقد أوضح لكم طريق الحق والباطل، إذ هو سبحانه﴿ يَقُصُّ الْحَقَّ ﴾: أي يُخبِرُ بالحق إخباراً تنقطع به معاذير الخلق وحُجَجهم، وقد قصَّ عليكم أخبار السابقين المطالبين رسلهم بالعذاب، ورأيتم كيف حَلَّ بهم عذابه، ﴿ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ﴾: أي وهو خير مَن يَفصل بين الحق والباطل بقضائه وحكمه وآياته.


    الآية 58: ﴿ قُلْ للمستعجلين بالعذاب جهلاً وعِناداً وظلماً: ﴿ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ﴾: يعني لو أنني أملك إنزال العذاب الذي تستعجلونه لأنزلتُهُ بكم، و﴿ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ بتدمير الظالم مِنَّا، ولا خيرَ لكم في ذلك، ولكنَّ الأمر عند الحليم الصبور، الذي يَعصيه العاصون، وهو يعافيهم، ويرزقهم، ﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ الذينتجاوزوا حَدَّهم فأشركوا معه غيره، ولا يَهلَكُ غيرهم، لأنهم هم المستوجبون للعذاب بظلمهم، فلذلك يُمهلهم، ثم يأخذهم أخْذَ عزيزٍ مقتدر.




    تفسير الربع الرابع من سورة الأنعام بأسلوب بسيط







    الآية 59: ﴿ وَعِنْدَهُ جَلّ وعلا ﴿ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ﴾: أي خزائن الغيب ﴿ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ومنها:عِلم الساعة، ونزول الغيث، وما في الأرحام، والكَسْب في المستقبل، ومكان موتالإنسان، ﴿ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴿ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا ﴿ وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ ﴿ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾: أي كل ذلك مُثبَت في كتابٍ واضح، وهواللوح المحفوظ.


    الآية 60: ﴿ وَهُوَ سبحانه ﴿ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ﴾: أي يَقبض أرواحكم بالليل (بما يُشبِهُ قبضَها عند الموت)، ﴿ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ﴾: يعني ويعلم ماكَسَبْتم بجوارحكم في النهار مِن خيرٍ وشر، ﴿ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ﴾: يعني ثم يُعيد أرواحكم إلى أجسامكم في النهار (وذلك باليقظة من النوم، بما يُشبه الإحياءَ بعد الموت)، فيوقظكم سبحانه فيه ﴿ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ﴾: يعني لتواصلوا العمل إلى نهاية آجالكم المُحَدَّدة في الدنيا، ﴿ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ يوم القيامة، ﴿ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، ثم يُجازيكم على تلك الأعمال.


    الآية 61، والآية 62: ﴿ وَهُوَ سبحانه ﴿ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ بذاته وصفاته، وكل شيء خاضعٌ لِجلاله وعظمته، فهو سبحانه ذو القهر التام والسلطان الكامل على الخلق أجمعين، ﴿ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ﴾: أي ويرسل على عباده ملائكة، يحفظون أعمالهمويُحْصونها، وهم الكِرام الكاتبون، ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ﴾: أي حتى إذا نزلَ الموتُ بأحدهم: قبضَ روحَه مَلكُ الموت وأعوانه ﴿ وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ﴾: أي وهم لا يُقصرون فيما أمرهم الله به مِن قبْض الأرواح والحِفاظ عليها، وكذلك لا يتأخرون عن الموعد المحدد لهم في قبضها.

    ثم يُخبِرُ تعالى عباده بالأمر العظيم، وهو الوقوف بين يدي الرب المَوْلَى الحق الذي يجب أن يُعبَدَ دونَ سواه، وقد كَفَرَ أكثر الناس بنعمه وعصوه، وفسقوا عن أمره وتركوا طاعته، وأدهَى مِن ذلك: عبدوا غيره من مخلوقاته، فكيف يكونُ حسابُهم والحُكم عليهم؟ فيقول تعالى: ﴿ ثُمَّ رُدُّوا ﴾: يعني ثم أعيد هؤلاء المُتَوَفون ﴿ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ - والمَوْلى هو السيد المالك - ﴿ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ ﴾: يعني ألا له القضاء والفصليوم القيامة بين عباده، ﴿ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ وذلك لكمال عِلمه سبحانه وحِفظه لأعمالهم، فحِسابُهُ يكونُ في أسرع مِن لَمْح البصر، كما أنه يُقسِّم الأرزاق في الدنيا فيمِثل ذلك، فهو - جل وعلا - لايُشغِلُهُ حسابٌ عن حساب، ولا شيءٌ عن شيء.


    الآية 63، والآية 64، والآية 65: ﴿ قُلْ أيها الرسول لهؤلاء المشركين: ﴿ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ مَخاوف ﴿ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ؟أليس هو الله تعالى الذي ﴿ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ﴾: أي تدعونه في الشدائد متذللين له جَهرًا وسرًّا، وتقولون: ﴿ لَئِنْ أَنْجَانَا ربنا ﴿ مِنْ هَذِهِ المخاوف ﴿ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ المعترفين بفضله، الحامدين له على فِعله، وذلك بعبادته وحده لاشريك له، ﴿ قُلِ لهم أيها الرسول: ﴿ اللَّهُ وحده هو الذي ﴿ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ بعد ذلك ﴿ تُشْرِكُونَ معه في العبادة غيره، فتعبدون أصنامكم وتقربون إليها الذبائح.


    ﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ وحده ﴿ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ ﴾: أي يُرسلَ ﴿ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ كالرَّجْم والصواعق، ﴿ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ كالزلازلوالخسف، ﴿ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا ﴾: يعني أو يَخلِطَ أمْرَكم عليكم ويَفتنكم، فتختلفوا أحزاباً، وتكونوا فِرَقًا متقاتلة، ﴿ وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ أي بالقتال، وذلك بأن يَقتل بعضُكم بعضاً، فتذيقَ كُلُّ طائفةٍ منكم ألمَ الحرب للأخرى.

    ﴿ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ﴾: يعني انظر كيف نُنوِّع حُجَجَنا الواضحة لهؤلاء المشركين ﴿ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ﴾: أي لعلهم يفهمونفيعتبروا.

    الآية 66، والآية 67: ﴿ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ ﴾: أي وكَذَّبَ الكفارُ مِن قومك بهذا القرآن المشتمل على الوعد والوعيد، ﴿ وَهُوَ الْحَقُّ ﴾: يعني وهو الكتاب الصادق في كلما جاء به، الثابت الذي لا يَضره التكذيب به، ولا يُمكن زواله.

    ولَمَّا كان صلى الله عليه وسلم خائفاً أن يَحصل له اللومَ من ربه بسبب تكذيب قومه له، قال تعالى -مُعلمًا له أنه ليس عليه لومٌ من تكذيبهم -: ﴿ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ﴾: أي لستُ عليكم بحفيظ ولا رَقيب، وإنما أنا رسولٌ من الله أبلغكم ماأرسِلتُ به إليكم، (واعلم أن الوكيل هو مَن يُوَكَّل إليه الأمر لِيُدَبِّرَه).


    ولَمَّا كان قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الْحَقُّ ﴾،يُثِيرُ سؤالَهم: فمتى يَنزلُ العذابُ إذاً؟، أجابهم تعالى بقوله: ﴿ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ ﴾: يعني لكل خبرٍ من الأخبار التي أخبر الله بها - والتي تتضمن عذابكم -: وقتُ استقرارٍ ووقوع وحصول لابد منه، وميعادٌ لا يتقدم عنه ولا يتأخر، فيَتبين عندهُ الصادق من الكاذب، والحق من الباطل، ﴿ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أيها الكفار عاقبة تكذيبكم عند حلول العذاب بكم في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معًا، قال مُقاتِل رحمه الله: (منه - أي مِن هذا العذاب - في الدنيا: يوم بدر، وفي الآخرة: جهنم).

    الآية 68، والآية 69: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ﴾ المشركين ﴿ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا ﴾: أي الذين يتكلمون في آيات القرآن بالطعنوالاستهزاء، ﴿ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ﴾: أي فابتعد عنهم، وقمْ مُحتجاً على صنيعهم الباطل حتى يتحدثوا في حديثٍ آخر، ﴿ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ ﴾: يعني وإن أنساك الشيطان هذاالأمر ﴿ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى ﴾: أي فلا تقعد بعد التذكُّر ﴿ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الذين تكلموا في آيات اللهبالباطل.

    ﴿ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ﴾: أي وليس على المؤمنين المتقين من حساب هؤلاء المستهزئين من شيء، ﴿ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾: أي ولكنْ عليهم أن يَعظوهم، وأن يقوموا عن ذلك المجلس، ليكون ذلك ذِكرى للمستهزئين حتى يَكُفوا عن ذلك الكلام الباطل، ورجاء أن يتقوا الله تعالى فيجتنبوا معاصيه.

    وفي الآية دليل على حُرمة الجلوس في مجالس يُسخَرُ فيها من الإسلام وشرائعه وأحكامه وأهله، وأنّ مُجالسة أهل الكبائر لا تجوز - خاصةً في حال فِعلهم للكبيرة، وعلى وجوب القيام - احتجاجاً - من أيّ مجلس يُعصَى فيه الله ورسوله.

    الآية 70: ﴿ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا ﴾: أي واترك أيها الرسول هؤلاء المشركين الذين جعلوا دين الإسلام لعبًا ولهوًامستهزئين بآيات الله تعالى، ﴿ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا بزينتها.

    ﴿ وَذَكِّرْ بِهِ ﴾: أي وذكّر الناسَ بالقرآن،قبلَ ﴿ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ ﴾: يعني قبل أن تُحبَس نفس في النار بسبب ذنوبها وشِركها، و ﴿ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ ﴾: يعني وليس لها ناصرٌ غيرالله ينصرها ويُخلصها مما هي فيه، ولا شافع يَشفع لها عنده تعالى إلا بإذنه، ﴿ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا ﴾: يعني وإن تَفْتَدِبكل فداءٍ لا يُقْبَل منها، ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا ﴾: أي أولئك الذين حُبِسُوا في النار بسبب ذنوبهم ﴿ لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ - والحميم هو الماء الشديد الحرارة الذي لا يُطاق -، ﴿ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ﴾.


    الآية 71، والآية 72: ﴿ قُلْ أيها الرسول لهؤلاء المشركين: ﴿ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا ﴾: يعني أنعبد من دون الله تعالى أوثانًا لا تنفعولا تضر؟ ﴿ وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ ﴾: أي ونرجع إلى الكفر بعد هداية الله لنا إلى الإسلام، فيكون مَثَلُنا - فيرجوعنا من التوحيد إلى الشرك - ﴿ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ ﴾: أي كالذي فسد عقله بسبب إضلال الشياطين له، وتزيينها له باتباع هواه، فَضَلَّ ﴿ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ ﴾: أي تائهاً لا يدري أين يذهب، ولا مَن يَتَّبِع، و﴿ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا ﴾: يعني ولهأصحاب عقلاء مؤمنون يدعونه إلى الطريق الصحيح الذي هم عليه فيمتنع عن إجابة دعوتهم؟!

    ولَمَّا كانت الهداية لا تقع إلا لِمَن شاء الله له الهداية، قال بعدها: ﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ الذي بعثني به ﴿ هُوَ الْهُدَى الحق، (﴿ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ ﴾): أي وقد أُمِرْنا بأن نُسلِمَ ﴿ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وذلك بعبادته وحده لا شريك له، فهورَبُّ كل شيء ومالِكُه، ﴿ وَأَنْ أَقِيمُوا ﴾: أي وأُمِرنا بأن أقيموا ﴿ الصَّلَاةَ بأركانها وشروطها وواجباتها وسُننها خالصةً لوجهه تعالى ﴿ وَاتَّقُوهُ في ذلك، فلا تؤدوا الصلاة على وجه اللعب ومجرد الحركات، بل على وجه التقوى والمراقبة، لأن الصلاة إذا أقيمت بخشوع، فإنها تنهى العبد عن فِعل الفحشاء والمنكر، فيؤدي ذلك إلى تقوى الله تعالى، فاتقوه - أيها الناس - بتوحيده في عبادته، وفِعل أوامره، واجتناب نواهيه، فهو سبحانه الذي ابتدأ خلقكم من طين، ﴿ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾.


    واعلم أن هذه الجملة: ﴿ وأمِرْنا لِنُسْلِم لرب العالمين ﴾)تقابل قولهتعالى في نفس السورة: ﴿ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾.

    واعلم أيضاً أن العطف الموجود في قوله تعالى: ( ﴿ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ ﴾ هو ما يُسَمَّى بـ (العطف على مَعنَى اللفظ)، يعني كأنه تعالى قال: (وَأُمِرْنَا بأن نُسلم لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَبأَنْ نقيم الصَّلَاةَ وبأن نتقيه سبحانه)، (والعطف على معنى اللفظ) مشهور في لغة العرب، وهذا كقوله تعالى في سورة المنافقون: ﴿ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾)، والمعنى: (إنْ تُؤخّرني إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ: أصّدّقْ وأكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ).


    الآية 73: ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ فلم يَخلقهما سبحانه عبثاً وباطلاً، بل خلقهما لِيُذكَرَ فيهما ويُشكَر، وليُعلِمَ عباده أن الذي خلق السماوات والأرض قادرٌ على أن يُحيى الموتى، وأنّ ذلك أهْوَنُ عليه سبحانه من خلق السماوات والأرض.

    ﴿ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾: أي واذكر يومالقيامة حين يأمر الله تعالى الأرواح أن تُرَدّ في الأجساد بكلمة: "كن"، فيكونُ ذلك في لمح البصر أو هو أقرب، ﴿ قَوْلُهُ الْحَقُّ ﴾: أي قوله سبحانه هوالحق الكامل، ﴿ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ﴾: يعني يوم يَنفخ المَلَك في "القرن"، إذ إنّ الصور: هو بُوق يُشبِهُ القرن، يَنفخ فيه إسرافيل عليه السلام النفخةالثانية التي تكونُ بها عودة الأرواح إلى الأجسام.

    وهو سبحانه ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ﴾: أي الذي يعلم ماغاب عن حَواسِّكم - أيها الناس - ويعلم ما تشاهدونه، ﴿ وَهُوَ الْحَكِيمُ الذي يضع الأمور فيمواضعها، ﴿ الْخَبِيرُ بأمور خلقه، فبهذا كان هو المعبود الحق الذي لا يجوز أن يُعبَد سواه.



    فإذا قال قائل: (قوْل الله حقٌ في كل وقت، وقدرته كاملة في كل وقت، وهو مالِكُ كل شيء في الدنيا والآخرة، فلماذا خَصَّ يوم القيامة بصفات العِلم والقدرة والمُلك؟.
    والجواب - والله أعلم - أن هذا اليوم هو يومٌ لا يَملِكُ فيه أحدٌ نفعاً ولا ضراً لأحد، كما قال تعالى:﴿ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴾، فهو يومٌ تنقطع فيه الأملاك، فلا يَبقَى مَلِكٌ إلا اللهُ الواحد القهار،فخَصَّ سبحانه مُلكَهُ بهذا اليوم لأنه الذي سيَحكم فيه على الخلائق بجنةٍ أو بنار.

    وذَكَرَ أنه سبحانه (عالم الغيب والشهادة، وأنه الحكيم الخبير، وأنّ قوْله الحق) لإظهار عَدْلِهِ التام، وقدرته الكاملة على حساب الخلائق أجمعين في هذا اليوم، لأنه تعالى العليمُ بِسِرِّهم وجَهْرِهم، الخبيرُ بما في الصدور.

    وذَكَرَ كلمة (كُن فيكون) لإظهار قدرته تعالى على البعث بعد الموت، وأنّ ذلك يسيرٌ عليه سبحانه.

    [1] وهي سلسلة تفسير للآيات التي يَصعُبُ فهمُهافي القرآن الكريم (وليس كل الآيات)، وذلك بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرةمن (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبو بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذيليس تحته خط فهو شرحُ الكلمة الصعبة في الآية.
    • واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذاالأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.




    شبكة الالوكة
    رامى حنفى محمود









  • #2
    جزاكم الله خيراً
    ونفع بكم

    تعليق


    • #3
      عام هجري جديد مبارك عليكم
      و على الامة الاسلامية

      تعليق


      • #4
        تفسير الربع الخامس من سورة الأنعام بأسلوب بسيط


        الآية 74: (﴿ وَإِذْ ﴾): أي واذكر حينَ (﴿ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً ﴾): يعني أتصنع من الأصنام آلهة لتعبدها من دون الله تعالى؟ (﴿ إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾): أي في ضلالٍواضح عن طريق الحق.

        الآية 75: (﴿ وَكَذَلِكَ ﴾): يعني وكما هدينا إبراهيم عليه السلام إلى الحق في أمر العبادة: (﴿ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾): أي نُرِيهِ ما تحتوي عليهالسماوات والأرض من مُلك اللهِ العظيم، وقدرته الباهرة، (﴿ وَلِيَكُونَ ﴾) بذلك التفكر والاستدلال (﴿ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾): أي من الراسخين في إيمانهم بالله تعالى، وبأنه وحده المستحق للعبادة دونَ سواه، إذ إنه بقيام الأدلة: يَحصل اليقين، (واعلم أن اليقين هو أعلى مراتب الإيمان).

        الآية 76: (﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ ﴾): أي فلما أظلم الليل على إبراهيم عليه السلام: ناظَرَ قومه لِيُثبت لهم أندينهم باطل، (وكانوا قوماً يعبدون النجوم والكواكب، فيصنعون لها أصناماً بأسمائها، ويعبدونها - اعتقاداً منهم - أنها تقربهم إلى الله تعالى)، فلما (﴿ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ ﴾) - مُستدرجاً قومه لإلزامهم بالتوحيد -: (﴿ هَذَا رَبِّي ﴾)، فهيا ننظر، هل يستحق الربوبية أم لا؟ وهل هناك دليل على ذلك أم لا؟ فإنه لا ينبغي لعاقل أن يتخذ إلهه هواه، بغير حُجَّة ولا برهان، (﴿ فَلَمَّا أَفَلَ ﴾): أي فلَمَّا غاب الكوكب: (﴿ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ ﴾): أي لا أحبالآلهة التي تغيب.

        الآية 77: (﴿ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا ﴾): أي طالِعًا (﴿ قَالَ ﴾) لقومه - على سبيل استدراج الخَصم -: (﴿ هَذَا رَبِّي ﴾) (﴿ فَلَمَّا أَفَلَ ﴾): أي فلما غاب القمر: (﴿ قَالَ ﴾) - مفتقرا إلى هداية ربه -: (﴿ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي ﴾): يعني لئن لم يوفقني ربي إلى الصواب فيتوحيده، (﴿ لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ﴾) عن سواء السبيل بعبادة غيره.

        الآية 78، والآية 79: (﴿ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ ﴾) لقومه (﴿ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ ﴾) من الكوكب ومن القمر، (﴿ فَلَمَّا أَفَلَتْ ﴾): أي فلماغابت الشمس، (﴿ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾).

        وبذلك واجَهَ إبراهيم قومه بالحقيقة التي أراد أن يوصلها لهم، وهي إبطال عبادة غير الله تعالى، فقال: (﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾): يعني إني أخلصتُ قصدي وتوجهي لله الذي خلق السموات والأرض، وانقدتُ له بجميع جوارحي، ولستُ كما توجهون أنتم وجوهكم لأصنامٍ صنعتموها بأيديكم، وعبدتموها بأهوائكم، لا بأمر ربكم، (واعلم أنه قد خَصَّ الوجه لأنه أكرم وأشرفالجوارح، وعليه تظهر المَشاعر،وبه يَحصل التوجُّه إلىكل شيء)، فإذا خضع وجهه لله، خضعتْ له جميع جوارحه، فلا يُشرك بعبادته أحدًا، (﴿ حَنِيفًا ﴾): أي مائلا عن الشرك إلى التوحيد، (﴿ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾) مع الله غيره.

        الآية 80: (﴿ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ ﴾): أي وجادله قومه في توحيد الله تعالى، فـ (﴿ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ ﴾): يعني أتجادلونني في توحيدي لله بالعبادة،وقد وفقني إلى معرفة وحدانيته، فكيف أتركه وأنا على بينةٍ منه سبحانه وتعالى؟، وكيف يَصِح منكم الجدال في ترْك عبادة الله وحده، وعبادة ما سواه من الآلهة المزعومة، التي لم تخلق شيئاً، والتي لم تنفع مَن عَبَدها، ولم تضر مَن ترَكَ عبادتها؟

        فلمَّا تبرأ مِن آلهتهم: خوَّفوه بها وذكروا له أنها قد تصيبه بمكروه، فرَدَّ عليهم قائلاً: (﴿ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ ﴾): يعني وإن كنتم تخوّفونني بأصنامكم أن تُوقِعَ بي ضررًافإنني لا أخافها، ولن تضرني (﴿ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا ﴾) واعلم أنه قد قال هذه الجملة احتياطاً منه للتوحيد، إذ إنه من الجائز أن يتعثر أمامهم في حجر، أو تشُوكه شوكة، أو يمرض بسببٍ أو بآخر، فيقولون له: (هذه آلهتنا قد أصابتك لأنك تَسُبُّها)، فيكون رَدُّهُ عليهم بأن الله هو الذي شاء ذلك الضرر وقدَّرَه، ويحتمل أن يكون المعنى: (إلا أن يشاء ربي أن يصيبني بشيءٍ أخافه من جهة تلك المخلوقات بسبب ذنبٍ فعلتُه، مِثل أن يرجمني بكوكب، أو بشيءٍ من الشمس أو القمر، أو غير ذلك مما لا أعلمه، ويَعلمه ربي، فقد (﴿ وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾)، ثم وبَّخهم بقوله: (﴿ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ﴾) وتتفكرون بعقولكم، فتعلمون أنَّ ما أنتم عليه هو الباطل، وأنه تعالى هو وحده المستحق للعبودية؟!
        الآية 81، والآية 82: (﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ ﴾): يعني وكيف أخاف أصنامكم، وهي حجارة جامدة لا تنفع ولا تضر لِعجزها وحقارتها وضعفها؟!، (﴿ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ﴾): يعني وأنتم لا تخافون ربكم الحق، المحيي المميت، الفعَّال لما يريد، الذي خلقكم وخلق حجارتكم التيأشركتموها معه في العبادة، مِن غير حجة لكم على ذلك إلا اتباع الهوى؟

        (﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ ﴾) من عذاب اللهِ (﴿ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾)؟ (فريقالمشركين أم فريق الموحدين)؟، ثم حكم الله تعالى بينهم فقال: (﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾): أي الذين صدَّقوا بالله ورسله وعملوا بشرعه، (﴿ وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾): يعني ولم يخلطوا إيمانهم بشِرك، إذ المقصود بالظلم هنا هو الشرك، كما قال تعالى: (﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾)، طبعاً إلا مَن تاب من الشرك قبل موته، وقَبِلَ اللهُ توبته، فـ (﴿ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ ﴾) في الدنيا والآخرة، (﴿ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾) إلى طريق سعادتهم وكمالهم وهو الإسلام، وذلك لانقيادهم للحق حيث كان، وأنتم ضالون عن ذلك لاتباعكم لأهوائكم.

        الآية 83: (﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ﴾): يعني وتلك الحُجَّة التي غلب بها إبراهيمُ قومَه هي حُجَّتنا التي وفقناهإليها حتى انقطعت حُجَّتهم، وكما رفعنا منزلة إبراهيم عليه السلام في الدنيا والآخرة: (﴿ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ ﴾) من عبادنا، فإن العلم يَرفع اللهُ به صاحبه فوق العِباد درجات، خاصةً العالم العامل المُعَلِّم، فإنه يجعله الله إماماً للناس، وهذا تقريرٌ منه سبحانه بأنه فضَّل إبراهيم على غيره بالإيمان واليقين والعلم المبين، (﴿ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ ﴾) في تدبير خلقه واصطفائهم، (﴿ عَلِيمٌ ﴾) بمن يستحق ذلك الاصطفاء والاختيار.

        وقد قيلَ إن هذه الحُجَّة التي أعطاها الله لإبراهيم هي قولهم له: (أمَا تخافُ أن تُخْبِلَكَ آلهتنا - أي تصيبك بالجنون - لِسَبِّكَ إياها؟) فقال لهم: (أفلا تخافون أنتم منها إذ سَوَّيتم بين الصغير والكبير في العبادة، فيَغضب الكبير فيُخبِلَكم؟).

        الآية 84، والآية 85، والآية 86: (﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ ﴾) ابنًا (﴿ وَيَعْقُوبَ ﴾) حفيدًا، (﴿ كُلًّا هَدَيْنَا ﴾): أي ووفَّقنا كُلاً من إسحاق ويعقوب لسبيل الرشاد، (﴿ وَنُوحًا هَدَيْنَا ﴾): أي وكذلك وفَّقنا للحق نوحًا، وذلك (﴿ مِنْ قَبْلُ ﴾): أي من قبل إبراهيموإسحاق ويعقوب، (﴿ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ ﴾): أي وكذلك وفَّقنا للحق من ذرية نوح: (﴿ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ ﴾) عليهم السلام، (﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾): يعني وكما جَزينا هؤلاء الأنبياء لإحسانهم: نجزي كلمُحسنٍ في عبادته لله.

        (﴿ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ ﴾) هديناهم كذلك، و(﴿ كُلٌّ ﴾): يعني وكُلّ هؤلاء الأنبياء جعلناهم (﴿ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾)، (﴿ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا ﴾) هديناهم كذلك، (﴿ وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾): يعني وكُلّ هؤلاء الرسل فضَّلناهم على أهل زمانهم.

        الآية 87: (﴿ وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ ﴾): يعني وكذلك وفَّقنا للحق مَن شِئنا هدايته من آباء هؤلاء الرسل وأبنائهم وإخوانهم،(﴿ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ ﴾): أي واخترناهم لديننا وإبلاغ رسالتنا إلى مَن أرسلناهم إليهم، (﴿ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾): يعني وأرشدناهم إلى طريقٍصحيح، لا عِوَجَ فيه، وهو توحيد الله تعالى وتنزيهه عن الشرك.

        الآية 88: (﴿ ذَلِكَ ﴾) الهدى هو (﴿ هُدَى اللَّهِ ﴾) الذي (﴿ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾) (﴿ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾): يعني وإن هؤلاءالأنبياء - على كمالهم وعُلُوّ درجاتهم - لو أشركوا بربهم، فعبدوا معه غيره: لَبَطَلَ عَمَلُهم كله، لأن الله تعالىلا يقبل مع الشرك عملاً، وهذا على سبيل الفرْض، وإلاَّ فالرسل معصومون، ولكنْ ليكون هذا عظة وعبرة للناس.

        الآية 89: (﴿ أُولَئِكَ ﴾) الأنبياء الذين أنعمنا عليهم بالهداية والنبوة هم (﴿ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ﴾) كصحف إبراهيم، وتوراة موسى، وزبور داود، وإنجيل عيسى، (﴿ وَالْحُكْمَ ﴾): أي وآتيناهم فَهْمَ هذهالكتب، والإصابة وسداد الرأي، (﴿ وَالنُّبُوَّةَ ﴾): أي واخترناهم لإبلاغ وَحْيِنا، (﴿ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ ﴾): يعني فإن يجحد الكفارُ من قومك بآيات هذا القرآن وما تَحمله من شرائع وأحكام وهداية: (﴿ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا ﴾): أي ألزمنا بالإيمان بها وبمراعاتها (﴿ قَوْمًا ﴾) آخرين - أي: المهاجرين والأنصاروأتباعهم إلى يوم القيامة - وهؤلاء (﴿ لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ﴾) بل مؤمنون بها، عاملون بها.

        الآية 90: (﴿ أُولَئِكَ ﴾) الأنبياء المذكورون هم (﴿ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ﴾): أي وفقهم الله تعالى لدينه الحق، (﴿ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ﴾): يعني فاتبع هداهم أيها الرسول في نفي الشرك وإثبات التوحيد، واسلك سبيلهم في الصبر على أذى السفهاء والعفو عنهم.

        واعلم أن الهاء التي في كلمة: (اقتده) تسمى هاء السكت، وهذا مِثل قوله تعالى: (﴿ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَة * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ﴾ )، ويكون تقدير هذه الهاء: (فبهداهم اقتدِ الاقتداء الكامل التام)، والله أعلم.

        (﴿ قُلْ ﴾) أيها الرسول لهؤلاء المشركين المكذبين بنبوتك وكتابك: (﴿ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴾): أي لا أطلب منكم مالاً مقابل تبليغ القرآن لكم، حتى لا يكون ذلك من أسباب امتناعكم، وإنما أمِرْتُ أن أقرأه عليكم لهدايتكم، و (﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴾): أي وما القرآن إلا موعظة للعالمين، يتعظون بها إن هم أنصتوا له وتدبروه، وتخلَّوا عن أهوائهم، وأرادوا الهداية إلى الحق، وطلبوها من الله بصدق.

        الآية 91: (﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾): أي وما عَظَّم هؤلاء المشركون اللهَ حق تعظيمه، وكذلك لم يعظمه اليهود (﴿ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ﴾) لأن هذا افتراءٌ عظيمٌ عليه سبحانه بأنه يترك عباده لا يأمرهم بما فيه صلاحهم، ولا ينهاهم عما فيه خسرانهم، فمَن قال ذلك، لم يَعرف ربه حقَّ معرفته، ولم يعرف جلاله وعظمته، ولا رحمته وحِكمته، وبهذا ما قدروا الله حق قدره.

        (﴿ قُلْ ﴾) لهم أيها الرسول: إذا كان الله لم يُنزل شيئاً على عباده، فـ (﴿ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ﴾)؟ (﴿ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ ﴾): أي تجعلون هذا الكتابفي أوراق متفرقة، (﴿ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ﴾): يعني تظهرون بعضها، وتكتمون كثيرًا منها، وذلك بحسب أهوائكم وأطماعكم، (ومِن ذلك كِتمانكم لصفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبُوّته الموجودة في التوراة)، (﴿ وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آَبَاؤُكُمْ ﴾): يعني وعَلَّمَكم اللهُ يا معشر العرب بالقرآنِ -الذي أنزله عليكم، والذي فيه خبر مَن قبلكم ومَن بعدكم، وما يكونُ بعد موتكم - ما لمتعلموه أنتم ولا آباؤكم، وكذلك عَلَّمَكمأيها اليهود بالتوراة مَا لَمْ تكونوا تعلمون أنتموآباؤكم الأقدمون، (﴿ قُلِ ﴾) لهم (﴿ اللَّهُ ﴾) هو الذي أنزل التوراة على موسى، (﴿ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾): أي ثم اتركهم في حديثهمالباطل يلعبون.

        واعلم أنه قد ثبت عن سعيد بن جُبير رحمه الله أن هذه الآية نزلت في أحد أحبار اليهود ويُدعَى (مالك بن الصَّيف)، حينما جاء يجادل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: (أَنْشُدُك بالذي أنزل التوراة على موسى، أما تجد في التوراة أن الله يُبغض الحَبْر السّمِين؟) - وكان هذا الحبرُ سميناً - فغضب من سؤال النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (واللهِ ما أنزلَ الله على بشرٍ مِن شيء)، فقال له أصحابه الذين معه: (وَيْحَك، ولا على موسى؟) فقال: (واللهِ ما أنزل الله على بَشَرٍ من شيء)؛ فنزلتْ هذه الآية، فلما عاد هذا الحبر إلى قومه قالوا له: (ويلك، ما هذا الذي بلغَنَا عنك؟)، فقال: (إنه أغضبني)، فعزله اليهود بسبب هذا الكلام عن رياستهم، وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف.

        الآية 92: (﴿ وَهَذَا ﴾) القرآن هو (﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ﴾): أي عظيم النفع، و (﴿ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾): أي وهو مُصدقٌ لِما تقدَّمه منالكتب السماوية، (﴿ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾): يعني وأنزلناه لِتُخوِّفَ به أهل "مكة" من عذاب الله، وكذلك تخوف به مَن حول مكةمن المدن والقرى القريبة والبعيدة، لِتنذرهم عاقبة الكفر والضلال، فإنها الخُسران التام والهلاك المبين، (﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾): يعني وأما الذين يصدقون بالحياة الآخرة، فهم يصدقون بأن القرآنكلام الله، لأنّ مَن صَدَّقَ بالآخرة، وعَلِمَ أن الله لم يَخلق شيئا عبثاً: خاف العاقبة، ولا يزال الخوف يَحمله على النظر والتدبرحتى يُؤمن بالقرآن، وذلك لوضوحه، وقوة حُجَّته، وتوافقه مع الفطرة السليمة، (﴿ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾): أي وهؤلاء المؤمنون يحافظون على إقامة الصلاة في أوقاتها المحددة في جماعة المسلمين، (واعلم أن الله تعالى قد خَصَّ الصلاةَ بالذِكر، لأنه إذا صَحَّتْ الصلاة: صَحَّ سائر العمل).

        الآية 93: (﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ ﴾): أي ومَن أشدُّ ظلمَّا (﴿ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾) فزعَمَ أنه لم يَبعثرسولاً من البشر، (﴿ أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ ﴾): يعني أو زعم كذبًا أن الله أوحى إليه، (﴿ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ ﴾)، وكذلك: (﴿ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ﴾): أيزعم أنه قادرٌ على أن يُنْزل مثل ما أنزل الله من القرآن، فمَن أشدُّ ظلمَّامن هؤلاء؟ (﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ ﴾): يعني ولو أنك أيها الرسول أبصرتَهؤلاء الظالمين وهم ( ﴿ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ: أي في شدائد الموت التي غمرتهم لرأيت أمرًا عظيمًا، (﴿ وَالْمَلَائِكَةُ ﴾) - الذين طلب الظالمون إنزال بعضهم على وجه الظهور لهم، وأخبرناهم أنهم لا ينزلون إلا لِفصل الأمور وإنجاز المقدور - يقبضون أرواحهم الآن، وهم (﴿ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ ﴾) بالضرب ونزع الروح، قائلين للمحتضرين (تعجيزاً لهم، وتشديداً في الإزهاق من غير تنفيسٍ أو إمهال): (﴿ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ﴾): أي خَلِّصوها من هذا العذاب إن أمْكَنَكُم، (﴿ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ﴾): يعني: اليوم تذوقون عذاب الذل والمَهانة، وذلك (﴿ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾): أي وبما كنتم تستكبِرونَ عن الانقياد لآيات الله تعالى.

        واعلم أن في قوله تعالى: (﴿ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ﴾) إثباتٌ لعذاب القبر، لأن هذا اليوم - المذكور في الآية - هو اليوم الذي تخرج فيه أرواحهم، فيُعذبون في قبورهم - عذاب الهُون - من هذا اليوم إلى قيام الساعة.

        الآية 94: (﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا ﴾) للحساب والجزاء (﴿ فُرَادَى ﴾): أي بمفردكم، فليس معَ أحدِكم مالٌ ولا رجال (﴿ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾): أي كما أوجدناكم في الدنيا أول مرة حُفاةعُراة، (﴿ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ﴾): يعني وتركتم ما أعطيناكم - من مال ومتاع - في دار الدنيا فلم تأخذوها معكم، (﴿ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ ﴾): يعني وما نرى معكم في الآخرة أصنامكم التي كنتم تعتقدون أنها تشفع لكم،وتَدَّعون كذباً أنها شركاء مع الله في استحقاقها لعبادتكم، (﴿ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ﴾): أي لقد تقطعتْ الصلات التي كانت بينكمفي الدنيا، فتَقطَّع ما كنتم فيه من الشِركةِ بينكم، فلم يَدفع عنكم شركاؤكم شيئاً من عذاب الله، (﴿ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾): أي وغاب عنكم ما كنتم تَدَّعون من أن آلهتكم سوف تشفع لكم عند الله، بل حصلَ لكم الضررُ منها، مِن حيثُ ظننتم نفْعَها،وظهر أنكم الخاسرون في الدنيا والآخرة





        تفسير الربع السادس من سورة الأنعام بأسلوب بسيط



        الآية 95: ﴿ إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ﴾: يعني: إن اللهَ تعالى وحده هو الذي يَشُقّ الحَب فيَخرج منه الزرع، ويَشُقّ النَوَى فيَخرج منه الشجر والنخل، وهو سبحانه الذي ﴿ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ﴾ كإخراج الزرع منالحَب، والمؤمن من الكافر، ﴿ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ﴾: أي وهو سبحانه مُخرِجُ الميتِ من الحيكإخراج البيض من الدجاج، والكافر من المؤمن، ﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ ﴾: أي: فاعلُ ذلك كله هو الله سبحانه تعالى، المستحق وحده للعبادة، ﴿ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾: يعني فكيف تُصْرَفون عن توحيد الله تعالى - الذي هذه قُدْرَته - إلى عبادة مَن لا يَخلق شيئاً؟

        واعلم أن الله تعالى قال: ﴿ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ﴾ ولم يقل: ﴿ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ﴾، لأنّ اللفظ: ﴿ مُخْرِجُ ﴾ معطوفٌ على قوله تعالى: ﴿ فَالِقُ ﴾، ولذلك جاء بنفس صيغته، ولم يأتِ بصيغة الفِعل: ﴿ يُخْرِجُ ﴾، وأما قوله تعالى: ﴿ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ﴾، فهو كالبيان والتفسير لقوله: ﴿ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ﴾، لأنّ فلْق الحب والنوى ﴿ اليابِسَيْن ﴾، وإخراج النبات والشجر منهما هو صورة من صور إخراج الحي من الميت، ولذلك جاء بصيغة الفِعل للتفسير والبيان.

        الآية 96: ﴿ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ ﴾: يعني والله تعالى هو الذي شق ضياء الصباح من داخل ظلام الليل، ﴿ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا ﴾: أي مستقرًا، ففيه يَسكن الناس ويَخلدون للراحة، ﴿ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ﴾: أي وجعل الشمس والقمر يجريان في أفلاكهمابحسابٍ مُتقَنٌ مُقدَّر، لا يتغير ولا يضطرب، (واعلم أن الحُسبان: جمع حساب، مثل: شِهاب وشُهبان)، والمعنى أن الله جعل سَيْر الشمس والقمر بحسابٍ لا يزيد ولا ينقص، حتى يَعرفَ الناسُ أوقات الأيام والليالي والشهور والسنين، وما يتوقف على ذلك مِن عباداتٍ وأعمالٍ وآجالٍ وحقوق، ﴿ ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾: أي ذلك إيجاد وتنظيم العزيز الغالب على أمره، العليم بأحوال عباده وحاجاتهم، وقد فعل ذلك من أجلهم، فكيف إذاً لا يستحق عبادتهم له؟!

        الآية 97: ﴿ وَهُوَ ﴾ سبحانه ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ ﴾ علاماتٍ ﴿ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾: أي لتعرفوا بها الطرقليلاً إذا ضللتم بسبب الظلمة الشديدة في البر والبحر حتى لا تهلكوا، فهي نعمةٌ لا يَقدرُ على الإنعامِ بها إلا الله سبحانه وتعالى، فلماذا إذاً يُعبَدُ غيرُه؟! ﴿ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ ﴾: أي قد بَيَّنَّا الحُجَج والأدلة ﴿ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾، فبذلك أخبر تعالى عن نعمةٍ أخرى، وهي تفصيله للآيات وإظهارها، لينتفع بها العلماء الذين يميزون - بنور العلم - بين الحق والباطل، ولِيُعلموها للناس.

        الآية 98: ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ ﴾: أي ابتدأ خَلْقكم ﴿ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ وهي نفس آدم عليه السلام (أبو البشر)، إذ خَلَقه منطين، ثم كنتم أنتم سُلالةً منه، وذلك بأن خلقكم من آدم وحواء بالتناسل، ﴿ فَمُسْتَقَرٌّ ﴾: أي فجعل لكم مستقَرًا تستقرون فيه، وهو أرحامالنساء، ﴿ وَمُسْتَوْدَعٌ ﴾: أي وجعل لكم مُستودَعًا تُحفَظُون فيه، وهو أصلاب الرجال (أي ظهورهم)، ﴿ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ: أي قد بَيَّنَّا الحجج والأدلة، وأظهرناها ﴿ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ﴾: أي لقومٍ يفهمون مواقع الحُجَج، ومواضع العِبَر، وأسرار الأشياء، فيَهتدون بذلك لِمَا هو حق وخير، ولِتقوم لهم الحجة على أنه تعالى هو الإله الحق، دونَ غيره مِن سائر مخلوقاته.

        الآية 99: (﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً وهو ماء المطر ﴿ فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ مما هو قابلٌ للإنبات من سائر الزروع والنباتات، مما يأكل الناس والأنعام، ﴿ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا ﴾: أي فأخرجنا من ذلكالنبات زرعًا وشجرًا أخضر، ثم ﴿ نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا ﴾: أي ثم نخرج من هذا النبات الأخضر حَبًّا يَركب بعضه بعضاً، كسنابلالقمح والأرز والذرة، وغير ذلك من أصناف الزروع.

        واعلم أن الله تعالى قال: ﴿ فَأَخْرَجْنَا ﴾ بضمير الْمُتكَلِّم الْجَمْعِي، بعد أن قال: ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ ﴾ بضمير الْواحد الْمُفْرَد - وهو ما يُعرَف في اللغة بأسلوب الالتفات - ليجعل الأذهان تلتفت إِلَى أهمية ما هو آتٍ، فَتَتَنَبَّهْ إلى أَنّ هذَا الإخراج البديع والصُنع المُتقَن هو مِن فِعل البديعالْخَلاَّق جل وعلا، ولَمَّا كان الماءُ واحداً، والنباتُ جَمعاً كثيراً: ناسَبَ ذلك إفراد الفِعل: ﴿ أَنْزَلَ ﴾، وجَمْع الفِعل: ﴿ أَخْرَجْنَا ﴾، ومعلومٌ أن الواحد إذا قال: ﴿ فَعَلْنَا ﴾ أَرادَ الإفَادة بتعظيم نَفسِهِإذا كانَ مقامُهُ أهلاً لذلك، كما يقول الملك أو الأمير فيخطابه: (قررنا نحن، أو أمرنا نحن بكذا وكذا)، واعلم أنه قد أتى بالفعل المضارع: ﴿ نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا ﴾ بعد أن كان سياق الآية بصيغة الماضي، لاستحضار صورته العجيبة في حُسنها وانتظامها.

        واعلم أنه قد وصف الحبوب بأنها متراكبة، إشارةً إلى أنها لا تختلط، بل هي متفرقة، مع أنها تخرج من أصلٍ واحد، وإشارةً أيضا إلى كثرتها - رغم أن البذرة واحدة - وذلك لينتفع بها العباد بالأكل والبيع والادِّخار، فلله الحمد والمِنَّة.

        ﴿ وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا ﴾: أي وأخرج سبحانه مِن طَلْع النخل (وهو الوعاء الذي يخرج منه البلح، وهو الذي يُطلِق عليه المزارعون لفظ: (الطَرْح)، وهذا خطأ والصحيح أن اسمه: (الطَلْع))، فيَخرج من هذا الطلع ﴿ قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ ﴾: أي ثمراً قريبَ التناول، (هذا في النخلة القصيرة، إذ يتناول المرء ثِمارها لمدة عشر سنوات بيديه وهو واقفٌ عندها، فإن طالت النخلة وارتفعت، فإنه يجد فيها أماكن بارزة يَسهُل الصعود عليها).

        ﴿ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ ﴾: أي وأخرج سبحانه بهذا المطر بساتين من أعناب، ﴿ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ﴾: أي وأخرج شجر الزيتونوالرمان الذي يتشابه في ورقه وشجره، ويختلف في ثمره (شكلاً ولوناً وطعمًا).

        وقد خَصَّ اللهُ هذه الأشجار بالذكر (العنب والزيتون والرمان) دونَ سائر الأشجار، لكثرةِ منافعها وعظيمِ فوائدها.- ثم أمر تعالى عباده بالتفكر في ذلك الزرع، فقال: ﴿ انْظُرُوا نظر تفكُّر واعتبار ﴿ إِلَى ثَمَرِهِ ﴾: أي إلى ثمر الأشجار كلها، وخصوصاً النخل ﴿ إِذَا أَثْمَرَ ﴾، ﴿ وَيَنْعِهِ ﴾: أي وانظروا إلى نُضجه واستوائه، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ ﴾: أي إن في ذلك المذكور كله ﴿ لَآَيَاتٍ ﴾: يعني لَدَلالاتٍ على كمال قدرة الخالق سبحانه وتعالى وحكمته ورحمته، وعنايته بعباده، ووجوب عبادته وحده.

        ولكنْ ليس كل الناس يَعتبرون ويتفكرونَ في آيات الله، ويُدركون المراد منها، وما تدل عليه عقلاً وفِطرةً وشرعاً، ولهذا قيَّدَ تعالى الانتفاع بالآيات بالمؤمنين فقط، فقال: ﴿ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ وذلك لأنهم أحياء، يعقلون ويفهمون، أما غيرهم من الجاحدين فإنهم أموات، وذلك لِمَا تراكَمَ على قلوبهم من الشرك والمعاصي، فهم لا يعقلون ولا يفهمون، فكيف لهم أن يجدوا في تلك الآيات ما يَدُلُّهم على توحيد ربهم عز وجل؟!

        الآية 100: ﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ ﴾: أي ورغم كل هذه الأدلة التي تستوجبُ توحيدَ الله تعالى، والانقياد لأوامره، فقد جعل هؤلاء المشركون الجنَّ شركاء لله تعالى في العبادة، اعتقادًا منهم أنهمينفعون أو يضرون، ﴿ وَخَلَقَهُمْ ﴾: أي وقد خلقهم الله تعالى من العدم، هُم والجن الذين يعبدونهم، فهو سبحانه المُتفرِّدبالخَلق وحده، فيجب إفرادُهُ أيضاً بالعبادة، ﴿ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾: أي ولقد نسب هؤلاء المشركون البنين والبنات إليه تعالى، كَذِباً وجَهلاً منهم بما له مِن صفات الكمال ﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ﴾: أي تَنزَّه وعَلا عما نسبه إليه المشركون من ذلك الافتراء.

        الآية 101، والآية 102: ﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾: يعني واللهُ تعالى هو الذي أوجَدَ السماوات والأرض وما فيهنّ على غير مثالٍ سابق، ﴿ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ ﴾: يعني كيف يكونُ للهِ ولدٌ ولم تكن له زوجة، إذ الولد لا يكون إلاّ من زوجة، والتوالد لا يكونُ إلا بين ذكر وأنثى، وذلك لِحِفظ النوع، وكثرة النسل، وعمارة الأرض، بل ولعبادة الرب تعالى بذِكْرِهِ وشُكرِه، أما الرب تعالى فهو خالق كل شيء، ولذلك قال بعدها:﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فكل ما في السماوات والأرض ملْكُه وعبيده، فكيفيكون له منهم زوجة أو ولد؟!

        فهذا أكبر دليل على بُطلان نسبة الولد لله تعالى، إذ هو خالقُ كل شيء، فهل يُقالُ لِمَن خَلَقَ شيئاً أنه وَلَدَهُ؟! لو صَحَّ هذا لقالوا لِكُلّ مَن صَنَعَ شيئاً إنه أبو المصنوع، ولا يوجد قائلٌ بهذا أبداً، إذَن فأيُّ معنى لِنسبة الولد إليه سبحانه، إلا تزيين الشياطين للباطل حتى يقبله أولياؤهم من الإنس؟!، فسبحان مَن لا يحتاجُ إلى ولدٍ أو زوجةٍ كما يحتاج البشر، وسبحان الغني القوي، الذي ليس كمثله شيءٌ، ﴿ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾.

        ﴿ ذَلِكُمُ - أيها المشركون - هو ﴿ اللَّهُ رَبُّكُمْ ﴾ الذي (﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾): أي لا معبودَ بحقٍ سواه، فهو سبحانه (﴿ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ﴾): أي فاخضعوا له وحده بالطاعة والعبادة، (﴿ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾) والوكيل هو مَن يُوَكَّل إليه الأمر لِيُدَبِّرَه.

        الآية 103، والآية 104: ﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ﴾: أي لا تُحيطُ الأبصارُ به سبحانه، إذ رؤيته تعالى مُتعذِّرةٌ في الدنيا، وقد طلبها موسى عليه السلام ولم يُدرِكْها، وذلك لِعَجْز الإنسان عن رؤية الله تعالى بهذه الأبصار المحدودة في الدنيا، ولِذا يراه المؤمنون في الجنة رؤية بَصَرية حقيقية، ويتلذذون بالنظر إلى وجهه الكريم، قال تعالى: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ، يقول الله تعالى: ﴿ تريدون شيئا أَزِيدُكُم ﴾؟، فيقولون: (ألم تُبَيِّضْ وجوهنا؟ ألم تُدخِلنا الجنة وتُنَجِّنا من النار؟)، فيُكشَفُ الحجاب، فما أُعْطوا شيئاً أحَبّ إليهم من النظر إلى ربهم) (والحديث في صحيح الجامع برقم: 523)، وقال صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحيْن -: (إنكم سَتَرَوْنَ ربكم كما ترون القمر، لا تُضامُون في رؤيته - (أي لا يَصعُب عليكم رؤيته) - ، فإن استطعتم ألاَّ تُغلَبوا على صلاةٍ قبلَ طلوع الشمس - (وهي الفجر) - وصلاةٍ قبلَ غروب الشمس- (وهي العصر) - فافعلوا)، وفي هذا الحديث تحذيرٌ لكل مَن يُضَيِّع صلاة الفجر والعصر - فيُصلي الفجر بعد شروق الشمس، أو يصلي العصر بعد أذان المغرب - مِن أن يُحرَم مِن لذة النظر إلى وجه الله الكريم.

        (﴿ وَهُوَ ﴾) سبحانه (﴿ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ﴾) ويحيط بها، ويَعلمها على ما هيعليه، (﴿ وَهُوَ اللَّطِيفُ ﴾): أي الرفيق بأوليائه، ومِن لُطفِهِ تعالى أنه يسوقُ إلى عبده ما فيه صلاح دينه بالطرق التي لا يعرفها، ويُوصله إلى السعادة الأبدية مِن حيثُ لا يحتسب، حتى أنه تعالى يُقَدِّر عليه الأمور التي يَكرهها العبد ويتألم منها، وذلك لِعلمه سبحانه أنّ كمالَ عَبْدِهِ متوقف على تلك الأمور، فسبحان اللطيف لِمَا يشاء، الرحيم بالمؤمنين، (﴿ الْخَبِيرُ ﴾) الذي يعلم دقائق الأشياء، ظاهرهاوباطنها.

        ثم قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين: (﴿ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾): أي قد جاءتكم براهين ظاهرة تُبصِرونَ بها الهدىمن الضلال، مما اشتملتْ عليه آيات القرآن من بلاغةٍ وتحدٍ وإخبارٍ بالغيب، وغير ذلك، ومما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام من المعجزات،(﴿ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ﴾): يعني فمَن تبيَّن هذه البراهين وآمَنَ بِما دَلَّتْ عليه، فإنه بذلك ينفع نفسه لأنه هو الذي ينجو ويَسعد، (﴿ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ﴾): يعني ومَن لم يُبصِرالهدى بعدَ ظهور الحُجَّة، فإنه بذلك يضر نفسه، ويُعرضها للهلاك والشقاء، (﴿ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾): أي وما أنا بمسئولٍ عن أعمالكم،إنما أنا مبلغ، والله يهدي مَن يشاء ويضل مَن يشاء وَفْقَ عدله وحكمته.

        الآية 105: (﴿ وَكَذَلِكَ ﴾): يعني وكما بيَّنَّا في هذا القرآن البراهين الظاهرة في أمر التوحيد:(﴿ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ﴾): أي نبيِّنُ لهم البراهين في كل ما جَهلوه، لتقوم عليهم الحجة، (﴿ وَلِيَقُولُوا ﴾) - افتراءً - عند وضوح هذه البراهين والحجج، وظهور عَجْزهم: (﴿ دَرَسْتَ ﴾): أي تعلمتَ من أهل الكتاب، وهذا باطل، فإنه إذا كان قد تعلَّم من أهل الكتاب شيئاً، لَعَلِمَهُ اليهود حين قَدِمَ إليهم في المدينة، وخاصَّةً عبد الله بن سلام (الذي شهد له اليهود أنه من علمائهم)، ولكنه آمَنَ به بعد ثبوت صفاته لديه في التوراة.

        وقد رَدَّ الله على ذلك الافتراء في آيةٍ أخرى بقوله: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾، فهذا يدل على أنهم لم يرتابوا، وإنما هو الكِبر والعناد واتباع الهوى، (﴿ وَلِنُبَيِّنَهُ ﴾): أي ولِنُبَين الحقَّ - بتصريفنا للآيات - (﴿ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾) الحق - لوضوحه وظهور علاماته - فيقبلونه ويتبعونه، ولا يتبعون أهوائهم.

        الآية 106، والآية 107: (﴿ اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ﴾) من الأوامر والنواهي التي أعظمُها توحيد الله تعالى بأنه (﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾)، (﴿ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾) فلا تُبال بعنادهم، وامضِ في طريق دعوتك، ثم يُصَبِّرُ اللهُ تعالى رسوله، ويُخَفف عنه آلام إعراض المشركين عن دعوته، فيقول له: (﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ ﴾) ألاَّ يُشرِكَ هؤلاء المشركون: (﴿ مَا أَشْرَكُوا ﴾)، لكنه تعالى عليمٌبما سيكون من سوء اختيارهم واتباعهم لأهواءهم المنحرفة، (﴿ وَمَا جَعَلْنَاكَ ﴾) أيها الرسول (﴿ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴾): أي رقيبًا تحفظ عليهم أعمالهم، وتحاسبهم عليها، (﴿ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ﴾): أي وما أنت بقائمٍ على أمورهم لِتُدَبِّرَمصالحهم، إن عليك إلا البلاغ، وقد أبلغتَهم، فلا تحزن إذاً على إعراضهم.

        الآية 108: ﴿ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا ﴾: أي ولا تَسُبُّوا الأصنام التي يعبدها المشركون، حتىلا يتسبب ذلك في سَبِّهم لله تعالى ظلماً واعتداءً ﴿ بِغَيْرِ عِلْمٍ إذ لو علموا جلال الله وكماله: ما فعلوا ذلك، ﴿ كَذَلِكَ ﴾: يعني وكما زَيَّنَّا لهؤلاءالمشركين عملهم السيئ بالدفاع عن آلهتهم الباطلة: ﴿ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ﴾ السيئ فرأوه حسناً، عقوبة لهم على سوء اختيارهم، ﴿ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾، ثميجازيهم بأعمالهم.

        وفي هذا دليل على حُرمة كل فِعل أو قول يكونُ سبباً في سَبّ الله تعالى أو رسوله أو دينه أو الاستهزاء بشرعه.

        الآية 109: ﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾: أي وأقسم رؤساء المشركين بأيمانٍ مؤكَّدة بأنهم: ﴿ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ ﴾: أي علامة خارقة تدل على صِدق محمد، كتحويل جبل الصفا إلى ذهب: ﴿ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَاوهذا الكلام الذي صدر منهم، لم يكن قصْدُهُم فيه الرشاد، وإنما قصْدُهُم فيه الكبر والعناد، فإن الله قد أيَّدَ رسوله بالآيات البينات، والأدلة الواضحات، التي - عند الالتفات إليها - لا تبقي أدنَى شُبهة ولا إشكال في صحة ما جاء به، فطلَبُهُم - بعد ذلك - للآيات، هو من باب العند والاستكبار الذي لا يَلزَم إجابته، بل قد يكونُ المَنْعُ من إجابتهم أصْلَح لهم، إذ إنه لو جاءتهم الآيات ولم يؤمنوا بها، فقد يترتب على ذلك هَلاكهم ودَمارهم، ولهذا قال: ﴿ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ ﴾: يعني إنما مجيء المعجزات الخارقة إنما يكونُ مِن عِند اللهتعالى، فهو القادر على المجيء بها إذا شاء، أما أنا فلا أملك ذلك، إلا أن الصحابة رغبوا في مجيء الآيات، حتى يؤمن بها المشركون، فقال تعالى لهم: ﴿ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾: أي وما أعلمكم أيها المؤمنون أن هذهالمعجزات إذا جاءت سوف يُصَدِّقُ بها هؤلاء المشركون؟ بل إنّ الغالب - مِمَّن حالُهُ اتباع الهوى - أنه لا يؤمن.

        الآية 110: ﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ ﴾: يعني ونَحجِب قلوبهم وأبصارهم عن الانتفاع بآيات الله، فلا يؤمنون بها ﴿ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾: أي وذلك عقوبةً لهم، لأنهم لم يؤمنوا بآيات القرآن عند نزولها أول مرة، ﴿ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾: أي ونتركهم في شِركهم وظُلمهم حَيارَى مترددين، لا يعرفون الحق من الباطل ولا الهدى من الضلال، وهذا مِن عَدْل الله تعالى، فقد فتح لهم الباب فلم يدخلوه، وبَيَّنَ لهم الطريق فلم يَسلكوه، فبَعدَ ذلك إذا حُرِمُوا التوفيق، فلا يلوموا إلا أنفسهم.




        شبكة الالوكة

        تعليق


        • #5
          الربع السابع من سورة الأنعام


          الآية 111: ﴿ وَلَوْ أَنَّنَا ﴾ أجَبْنا طلب هؤلاء المشركين، فـ ﴿ نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ ﴾ من السماء، ﴿ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى ﴾: يعني وأحيينا لهمالموتى، فكلموهم وشَهِدوا لهم بصِدق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ﴿ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ﴾: أي ولو جمعنا لهم كل شيء طلبوه، فرأوه بأعينهم: ﴿ مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا ﴾ بمادعوتَهم إليه أيها الرسول ﴿ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ﴾ ذلك، ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ﴾ أن التوفيق للإيمان وقَبول الحق، إنما هو بيد الله تعالى وحده، وليس بأيديهم (كما يزعمون أنهم سيؤمنون لو رأوا الآيات).

          الآية 112، والآية 113، والآية 114: ﴿ وَكَذَلِكَ ﴾: يعني وكما ابتليناك أيها الرسول بأعدائك من المشركين: ﴿ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ﴾: أي ابتلينا كل نبي بأعداء متمردين من قومه، وبأعداء متمردين من الجن، وهؤلاء المتمردون من الجن والإنس ﴿ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ﴾: أي يُلقي بعضهم إلىبعضٍ القولَ الباطل الذي زيَّنوه وحَسَّنوه وانتَقَوا له أحسن العبارات، لِيَغترَّ به سامِعُه، فيَضِل عن سبيل الله، ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ﴾: يعني ولوأراد ربك لَحالَ بينهم وبين تلك العداوة، ولكنه ابتلاءٌ من الله لأنبيائه ليَرفع درجتهم، فما شاءه الله تعالى كان، وما لم يشأه لم يكن،﴿ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾: أي فاتركهم وكَذِبهم وتزيينهم للباطل، (وفي هذا تصبيرٌ للنبي صلى الله عليه وسلم).

          وقد كان إيحاء شياطين الجن والإنس وتزيينهم للباطل: لِيَغترَّ به المشركون، ﴿ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ ﴾: أي ولِتميل إليه ﴿ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ ﴾، ولا يعملون لها،﴿ وَلِيَرْضَوْهُ ﴾: يعني ولِتحبَّه أنفسهم، ﴿ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ﴾: أي ولِيكتسبوا ما هم مكتسبون من الشرك والمعاصي، وذلك نتيجةً لاقتناعهم بهذا الباطل المُمَوَّه المُزَيَّن، ففَعلوا ما تشتهيه أنفسهم، وما كانت تأمرهم به أهواؤهم، (وفي هذا تهديدٌعظيم لهم).

          ثم قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين: ﴿ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا ﴾: يعني أغيرَ اللهِ أطلبُ حَكَمًا بينيوبينكم في أني رسولٌ من عنده، ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا ﴾: يعني وهو سبحانه الذي أنزل إليكم القرآن مُبَيَّناً واضحاً، فأيُّ شيءٍ يَغلب آيات القرآن في قوة الحُجَّة والبيان، هذا أولاً، وثانياً: ﴿ وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ﴾: يعني وعلماء بني إسرائيل الذين آتاهم الله التوراة والإنجيل ﴿ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ ﴾: يعني يعلمونعلمًا يقينيّاً أن هذا القرآن مُنَزَّلٌ عليك أيها الرسول ﴿ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فهم مُقِرُّون ومعترفون بأنَّ ما يَنفيهِ المشركون هو حَقٌّ لا شك فيه، ﴿ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾: أي فلا تكونَنَّمن الشاكِّين في هذا الحق، بل تفكَّرْ فيهِ وتأمّلْ، حتى تصِل بذلك إلى اليقين، لأن التفكُر فيه- لا مَحالة- دافعٌ للشكّ، مُوصِلٌ لليقين، (وهذا- وإن كانَ خِطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم- فهو مُوَجَّهٌ للأمّةِ عموماً).

          الآية 115: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ﴾ -وهي القرآن- ﴿ صِدْقًا ﴾ في الأخبار والأقوال، ﴿ وَعَدْلًا ﴾ في الأحكام، فـ﴿ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ﴾: أي فلا يستطيع أحد أن يبدِّل كلماته الكاملة، لا بالزيادة ولا بالنقصان، وهذا نظير قوله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾، ونظير قوله تعالى: ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾، ﴿ وَهُوَ ﴾ سبحانه ﴿ السَّمِيعُ ﴾ لِمَا يقولعباده، ﴿ الْعَلِيمُ ﴾ بظواهر أمورهم وبواطنها، والكل تحت قهره وسلطانه، فلا يتحركون إلا بمشيئته وإرادته، فلِذا لن يكون إلا ما يريدُ سبحانه.

          واعلم أنَّ قوله تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ﴾: أي وقضى ربك أنها ستكون تامة، والمعنى: أي تَمَّ القرآن في كَوْنِهِ مُعجِزًا دالَّاً على صِدق محمد عليه الصلاة والسلام، وأنَّ كلماته كافية في بيان ما يحتاج إليه المُكَلَّفون- عِلمًا وعَملًا- إلى يوم القيامة.

          الآية 116: (﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾: يعني ولو فُرِضَ أيها الرسول أنك أطعتَ أكثرَ أهل الأرض، فأخذت بآرائهم واستجبتَ لاقتراحاتهم: لأضلُّوك عن دين الله، والسبب في ذلك أن أكثرهم لا بصيرةَ له، ولا علم يَهتدي به، وكل ما يقولونه هو هوى النفس، ووسوسة الشيطان، و﴿ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ﴾: أي ومايسيرون إلا على ما ظنوه حقًّا بتقليدهم لآباءهم، ﴿ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ﴾: يعني وما هم إلا يَكذبون في هذا الظن الناتج عن التخمين، وتقليد الآباء بدون علم أو دليل.

          الآية 118: ﴿ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ﴾: أي فكلوا أيها المسلمون من الذبائح التي ذُكِرَ اسمُ الله عليها عندَ ذَبْحها ﴿ إِنْ كُنْتُمْ بِآَيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ﴾ حَقَّ الإيمان.

          الآية 119: ﴿ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا ﴾: يعني وأيُّ شيء يمنعكم من أن تأكلوا ﴿ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ﴾ ﴿ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ﴾: يعني وقدبَيَّن سبحانه لكم جميع ما حَرَّمَ عليكم ﴿ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ﴾: أي إلا ما دَعَتْ إليه الضرورة من أكل شيءٍ من المُحَرّمات فإنه مباحٌ لكم، كَمَن خاف على نفسه الهلاك من شدة الجوع (بشرط أن يكون غيرَ طالبٍ للمُحَرّم- لِلذّةٍ أو غير ذلك، ولا مُتجاوز- في أكلِهِ- ما يَسُدّ حاجته ويرفع اضطراره)، ﴿ وَإِنَّ كَثِيرًا ﴾ من الضالين ﴿ لَيُضِلُّونَ ﴾ أتباعهم عن سبيل الله في تحليل الحرام وتحريم الحلال، فيُفتونهم ﴿ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ﴾ الذين يتجاوزون حدوده، وهو الذي يتولىحسابهم وجزاءهم.

          الآية 120: ﴿ وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ﴾: يعني واتركوا -أيها الناس- جميع المعاصي، ما كان منها علانية، وما كان سرًّا ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ﴾: يعني إنالذين يفعلون المعاصي سيُعاقِبهم ربهم يوم القيامة، بسبب ما كانوا يعملونه من السيئات، ولا ينجو منهم إلا من تاب، وقَبِلَ الله توبته، (فلذلك ينبغي للعبد أن يَبذل غاية جهده لِتَصِحّ توبته، حتى يقبلها الله تعالى).

          الآية 121: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ﴾: يعني ولا تأكلوا من الذبائح التي لم يُذكَر اسمُ الله عليها عندالذبح، (كالميتة، وما ذُبِحَ للأصنام والأولياء والجن، وغير ذلك)، ﴿ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ﴾: يعني وإنّ الأكل من تلك الذبائحلَخُروج عن طاعة الله تعالى، ﴿ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ ﴾: يعني وإنّ شياطين الجن لَيُلْقون بالشبهات حول تحريم أكل الميتة ﴿ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ ﴾ من شياطينالإنس ﴿ لِيُجَادِلُوكُمْ ﴾ بهذه الشبهات، ﴿ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ ﴾ في تحليل الميتة فـ ﴿ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ﴾: أي فأنتم وَهُم فيالشرك سواء، لأنهم أحَلُّوا لكم ما حَرَّمَ اللهُ عليكم فاعتقدتم حِلَّه، فكنتم بذلك عابدِيهم، لأن التحريم والتحليل مِن حق الرب وحده، لا مِن حق غيره، (وفي الآية دليل على أنّ مَن استحلَّ شيئاً مما حَرَّمَ الله تعالى: صارَ به مشركاً).

          الآية 122: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا ﴾ في الضلالةِ هالكاً حائراً ﴿ فَأَحْيَيْنَاهُ ﴾: أي فأحيينا قلبه بالإيمان،ووفقناه لاتباع الرسل، ﴿ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ﴾: يعني فأصبح يعيش بين الناس في أنوار الهداية، فهل هذا ﴿ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ ﴾: أي هل يتساوى هذا مع مَن يعيش في الجهالاتوالأهواء والضلالات، وهو ﴿ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ﴾: أي وهو لا يهتدي إلى مَخرج من هذه الظلمات، ولا مُخلِّصَ له مما هو فيه؟ لايستويان أبداً، ﴿ كَذَلِكَ ﴾: يعني وكما خُذِلَ هذا الكافر الذي يجادلكم، فزُيِّنَ لهسُوءُ عمله فرآه حَسنًا: ﴿ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾: أي زُيِّنَ للجاحدين أعمالهم السيئة، لِيستوجبوا بذلكالعذاب.

          الآية 123: ﴿ وَكَذَلِكَ ﴾: يعني ومِثلُ هذا الذي حصل مِن زعماء الكفار- في "مكة"- مِن الصدِّ عن دين الله تعالى: ﴿جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا﴾: أي جعلنا في كل قرية مجرمين، يتزعمهم أكابرهم، واعلم أن الأكابر جمع (أكبر)، وهم الرؤساء والعظماء، وقد خُصُّوا بالذكر لأنهم أقدر على الفساد والإفساد من عامة الناس، ﴿ لِيَمْكُرُوا فِيهَا ﴾: أي ليمكروا في هذه القرية بفِعل المنكرات والدعوة إلى ارتكابها، وبإفساد عقائد الناس وأخلاقهم وصَرْفِهِم عن الهدى بتزيين الباطل لهم،﴿ وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ، لأن عاقبة المكر تعودُ على الماكر بالعقوبة في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ﴾.

          الآية 124: ﴿ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ ﴾: يعني وإذا جاءت حجة ظاهرة على نبوة محمد صلى اللهعليه وسلم لهؤلاء المشركين من أهل مكة: ﴿ قَالُوا ﴾: أي قال بعض كبرائهم: ﴿ لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ﴾: يعني لن نصدِّق بنبوته حتى يعطينا الله من النبوةوالمعجزات مثل ما أعطى رسله السابقين، كعصا موسى وغيرها، قال الوليد بن المغيرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كانت النُبُوَّة حقاً، لَكُنتُ أوْلَى بها منك، لأني أكبرُ سناً وأكثر منك مالاً)، وقال أبو جهل: (والله لا نرضى به أبداً، ولا نتبعه إلاَّ أن يأتينا وحيٌ كما يأتيه).

          فردَّ الله تعالى عليهم هذا العُلُوّ والتكبر بقوله: ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾: يعني الله أعلم بالذين يستحقون حَمْلَ رسالته وتبليغها إلى الناس، فإنه سبحانه يجعلها في القلوب المشرقة والنفوس الزكية، لا في القلوب المظلمة والنفوس الخبيثة، و﴿ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ﴾: يعني وإن هؤلاء المجرمين -الذين أجرموا على أنفسهم بالشرك والمعاصي، وأجرموا على غيرهم حيث أفسدوا قلوبهم وعقولهم- سوف يصيبهم ﴿ صَغَارٌ أي ذل ومَهانة ﴿ عِنْدَ اللَّهِ يوم يلقونه، ﴿ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ﴾: يعني ولهم عذابٌ قاسٍ لا يُطاقُ في نار جهنم بسبب كَيدهم للإسلاموأهله، وبسبب تضليلهم للناس.

          واعلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان أحياناً توقَدُ له النار، فيُقرِّب منها يديه، ثم يُبعِدهما إذا (لَسَعَتْهُ) ويقول: (ألَكَ على هذا صبرٌ يا بنَ الخطاب؟)، وذلك بمثابة التطبيق العملي لقوله تعالى- وهو يتحدث عن النار-: ﴿ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً ﴾- (أي تُذَكِّرُ المؤمن بنار الآخرة، التي تعادل سبعين ضعفاً من نار الدنيا)- ﴿ وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ ﴾ (أي ويتمتع بها المسافرون بالدفء والنور وطهي الطعام).

          ومِن لطيف ما يُذكَر أن أحد الأخوة كان يتعمد أن يستغفر وهو يُمسِك بكوب (الشاي) الساخن، حتى يَحْمَرّ وجهه من سخونة الكوب، فيتركه، ثم يُمسكه مرة أخرى ويستغفر، وعندما سُئِلَ عن ذلك قال: (إنني عندما أشعر بِحَرّ النار: يَخرج الاستغفار من قلبي- بندمٍ شديد- على كل ذنبٍ فعلتُهُ في حق الله تعالى، لأنني لا أتحمل عذابه).

          الآية 125: ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ ﴾: يعني فمَن يَشأ الله أن يوفقه لقَبول الحق: ﴿ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ﴾ ﴿ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ﴾: أي يجعل صدره في حالة شديدة من الانقباض عن قَبول الهدى، كحال مَن يصعد فيطبقات الجو العليا، فيُصاب بضيق شديد في التنفس، ﴿ كَذَلِكَ ﴾: يعني وكما يجعل الله صدور الكافرينشديدة الضيق والانقباض: ﴿ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ ﴾ أي العذاب ﴿ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ بآياته.

          الآية 126، الآية 127: ﴿ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا ﴾: يعني وهذا الذي بيَّنَّاه لك أيها الرسول هو الطريق الموصل إلى رضا ربك وجنته، ﴿ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ﴾: أي قد بينَّا البراهين لمن يتذكر من أهل العقول الراجحة، وهؤلاء ﴿ لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾: أي لهم يوم القيامة عند ربهم دار السلامة والأمان من كل مكروه وهيالجنة، ﴿ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾: أي وهو سبحانه متوليهم بالنصر والتأييد في الدنيا، وبالإنعام والتكريم في الآخرة، جزاءً لهم بسبب أعمالهم الصالحة.


          تفسير الربع الثامن من سورة الأنعام بأسلوب بسيط




          الآية 128: ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ﴾: يعني واذكر أيها الرسول يوم يحشر الله الكفار مع أوليائهم من شياطين الجنفيقول: ﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ ﴾: أي قد أضللتم كثيرًا من الإنس، ﴿ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ ﴾ كفار ﴿ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ ﴾: أي قد انتفع بعضنا من بعض، ﴿ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا ﴾: أي وبَلَغْنا الأجل الذي أجَّلْتَه لنا بانقضاءحياتنا في الدنيا، ﴿ قَالَ ﴾ الله تعالى لهم: ﴿ النَّارُ مَثْوَاكُمْ ﴾: أي مكان إقامتكم ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ﴾: يعني إلا مَن شاء اللهُ عدم خلوده فيها من عُصاة الموحدين، ﴿ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾.

          الآية 129، الآية 130: ﴿ وَكَذَلِكَ ﴾: يعني وكما سَلَّطْنا شياطين الجن على كفار الإنس، فكانوا أولياء لهم: ﴿ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا: أي نُسلِّطالظالمين - من الإنس - بعضهم على بعض في الدنيا، جزاءً ﴿ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ من المعاصي.

          ثم يخاطب اللهُ مُشرِكي الجن والإنس قائلاً: ﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْواعلم أن النصوص الواردة في القرآن والسُنَّة تدلُّعلى أنَّ الرسل كانت من الإنس فقط، وأما الجن فكان منهم دُعاةٌ لقومهم، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ﴾، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاني داعِيَ الجن فأتيتُهم فقرأتُ عليهم...) (انظر صحيح الترمذي: ج5 /382).

          وهؤلاء الرسل كانوا ﴿ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا ﴾: يعني كانوا يُخبرونكم بآياتي الواضحة المشتملة على الأمروالنهي وبيان الخير والشر، ويحذرونكم لقاءَ عذابي يوم القيامة؟ ﴿ قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا بأنّ رُسلك قد بلَّغونا آياتك،وأنذرونا لقاء يومِنا هذا، فكذبناهم، ﴿ وَغَرَّتْهُمُ: أي وخدعَتْهم ﴿ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾ بزينتها ﴿ وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ.

          الآية 131: ﴿ ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ ﴾: أي ذلك الإنذار إلى الجن والإنس بإرسال الرسل وإنزال الكتب، كان لأجل أنه تعالى لم يكن مِن شأنه ولا مِن حِكمته أن يكون ﴿ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ منه سبحانه، ولا بظلمٍ منهم (وهو الشرك والمعاصي)، ﴿ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَلم يُؤمَروا ولم يُنهَوا، ولم يَعلموا بعاقبة الظلم وما يَحِلّ بأهله من عذاب، ولكنه سبحانه أنذر الأمم من أجل إقامة الحُجَّة عليهم، وما عَذَّبَ أحدًا إلا بعد إرسالالرسل إليهم.

          واعلم أن كلمة: ﴿ أَنْ المذكورة في قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ ﴾ تسمى: (أنْ المُخَفَّفة من الثقيلة)، يعني كأنها كانت: ﴿ أَنّالتي عليها شَدَّة، ولكنها خُفِّفَتْ فصارت: ﴿ أَنْ التي عليها سكون، وعلى هذا يكون المعنى: ﴿ ذلك لأنَّه لم يكن رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْم ﴾، وهذا مِثل قوله تعالى: ﴿ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا ﴾، والمعنى: (وَنُودُوا أَنَّ هذه الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا).

          الآية 132: ﴿ وَلِكُلٍّ ﴾: يعني ولِكُلّ عامل في طاعة الله تعالى أو معصيته: ﴿ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ﴾: أي مراتب يُبَلِّغه الله إياها - بسبب عمله -،ويُجازيه عليها، ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾.

          الآية 133: ﴿ وَرَبُّكَ هو ﴿ الْغَنِيُّ عن خَلقه، وكل خَلقه محتاجونإليه، وهو سبحانه ﴿ ذُو الرَّحْمَةِالواسعة، ومع ذلك فـ ﴿ إِنْ يَشَأْ ﴾ سبحانه إهلاككم بسبب عصيانكم وتمَرُّدِكم: ﴿ يُذْهِبْكُمْ ﴾ ﴿ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ ﴾: يعني ويُوجِدُ قومًا غيركميَخلفونكم من بعد فنائكم، ويعملون بطاعته تعالى ﴿ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ ﴾: يعني وذلك كما أوجدكم أنتم مِن نَسل قومٍ آخرينكانوا قبلكم.

          الآية 134: ﴿ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآَتٍ ﴾: يعني إنَّ الذي يَعدكم به ربكم أيها المشركون - من مَجِيء السَّاعة، ومن العذاب الذي ينتظركم - لَواقعٌ بكم لا محالة، ﴿ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ: يعني ولنتُعجِزواربكم إذا ظننتم أنكم ستهربون عند مجيء ذلك الوعد، فهو قادرٌ سبحانه على إعادتكم وإن صرتم ترابًا وعظامًا.

          فالوعدُ آتٍ وأنتم لا تستطيعون الهرب منه، ولا يَقدر أحدٌأن يمنعَ اللهَ تعالى مِن تحقيق ما وعد، فاللهُ غالبٌ على أمره، يفعل ما يريد، لأنه لا إله إلا هو، فإذا وعد، فلابد أن يتحقق وعده، وأما الذي يُخلِفُ الوعدَ من الخَلق، فهذا أمرٌ مُتوَقَّع منه، لأنه ربما يكون قد وَعَدَبشيء - كانَ يَظن أنه في إمكانه فعله - وبعد ذلك خرج هذا الشيء عن حدود إمكانياته، فهو ليس له سيطرة علىالأشياء، أما إذا كانَ مَن وَعَدَ قادرًا، ولا يوجد إلهٌ آخر يُناقضه فيما وَعَدَ به، فلابد أن يتحقق وعده ووعيده.

          ولذلك حينما يَحكم اللهُحُكمًا ما، فالمؤمن يأخذ هذا الحكم قضية مُسَلَّمة؛ لأنه لا إلهَ مع الله سيُغَيِّر هذا الحكم، ومثالُ ذلك أنه تعالى قال عن أَبِي لَهَبٍ: ﴿ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ﴾، وهذا وَعيدٌ من الله تعالى في أمرٍ - لهم فيه اختيار -، ومع ذلك لم يُسلموا، لأنه لا يوجد إلهٌ سواه لِيُغير ما أخبرَ به.

          الآية 135: ﴿ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ ﴾: أي اعملوا على طريقتكم - التي أنتم عليها من مخالفتي وعداوتي - بكل ما أوتيتم من قوة، فـ ﴿ إِنِّي عَامِلٌ على طريقتي التيشرعها لي ربي جَلّ وعَلا، ولن أتركها مهما فعلتم، ثم هَدَّدَهُم تعالى بقوله: ﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ- عند حلول العذاب بكم - ﴿ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ﴾ : أي مَنِ الذي ستكون لهالعاقبة الحسنة؟ ﴿ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾: يعني: إنه لا يفوز برضوان الله وجَنَّتِه مَن تجاوزَ حَدَّهُ وظَلم،فأشركَ مع اللهِ غيره.

          الآية 136:﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا: يعني وجعل المشركون لله تعالى جُزءًا مما خلق من الزروع والثمار والأنعاميقدمونه للضيوف والمساكين ﴿ فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ، ﴿ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا: أي وجعلوا جُزءًا آخر من هذه الأشياء لشركائهم منالأصنام،﴿ فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ: يعني فما كان مُخَصَّصًا لشركائهم فإنه يَصِل إليها وحدها، ولا يُعطون منها للضيوف والمساكين، ﴿ وَمَا كَانَ لِلَّهِ ﴾: يعني وما كان مُخَصَّصًا لله تعالى ﴿ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ ﴾: أي فإنهم يذبحون منه للأصنام، ﴿ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾: أي بئس حُكم القوموقِسمتهم، وذلك لعدم وجود عَدلٍ عندهم - في عقيدتهم الفاسدة - بينَ الله تعالى وبين شركائهم.

          الآية 137: ﴿ وَكَذَلِكَ : يعني وكما زيَّنَ الشيطانُ للمشركين أن يجعلوا لله تعالى من الحرث والأنعام نصيبًا،ولشركائهم نصيبًا: ﴿ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ: أي زيَّن لهم شركاؤهم - من شياطين الإنس والجن - أن يقتلوا أولادهم خشيةالفقر ﴿ لِيُرْدُوهُمْ: أي لِيوقعوا هؤلاء الآباء في الهلاك بقتل النفس التي حَرَّمَ اللهُ قتلها إلابالحق، ﴿ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ: يعني ولِيَفتنوهم عن دينهم الحق الذي جاءهم به إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، فيَخلِطونه لهم بالشِرك فيَضِلوا ويَهلكوا، ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ ﴾ ألاَّيفعلوا ذلك: ﴿ مَا فَعَلُوهُ ﴾ ولكنه شاءَ ذلك لِعِلمِهِ بسوء حالهم ومقاصدهم، ﴿ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ: أي فاتركهموشأنهم فيما يفترونه مِن كذب، فسيحكم الله بينك وبينهم.

          الآية 138: ﴿ وَقَالُوا ﴾: أي وقال المشركون: ﴿ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ ﴾: أي إنّ بعضَ هذه الإبل والزرع حرام، فـ ﴿ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ ﴾: يعني لا يأكلها إلا مَن يأذنون له، وذلك حسبادِّعائهم الكاذب، ﴿ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا ﴾: أي وزعموا أنّ بعض الإبل لا يَحِلّ ركوبهاوالحملُ عليها بحالٍ من الأحوال، ﴿ وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا ﴾: أي وزعموا أن بعض الإبل لا يَذكرون اسمَ الله عليها فيأي شأن من شئونها، وقد فعلوا ذلك ﴿ افْتِرَاءً عَلَيْهِ ﴾: أي كذبًا منهم عليه سبحانه، لأنه سبحانه ما حَرَّمَ ذلك عليهم، وإنما حَرَّموه هُم بأنفسهم، ثم قالوا: (حَرَّمَه الله علينا)، ولِذا تَوَعَّدهم الله تعالى على هذا الكذب بقوله: ﴿ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾.

          الآية 139: ﴿ وَقَالُوا ﴾: أي وقال المشركون: إنّ ﴿ مَا فِي بُطُونِ ﴾ بعض ﴿ هَذِهِ الْأَنْعَامِ من الأجِنَّة ﴿ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا ﴾: أي مُباحةٌ لرجالنا، ومُحَرَّمة علىنسائنا (هذا إذا وُلِدَ الجنين حَيًّا)، ﴿ وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً ﴾: يعني وإذا وُلِدَ الجنين مَيِّتًا: ﴿ فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ ﴾: أي فإنه يكونُ مُباحاً لرجالهم ولنسائهم معاً، (وقد كانوا يَستحلون أكْل المَيْتة)، ثم تَوَعَّدهم الله تعالى بقوله: ﴿ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ ﴾: أي سيعاقبهم الله على هذا الكذب بما يستحقون من العذاب، لأنهم شرَّعوالأنفسهم من التحليل والتحريم ما لم يأذن به الله، ﴿ إِنَّهُ حَكِيمٌفي قضائه وشرعه ﴿ عَلِيمٌ بما نسبوه إليه كذباً.

          وقد سَمَّى الله تعالى الكذب بـ (الوصف) في قوله: ﴿ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ ﴾، لأنهم وصفوا بعض الأجِنَّة بأنها حرام، ووصفوا بعضها بأنها حلال، وهذا كقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ ﴾.

          الآية 140: ﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ ﴾: أي قد هَلَكَ الذين قتلوا أولادهم، لأنهم أطاعوا شياطينهم فيما زيَّنَتْ لهم، وذلك ﴿ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ: أي لِضِعف عقولهم وجَهلهم، ﴿ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ: أي وقد خسروا أيضاً لأنهم حَرَّموا ما أحَلَّهُ الله لهم، كذباً عليه سبحانه، ﴿ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾: أي قد بَعُدوا عن الحق، وما كانوا من أهل الهدى والرشاد، (إذِ التحليل والتحريم من خصائص الله تعالى وحده، فالحلال ما أحَلَّهُ الله،والحرام ما حَرَّمه الله).


          تفسير الربع الأخير من سورة الأنعام بأسلوب بسيط


          الآية 151: ﴿ قُلْ ﴾ أيها الرسول لهؤلاء المشركين: ﴿ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْوهو ﴿ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ﴾ مِن مخلوقاته في عبادته، بل اصرفوا جميع أنواع العبادة له وحده، كالخوفوالرجاء والدعاء، وغير ذلك، ﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾: يعني: وعليكم بتأدية حقوق الوالدين (وذلك بالقول الكريم اللَيِّن، وبطاعة أمْرهما - في غير معصية الله - وبالإنفاق عليهما، وإكرام صديقهما ومَن له تعلُّق بهما، وصِلة رَحِمِهما، والدعاء لهما، وطلب رِضاهما)، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رضا الرب في رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما) (والحديث في صحيح الجامع برقم: 3507)، فاعلم أنه لن يَرضى عنك الله سبحانه وتعالى حتى يَرضى عنك والداك ولو كنتَ أعبَد أهل الأرض، ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ ﴾: أي مِن أجل فقرٍ نزل بكم، فـ ﴿ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ﴾ ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾: أي ولا تقربوا كبائر الآثام، ولا تَجهَروا بفِعلها أمام الناس، ولا تفعلوها سِرَّاً، ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ ﴾ قتْلَها ﴿ إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ وهو قتل القاتل،أو رَجْم الزاني المتزوج حتى يموت، أو قتل المُرْتَدّ عن الإسلام، (ويكون تنفيذذلك القتل عن طريق وَلِيِّ الأمر، وهو حاكِمُ البلد)، ﴿ ذَلِكُمْ ﴾ المذكور من الأوامر والنواهي هو ما ﴿ وَصَّاكُمْ بِهِ ﴾ ربكم ﴿ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾: أي لتكونوا من العقلاء الراشدين، لأنَّ مَن يُشرِك بربه صَنَماً، أو يُسيء إلى أبويه، أو يَقتل أولاده، أو يَفجُر بنساء الناس، أو يقتلهم: لا يُعتبر عاقلاً أبداً، إذ لو كان له عقل: ما أقدَمَ على هذه العظائم من الذنوب والآثام.

          الآية 152: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾: يعني إلا بما يُصلِح أموالهلِيَنتفِع بها، وذلك باستثمارها له ﴿ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ﴾: أي حتى يصل إلى سن البلوغ ويكون راشدًا، فإذا بلغ ذلك فسَلِّمواإليه ماله، ﴿ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ﴾: أي بالعدل الذي يكونُ به تمامَ الوفاء، وإذا بذلتمجهدكم في ذلك، فلا حرجَ عليكم فيما قد يكونُ مِن نَقص، فإننا ﴿ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ ﴿ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا ﴾: أي وإذاتكلمتم فتَحرَّوا العدلَ في قولكم، سواء كان الأمر يتعلق بخبر أو شهادة أو حُكم أوشفاعة، ﴿ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ﴾: يعني ولو كان الذي تعلَّقَ به القول ذا قرابةٍ منكم، فلا تميلوا معه بغير الحق، ولا يَحمِلَنَّكم الهوى والتعُّصب للغير على ترْكالعدل،﴿ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ﴾: يعني وأوفوا بما عَهِدَ الله به إليكم من الالتزام بشريعته، ﴿ ذَلِكُمْ ﴾ المتلوُّ عليكم منالأحكام هو ما ﴿ وَصَّاكُمْ بِهِ ﴾ ربكم ﴿ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾: أي لعلكم تتذكرون، وتجتنبون ما حُرِّمَ عليكم.

          الآية 153: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا ﴾: يعني ومما وَصّاكم اللهُ به أن هذا الإسلام هو طريق الله تعالى المستقيم ﴿ فَاتَّبِعُوهُ ﴾ ﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾: أي ولاتسلكوا سُبُلَ الضلال فتُفَرِّقكم، وتُبعِدكم عن سبيل الله المستقيم، ﴿ ذَلِكُمْ ﴾ أي التوَجُّه نحوالطريق المستقيم، وعدم اتباع سُبُلَ الضلال، هو ما ﴿ وَصَّاكُمْ بِهِ ﴾ ربكم ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ عذابه بفِعل أوامره، واجتنابنواهيه.

          الآية 154: ﴿ ثُمَّ ﴾ أخبِرْهم أيها الرسول أننا ﴿ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ﴾ وهو التوراة ﴿ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ ﴾: أي تمامًا لِنِعمتنا على المحسنين من بني إسرائيل، ﴿ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ من أموردينهم، ﴿ وَهُدًى ﴾ لهم من الضلالة، وبيان للطريق المستقيم، ﴿ وَرَحْمَةً ﴾ لهم ﴿ لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ﴾: أي رجاء أن يُصدِّقوا بالبعثبعد الموت، وبالحساب والجزاء، ويعملوا لذلك.

          الآية 155، والآية 156، والآية 157: ﴿ وَهَذَا ﴾ القرآن هو ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ ﴾ على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ مُبَارَكٌ ﴾: يعني كثير الخير والنفع ﴿ فَاتَّبِعُوهُ ﴾ فيما يأمر به ويَنهى عنه، ﴿ وَاتَّقُوا ﴾ الله، فلا تخالفوا له أمرًا ﴿ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾: أي رجاء أنيرحمكم، فتنجوا من عذابه، وتفوزوا بجنته.

          وقد أنزلنا إليكم هذا القرآن ﴿ أَنْ تَقُولُوا ﴾: يعني لِئَلاَّ تقولوا - يا كفار العرب -: ﴿ إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ ﴾ منالسماء ﴿ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا ﴾ وهم اليهود والنصارى، ﴿ وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ﴾: يعني وقد كنا عن قراءة كتبهم في شُغل، وليس لنابها علم ولا معرفة.

          ﴿ أَوْ تَقُولُوا ﴾: يعني ولِئَلاَّ تقولوا - أيها المشركون -: ﴿ لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ ﴾: يعني لو أنَّا أُنزِلَ علينا كتابٌ من السماء كماأُنزل على اليهود والنصارى: ﴿ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ ﴾: أي لكنَّا أشدَّ استقامةً على طريق الحق منهم، فإنه لا عُذرَ لكم الآن ﴿ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾: يعني فقدجاءكم كتابٌ بلسانٍ عربيٍ مبين، وتلك حُجَّةٌ عليكم مِن ربكم، لأنه نزل بلسانكم، ﴿ وَهُدًى ﴾: أي وإرشاد إلى طريقالحق، ﴿ وَرَحْمَةٌ ﴾ لهذه الأمة.

          ﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ﴾: يعني فلا أحد أشد ظلمًا ممن كذَّب بحجج اللهتعالى الواضحة، ﴿ وَصَدَفَ عَنْهَا ﴾: أي وأعرض عنها، ﴿ سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آَيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ﴾: يعني سنعاقب هؤلاء المعرضين عقابًا شديدًا في نار جهنمبسبب إعراضهم عن آياتنا، وصَدِّهم عن سبيلنا.

          الآية 158: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ ﴾: يعني هل ينتظر هؤلاء المُعرضون ﴿ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ ﴾ - وهم مَلَكُ الموت وأعوانهلقبض أرواحهم -، ﴿ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ﴾ عَزّ وَجَلّ يومَ القيامةِ لِيَفصِلَ بينهم بالقضاءِ العادل - إتيَاناً حقيقيٌّاً بذاتِهِ، على الوجهِ اللائق به سُبحانه -، وليس كما يقول البعضُ بأنه يأتي أمرُهُ فقط، ففي صحيح مُسلم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال - وهو يتحدث عن يوم القيامة -: (حتى إِذا لم يَبقَ إِلا مَن كان يَعبُدُ اللهَ تعالىمِن بَرٍّ وفاجر: أَتاهُمْ رَبُّ العالمين سبحانهُوتعالى في أدنَى صورةٍ مِن التي رأوهُ فيها،...)،﴿ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ ﴾: يعني أو هل ينتظرون أنتأتي بعض أشراط الساعة وعلاماتها الدالة على مجيئها، وهي طلوع الشمس منمغربها؟ ﴿ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ ﴾: يعني فحين تطلع الشمس منمغربها: ﴿ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ ﴾: أي لا يَنفعُ نفساً أن تؤمن بعد ظهور هذه العلامة، طالما أنها لم تكن آمنتْ قبل ذلك، ﴿ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ﴾: يعني وإن كانت مؤمنة: فلايُقبل منها كَسْب عمل صالح في تلك اللحظة، طالما أنها لم تكن عاملة به قبل ظهور هذه العلامة، لأن باب التوبة يكونُ مفتوحاً إلى هذا اليوم (وهو يوم طلوع الشمس من مغربها)، ثم بعد ذلك يُغلَق، قال النبي صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح البخاري -: (لا تقومُ الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس: آمَنَ مَن عليها، فذلك حين لا ينفعُ نفساً إيمانُها لم تكن آمنتْ من قبل).

          وذلك لأنه إذا وُجِدَت تلك العلامات: صار الأمرُ يَقينيَّاً، ولم يَبق للإيمان فائدة، لأنه أصبح إيماناً اضطرارياً لا اختيارياً، كإيمان الغريق والحريق ونحوهما، مِمَّن إذا رأى الموت، أقلَعَ عما هو فيه.

          ﴿ قُلِ ﴾ لهمأيها الرسول: ﴿ انْتَظِرُوا ﴾ مجيء ذلك اليوم، لتعلموا مَن مِنَّا على الحق ومَن على الباطل، فـ ﴿ إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ﴾ ذلك اليوم، وعلى يقينٍ بمجيئه.

          الآية 159: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ ﴾: أي جعلوا دينهم مَذاهب تُعادي بعضها بعضاً، وذلك بعد أن كانوا مجتمعين على توحيد الله والعمل بشرعه،﴿ وَكَانُوا شِيَعًا ﴾: أي فأصبحوا فرقاً وأحزاباً، إنك أيها الرسول ﴿ لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ﴾، بل أنت بريءٌ منهم، و ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾، ثم يُجازي كُلاًّ بما عمل.

          الآية 161: ﴿ قُلْ ﴾ أيها الرسول لهؤلاء المشركين: ﴿ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾: أي إنني أرشدني ربي إلى الطريق القويم المُوصِلإلى جنته، وهو دين الإسلام، فهداني ﴿ دِينًا قِيَمًا ﴾: أي ديناً معتدلاً لا عِوَجَ فيه، قائماً بأمر الدنيا والآخرة، ثم زادَهُ مَدحًا بقوله: ﴿ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ﴾ مُذَكِّرًا لهم - لِتقليدهم الآباء- بأنه دين أبيهم الأعظم إبراهيم الذي كان ﴿ حَنِيفًا ﴾: أي مائلاً عن الباطل إلى الحق، ﴿ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ مع الله غيره.

          الآية 162، والآية 163: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي ﴾: أي وما أذبحه تقرُّباً إلى ربي، ﴿ وَمَحْيَايَ ﴾: أي وما أفعله في حياتي من طاعات، ﴿ وَمَمَاتِي ﴾: أي وما أُوصِي به لِيُفعَل بعد وفاتي، كل ذلك أجعله خالصاً ﴿ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ الذي ﴿ لَا شَرِيكَ لَهُ ﴾ في ألُوهِيَّتِه ولا في رُبُوبيَّته ولا في صفاته وأسمائه، ﴿ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ ﴾: أي وبذلك التوحيدالخالص أمرني ربي جَلّ وعَلا، ﴿ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾: يعني وأنا أول مَن أسلَمَ وخضع وانقادَ لأوامر اللهِ تعالى مِن هذه الأمة.

          واعلم أن الله تعالى قد اختص الصلاة والذبح بالذِكر دونَ سائر العبادات، لِشَرَف هاتين العبادتين وفَضلِهما، ودَلالتهما على محبة الله تعالى، وإخلاص الدين له، والتقرب إليه بالقلب واللسان والجوارح، وبالذبح الذي هو بَذْل ما تحبه النفس من المال، لِمَا هو أحَبّ إليها وهو الله تعالى.

          الآية 164: ﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ﴾: يعني أغيرَ الله أطلب رباً إلهاً معبوداً أعبده، وهو خالقُ كل شيء ومالِكُه ومُدَبِّرُه؟، ﴿ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا ﴾: يعني واعلموا أنه لا تكسب نفسٌ مِن خيرٍ إلا وهو لها، ولا تكسب مِن شَرّ إلا وهو عليها، ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾: أي ولا تحمل نفسٌ إثمَ نفسٍ أخرى، إلا إذا كانت سبباً في إضلالها (ولم تَتُب عن ذلك الإضلال)، ﴿ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ من أمر الدين.

          الآية 165: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ ﴾: يعني والله سبحانه هو الذي جعلكم تَخْلُفون مَن سَبقكم في الأرض بعد أن أهلكهم، وذلك لتعمروها بطاعة ربكم، ﴿ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ ﴾ في الرزق والقوة ﴿ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ﴾ ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ ﴾: أي لِيَبْلُوَكُمْ فيما أعطاكم مِن نِعَمِه، فيَظهر للناس الشاكرُ مِن غيره، ﴿ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ ﴾ لِمَن كَفر به وعصاه ولم يَتُب، ﴿ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ ﴾ لِمَن شَكَره، وعمل صالحا وتاب من المعاصي، ﴿ رَحِيمٌ ﴾ به.




          شبكة الالوكة

          تعليق


          • #6
            جزاكم الله خيرَا
            وينقل لقسم التفسير فهو الأنسب له

            "اللهم إني أمتك بنت أمتك بنت عبدك فلا تنساني
            وتولني فيمن توليت"

            "وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"الشورى:36

            تعليق

            يعمل...
            X