تفسير الربع الأول من سورة آل عمران يأسلوب بسيط
الآية 2: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾: أي: الذي لا يَستحق العبادة إلا هو، ثم ذكَر سبحانه البرهان على ذلك؛ فأخبر أنه ﴿ الْحَيُّ ﴾ الذي لا يموت، وكل حَيٍّ غيره مسبوقٌ بالعدم، ويَلحقه الفناء، فهو وحده المُتصِف بالحياة الكاملة، وهذه الحياة الكاملة تَستلزم بالضرورة وجود جميع الصفات - التي لا تتم الحياة إلا بها - (كالإرادة والعِلم والسمع والبصر والقدرة والقوة والعظمة والعِز، وغير ذلك من صفات الجلال والكمال)، وهو سبحانه ﴿ الْقَيُّومُ ﴾: أي: القائم على كل خلقه بالتربية والرعاية والحفظ والرزق والتدبير؛ ولذلك افتقرت إليه جميع مخلوقاته، واستغنى هو سبحانه عن خلقه).
الآية 3، والآية 4: ﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾: أي: ومِن مَظاهر قيامِه تعالى بشؤون عباده ورحمته بهم: أن نزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الكتاب الذي لا ريب فيه، (وهو القرآن)، فكل ما فيه حقٌّ وصِدق، لا باطل فيه بأي وَجهٍ من الوجوه، ﴿ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾: أي: مُوافقًا لِما كان قبله مِن صحيح الكُتب السماوية، فلا يُخالِفها، ولا يَتناقض معها؛ لأن مَصدرها جميعًا واحد، وهو الله تعالى،﴿ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ ﴾: أي: مِن قبل نزول القرآن، ﴿ هُدًى لِلنَّاسِ ﴾: أي: لإرشاد الناس إلى الإيمان، وإلى ما فيهِ صلاح دينهم ودنياهم، ﴿ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ﴾: أي: وأنزل ما يُفرق به بين الحق والباطل؛ كالكتب السماوية والمعجزات، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ﴾ بمن جَحد حُجَجَهُ وأدلته، وتَفرُّده بالعُبودية).
الآية 7، والآية 8: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ ﴾: أي: واضحات الدَّلالة، لا تَحتمل إلا معنًى واحدًا؛ فلذلك ﴿ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾: أي: هُن أصل الكتاب، بحيث يُرجَعُ إلى هذه الآيات عند وجود التباس، أو إشكال في الفَهْم، ﴿ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾: أي: وهناك آياتٌ أُخَر تَحتمل بعض المعاني، فلا يُعلَمُ المُراد منها إلا بضَمِّها إلى الآيات المُحكَمات، ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ﴾: أي: مرضٌ وضلال، فهؤلاء لِسُوء قصدهم: ﴿ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ﴾: أي: فيَذهبون إلى المُتشابِه وحده، دونَ أن يَرجعوا إلى المُحكَم الواضح؛ وذلكَ ﴿ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ ﴾: أي: طلبًا لعمل الفتنةِ؛ ليُثيروا الشُّبُهات عند الناس؛ كي يُضِلوهم، ﴿ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾: أي: ولتفسير هذه الآيات المُتشابهات على ما يُوافق مَذاهبهم الباطلة، ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ﴾: أي: ولا يعلم حقيقة معاني هذه الآيات إلا الله، ﴿ وَالرَّاسِخُونَ ﴾: أي: وأما المُتمكنون ﴿ فِي الْعِلْمِ ﴾ - وَهُم أهل العِلم اليَقيني، الذين رسخت أقدامهم في معرفة الحق، فلا يَزِلُّون مِن أجلِ شُبهة أو باطل - فهؤلاء ﴿ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ﴾: أي: صدَّقنا بهذا القرآن، ﴿ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ﴾: أي: كله - المُحكَم والمُتشابه - قد جاءنا مِن عند ربنا على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ويَرُدُّون مُتشابِهه إلى مُحكَمِه، ﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾: يعني: وإنما الذي يَفهم ويَعقِل المعاني على وجهها الصحيح: هم أصحاب العقول السليمة، فهؤلاء يَسألون ربهم الثبات، ويقولون: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ ﴾: أي: لا تُضِل ﴿ قُلُوبَنَا ﴾، ولا تجعلها تميل عن الحق بسبب شُبهةٍ أو شهوةٍ أو فِتنةٍ، وذلك ﴿ بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ﴾ إلى الحق وعَرَّفتنا به، ﴿ وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ﴾: أي: وامنحنا مِن فضلك رحمة واسعة، ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾: أي: كثير الفضل والعطاء).
الآية 9: ﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ ﴾: يعني: يا ربنا، إنا نُقِرُّ ونَشهد بأنك ستجمع الناس ﴿ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾: أي: ليومٍ لا شك في وقوعه (وهو يوم القيامة)، فمُجازٍ فيه الناس بأعمالهم (حَسنها وسَيئها)، ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾.
الآية 10: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ ﴾: يعني: لن تدفع عنهم ﴿ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ﴾: أي: مِن عذاب الله شيئًا إن وقع بهم في الدنيا، ولن تدفعه عنهم في الآخرة، (﴿ وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ ﴾): أي: حطب ﴿ النَّار ﴾.
الآية 11: ﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾: يعني: إن شأنَ الكافرين في تكذيبهم وما يَنزل بهم من العذاب، كشأن آل فرعون ﴿ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾، فقد ﴿ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ﴾: أي: أنكروا آيات الله الواضحة، ﴿ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ﴾: أي: فعاجلهم الله بالعقوبة بسبب تكذيبهم وعنادهم، ﴿ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾.
الآية 12: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ مِن اليهود وغيرهم، الذين استهانوا بنصرك في بَدْر، وقالوا لك: "لا يَغُرَّنَّك أنك قاتلتَ مَن لا يُحسن الحرب فانتصرتَ عليهم، إنك إن قاتلتَنا ستعلمُ أنَّا نحن الناس، وأنك لم تلقَ مِثلنا"، فلما قالوا قولتهم هذه يُهَددون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمره اللهُ تعالى أن يقول لهم: ﴿ سَتُغْلَبُونَ ﴾ في الدنيا، وستموتون على الكفر، ﴿ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ ﴾ لتكون فراشًا دائمًا لكم، ﴿ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾: أي: وهي بِئسَ الفِراش والمُستقرُّ)، وبالفعل، فقد جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لهم: ((يا مَعشرَ يَهود، احذروا مِن الله مِثل ما نزل بقريش يومَ بدر، قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم، وقد عرفتم أني نبيٌّ مُرسَل، تجدون ذلك في كتابكم وعَهْد الله إليكم))، (وقد صدق القرآن فيما أخبر به مِن هزيمة اليهود، فكان هذا دليلاً على أن القرآن وَحي من الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن الإسلام هو دين الله الحق).
الآية 13: ﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ ﴾ - أيها اليهود المتكبرون المعاندون - ﴿ آيَةٌ ﴾: أي: دلالة وعِبرة عظيمة ﴿ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ﴾: أي: في جماعتين تقابلتا في معركة بَدْر، منهم ﴿ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾: أي: مِن أجلِ دين الله، وهم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ﴿ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ ﴾ تقاتل من أجل الباطل ﴿ يَرَوْنَهُمْ ﴾: أي: وهذه الجماعة الكافرة ترى المؤمنين ﴿ مِثْلَيْهِمْ ﴾: أي: يزيدون عليهم في العدد زيادة كثيرة، تبلغ المضاعَفة وتزيد عليها، وأكَّد هذا بقوله: ﴿ رَأْيَ الْعَيْنِ ﴾، وقد جعل الله ذلك سببًا لنصر المسلمين عليهم، فهزموهم، وقتلوا زعماءهم، وأسَرُوا كثيرًا منهم، ﴿ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾ مِن عباده؛ فاللهُ تعالى يَنصر مَن نَصر دينه، ويَخذل مَن كفر به، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾ الذي حدث ﴿ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾: أي: لَعِظة عظيمة لأصحاب البصائر النافذة، والعقول الكاملة، الذين يَهتدون إلى حِكَم الله وأفعاله، وإلا، فلو نظر الناظر إلى مجرد الأسباب الظاهرة (كالأعداد والعُدَد) لَتأكد بأنه مِن المستحيل هزيمة هذه الفئة القليلة لِتلك الفئة الكثيرة، ولكن كانَ وراء هذا السبب - الذي يُشاهَد بالأبصار - سببٌ أعظم منه، لا يُدركه إلا أهل البصائر والإيمان بالله، والتوكل عليه، والثقة بكفايته، وهو نصره لعباده المؤمنين على أعدائه الكافرين، وإمداده لهم بجنوده التي لا يعلمها إلا هو؛ (كالملائكة، وكإلقاء الرُّعب في قلوب الكافرين، وتكثير أعداد المؤمنين في عيون أعدائهم)، وغير ذلك).
الآية 14: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ ﴾: يعني: والأموال الكثيرة ﴿ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ ﴾: أي: الخيل الحِسَان (الجيدة)، ﴿ وَالْأَنْعَامِ ﴾ من الإبل والبقر والغنم (وهي الضأن والماعز)، ﴿ وَالْحَرْثِ ﴾: يعني: والأرض المتَّخَذة للغَرس والزراعة، ﴿ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ وزينتها الفانية، ﴿ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾: أي: حُسن المرجع والثواب، وهو الجنَّة).
الآية 17: ﴿ الصَّابِرِينَ ﴾ على الطاعات، وعن المعاصي، وعلى ما يُصيبهم من أقدار الله المُؤلمة، ﴿ وَالصَّادِقِينَ ﴾ في الأقوال والأفعال، ﴿ وَالْقَانِتِينَ ﴾: أي: الطائعين المُنقادين لله تعالى، ﴿ وَالْمُنْفِقِينَ ﴾ أموالهم سِرًّا وعلانية، ﴿ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾: أي: الذين يُكثرون من الاستغفار (وهو طلب المغفرة) في آخر الليل، قُبَيْل طلوع الفجر (وهو وقت السحور)؛ وذلك لأن هذا الوقت يُرجَى فيه قبول الاستغفار، وإجابة الدعاء).
الآية 18: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾: أي: لا معبود بحقٍّ إلا هو، وكل معبودٍ سِوَاهُ باطل، وهذا هو ما يُعرَف بـ (توحيد الأُلُوهِيَّة)، وهو إفرادُ الله وحده بجميع أنواع العبادة؛ (كالصلاة والصيام والدعاء والذبح والنذر والطواف والاستعانة - فيما لا يَقدر عليه الخلق - والاستغاثة)، وغير ذلك من أفعال العبد، وهذا النوع من التوحيد هو الذي لم يُقِرَّ به مُشركو العرب، على الرغم من أنهم كانوا يعترفون بأن الله وحده هو المُتفرِّد بالخلق والرزق والتدبير، وغير ذلك من أفعال الرب تبارك وتعالى، وهو ما يُعرَف بـ (توحيد الرُّبوبِيَّة)؛ قال تعالى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ [العنكبوت: 61]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ﴾ [يونس: 31]، ورغم إقرار المشركين بتوحيد الرُّبوبية فإن ذلك لم يُنَجِّهِم من الخلود الأبدي في النار؛ إذ إنه لا بد مِن أن يجمعوا بين توحيد الألوهية وتوحيد الرُّبوبية، فكما اعترفوا بأنه وحده الخالق الرازق، لا بد أن يعترفوا - أيضًا - بأنه وحده المستحق للعبادة، وأن يُوَحِّدوا له عبادتهم، ولكنهم تكبروا عن الإقرار بتوحيد الأُلوهية؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [الصافات: 35]؛ وذلك لأنهم كانوا يعلمون أنهم إذا أقروا بكلمة: (لا إله إلا الله)، فإنهم سوف يَنقادون لأمر الله وحده، ولن يُحَكِّمُوا أهواءهم وشهواتهم في أي أمر بعد ذلك.
﴿ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ ﴾: أي: وقد شهدت الملائكة، وشهد أهل العلم - أيضًا - على أنه لا معبود بحق إلا هو سبحانه، ﴿ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ﴾: أي: قائمًا بالعدل، ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾.
الربع الثاني من سورة آل عمران
الآية 19: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾؛ أي: إن الدين الذي ارتضاه الله لخَلقِه، وأرسل به رسله، ولا يَقْبل غيره هو الإسلام، وهو الانقياد لله وحده بالطاعة، والاستِسلام له بالعبودية، والسلامة من الشِّرك، واتباع الرسل فيما بعثهم الله به من التوحيد، حتى خُتِموا بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذي لا يَقبلُ اللهُ مِن أحدٍ دينًا - بَعدَ بِعثتِهِ - سوى الإسلام الذي أُرسِلَ به؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾، ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ ﴾: أي: وما وقع الاختلاف بين ﴿ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ﴾ مِن اليهود والنصارى، فتفرَّقوا شِيَعًا وأحزابًا ﴿ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ ﴾: أي إلا مِن بعد ما تبينوا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو النبي الذي وُعِدوا به في التوراة والإنجيل، وذلك ﴿ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾: أي ظلمًا وحسدًا، وحفاظًا على المنافع التي بينهم، وطلبًا للدنيا؛ لأن كل فرقة منهم كانت تتمنَّى أن يكون هذا النبي الخاتَم مِن عندها، حتى تكون لها الرئاسة والسُّلطة الدينية والدنيوية دونَ غيرها، ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾؛ أي: فإن الله يُحصِي عليه ذنوبَ كُفره وسيئات عِصيانه، ثم يحاسبه عليها، ويَجزيه بها - وخصوصًا مَن ترك الحق بعدما عرفه - وهو سبحانه سريع الحساب، فلا يَشغله شيء عن آخر، ولا يُتعبه إحصاءٌ ولا عدد).
الآية 20: ﴿ فَإِنْ حَاجُّوكَ ﴾؛ أي: فإن جادلوك بعد أن أقمتَ عليهم الحُجة، ﴿ فَقُلْ ﴾ لهم: ﴿ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ ﴾: يعني أخلصتُ قصدي وتوجهي، وأخلصتُ كل أعمالي القلبية والبدنية لله وحده، وانقدتُ له بقلبي ولساني وجميع جوارحي، (وإنما خَصَّ الوجه لأنه أكرم وأشرف الجوارح، وعليه تظهر المَشاعر، وبه يَحصل التوجُّه إلى كل شيء)، فإذا خضع وجهه لله، خضعتْ له جميع جوارحِه، فلا يُشرك بعبادته أحدًا، ﴿ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ﴾؛ أي: وكذلك مَن اتبعني من المؤمنين، أخلَصوا توجههم وأعمالهم لله، وانقادوا لأمره، ﴿ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ ﴾، وهم مُشركو العرب: ﴿ أَأَسْلَمْتُمْ ﴾؟ ﴿ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا ﴾، إلى الطريق المستقيم، ﴿ وَإِنْ تَوَلَّوْا ﴾؛ يعني: وإن أعرضوا عن الإسلام ﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ﴾؛ أي: فما عليك إلا البلاغ، وقد أبلغتَهم وأقمتَ عليهم الحُجَّة، وحسابُهم على الله تعالى، ﴿ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾.
الآية 21: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ ﴾ ظلمًا ﴿ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ ﴾؛ أي: ويقتلون الناس الذين يَأمرون بالعدل واتباع طريق الأنبياء ﴿ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾؛ أي: فأخبِرهم بخبرٍ يَظهرُ أثره على بَشرَةِ وجوههم ألمًا وحسرة، وهو العذاب المؤلم - للأبدان والقلوب والأرواح - في النار).
الآية 23: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ ﴾؛ أي: آتاهم اللهُ حظًّا وقِسطًا من التوراة ﴿ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ ﴾؛ أي: يُدْعَوْنَ إلى كتابهم الذي يؤمنون به وهو التوراة ﴿ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ﴾؛ أي: ليَفصل بينهم فيما اختلفوا فيه، ﴿ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ ﴾؛ لأن الحُكم لم يوافق أهواءهم، ﴿ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾؛ أي: وهم مِن عادتهم أنهم دائمًا معرضون عن الحق).
الآية 24: ﴿ ذَلِكَ ﴾ الانصراف عن الحق ﴿ بِأَنَّهُمْ ﴾؛ أي: بسبب أنهم ﴿ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ﴾ وهي الأيام التي عبدوا فيها العِجل، وهذا اعتقادٌ فاسد ليس عليه دليل، ﴿ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾: يعني وهذا الافتراء والاعتقاد الفاسد - وهو اعتقادهم بأنهم لن يُعذَّبوا إلا أيامًا قليلة - هو الذي جَرَّأهم على الله تعالى، وعلى استهانتهم بدينه (وهو الإسلام)، وجَرَّأهم كذلك على استمرارهم على دينهم الباطل الذي خَدَعوا به أنفسهم).
الآية 25: ﴿ فَكَيْفَ ﴾ يكونُ حالهم ﴿ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ ﴾ في ذلك اليوم ﴿ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾.
الآية 26، والآية 27: ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ ﴾؛ أي: تمنح المُلك والمال والتمكين في الأرض ﴿ مَنْ تَشَاءُ ﴾ مِن عبادك ﴿ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْر ﴾ لا بِيَدِ غيرك، تُفِيضُهُ على مَن تشاء، وتَمنعه عَمَّن تشاء ﴿ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ فلا يَمتنع عليك أمر من الأمور، بلِ الأشياءُ كلها طَوْع مَشيئتك وقدرتك، ومِن دلائل قدرتك - سبحانك - أنك ﴿ تُولِجُ ﴾؛ أي: تُدخِل ﴿ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ﴾ فيَطولُ هذا ويَقصُر ذاك، ﴿ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ﴾ كإخراج الزرع من الحَب، والمؤمن من الكافر، ﴿ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ﴾ كإخراج البيض من الدجاج، والكافر من المؤمن، ﴿ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾.
الآية 28: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾: يَنهى الله المؤمنين أن يتخذوا الكافرين أولياء - بالمَحبة والتأييد والمَعونة والنُصرة - على إخوانهم المؤمنين، ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ﴾؛ أي: ومَن يَتولهم ﴿ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ﴾؛ أي: فاللهُ برِيءٌ منه، حيث وَالَى أعداءَ الله، وعادَى أولياءه، ومَن بَرِئَ اللهُ منه فقد هَلك ﴿ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ﴾: يعني إلا أن تكونوا ضِعافًا خائفين، تعيشون تحت سلطانهم، فقد رخَّص الله لكم في أن تُعطوهم حلاوة لسانكم (بكلمات المجاملة والمُلاطفة)، مع مُخالفتهم بقلوبكم وأعمالكم، فتَتَّقونَ بذلك شَرَّهُم وأذاهم حتى تقوى شَوكتكم، ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾ في أن تتخذوا أعداءه أولياء ضد أوليائه، فاتقوه وخافوه، ﴿ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾.
الآية 29: ﴿ قُلْ ﴾ للمؤمنين: ﴿ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ ﴾ من مَحبة الكافرين ونُصرتهم، ﴿ أَوْ تُبْدُوهُ ﴾ للناس: ﴿ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ﴾، وسيحاسبكم عليه، ﴿ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾؛ أي: وعِلمُهُ تعالى مُحيطٌ بكل ما في السماوات وما في الأرض، ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾؛ أي: وله القدرة التامة على كل شيء).
• ورغم أنه كان من المُتوَقع - بعد أنْ ذكر الله عِلمَهُ الخاص (وهو علمه بما في الصدور)، وبعد أن ذكر علمه العام (وهو علمه بجميع ما في السماوات والأرض) - أن يقول بعدها: (والله بكل شيء عليم)، ولكنه سبحانه أراد إثبات صفة القدرة بعد إثباته لصفة العِلم، حتى يَكمُلَ بذلك تحذيرُهُ للعُصاة، فكأنه سبحانه أراد أن يقول: (ويُحذِّركم اللهُ نفسَه، فلا تتجرَّؤوا على عِصيانه ومُوالاةِ أعدائه؛ إذ إنه ما مِن معصية - خَفيةٍ كانت أو ظاهِرة - إلا وهو مُطَّلِعٌ عليها، وقادرٌ على العقاب بها، وإنْ أنظرَ مَن أنظر، فإنه سبحانه يُمهِل، ثم يأخذ أخْذَ عزيزٍ مُقتدِر).
• واعلم أن قوله تعالى: ﴿ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ﴾، فيهِ إرشادٌ إلى تطهير القلوب، واستحضار عِلم الله تعالى بما فيها في كل وقت، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم -: ((إن الله لا يَنظر إلى صوركم وأموالكم، ولكنْ ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))، فالقلب هو مَحلُّ نظر الرب، فلذلك ينبغي أن يَستحي العبد أن يَرى اللهُ تعالى في قلبه أيَّ فِكرٍ رديء، بل عليه أن يشغل أفكاره فيما يُقربه إلى ربه (مِن نصيحةٍ يَنصحُ بها عباده، أو تدبُّر لآيةٍ من كِتابه، أو تفكُّر في عظمتِهِ تعالى ونِعَمِه، فيَستشعر أن عافيةَ اللهِ فضْل، وأن بلاءهُ عَدْل؛ إذ إنه لو عامله اللهُ بِعَدْلِه لأَهْلَكَهُ في الحال؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ ﴾ [فاطر: 45]، فبذلك يَشعر أنه لا يَستحق كل ما هو فيه من النِّعم بسبب ذنوبه، فساعتَها ينطقُ قلبُهُ بكلمة: (الحمدُ لله) - التي تملأ الميزان - قبل أن ينطق بها لسانه، وذلك على كل لحظة عافية تمر عليه هو لا يَستحقُّها).
الآية 30: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا ﴾؛ أي: ينتظرها لتُجزَى به، ﴿ وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ ﴾ تجده أيضًا في انتظارها، و﴿ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا ﴾؛ أي: زمنًا ﴿ بَعِيدًا ﴾، ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾ فاستعدوا لذلك اليوم، وخافوا بَطشَ اللهِ وعقابه إن عصيتموه، ﴿ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾؛ أي: ومع شدَّة عقابه، فإنه سبحانه رءوفٌ بالعباد، إذ لم يعاجلهم بالعقوبة، مع قدرته على ذلك).
الآية 31: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ ﴾ حقًّا ﴿ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾، فهل هناك شيء أفضل مِن مَحبة الله تعالى لعبده، وغفرانه لذنوبه؟! فوالله لو أيْقنَ العبد ذلك، لكانَ حريصًا - كُلَّ الحِرص - على التمسك بسُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم، والاقتداء به في أقواله (كالمداومة على أذكار الصباح والمساء، وأذكار النوم، وغير ذلك من الأذكار والأدعية التي صَحَّتْ عنه صلى الله عليه وسلم)، وكذلك الاقتداء به في أفعاله (كالصلاة كما كان يُصلي، والوضوء مثل وضوئه، وغير ذلك)، وكذلك التأدُّب بآدابه في الطعام والشراب وغير ذلك، وكذلك التخلق بأخلاقه (قدر المُستطاع)، فقد كان صلى الله عليه وسلم لا يغضب لنفسه، وإنما كان يغضب إذا انتُهِكَ حَدٌّ مِن حدود الله.
• ويُلاحَظُ هنا أن الله تعالى قال: ﴿ يُحْبِبْكُم ﴾، ولم يقل: (يُحِبُّكُم)؛ وذلك لِيُوَضِّح لنا أن هذا الأمر يأتي بالتَدَرُّج، فكلما ازداد اتباعُك للنبي صلى الله عليه وسلم، كلما ازدادت محبة الله تعالى لك، وقد قال الحسن البَصْرِيُّ - رحمه الله - عن هذه الآية: (ادَّعَى قومٌ أنهم يحبون الله، فأنزل الله هذه الآية مِحْنَةً لهم - أي: امتحانًا لهم - إن كانوا صادقين في حب الله تعالى، فليتبعوا سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم)، فهذه الآية حاكمة على كل مَن ادَّعَى محبة الله تعالى وهو ليس مُتَّبِعًا لسُنَّةِ نَبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وليسَ مُطِيعًا له في أمْرِهِ ونَهْيِه.
• واعلم أن هذا الاتباع شرطٌ من شروط قبول العمل (مِثل الإخلاص تمامًا)؛ بحيث إنَّ العبد إذا فعل أمرًا مُبْتَدَعًا - لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه الكِرام مِن بعدِه - فإن ذلك العمل لا يقبله الله منه؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين -: ((مَن عمل عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ))؛ أي: فهو مَردودٌ على صاحبه، وقد أخبر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم - كما في صحيح مسلم - أن هناك أناسًا مِن أمته سوف يُطرَدون عن حَوضه يوم القيامة - رغم شدة الحر والعطش، ورغم حدوث الأمل لهم في النجاة بعدما رأوا الحَوض - فيناديهم صلى الله عليه وسلم: ((ألاَ هَلُمَّ)) فيُقالُ له: ((إنَّهم قد بَدَّلوا بَعدَك))، فيقول لهم: ((سُحقًا سُحقًا - أي: بُعدًا بُعدًا - لمَن بَدَّلَ بَعدي))، ففي هذا دليل على خطورة التفريط في اتباع سُنته صلَّى الله عليه وسلَّم.
الآية 32: ﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ ﴾ باتباع كِتابه، ﴿ وَالرَّسُولَ ﴾؛ أي: وأطيعوا الرسول باتباع سُنته في حياته وبعد مماته، ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا ﴾؛ أي: فإن أعرضوا عنك، وأصروا على ما هُم عليه مِن كُفرٍ وضلال، فاعلم أنهم ليسوا أهلاً لِمَحَبَّة الله تعالى لهم؛ ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾.
................
تفسير الربع الثالث من سورة آل عمران بأسلوب بسيط
الآية 34: ﴿ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ﴾: أي: إن هؤلاء الأنبياء والرسل - وهم آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عِمران - هم سلسلة طُهْر متواصلة في الإخلاص لله وتوحيده، والعمل بِوَحْيِه، ﴿ وَاللَّهُ سَمِيعٌ ﴾ لأقوال العباد ﴿ عَلِيمٌ ﴾ بنيَّاتهم وأفعالهم؛ ولذلك يَصطفي مِنهم مَن يَعلمُ استقامته قولاً وفِعلاً، وهذا مِثل قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [الأنعام: 124].
الآية 35: ﴿ إِذْ ﴾: أي: اذكر حينَ ﴿ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ﴾: أي: جعلتُ لك ﴿ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا ﴾: أي: خالصًا لك، لخِدمة بيت المقدس، ﴿ فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ ﴾ وحدك ﴿ السَّمِيعُ ﴾ لدعائي ﴿ الْعَلِيمُ ﴾بنيَّتي).
الآية 36: ﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى ﴾ لا تصلح للخدمة فيبيت المقدس، ﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ﴾ وسوف يَجعل لها شأنًا، ثم قالت امرأة عِمران: ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ ﴾ الذي أردتُ للخدمة ﴿ كَالْأُنْثَى ﴾ في ذلك؛ لأن الذكر أقوى على الخدمة، ﴿ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا ﴾: أي: أحَصِّنها ﴿ بِكَ ﴾ ﴿ وَذُرِّيَّتَهَا ﴾: أي: وكذلك أحَصِّن ذريَّتها بك ﴿ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾: أي: المطرود من رحمتك).
الآية 37: ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ ﴾: أي: فاستجاب اللهُ دعاءها، وقَبِلَ منها نَذرها أحسن قَبول - ولم يَقبل أنثى مَنذورة غيرها - وعصم ابنتها مريم وولدها مِن مَسِّ الشيطان عند الولادة، قال النبي صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين -: ((ما مِن مولودٍ يُولد إلا والشيطان يَمَسُّهُ حين يُولد، فيَستَهِلُّ صارخًا مِن مس الشيطان، إلا مريم وابنها))؛ وذلك استجابةً لدعائها: ﴿ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾، واعلم أن كلمة: ﴿ بِقَبُولٍ حَسَنٍ ﴾ توضح أن هناك زيادة في رضاه تعالى عن امرأة عمران).
• ﴿ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ﴾: أي: وتولَّى ابنتها مريم بالرعاية والتربية منذ ولادتها؛ وذلك لأن الله تعالى جعل زكريا عليه السلام كافلاً لها، قال تعالى: ﴿ وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ﴾، فأسكَنها في مكان عبادته؛ ليربيها على أكمل الأحوال، فنشأت في عبادة ربها، وكان ﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ ﴾ - وهو مكان صلاته - ﴿ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ﴾ هنيئًا مُعَدًّا فـ ﴿ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا ﴾: أي: مِن أين لكِ هذا الرزق الطيب؟ ﴿ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾.
الآية 38: ﴿ هُنَالِكَ ﴾: أي: في هذا المكان المبارك الذي حدثت فيه هذه الكَرامة لمريم: ﴿ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ﴾ فـ ﴿ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ﴾: أي: ولدًا صالحًا مباركًا، وإنما قلنا بأن المقصود بالذرية هنا هو الذكر وليس الأنثى؛ لأنه سبحانه قد أخبرَ في آيةٍ أخرى أن زكريا دعاهُ فقال: ﴿ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ﴾ [مريم: 5، 6]، ثم أتَمَّ زكريا دعاءه، فقال: ﴿ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾: أي: لِمن دَعاك).
• وفي هذا إرشادٌ إلى اغتنام الدعاء في الأماكن المباركة (كالمساجد بصفة عامة)، (وكالبيت الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى) بصفة خاصة، وكذلك في الأزمِنة المباركة (كشهر رمضان، والعشر الأوائل من ذي الحجة، وعند نزول المطر، وقُبَيْل طلوع الفجر، وفي آخر ساعة من يوم الجمعة، وغير ذلك).
الآية 39: ﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ ﴾: أي: يُخبركبخبر يَسُرُّك، وهو أنه رزقك ﴿ بِيَحْيَى ﴾ الذي سيكونُ ﴿ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ ﴾: أي: مُصَدِّقًا بعيسى ابن مريم عليه السلام - الذي سيكونُ وُجودُهُ بكلمةٍ مِن الله، وهي كلمة: "كُن" -، ﴿ وَسَيِّدًا ﴾: أي: وسيكون يحيى سيدًافي قومه، له المكانة والمنزلةالعالية، ﴿ وَحَصُورًا ﴾: أي: لا يأتي الذنوب والشهوات الضارة، ﴿ وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ الذين بلغوا الذروة في صلاحهم).
الآية 40: ﴿ قَالَ ﴾ زكريا فرِحًا متعجبًا: ﴿ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ ﴾: أي: أدركتني الشَّيخوخة وأضعفتني ﴿ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ﴾: أي: عقيم، ﴿ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾: يعني: هذا الذي يَحدث لكِ ليس بمُستبعَد على الإله القادر الذي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ من الأفعال الخارقةللعادة).
الآية 41: ﴿ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ﴾: يعني: علامةً علىوجود هذا الولد؛ ليَحصل لي السرور والاستبشار، ﴿ قَالَ آيَتُكَ ﴾ التي طلبتَها هي ﴿ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا ﴾: يعني: ألاَّتستطيع التحدث إلى الناس ثلاثة أيام إلا بالإشارة إليهم، مع أنك سَوِيٌّ صحيح، ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا ﴾: يعني: وفي هذه المدة أكثِرْ مِن ذِكر ربك، ﴿ وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾: أي: أواخِر النهار وأوائله).
الآية 42: ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ ﴾: والمُراد بهذاالاصطفاء أنه سبحانه اختارها لطاعته، وفرَّغَها لعبادتِه؛ ولذلك خَصَّها بأنواع الهِداية والعِصمة واللُّطف، فقد كفاها أمْرَ عَيْشها، فكانَ رِزقها يأتيها من عند الله، وأنه تعالى أسْمَعَها كلام الملائكة شَفَاهَة، ولم يَحدث هذا لأنثى غيرها، ﴿ وَطَهَّرَكِ ﴾ مِن الكُفر والمَعصية والأخلاق الرذيلة، ﴿ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴾: والمُراد بهذا النوع منالاصطفاء أنه تعالى وَهَبَ لها عيسى عليه السلام من غير أب،وأنطقَ عيسى حالَ انفصالِهِ منها ليَشهد لها ببراءتها مِن التُّهمة،فبذلك جعلها وابنها آية للعالمين).
الآية 43: ﴿ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ ﴾: أي: داوِمِي على الطاعة لربك، وقومي في خشوع وتواضع، شكرًا له على ما أعطاكِ مِن نِعَمِه، ﴿ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾، ويُلاحَظ هنا أنه سبحانه لم يقل: (واركعي مع الراكعات) مع أنها أنثى، وقد قال عنها - أيضًا - في آيةٍ أخرى: ﴿ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾ [التحريم: 12]؛ وذلك لأنه تعالى لمَّا كان يريد أن يَمدحَ عبدًا من عباده - رجلاً كانَ أو امرأة - كان يَمنحه درجة الرجال، قال تعالى: ﴿ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ﴾ [البقرة: 228].
الآية 44: ﴿ ذَلِكَ ﴾ الذي قصَصْناهُ عليك هو ﴿ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ ﴾ الذي ﴿ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ﴾ ﴿ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ﴾: أي: وما كنتَ معهم حين اختلفوا في كَفالة مريم أيُّهم أحَقُّ بها وأوْلَى، فأجْرَوُا القرعة، وألقَوْا أقلامهم التي يكتبون بها التوراة، فوقع الاختيار على قلم زكريا عليه السلام، ففاز بكفالتها، ﴿ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾: أي: حين وقع بينهم هذا الخصام).
الآية 45: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ﴾: أي: يُبشركِ بمولودٍ يكون وجوده بكلمةٍ من الله، وهي كلمة: "كن"، وهذا المولود ﴿ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ﴾، وسيكون ﴿ وَجِيهًا ﴾: أي: له الجاه والشرف والقدْر ﴿ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ عندالله يوم القيامة)، واعلم أن لفظ: (المَسيح) هو لقب من الألقاب المُشَرَّفة كالصِّدِّيق والفاروق، وأصلُهُ بالعِبرانية: (مشيحا)، ومعناه: المبارك).
الآية 46: ﴿ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ ﴾: أي: بعد ولادته، ﴿ وَكَهْلًا ﴾: أي: وكذلك يكلمهم في حال كُهُولته بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان ويَقتل الدَّجَّال، (قال الحسين بن الفضل رحمه الله: "وفي هذه الآية نَصٌّ في أنه عليه الصلاة والسلام سينزل إلى الأرض)، فقد رُفِعَ عيسى عليه السلام إلى السماء وَعُمْرُهُ ثلاثٌ وثلاثون سنة (أي وهو في شبابه)، ﴿ وَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾: أي: وهو مَعدود من أهل الصلاح والفضل في قوله وعمله).
الآية 47: ﴿ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ﴾؟! ﴿ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ﴾: أي: هذا الذي يحدث لكِ ليس بمُستبعَد على الإله القادر،الذي يُوجِدُ ما يشاء من العدم، و ﴿ إِذَا قَضَى أَمْرًا ﴾: أي: إذا قدَّرَ أمرًا، وأراد إيجاد شيء: ﴿ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾.
• ويُلاحَظ هنا أن الله تعالى قال في قصة مريم: ﴿ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ﴾؛ لأن الأمر كان مُعجِزًا وخارقًا للعادة، مِن غير وجود السبب الطبيعي للإنجاب، أما في أمر زكريا عليه السلام فإنه قال: ﴿ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾؛ لأن الأمر كان طبيعيًّا بين الرجل والمرأة، وكانت أسباب الإنجاب موجودة، ولكنها كانت مُعَطَّلَة).
الآية 48: ﴿ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ ﴾: أي: ويعلمه الكتابة، ﴿ وَالْحِكْمَةَ ﴾: أي: وسُنَن الأنبياء عليهم السلام، والفِقه، والسَّداد في القول والفعل، ﴿ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ﴾.
الآية 49، والآية 50، والآية 51: ﴿ وَرَسُولًا ﴾: أي: ويَبعثه رسولاً ﴿ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ قائلاً لهم:﴿ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ تدلُّ على أني مُرْسَلٌ مِن الله، وهي ﴿ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ ﴾: أي: أصنع لكم ﴿ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ ﴾: أي: مِثل شَكل ﴿ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ ﴿ وَأُبْرِئُ ﴾: أي: وبإذن الله تعالى أشفِي ﴿ الْأَكْمَهَ ﴾ وهو الأعمى، ﴿ وَالْأَبْرَصَ ﴾ وهو الذي أصابه مَرَضُ البَرَص فتغيَّر لونُ جلدِه، ﴿ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ ﴿ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ﴾ ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾: أي: إن كنتم مُصَدِّقين حُجَجَ اللهِ وآياتِه، مُقرِّين بتوحيده).
• وهنا ينبغي أن نعرف الفرق بين المُعجِزات وبين ما يُسمونه بـ (السِّحر والشَّعْوَذَة): وهو أن المعجزة التي تحدث على يد النبي فإنه لا يَتباهَى بها، بل يَستدِلُّ بها لتقريب الناس إلى ربهم عَزَّ وجَلَّ، ولِدَعوَتِهم إلى التوحيد الخالص، وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من أعمال الخير والصلاح، أما التي تحدث على يد الكاهن أو الساحر فإنه يَدعو بها لنفسه وللشياطين، وللشِّرك بالله عَزَّ وجَلَّ، وفِعل المُنكَرات، وأكْل أموال الناس بالباطل.
• ثم قال لهم عيسى عليه السلام: ﴿ وَمُصَدِّقًا ﴾: أي: وجئتُكُم مُصَدِّقًا ﴿ لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ﴾ المُنَزَّلة على أخي موسى عليه الصلاة والسلام، لأحُثَّكُم على العمل بها، ﴿ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ﴾ مِن الأطعِمة بسبب ذنوبكم، ثم أعادَ تذكيرهم بالمعجزات مرة أخرى، فقال: ﴿ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾؛ وذلك ليكون كلامه مؤثرًا في قلوبهم وطباعهم الغليظة، ولِيُؤكد أنها مِن عند الله، وليست من عند نفسه، فكأنه أراد أن يقول: "وجئتُكم بآيةٍ تدل على أن الله هو ربي وربكم، وعلى أني رسولٌ من عنده".
• ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ ﴿ وَأَطِيعُونِ ﴾ فيما أبَلغُكُم به عن الله، ﴿ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ﴾: أي: إن الله - الذي أدعوكم إليه - هو وحده ربي وربكم فاعبدوه، فأنا وأنتم سواءٌ فيالعُبودية والخضوع لله تبارك وتعالى، وإلاَّ، فدَعونا نتسائل: (أين قال عيسى في الإنجيل: (اعبدوني لأنني أنا ربُّكُم)؟! وأين هو - أصلاً - إنجيل عيسى ابن مريم عليه السلام؟! وهل يُعقلُ أن ينزل الإله مِن عَليائِهِ لِيَعيشَ في بطن امرأة، ثم يَخرج منه ليَعيش على الأرض، فيَرضع مِن أمِّهِ، ويحتاجَ إلى الطعام والشراب، وينام، ويحتاجَ إلى قضاءِ حاجته، ويَنشغلَ بأمر نفسِه؟! هل هذا إلهٌ يَستحق أن يُعبَد؟!) تعالى اللهُ عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا؛ ولذلك قال عيسى عليه السلام بعدها: ﴿ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾: يعني: وهذا - أي عبادة الله تبارك وتعالى وحده لا شريك له - هو الطريق الصحيح الذي لا اعْوِجاجَ فيه)، وهذا مُطابقٌ تمامًا لِما دعا إليه جميع الأنبياء والرسل منتوحيد الله تعالى، وإخلاص العبادة له.
الربع الرابع من سورة آل عمران
الآية 52: ﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ ﴾ أي: من اليهود ﴿ الْكُفْرَ ﴾: أي: التصميم على الكفر برسالته: نادَى في أصحابه المخلصين، فـ ﴿ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ﴾: أي: مَن يكونمعي في نُصرة دين الله؟، ﴿ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ ﴾ وهم أصفياء عيسى (الذين اختارَهم لِصُحبته): ﴿ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ﴾: أي: نحن أنصار دين اللهِ والداعون إليه، ﴿ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾: أي: وَاشْهَدْ يا عيسى بِأَنّنَا مستسلمون للهِ تعالى بالتوحيدوالطاعة).
♦ وفي هذا دليل على أن دينَ الله واحدٌ وهو الإسلام، وذلك على مُختلف الأزمان والعصور، قال تعالى: ﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾، ولكنّ الشرائع هي التي اختلفت، كما قال تعالى: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾، ثم خُتِمَت بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم التي نَسخت جميع الشرائع المُنزَّلة، قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ ، ولذلك تَعهَّد اللهُ تعالى بحِفظ القرآن، قال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾، وقال تعالى: ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ﴾، أما الكتب السماوية الأخرى فإنّ الله لم يتعهد بحفظها، ولكنه وَكَلَ حِفظَها إلى الأحبار والرُهبان، قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ﴾، ولذلك أصابها التحريف).
الآية 53، والآية 54: ﴿ رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ ﴾: أي: عيسى عليه السلام، ﴿ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾: أي: فاجعلنافي الآخرة مع مَن شَهِدوا لك بالوحدانية ولأنبيائك بالرسالة، وهم أمة محمد صلى الله عليهوسلم، الذين يَشهدون للرسل بأنهم قد بلَّغوا أمَمَهم)، فلما قام الحواريون مع عيسى بنُصرة دين الله وإقامة شَرعه: آمنَتْ طائفة مِن بني إسرائيل بعيسى، وكفرتْ طائفة أخرى، فاقتتلت الطائفتان، فلهذا قال تعالى: ﴿ وَمَكَرُوا ﴾: أي: ومَكر الذين كفروا - من بني إسرائيل - بعيسى عليه السلام، بأن وَكَّلوا به مَن يَقتله، ﴿ وَمَكَرَ اللَّهُ ﴾ بهم، فألقى شَبَه عيسى على رجلٍ دَلَّهم عليه، فأمسَكوا به، وقتلوه وصلبوه (ظناً منهم أنه عيسى عليه السلام)، ﴿ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾.
♦ وفي هذا إثبات صفة المَكْر لله تعالى على ما يَليقُ بجلاله وكماله، لأنه مَكْرٌ بحق، وفي مقابلةمَكْر الماكرين)، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: (وامكُر لي ولا تمْكُر عليّ) (انظر صحيح الترمذي: 3551)، ومما يَجب أن يُعلَم أنَّ أفعالَ الله تعالى لا تُشبه أفعال العباد، لأنّ ذاتَهُ سبحانه لا تُشبه ذَواتِهم.
الآية 55: ﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ﴾: يعني: ومكر الله بهم حين قال لعيسى: ﴿ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ﴾: أي: إني قابضك من الأرض - حياً - مِن غير أن يَنالك سُوء، ومُتمِمٌ لك ما كُتِبَ لك مِن أيام بقاءك مع قومك، ﴿ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ﴾ ببدنك وروحك، (واعلم أن بعض المُفسرين قد فسَّروا قوله تعالى لعيسى: (إني متوفيك): أنه ألقَى عليه النوم، ثم رفعه إليه، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ﴾ ، فأطلق سبحانه لفظ الوفاة على النوم)، ﴿ وَمُطَهِّرُكَ ﴾: أي: ومُخلصك ﴿ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ﴿ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ ﴾: أي: الذين هم على دينك الحق (مِن توحيد الله تعالى، ومِن البِشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم)،فآمَنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد بعْثَته، والتزموا شريعته، فأولئك سأجعلهم ﴿ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾، وبالفعل، فقد أخبر سبحانه - في آيةٍ أخرى - بأنه أيَّد المؤمنين منهم على عدوهم، فأصبحوا ظاهرين عليهم، حتى بعث الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، فكان المسلمون هم المُتبعين لعيسى حَقيقةً، فأيَّدهم اللهُ تعالى ونصرهم على اليهود والنصارى وسائر الكفار، وإنما يَحصل في بعض الأزمان انتصار الكفار على المسلمين، وذلك حِكمةًً مِن الله تعالى، وعقوبةً للمسلمين على تَرْكِهم العمل بكتاب ربهم، وسُنَّة رسولهم صلى الله عليه وسلم، ﴿ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ مِن أمْر عيسى عليه السلام).
♦ واعلم أنّ في قولِهِ تعالى: (وَرَافِعُكَ إِلَيَّ): دليلٌ على عُلُوّ اللهِ تعالى واستوائِهِ على عرشهِ حَقيقةً، كما دَلَّت على ذلك النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة، مِن غير تشبيهٍ - لهذا الاستواء - ولا تَكييف، (يعني مِن غير أن نقول: كيف استوى على العرش؟)، وسيأتي تفصيل ذلك في مَوضعه بإذن الله تعالى.
الآية 56: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ بالمَسيح من اليهود، أو غَلَوا فيه من النصارى (يعني جاوَزوا الحَدّ في تعظيمه)، ﴿ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا ﴾ بالقتل وسلْبِ الأموال وإزالة المُلك، ﴿ وَالْآَخِرَةِ ﴾: أي: وأعذبهم في الآخرةبالنار، ﴿ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾ يَنصرونهم ويَدفعون عنهم عذاب الله).
الآية 58: ﴿ ذَلِكَ ﴾ الذي ﴿ نَتْلُوهُ عَليْكَ ﴾: أي: نقصُّه عليك في شأن عيسى هو ﴿ مِنَ الْآَيَاتِ ﴾: أي: من الدلائل الواضحة على صحة رسالتك، وذلك باعتراف علماء النصارى أنفسِهِم، مثل النَجاشِي (مَلِك الحَبَشة)، وَمَن معه، فحِينما تلا عليهم جعفر بن أبي طالب آياتٍ مِن سورة مريم، حتى وصل إلى قول الله تعالى - حِكايةً عن عيسى -: ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾، قال النَجاشيُّ لِجعفر: (إنَّ الذي قلتَ - (وهو القرآن) -، والذي قال عيسى - (وهو الإنجيل) - لَيَخرُجُ مِن مِشكاةٍ واحدة)، وهو اللهُ تبارك وتعالى.
﴿ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ﴾: يعني: وهذا الذي نتلوه عليك هو من الدلائل الواضحة على صحة هذاالقرآن الحكيم الذي يَفصل بين الحق والباطل).
الآية 59: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ﴾: أي: إنَّ خَلْقَ الله لعيسى مِن غير أب، مَثَلُُهُ كَمَثل خَلْق الله لآدم من غير أب ولا أم، إذ خَلَقَهُ من تراب الأرض، (﴿ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ ﴾) بَشراً (﴿ فَيَكُونُ ﴾)، فدَعوَى ألوهية عيسىلكونه خُلِقَ من غير أب دَعوَى باطلة، لأن آدم عليه السلام خُلِقَ من غير أب ولا أم،وقد اتفق الجميع على أنه عَبْد من عباد الله، وإلاَّ، فقد كانَ آدمُ هو الأوْلَى بهذا الادِّعاء).
♦ ويُلاحَظ هنا أن الله تعالى قال: (﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾)، رَغمَ أنه كانَ مِن المُتوَقَّع أن يقول: (خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَكان)، أي بصيغة الماضي، اتفاقاً مع سِياق الآية، ولكنه سبحانه أراد أن يُوضح أن هذا الأمر - وهو أمْر: (كُن فيكون) - يَتحقق في كل وقتٍ وحِين (في الماضي وفي المُستقبَل)، فكأنه سبحانه أراد أن يقول: (خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَكان، وكذلك يكونُ أيّ شيءٍ يُريده، في أيّ وقتٍ يُريده).
الآية 60: ((﴿ الْحَقُّ ﴾): يعني: الذي جاءك أيها الرسول في أمر عيسى هو الحقُّ (﴿ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾): أي: فاستمِرّ علىيَقينك، ولا تكن من الشاكِّين، وفي هذاتثبيتٌ وطَمأنَة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأمّته).
الآية 61: ((﴿ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ ﴾): أي: فمَن جادَلَك في أمر عيسى - مِن أهل الكتاب - (﴿ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ﴾)، فنجتمعُ جميعاً في مكانٍ واحد، (﴿ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴾): أي: ثم نتجه إلى الله بالدعاء أن يُنزل عقوبته ولَعْنتهعلى الكاذبين مِنّا، المُصِرِّين على عِنادهم، فيَهلَكوا على الفور) وبالفِعل، فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغَد، ومعه الحسن والحسين وفاطمة (رضي الله عنهم)، إلاَّ أنّ علماء نصارى نَجران (الذين جاءوا يُجادلونه في أمر عِيسى) هَربوا من هذه المُلاعَنة، وذلك لأنهم عرفوا الحق، وخافوا إن لاعَنوا أن يَهلكوا، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فأبَوْا، ورَضوا بالكفر (إبقاءً على زَعامتهم ودُنياهم)، ورضوا بالمُصالحة، فالتزموا بأداء الجِزيَة للمسلمين، (ففي هروب علماء نصارى نجران مِن المُلاعَنة: دليلٌ قاطع على أن محمداً هو رسول الله، وأنَّ دِينَهُ هو الدين الحق، وما سِواهُ باطل).
الآية 62: ((﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ﴾) (﴿ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ ﴾): أي: وما مِن مَعبودٍ يستحق العبادة إلا الله وحده، (﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾).
الآية 63: ((﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ﴾): يعني: فإن أعرَضوا عن تصديقك واتباعك فهم المفسدون، والله عليمٌ بهم، وسيُجازيهم على ذلك.
الآية 64: ((﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ﴾): أي: إلى كلمةِ عدلٍ وحَقٍّ نلتزم بها جميعًا، وهي (﴿ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ﴾): يعني: ولا نتخذ أيَّ شريك معه،مِن وَثَنٍ أو صَنَمٍ أو صليب أو غير ذلك، (﴿ وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾): أي: ولا يَدِينُ بعضُنا لبعضٍ بالطاعة مِندون الله، (﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا ﴾) علينا (﴿ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾): أي: منقادون لربنا وحده بالعبودية والإخلاص).
الآية 65: ((﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ ﴾) بأن يَدَّعِي كلُ فريقٍ منكم أنه كان على مِلَّتِه، (﴿ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ ﴾): أي: وقد علمتم أن اليهودية والنصرانية قد حدثت بعد وفاته بزمن؟ (﴿ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾)؟).
الآية 67: ((﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا ﴾) (﴿ وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا ﴾): أي: مائلاً عن أي دين باطل، فكان عليه السلام (﴿ مُسْلِمًا ﴾): أي: مستسلمًا لربه، مُتَّبعًا لأمرِهِ وطاعته، (﴿ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾).
الآية 68: ((﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ﴾): أي: لَهُمُ الذين اتبعوه على التوحيد مِن أمَّته، وآمَنوا برسالته، (﴿ وَهَذَا النَّبِيُّ ﴾): أي: وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم، (﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا ﴾) بهِ هم أحَقّ الناس بإبراهيم، وأوْلَى بهِ مِن غيرهم، لأنهم هم الذين اتبعوه على مِلَّتِه، وأما مَن نَبذ مِلَّتَهُ وراءَ ظهره كاليهود والنصارى والمشركين، فليسوا من إبراهيم، وهو ليس منهم، (﴿ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾)).
♦ واعلم أنَّ اللام التي في قوله تعالى: (﴿ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ﴾) تُسَمَّى: (لام التوكيد) واعلم أيضاً أن هذه الآيات قد اشتملت على النَهي عن الجدال بغير علم.
الآية 69: ((﴿ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ﴾) عن الإسلام، (﴿ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ﴾) وأتباعهم (﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾) بذلك لفساد قلوبهم).
الآية 70: ((﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ﴾): يعني: لِمَ تجحدون - حسداً وعِناداً - بآيَاتِ اللَّهِ التي أنزلها في كتبكم،وفيها أن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو الرسول المُنتظَر، وأنَّ ما جاءكم به هوالحق، (﴿ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾) بذلك في أنفسكم، ولكنكم تُنكرونه أمام الناس).
الآية 72: ((﴿ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا ﴾): أي: أظهِروا الإيمان (نِفاقاً) (﴿ بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ ﴾): أي: أولالنهار، (﴿ وَاكْفُرُوا ﴾) به (﴿ آَخِرَهُ ﴾): أي: آخرالنهار (﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾): أي: لعلهم يتشكَّكون في دينهم فيَرجعونَ عنه).
الآية 73: ((﴿ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ﴾): يعني: ولا تُصدِّقوا تصديقًا صحيحًا إلا لمَن آمَنَ بدينكم، (﴿ قُلْ إِنَّ الْهُدَى ﴾) والتوفيق هو (﴿ هُدَى اللَّهِ ﴾) وتوفيقه للإيمان الصحيح، وقالوا: لاتظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين (﴿ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ ﴾): أي: حتى لا يتعلموا منكم فيُساوُوكم في العلم، (﴿ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ ﴾): يعني: أو يتخذوا هذا العلم - الذي عندكم - حجة عليكم عند ربكم، فيغلبونكم بها، (﴿ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾) (﴿ وَاللَّهُ وَاسِعٌ ﴾) يَسَعُ بعلمه وعطائه جميعم خلوقاته، (﴿ عَلِيمٌ ﴾) بمَن يستحق فضله ونِعَمَه).
♦ واعلم أن هذه الجُملة: (﴿ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ ﴾): هي مَعطوفة على قولهم في أول الآية: (﴿ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ﴾)، فكأنهم يقولون: (﴿ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، ولا تُظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين، حتى لا يُؤْتَوا من العلم مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ بهذا العلم عِنْدَ رَبِّكُمْ ﴾)، وبهذا تكون الجُملة: (﴿ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ ﴾): هي جملة اعتراضية بين الجملتين، للتأكيد على أن التوفيق للهُدى إنما هو بيد الله تعالى وحده.
..............
من سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم، وذلك بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف أ.د. التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف) واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.
يتبع
رامى حنفى محمود
شبكة الألوكه الشرعية
الآية 2: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾: أي: الذي لا يَستحق العبادة إلا هو، ثم ذكَر سبحانه البرهان على ذلك؛ فأخبر أنه ﴿ الْحَيُّ ﴾ الذي لا يموت، وكل حَيٍّ غيره مسبوقٌ بالعدم، ويَلحقه الفناء، فهو وحده المُتصِف بالحياة الكاملة، وهذه الحياة الكاملة تَستلزم بالضرورة وجود جميع الصفات - التي لا تتم الحياة إلا بها - (كالإرادة والعِلم والسمع والبصر والقدرة والقوة والعظمة والعِز، وغير ذلك من صفات الجلال والكمال)، وهو سبحانه ﴿ الْقَيُّومُ ﴾: أي: القائم على كل خلقه بالتربية والرعاية والحفظ والرزق والتدبير؛ ولذلك افتقرت إليه جميع مخلوقاته، واستغنى هو سبحانه عن خلقه).
الآية 3، والآية 4: ﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾: أي: ومِن مَظاهر قيامِه تعالى بشؤون عباده ورحمته بهم: أن نزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الكتاب الذي لا ريب فيه، (وهو القرآن)، فكل ما فيه حقٌّ وصِدق، لا باطل فيه بأي وَجهٍ من الوجوه، ﴿ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾: أي: مُوافقًا لِما كان قبله مِن صحيح الكُتب السماوية، فلا يُخالِفها، ولا يَتناقض معها؛ لأن مَصدرها جميعًا واحد، وهو الله تعالى،﴿ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ ﴾: أي: مِن قبل نزول القرآن، ﴿ هُدًى لِلنَّاسِ ﴾: أي: لإرشاد الناس إلى الإيمان، وإلى ما فيهِ صلاح دينهم ودنياهم، ﴿ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ﴾: أي: وأنزل ما يُفرق به بين الحق والباطل؛ كالكتب السماوية والمعجزات، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ﴾ بمن جَحد حُجَجَهُ وأدلته، وتَفرُّده بالعُبودية).
الآية 7، والآية 8: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ ﴾: أي: واضحات الدَّلالة، لا تَحتمل إلا معنًى واحدًا؛ فلذلك ﴿ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾: أي: هُن أصل الكتاب، بحيث يُرجَعُ إلى هذه الآيات عند وجود التباس، أو إشكال في الفَهْم، ﴿ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾: أي: وهناك آياتٌ أُخَر تَحتمل بعض المعاني، فلا يُعلَمُ المُراد منها إلا بضَمِّها إلى الآيات المُحكَمات، ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ﴾: أي: مرضٌ وضلال، فهؤلاء لِسُوء قصدهم: ﴿ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ﴾: أي: فيَذهبون إلى المُتشابِه وحده، دونَ أن يَرجعوا إلى المُحكَم الواضح؛ وذلكَ ﴿ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ ﴾: أي: طلبًا لعمل الفتنةِ؛ ليُثيروا الشُّبُهات عند الناس؛ كي يُضِلوهم، ﴿ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾: أي: ولتفسير هذه الآيات المُتشابهات على ما يُوافق مَذاهبهم الباطلة، ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ﴾: أي: ولا يعلم حقيقة معاني هذه الآيات إلا الله، ﴿ وَالرَّاسِخُونَ ﴾: أي: وأما المُتمكنون ﴿ فِي الْعِلْمِ ﴾ - وَهُم أهل العِلم اليَقيني، الذين رسخت أقدامهم في معرفة الحق، فلا يَزِلُّون مِن أجلِ شُبهة أو باطل - فهؤلاء ﴿ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ﴾: أي: صدَّقنا بهذا القرآن، ﴿ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ﴾: أي: كله - المُحكَم والمُتشابه - قد جاءنا مِن عند ربنا على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ويَرُدُّون مُتشابِهه إلى مُحكَمِه، ﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾: يعني: وإنما الذي يَفهم ويَعقِل المعاني على وجهها الصحيح: هم أصحاب العقول السليمة، فهؤلاء يَسألون ربهم الثبات، ويقولون: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ ﴾: أي: لا تُضِل ﴿ قُلُوبَنَا ﴾، ولا تجعلها تميل عن الحق بسبب شُبهةٍ أو شهوةٍ أو فِتنةٍ، وذلك ﴿ بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ﴾ إلى الحق وعَرَّفتنا به، ﴿ وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ﴾: أي: وامنحنا مِن فضلك رحمة واسعة، ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾: أي: كثير الفضل والعطاء).
الآية 9: ﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ ﴾: يعني: يا ربنا، إنا نُقِرُّ ونَشهد بأنك ستجمع الناس ﴿ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾: أي: ليومٍ لا شك في وقوعه (وهو يوم القيامة)، فمُجازٍ فيه الناس بأعمالهم (حَسنها وسَيئها)، ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾.
الآية 10: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ ﴾: يعني: لن تدفع عنهم ﴿ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ﴾: أي: مِن عذاب الله شيئًا إن وقع بهم في الدنيا، ولن تدفعه عنهم في الآخرة، (﴿ وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ ﴾): أي: حطب ﴿ النَّار ﴾.
الآية 11: ﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾: يعني: إن شأنَ الكافرين في تكذيبهم وما يَنزل بهم من العذاب، كشأن آل فرعون ﴿ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾، فقد ﴿ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ﴾: أي: أنكروا آيات الله الواضحة، ﴿ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ﴾: أي: فعاجلهم الله بالعقوبة بسبب تكذيبهم وعنادهم، ﴿ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾.
الآية 12: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ مِن اليهود وغيرهم، الذين استهانوا بنصرك في بَدْر، وقالوا لك: "لا يَغُرَّنَّك أنك قاتلتَ مَن لا يُحسن الحرب فانتصرتَ عليهم، إنك إن قاتلتَنا ستعلمُ أنَّا نحن الناس، وأنك لم تلقَ مِثلنا"، فلما قالوا قولتهم هذه يُهَددون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمره اللهُ تعالى أن يقول لهم: ﴿ سَتُغْلَبُونَ ﴾ في الدنيا، وستموتون على الكفر، ﴿ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ ﴾ لتكون فراشًا دائمًا لكم، ﴿ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾: أي: وهي بِئسَ الفِراش والمُستقرُّ)، وبالفعل، فقد جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لهم: ((يا مَعشرَ يَهود، احذروا مِن الله مِثل ما نزل بقريش يومَ بدر، قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم، وقد عرفتم أني نبيٌّ مُرسَل، تجدون ذلك في كتابكم وعَهْد الله إليكم))، (وقد صدق القرآن فيما أخبر به مِن هزيمة اليهود، فكان هذا دليلاً على أن القرآن وَحي من الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن الإسلام هو دين الله الحق).
الآية 13: ﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ ﴾ - أيها اليهود المتكبرون المعاندون - ﴿ آيَةٌ ﴾: أي: دلالة وعِبرة عظيمة ﴿ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ﴾: أي: في جماعتين تقابلتا في معركة بَدْر، منهم ﴿ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾: أي: مِن أجلِ دين الله، وهم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ﴿ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ ﴾ تقاتل من أجل الباطل ﴿ يَرَوْنَهُمْ ﴾: أي: وهذه الجماعة الكافرة ترى المؤمنين ﴿ مِثْلَيْهِمْ ﴾: أي: يزيدون عليهم في العدد زيادة كثيرة، تبلغ المضاعَفة وتزيد عليها، وأكَّد هذا بقوله: ﴿ رَأْيَ الْعَيْنِ ﴾، وقد جعل الله ذلك سببًا لنصر المسلمين عليهم، فهزموهم، وقتلوا زعماءهم، وأسَرُوا كثيرًا منهم، ﴿ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾ مِن عباده؛ فاللهُ تعالى يَنصر مَن نَصر دينه، ويَخذل مَن كفر به، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾ الذي حدث ﴿ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾: أي: لَعِظة عظيمة لأصحاب البصائر النافذة، والعقول الكاملة، الذين يَهتدون إلى حِكَم الله وأفعاله، وإلا، فلو نظر الناظر إلى مجرد الأسباب الظاهرة (كالأعداد والعُدَد) لَتأكد بأنه مِن المستحيل هزيمة هذه الفئة القليلة لِتلك الفئة الكثيرة، ولكن كانَ وراء هذا السبب - الذي يُشاهَد بالأبصار - سببٌ أعظم منه، لا يُدركه إلا أهل البصائر والإيمان بالله، والتوكل عليه، والثقة بكفايته، وهو نصره لعباده المؤمنين على أعدائه الكافرين، وإمداده لهم بجنوده التي لا يعلمها إلا هو؛ (كالملائكة، وكإلقاء الرُّعب في قلوب الكافرين، وتكثير أعداد المؤمنين في عيون أعدائهم)، وغير ذلك).
الآية 14: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ ﴾: يعني: والأموال الكثيرة ﴿ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ ﴾: أي: الخيل الحِسَان (الجيدة)، ﴿ وَالْأَنْعَامِ ﴾ من الإبل والبقر والغنم (وهي الضأن والماعز)، ﴿ وَالْحَرْثِ ﴾: يعني: والأرض المتَّخَذة للغَرس والزراعة، ﴿ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ وزينتها الفانية، ﴿ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾: أي: حُسن المرجع والثواب، وهو الجنَّة).
الآية 17: ﴿ الصَّابِرِينَ ﴾ على الطاعات، وعن المعاصي، وعلى ما يُصيبهم من أقدار الله المُؤلمة، ﴿ وَالصَّادِقِينَ ﴾ في الأقوال والأفعال، ﴿ وَالْقَانِتِينَ ﴾: أي: الطائعين المُنقادين لله تعالى، ﴿ وَالْمُنْفِقِينَ ﴾ أموالهم سِرًّا وعلانية، ﴿ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾: أي: الذين يُكثرون من الاستغفار (وهو طلب المغفرة) في آخر الليل، قُبَيْل طلوع الفجر (وهو وقت السحور)؛ وذلك لأن هذا الوقت يُرجَى فيه قبول الاستغفار، وإجابة الدعاء).
الآية 18: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾: أي: لا معبود بحقٍّ إلا هو، وكل معبودٍ سِوَاهُ باطل، وهذا هو ما يُعرَف بـ (توحيد الأُلُوهِيَّة)، وهو إفرادُ الله وحده بجميع أنواع العبادة؛ (كالصلاة والصيام والدعاء والذبح والنذر والطواف والاستعانة - فيما لا يَقدر عليه الخلق - والاستغاثة)، وغير ذلك من أفعال العبد، وهذا النوع من التوحيد هو الذي لم يُقِرَّ به مُشركو العرب، على الرغم من أنهم كانوا يعترفون بأن الله وحده هو المُتفرِّد بالخلق والرزق والتدبير، وغير ذلك من أفعال الرب تبارك وتعالى، وهو ما يُعرَف بـ (توحيد الرُّبوبِيَّة)؛ قال تعالى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ [العنكبوت: 61]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ﴾ [يونس: 31]، ورغم إقرار المشركين بتوحيد الرُّبوبية فإن ذلك لم يُنَجِّهِم من الخلود الأبدي في النار؛ إذ إنه لا بد مِن أن يجمعوا بين توحيد الألوهية وتوحيد الرُّبوبية، فكما اعترفوا بأنه وحده الخالق الرازق، لا بد أن يعترفوا - أيضًا - بأنه وحده المستحق للعبادة، وأن يُوَحِّدوا له عبادتهم، ولكنهم تكبروا عن الإقرار بتوحيد الأُلوهية؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [الصافات: 35]؛ وذلك لأنهم كانوا يعلمون أنهم إذا أقروا بكلمة: (لا إله إلا الله)، فإنهم سوف يَنقادون لأمر الله وحده، ولن يُحَكِّمُوا أهواءهم وشهواتهم في أي أمر بعد ذلك.
﴿ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ ﴾: أي: وقد شهدت الملائكة، وشهد أهل العلم - أيضًا - على أنه لا معبود بحق إلا هو سبحانه، ﴿ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ﴾: أي: قائمًا بالعدل، ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾.
الربع الثاني من سورة آل عمران
الآية 19: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾؛ أي: إن الدين الذي ارتضاه الله لخَلقِه، وأرسل به رسله، ولا يَقْبل غيره هو الإسلام، وهو الانقياد لله وحده بالطاعة، والاستِسلام له بالعبودية، والسلامة من الشِّرك، واتباع الرسل فيما بعثهم الله به من التوحيد، حتى خُتِموا بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذي لا يَقبلُ اللهُ مِن أحدٍ دينًا - بَعدَ بِعثتِهِ - سوى الإسلام الذي أُرسِلَ به؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾، ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ ﴾: أي: وما وقع الاختلاف بين ﴿ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ﴾ مِن اليهود والنصارى، فتفرَّقوا شِيَعًا وأحزابًا ﴿ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ ﴾: أي إلا مِن بعد ما تبينوا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو النبي الذي وُعِدوا به في التوراة والإنجيل، وذلك ﴿ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾: أي ظلمًا وحسدًا، وحفاظًا على المنافع التي بينهم، وطلبًا للدنيا؛ لأن كل فرقة منهم كانت تتمنَّى أن يكون هذا النبي الخاتَم مِن عندها، حتى تكون لها الرئاسة والسُّلطة الدينية والدنيوية دونَ غيرها، ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾؛ أي: فإن الله يُحصِي عليه ذنوبَ كُفره وسيئات عِصيانه، ثم يحاسبه عليها، ويَجزيه بها - وخصوصًا مَن ترك الحق بعدما عرفه - وهو سبحانه سريع الحساب، فلا يَشغله شيء عن آخر، ولا يُتعبه إحصاءٌ ولا عدد).
الآية 20: ﴿ فَإِنْ حَاجُّوكَ ﴾؛ أي: فإن جادلوك بعد أن أقمتَ عليهم الحُجة، ﴿ فَقُلْ ﴾ لهم: ﴿ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ ﴾: يعني أخلصتُ قصدي وتوجهي، وأخلصتُ كل أعمالي القلبية والبدنية لله وحده، وانقدتُ له بقلبي ولساني وجميع جوارحي، (وإنما خَصَّ الوجه لأنه أكرم وأشرف الجوارح، وعليه تظهر المَشاعر، وبه يَحصل التوجُّه إلى كل شيء)، فإذا خضع وجهه لله، خضعتْ له جميع جوارحِه، فلا يُشرك بعبادته أحدًا، ﴿ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ﴾؛ أي: وكذلك مَن اتبعني من المؤمنين، أخلَصوا توجههم وأعمالهم لله، وانقادوا لأمره، ﴿ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ ﴾، وهم مُشركو العرب: ﴿ أَأَسْلَمْتُمْ ﴾؟ ﴿ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا ﴾، إلى الطريق المستقيم، ﴿ وَإِنْ تَوَلَّوْا ﴾؛ يعني: وإن أعرضوا عن الإسلام ﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ﴾؛ أي: فما عليك إلا البلاغ، وقد أبلغتَهم وأقمتَ عليهم الحُجَّة، وحسابُهم على الله تعالى، ﴿ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾.
الآية 21: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ ﴾ ظلمًا ﴿ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ ﴾؛ أي: ويقتلون الناس الذين يَأمرون بالعدل واتباع طريق الأنبياء ﴿ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾؛ أي: فأخبِرهم بخبرٍ يَظهرُ أثره على بَشرَةِ وجوههم ألمًا وحسرة، وهو العذاب المؤلم - للأبدان والقلوب والأرواح - في النار).
الآية 23: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ ﴾؛ أي: آتاهم اللهُ حظًّا وقِسطًا من التوراة ﴿ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ ﴾؛ أي: يُدْعَوْنَ إلى كتابهم الذي يؤمنون به وهو التوراة ﴿ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ﴾؛ أي: ليَفصل بينهم فيما اختلفوا فيه، ﴿ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ ﴾؛ لأن الحُكم لم يوافق أهواءهم، ﴿ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾؛ أي: وهم مِن عادتهم أنهم دائمًا معرضون عن الحق).
الآية 24: ﴿ ذَلِكَ ﴾ الانصراف عن الحق ﴿ بِأَنَّهُمْ ﴾؛ أي: بسبب أنهم ﴿ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ﴾ وهي الأيام التي عبدوا فيها العِجل، وهذا اعتقادٌ فاسد ليس عليه دليل، ﴿ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾: يعني وهذا الافتراء والاعتقاد الفاسد - وهو اعتقادهم بأنهم لن يُعذَّبوا إلا أيامًا قليلة - هو الذي جَرَّأهم على الله تعالى، وعلى استهانتهم بدينه (وهو الإسلام)، وجَرَّأهم كذلك على استمرارهم على دينهم الباطل الذي خَدَعوا به أنفسهم).
الآية 25: ﴿ فَكَيْفَ ﴾ يكونُ حالهم ﴿ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ ﴾ في ذلك اليوم ﴿ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾.
الآية 26، والآية 27: ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ ﴾؛ أي: تمنح المُلك والمال والتمكين في الأرض ﴿ مَنْ تَشَاءُ ﴾ مِن عبادك ﴿ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْر ﴾ لا بِيَدِ غيرك، تُفِيضُهُ على مَن تشاء، وتَمنعه عَمَّن تشاء ﴿ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ فلا يَمتنع عليك أمر من الأمور، بلِ الأشياءُ كلها طَوْع مَشيئتك وقدرتك، ومِن دلائل قدرتك - سبحانك - أنك ﴿ تُولِجُ ﴾؛ أي: تُدخِل ﴿ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ﴾ فيَطولُ هذا ويَقصُر ذاك، ﴿ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ﴾ كإخراج الزرع من الحَب، والمؤمن من الكافر، ﴿ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ﴾ كإخراج البيض من الدجاج، والكافر من المؤمن، ﴿ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾.
الآية 28: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾: يَنهى الله المؤمنين أن يتخذوا الكافرين أولياء - بالمَحبة والتأييد والمَعونة والنُصرة - على إخوانهم المؤمنين، ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ﴾؛ أي: ومَن يَتولهم ﴿ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ﴾؛ أي: فاللهُ برِيءٌ منه، حيث وَالَى أعداءَ الله، وعادَى أولياءه، ومَن بَرِئَ اللهُ منه فقد هَلك ﴿ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ﴾: يعني إلا أن تكونوا ضِعافًا خائفين، تعيشون تحت سلطانهم، فقد رخَّص الله لكم في أن تُعطوهم حلاوة لسانكم (بكلمات المجاملة والمُلاطفة)، مع مُخالفتهم بقلوبكم وأعمالكم، فتَتَّقونَ بذلك شَرَّهُم وأذاهم حتى تقوى شَوكتكم، ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾ في أن تتخذوا أعداءه أولياء ضد أوليائه، فاتقوه وخافوه، ﴿ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾.
الآية 29: ﴿ قُلْ ﴾ للمؤمنين: ﴿ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ ﴾ من مَحبة الكافرين ونُصرتهم، ﴿ أَوْ تُبْدُوهُ ﴾ للناس: ﴿ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ﴾، وسيحاسبكم عليه، ﴿ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾؛ أي: وعِلمُهُ تعالى مُحيطٌ بكل ما في السماوات وما في الأرض، ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾؛ أي: وله القدرة التامة على كل شيء).
• ورغم أنه كان من المُتوَقع - بعد أنْ ذكر الله عِلمَهُ الخاص (وهو علمه بما في الصدور)، وبعد أن ذكر علمه العام (وهو علمه بجميع ما في السماوات والأرض) - أن يقول بعدها: (والله بكل شيء عليم)، ولكنه سبحانه أراد إثبات صفة القدرة بعد إثباته لصفة العِلم، حتى يَكمُلَ بذلك تحذيرُهُ للعُصاة، فكأنه سبحانه أراد أن يقول: (ويُحذِّركم اللهُ نفسَه، فلا تتجرَّؤوا على عِصيانه ومُوالاةِ أعدائه؛ إذ إنه ما مِن معصية - خَفيةٍ كانت أو ظاهِرة - إلا وهو مُطَّلِعٌ عليها، وقادرٌ على العقاب بها، وإنْ أنظرَ مَن أنظر، فإنه سبحانه يُمهِل، ثم يأخذ أخْذَ عزيزٍ مُقتدِر).
• واعلم أن قوله تعالى: ﴿ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ﴾، فيهِ إرشادٌ إلى تطهير القلوب، واستحضار عِلم الله تعالى بما فيها في كل وقت، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم -: ((إن الله لا يَنظر إلى صوركم وأموالكم، ولكنْ ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))، فالقلب هو مَحلُّ نظر الرب، فلذلك ينبغي أن يَستحي العبد أن يَرى اللهُ تعالى في قلبه أيَّ فِكرٍ رديء، بل عليه أن يشغل أفكاره فيما يُقربه إلى ربه (مِن نصيحةٍ يَنصحُ بها عباده، أو تدبُّر لآيةٍ من كِتابه، أو تفكُّر في عظمتِهِ تعالى ونِعَمِه، فيَستشعر أن عافيةَ اللهِ فضْل، وأن بلاءهُ عَدْل؛ إذ إنه لو عامله اللهُ بِعَدْلِه لأَهْلَكَهُ في الحال؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ ﴾ [فاطر: 45]، فبذلك يَشعر أنه لا يَستحق كل ما هو فيه من النِّعم بسبب ذنوبه، فساعتَها ينطقُ قلبُهُ بكلمة: (الحمدُ لله) - التي تملأ الميزان - قبل أن ينطق بها لسانه، وذلك على كل لحظة عافية تمر عليه هو لا يَستحقُّها).
الآية 30: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا ﴾؛ أي: ينتظرها لتُجزَى به، ﴿ وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ ﴾ تجده أيضًا في انتظارها، و﴿ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا ﴾؛ أي: زمنًا ﴿ بَعِيدًا ﴾، ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾ فاستعدوا لذلك اليوم، وخافوا بَطشَ اللهِ وعقابه إن عصيتموه، ﴿ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾؛ أي: ومع شدَّة عقابه، فإنه سبحانه رءوفٌ بالعباد، إذ لم يعاجلهم بالعقوبة، مع قدرته على ذلك).
الآية 31: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ ﴾ حقًّا ﴿ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾، فهل هناك شيء أفضل مِن مَحبة الله تعالى لعبده، وغفرانه لذنوبه؟! فوالله لو أيْقنَ العبد ذلك، لكانَ حريصًا - كُلَّ الحِرص - على التمسك بسُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم، والاقتداء به في أقواله (كالمداومة على أذكار الصباح والمساء، وأذكار النوم، وغير ذلك من الأذكار والأدعية التي صَحَّتْ عنه صلى الله عليه وسلم)، وكذلك الاقتداء به في أفعاله (كالصلاة كما كان يُصلي، والوضوء مثل وضوئه، وغير ذلك)، وكذلك التأدُّب بآدابه في الطعام والشراب وغير ذلك، وكذلك التخلق بأخلاقه (قدر المُستطاع)، فقد كان صلى الله عليه وسلم لا يغضب لنفسه، وإنما كان يغضب إذا انتُهِكَ حَدٌّ مِن حدود الله.
• ويُلاحَظُ هنا أن الله تعالى قال: ﴿ يُحْبِبْكُم ﴾، ولم يقل: (يُحِبُّكُم)؛ وذلك لِيُوَضِّح لنا أن هذا الأمر يأتي بالتَدَرُّج، فكلما ازداد اتباعُك للنبي صلى الله عليه وسلم، كلما ازدادت محبة الله تعالى لك، وقد قال الحسن البَصْرِيُّ - رحمه الله - عن هذه الآية: (ادَّعَى قومٌ أنهم يحبون الله، فأنزل الله هذه الآية مِحْنَةً لهم - أي: امتحانًا لهم - إن كانوا صادقين في حب الله تعالى، فليتبعوا سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم)، فهذه الآية حاكمة على كل مَن ادَّعَى محبة الله تعالى وهو ليس مُتَّبِعًا لسُنَّةِ نَبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وليسَ مُطِيعًا له في أمْرِهِ ونَهْيِه.
• واعلم أن هذا الاتباع شرطٌ من شروط قبول العمل (مِثل الإخلاص تمامًا)؛ بحيث إنَّ العبد إذا فعل أمرًا مُبْتَدَعًا - لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه الكِرام مِن بعدِه - فإن ذلك العمل لا يقبله الله منه؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين -: ((مَن عمل عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ))؛ أي: فهو مَردودٌ على صاحبه، وقد أخبر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم - كما في صحيح مسلم - أن هناك أناسًا مِن أمته سوف يُطرَدون عن حَوضه يوم القيامة - رغم شدة الحر والعطش، ورغم حدوث الأمل لهم في النجاة بعدما رأوا الحَوض - فيناديهم صلى الله عليه وسلم: ((ألاَ هَلُمَّ)) فيُقالُ له: ((إنَّهم قد بَدَّلوا بَعدَك))، فيقول لهم: ((سُحقًا سُحقًا - أي: بُعدًا بُعدًا - لمَن بَدَّلَ بَعدي))، ففي هذا دليل على خطورة التفريط في اتباع سُنته صلَّى الله عليه وسلَّم.
الآية 32: ﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ ﴾ باتباع كِتابه، ﴿ وَالرَّسُولَ ﴾؛ أي: وأطيعوا الرسول باتباع سُنته في حياته وبعد مماته، ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا ﴾؛ أي: فإن أعرضوا عنك، وأصروا على ما هُم عليه مِن كُفرٍ وضلال، فاعلم أنهم ليسوا أهلاً لِمَحَبَّة الله تعالى لهم؛ ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾.
................
تفسير الربع الثالث من سورة آل عمران بأسلوب بسيط
الآية 34: ﴿ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ﴾: أي: إن هؤلاء الأنبياء والرسل - وهم آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عِمران - هم سلسلة طُهْر متواصلة في الإخلاص لله وتوحيده، والعمل بِوَحْيِه، ﴿ وَاللَّهُ سَمِيعٌ ﴾ لأقوال العباد ﴿ عَلِيمٌ ﴾ بنيَّاتهم وأفعالهم؛ ولذلك يَصطفي مِنهم مَن يَعلمُ استقامته قولاً وفِعلاً، وهذا مِثل قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [الأنعام: 124].
الآية 35: ﴿ إِذْ ﴾: أي: اذكر حينَ ﴿ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ﴾: أي: جعلتُ لك ﴿ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا ﴾: أي: خالصًا لك، لخِدمة بيت المقدس، ﴿ فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ ﴾ وحدك ﴿ السَّمِيعُ ﴾ لدعائي ﴿ الْعَلِيمُ ﴾بنيَّتي).
الآية 36: ﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى ﴾ لا تصلح للخدمة فيبيت المقدس، ﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ﴾ وسوف يَجعل لها شأنًا، ثم قالت امرأة عِمران: ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ ﴾ الذي أردتُ للخدمة ﴿ كَالْأُنْثَى ﴾ في ذلك؛ لأن الذكر أقوى على الخدمة، ﴿ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا ﴾: أي: أحَصِّنها ﴿ بِكَ ﴾ ﴿ وَذُرِّيَّتَهَا ﴾: أي: وكذلك أحَصِّن ذريَّتها بك ﴿ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾: أي: المطرود من رحمتك).
الآية 37: ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ ﴾: أي: فاستجاب اللهُ دعاءها، وقَبِلَ منها نَذرها أحسن قَبول - ولم يَقبل أنثى مَنذورة غيرها - وعصم ابنتها مريم وولدها مِن مَسِّ الشيطان عند الولادة، قال النبي صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين -: ((ما مِن مولودٍ يُولد إلا والشيطان يَمَسُّهُ حين يُولد، فيَستَهِلُّ صارخًا مِن مس الشيطان، إلا مريم وابنها))؛ وذلك استجابةً لدعائها: ﴿ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾، واعلم أن كلمة: ﴿ بِقَبُولٍ حَسَنٍ ﴾ توضح أن هناك زيادة في رضاه تعالى عن امرأة عمران).
• ﴿ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ﴾: أي: وتولَّى ابنتها مريم بالرعاية والتربية منذ ولادتها؛ وذلك لأن الله تعالى جعل زكريا عليه السلام كافلاً لها، قال تعالى: ﴿ وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ﴾، فأسكَنها في مكان عبادته؛ ليربيها على أكمل الأحوال، فنشأت في عبادة ربها، وكان ﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ ﴾ - وهو مكان صلاته - ﴿ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ﴾ هنيئًا مُعَدًّا فـ ﴿ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا ﴾: أي: مِن أين لكِ هذا الرزق الطيب؟ ﴿ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾.
الآية 38: ﴿ هُنَالِكَ ﴾: أي: في هذا المكان المبارك الذي حدثت فيه هذه الكَرامة لمريم: ﴿ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ﴾ فـ ﴿ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ﴾: أي: ولدًا صالحًا مباركًا، وإنما قلنا بأن المقصود بالذرية هنا هو الذكر وليس الأنثى؛ لأنه سبحانه قد أخبرَ في آيةٍ أخرى أن زكريا دعاهُ فقال: ﴿ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ﴾ [مريم: 5، 6]، ثم أتَمَّ زكريا دعاءه، فقال: ﴿ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾: أي: لِمن دَعاك).
• وفي هذا إرشادٌ إلى اغتنام الدعاء في الأماكن المباركة (كالمساجد بصفة عامة)، (وكالبيت الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى) بصفة خاصة، وكذلك في الأزمِنة المباركة (كشهر رمضان، والعشر الأوائل من ذي الحجة، وعند نزول المطر، وقُبَيْل طلوع الفجر، وفي آخر ساعة من يوم الجمعة، وغير ذلك).
الآية 39: ﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ ﴾: أي: يُخبركبخبر يَسُرُّك، وهو أنه رزقك ﴿ بِيَحْيَى ﴾ الذي سيكونُ ﴿ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ ﴾: أي: مُصَدِّقًا بعيسى ابن مريم عليه السلام - الذي سيكونُ وُجودُهُ بكلمةٍ مِن الله، وهي كلمة: "كُن" -، ﴿ وَسَيِّدًا ﴾: أي: وسيكون يحيى سيدًافي قومه، له المكانة والمنزلةالعالية، ﴿ وَحَصُورًا ﴾: أي: لا يأتي الذنوب والشهوات الضارة، ﴿ وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ الذين بلغوا الذروة في صلاحهم).
الآية 40: ﴿ قَالَ ﴾ زكريا فرِحًا متعجبًا: ﴿ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ ﴾: أي: أدركتني الشَّيخوخة وأضعفتني ﴿ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ﴾: أي: عقيم، ﴿ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾: يعني: هذا الذي يَحدث لكِ ليس بمُستبعَد على الإله القادر الذي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ من الأفعال الخارقةللعادة).
الآية 41: ﴿ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ﴾: يعني: علامةً علىوجود هذا الولد؛ ليَحصل لي السرور والاستبشار، ﴿ قَالَ آيَتُكَ ﴾ التي طلبتَها هي ﴿ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا ﴾: يعني: ألاَّتستطيع التحدث إلى الناس ثلاثة أيام إلا بالإشارة إليهم، مع أنك سَوِيٌّ صحيح، ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا ﴾: يعني: وفي هذه المدة أكثِرْ مِن ذِكر ربك، ﴿ وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾: أي: أواخِر النهار وأوائله).
الآية 42: ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ ﴾: والمُراد بهذاالاصطفاء أنه سبحانه اختارها لطاعته، وفرَّغَها لعبادتِه؛ ولذلك خَصَّها بأنواع الهِداية والعِصمة واللُّطف، فقد كفاها أمْرَ عَيْشها، فكانَ رِزقها يأتيها من عند الله، وأنه تعالى أسْمَعَها كلام الملائكة شَفَاهَة، ولم يَحدث هذا لأنثى غيرها، ﴿ وَطَهَّرَكِ ﴾ مِن الكُفر والمَعصية والأخلاق الرذيلة، ﴿ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴾: والمُراد بهذا النوع منالاصطفاء أنه تعالى وَهَبَ لها عيسى عليه السلام من غير أب،وأنطقَ عيسى حالَ انفصالِهِ منها ليَشهد لها ببراءتها مِن التُّهمة،فبذلك جعلها وابنها آية للعالمين).
الآية 43: ﴿ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ ﴾: أي: داوِمِي على الطاعة لربك، وقومي في خشوع وتواضع، شكرًا له على ما أعطاكِ مِن نِعَمِه، ﴿ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾، ويُلاحَظ هنا أنه سبحانه لم يقل: (واركعي مع الراكعات) مع أنها أنثى، وقد قال عنها - أيضًا - في آيةٍ أخرى: ﴿ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾ [التحريم: 12]؛ وذلك لأنه تعالى لمَّا كان يريد أن يَمدحَ عبدًا من عباده - رجلاً كانَ أو امرأة - كان يَمنحه درجة الرجال، قال تعالى: ﴿ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ﴾ [البقرة: 228].
الآية 44: ﴿ ذَلِكَ ﴾ الذي قصَصْناهُ عليك هو ﴿ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ ﴾ الذي ﴿ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ﴾ ﴿ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ﴾: أي: وما كنتَ معهم حين اختلفوا في كَفالة مريم أيُّهم أحَقُّ بها وأوْلَى، فأجْرَوُا القرعة، وألقَوْا أقلامهم التي يكتبون بها التوراة، فوقع الاختيار على قلم زكريا عليه السلام، ففاز بكفالتها، ﴿ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾: أي: حين وقع بينهم هذا الخصام).
الآية 45: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ﴾: أي: يُبشركِ بمولودٍ يكون وجوده بكلمةٍ من الله، وهي كلمة: "كن"، وهذا المولود ﴿ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ﴾، وسيكون ﴿ وَجِيهًا ﴾: أي: له الجاه والشرف والقدْر ﴿ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ عندالله يوم القيامة)، واعلم أن لفظ: (المَسيح) هو لقب من الألقاب المُشَرَّفة كالصِّدِّيق والفاروق، وأصلُهُ بالعِبرانية: (مشيحا)، ومعناه: المبارك).
الآية 46: ﴿ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ ﴾: أي: بعد ولادته، ﴿ وَكَهْلًا ﴾: أي: وكذلك يكلمهم في حال كُهُولته بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان ويَقتل الدَّجَّال، (قال الحسين بن الفضل رحمه الله: "وفي هذه الآية نَصٌّ في أنه عليه الصلاة والسلام سينزل إلى الأرض)، فقد رُفِعَ عيسى عليه السلام إلى السماء وَعُمْرُهُ ثلاثٌ وثلاثون سنة (أي وهو في شبابه)، ﴿ وَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾: أي: وهو مَعدود من أهل الصلاح والفضل في قوله وعمله).
الآية 47: ﴿ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ﴾؟! ﴿ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ﴾: أي: هذا الذي يحدث لكِ ليس بمُستبعَد على الإله القادر،الذي يُوجِدُ ما يشاء من العدم، و ﴿ إِذَا قَضَى أَمْرًا ﴾: أي: إذا قدَّرَ أمرًا، وأراد إيجاد شيء: ﴿ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾.
• ويُلاحَظ هنا أن الله تعالى قال في قصة مريم: ﴿ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ﴾؛ لأن الأمر كان مُعجِزًا وخارقًا للعادة، مِن غير وجود السبب الطبيعي للإنجاب، أما في أمر زكريا عليه السلام فإنه قال: ﴿ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾؛ لأن الأمر كان طبيعيًّا بين الرجل والمرأة، وكانت أسباب الإنجاب موجودة، ولكنها كانت مُعَطَّلَة).
الآية 48: ﴿ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ ﴾: أي: ويعلمه الكتابة، ﴿ وَالْحِكْمَةَ ﴾: أي: وسُنَن الأنبياء عليهم السلام، والفِقه، والسَّداد في القول والفعل، ﴿ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ﴾.
الآية 49، والآية 50، والآية 51: ﴿ وَرَسُولًا ﴾: أي: ويَبعثه رسولاً ﴿ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ قائلاً لهم:﴿ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ تدلُّ على أني مُرْسَلٌ مِن الله، وهي ﴿ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ ﴾: أي: أصنع لكم ﴿ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ ﴾: أي: مِثل شَكل ﴿ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ ﴿ وَأُبْرِئُ ﴾: أي: وبإذن الله تعالى أشفِي ﴿ الْأَكْمَهَ ﴾ وهو الأعمى، ﴿ وَالْأَبْرَصَ ﴾ وهو الذي أصابه مَرَضُ البَرَص فتغيَّر لونُ جلدِه، ﴿ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ ﴿ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ﴾ ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾: أي: إن كنتم مُصَدِّقين حُجَجَ اللهِ وآياتِه، مُقرِّين بتوحيده).
• وهنا ينبغي أن نعرف الفرق بين المُعجِزات وبين ما يُسمونه بـ (السِّحر والشَّعْوَذَة): وهو أن المعجزة التي تحدث على يد النبي فإنه لا يَتباهَى بها، بل يَستدِلُّ بها لتقريب الناس إلى ربهم عَزَّ وجَلَّ، ولِدَعوَتِهم إلى التوحيد الخالص، وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من أعمال الخير والصلاح، أما التي تحدث على يد الكاهن أو الساحر فإنه يَدعو بها لنفسه وللشياطين، وللشِّرك بالله عَزَّ وجَلَّ، وفِعل المُنكَرات، وأكْل أموال الناس بالباطل.
• ثم قال لهم عيسى عليه السلام: ﴿ وَمُصَدِّقًا ﴾: أي: وجئتُكُم مُصَدِّقًا ﴿ لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ﴾ المُنَزَّلة على أخي موسى عليه الصلاة والسلام، لأحُثَّكُم على العمل بها، ﴿ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ﴾ مِن الأطعِمة بسبب ذنوبكم، ثم أعادَ تذكيرهم بالمعجزات مرة أخرى، فقال: ﴿ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾؛ وذلك ليكون كلامه مؤثرًا في قلوبهم وطباعهم الغليظة، ولِيُؤكد أنها مِن عند الله، وليست من عند نفسه، فكأنه أراد أن يقول: "وجئتُكم بآيةٍ تدل على أن الله هو ربي وربكم، وعلى أني رسولٌ من عنده".
• ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ ﴿ وَأَطِيعُونِ ﴾ فيما أبَلغُكُم به عن الله، ﴿ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ﴾: أي: إن الله - الذي أدعوكم إليه - هو وحده ربي وربكم فاعبدوه، فأنا وأنتم سواءٌ فيالعُبودية والخضوع لله تبارك وتعالى، وإلاَّ، فدَعونا نتسائل: (أين قال عيسى في الإنجيل: (اعبدوني لأنني أنا ربُّكُم)؟! وأين هو - أصلاً - إنجيل عيسى ابن مريم عليه السلام؟! وهل يُعقلُ أن ينزل الإله مِن عَليائِهِ لِيَعيشَ في بطن امرأة، ثم يَخرج منه ليَعيش على الأرض، فيَرضع مِن أمِّهِ، ويحتاجَ إلى الطعام والشراب، وينام، ويحتاجَ إلى قضاءِ حاجته، ويَنشغلَ بأمر نفسِه؟! هل هذا إلهٌ يَستحق أن يُعبَد؟!) تعالى اللهُ عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا؛ ولذلك قال عيسى عليه السلام بعدها: ﴿ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾: يعني: وهذا - أي عبادة الله تبارك وتعالى وحده لا شريك له - هو الطريق الصحيح الذي لا اعْوِجاجَ فيه)، وهذا مُطابقٌ تمامًا لِما دعا إليه جميع الأنبياء والرسل منتوحيد الله تعالى، وإخلاص العبادة له.
الربع الرابع من سورة آل عمران
الآية 52: ﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ ﴾ أي: من اليهود ﴿ الْكُفْرَ ﴾: أي: التصميم على الكفر برسالته: نادَى في أصحابه المخلصين، فـ ﴿ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ﴾: أي: مَن يكونمعي في نُصرة دين الله؟، ﴿ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ ﴾ وهم أصفياء عيسى (الذين اختارَهم لِصُحبته): ﴿ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ﴾: أي: نحن أنصار دين اللهِ والداعون إليه، ﴿ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾: أي: وَاشْهَدْ يا عيسى بِأَنّنَا مستسلمون للهِ تعالى بالتوحيدوالطاعة).
♦ وفي هذا دليل على أن دينَ الله واحدٌ وهو الإسلام، وذلك على مُختلف الأزمان والعصور، قال تعالى: ﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾، ولكنّ الشرائع هي التي اختلفت، كما قال تعالى: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾، ثم خُتِمَت بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم التي نَسخت جميع الشرائع المُنزَّلة، قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ ، ولذلك تَعهَّد اللهُ تعالى بحِفظ القرآن، قال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾، وقال تعالى: ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ﴾، أما الكتب السماوية الأخرى فإنّ الله لم يتعهد بحفظها، ولكنه وَكَلَ حِفظَها إلى الأحبار والرُهبان، قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ﴾، ولذلك أصابها التحريف).
الآية 53، والآية 54: ﴿ رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ ﴾: أي: عيسى عليه السلام، ﴿ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾: أي: فاجعلنافي الآخرة مع مَن شَهِدوا لك بالوحدانية ولأنبيائك بالرسالة، وهم أمة محمد صلى الله عليهوسلم، الذين يَشهدون للرسل بأنهم قد بلَّغوا أمَمَهم)، فلما قام الحواريون مع عيسى بنُصرة دين الله وإقامة شَرعه: آمنَتْ طائفة مِن بني إسرائيل بعيسى، وكفرتْ طائفة أخرى، فاقتتلت الطائفتان، فلهذا قال تعالى: ﴿ وَمَكَرُوا ﴾: أي: ومَكر الذين كفروا - من بني إسرائيل - بعيسى عليه السلام، بأن وَكَّلوا به مَن يَقتله، ﴿ وَمَكَرَ اللَّهُ ﴾ بهم، فألقى شَبَه عيسى على رجلٍ دَلَّهم عليه، فأمسَكوا به، وقتلوه وصلبوه (ظناً منهم أنه عيسى عليه السلام)، ﴿ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾.
♦ وفي هذا إثبات صفة المَكْر لله تعالى على ما يَليقُ بجلاله وكماله، لأنه مَكْرٌ بحق، وفي مقابلةمَكْر الماكرين)، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: (وامكُر لي ولا تمْكُر عليّ) (انظر صحيح الترمذي: 3551)، ومما يَجب أن يُعلَم أنَّ أفعالَ الله تعالى لا تُشبه أفعال العباد، لأنّ ذاتَهُ سبحانه لا تُشبه ذَواتِهم.
الآية 55: ﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ﴾: يعني: ومكر الله بهم حين قال لعيسى: ﴿ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ﴾: أي: إني قابضك من الأرض - حياً - مِن غير أن يَنالك سُوء، ومُتمِمٌ لك ما كُتِبَ لك مِن أيام بقاءك مع قومك، ﴿ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ﴾ ببدنك وروحك، (واعلم أن بعض المُفسرين قد فسَّروا قوله تعالى لعيسى: (إني متوفيك): أنه ألقَى عليه النوم، ثم رفعه إليه، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ﴾ ، فأطلق سبحانه لفظ الوفاة على النوم)، ﴿ وَمُطَهِّرُكَ ﴾: أي: ومُخلصك ﴿ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ﴿ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ ﴾: أي: الذين هم على دينك الحق (مِن توحيد الله تعالى، ومِن البِشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم)،فآمَنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد بعْثَته، والتزموا شريعته، فأولئك سأجعلهم ﴿ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾، وبالفعل، فقد أخبر سبحانه - في آيةٍ أخرى - بأنه أيَّد المؤمنين منهم على عدوهم، فأصبحوا ظاهرين عليهم، حتى بعث الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، فكان المسلمون هم المُتبعين لعيسى حَقيقةً، فأيَّدهم اللهُ تعالى ونصرهم على اليهود والنصارى وسائر الكفار، وإنما يَحصل في بعض الأزمان انتصار الكفار على المسلمين، وذلك حِكمةًً مِن الله تعالى، وعقوبةً للمسلمين على تَرْكِهم العمل بكتاب ربهم، وسُنَّة رسولهم صلى الله عليه وسلم، ﴿ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ مِن أمْر عيسى عليه السلام).
♦ واعلم أنّ في قولِهِ تعالى: (وَرَافِعُكَ إِلَيَّ): دليلٌ على عُلُوّ اللهِ تعالى واستوائِهِ على عرشهِ حَقيقةً، كما دَلَّت على ذلك النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة، مِن غير تشبيهٍ - لهذا الاستواء - ولا تَكييف، (يعني مِن غير أن نقول: كيف استوى على العرش؟)، وسيأتي تفصيل ذلك في مَوضعه بإذن الله تعالى.
الآية 56: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ بالمَسيح من اليهود، أو غَلَوا فيه من النصارى (يعني جاوَزوا الحَدّ في تعظيمه)، ﴿ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا ﴾ بالقتل وسلْبِ الأموال وإزالة المُلك، ﴿ وَالْآَخِرَةِ ﴾: أي: وأعذبهم في الآخرةبالنار، ﴿ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾ يَنصرونهم ويَدفعون عنهم عذاب الله).
الآية 58: ﴿ ذَلِكَ ﴾ الذي ﴿ نَتْلُوهُ عَليْكَ ﴾: أي: نقصُّه عليك في شأن عيسى هو ﴿ مِنَ الْآَيَاتِ ﴾: أي: من الدلائل الواضحة على صحة رسالتك، وذلك باعتراف علماء النصارى أنفسِهِم، مثل النَجاشِي (مَلِك الحَبَشة)، وَمَن معه، فحِينما تلا عليهم جعفر بن أبي طالب آياتٍ مِن سورة مريم، حتى وصل إلى قول الله تعالى - حِكايةً عن عيسى -: ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾، قال النَجاشيُّ لِجعفر: (إنَّ الذي قلتَ - (وهو القرآن) -، والذي قال عيسى - (وهو الإنجيل) - لَيَخرُجُ مِن مِشكاةٍ واحدة)، وهو اللهُ تبارك وتعالى.
﴿ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ﴾: يعني: وهذا الذي نتلوه عليك هو من الدلائل الواضحة على صحة هذاالقرآن الحكيم الذي يَفصل بين الحق والباطل).
الآية 59: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ﴾: أي: إنَّ خَلْقَ الله لعيسى مِن غير أب، مَثَلُُهُ كَمَثل خَلْق الله لآدم من غير أب ولا أم، إذ خَلَقَهُ من تراب الأرض، (﴿ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ ﴾) بَشراً (﴿ فَيَكُونُ ﴾)، فدَعوَى ألوهية عيسىلكونه خُلِقَ من غير أب دَعوَى باطلة، لأن آدم عليه السلام خُلِقَ من غير أب ولا أم،وقد اتفق الجميع على أنه عَبْد من عباد الله، وإلاَّ، فقد كانَ آدمُ هو الأوْلَى بهذا الادِّعاء).
♦ ويُلاحَظ هنا أن الله تعالى قال: (﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾)، رَغمَ أنه كانَ مِن المُتوَقَّع أن يقول: (خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَكان)، أي بصيغة الماضي، اتفاقاً مع سِياق الآية، ولكنه سبحانه أراد أن يُوضح أن هذا الأمر - وهو أمْر: (كُن فيكون) - يَتحقق في كل وقتٍ وحِين (في الماضي وفي المُستقبَل)، فكأنه سبحانه أراد أن يقول: (خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَكان، وكذلك يكونُ أيّ شيءٍ يُريده، في أيّ وقتٍ يُريده).
الآية 60: ((﴿ الْحَقُّ ﴾): يعني: الذي جاءك أيها الرسول في أمر عيسى هو الحقُّ (﴿ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾): أي: فاستمِرّ علىيَقينك، ولا تكن من الشاكِّين، وفي هذاتثبيتٌ وطَمأنَة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأمّته).
الآية 61: ((﴿ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ ﴾): أي: فمَن جادَلَك في أمر عيسى - مِن أهل الكتاب - (﴿ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ﴾)، فنجتمعُ جميعاً في مكانٍ واحد، (﴿ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴾): أي: ثم نتجه إلى الله بالدعاء أن يُنزل عقوبته ولَعْنتهعلى الكاذبين مِنّا، المُصِرِّين على عِنادهم، فيَهلَكوا على الفور) وبالفِعل، فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغَد، ومعه الحسن والحسين وفاطمة (رضي الله عنهم)، إلاَّ أنّ علماء نصارى نَجران (الذين جاءوا يُجادلونه في أمر عِيسى) هَربوا من هذه المُلاعَنة، وذلك لأنهم عرفوا الحق، وخافوا إن لاعَنوا أن يَهلكوا، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فأبَوْا، ورَضوا بالكفر (إبقاءً على زَعامتهم ودُنياهم)، ورضوا بالمُصالحة، فالتزموا بأداء الجِزيَة للمسلمين، (ففي هروب علماء نصارى نجران مِن المُلاعَنة: دليلٌ قاطع على أن محمداً هو رسول الله، وأنَّ دِينَهُ هو الدين الحق، وما سِواهُ باطل).
الآية 62: ((﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ﴾) (﴿ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ ﴾): أي: وما مِن مَعبودٍ يستحق العبادة إلا الله وحده، (﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾).
الآية 63: ((﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ﴾): يعني: فإن أعرَضوا عن تصديقك واتباعك فهم المفسدون، والله عليمٌ بهم، وسيُجازيهم على ذلك.
الآية 64: ((﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ﴾): أي: إلى كلمةِ عدلٍ وحَقٍّ نلتزم بها جميعًا، وهي (﴿ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ﴾): يعني: ولا نتخذ أيَّ شريك معه،مِن وَثَنٍ أو صَنَمٍ أو صليب أو غير ذلك، (﴿ وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾): أي: ولا يَدِينُ بعضُنا لبعضٍ بالطاعة مِندون الله، (﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا ﴾) علينا (﴿ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾): أي: منقادون لربنا وحده بالعبودية والإخلاص).
الآية 65: ((﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ ﴾) بأن يَدَّعِي كلُ فريقٍ منكم أنه كان على مِلَّتِه، (﴿ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ ﴾): أي: وقد علمتم أن اليهودية والنصرانية قد حدثت بعد وفاته بزمن؟ (﴿ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾)؟).
الآية 67: ((﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا ﴾) (﴿ وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا ﴾): أي: مائلاً عن أي دين باطل، فكان عليه السلام (﴿ مُسْلِمًا ﴾): أي: مستسلمًا لربه، مُتَّبعًا لأمرِهِ وطاعته، (﴿ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾).
الآية 68: ((﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ﴾): أي: لَهُمُ الذين اتبعوه على التوحيد مِن أمَّته، وآمَنوا برسالته، (﴿ وَهَذَا النَّبِيُّ ﴾): أي: وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم، (﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا ﴾) بهِ هم أحَقّ الناس بإبراهيم، وأوْلَى بهِ مِن غيرهم، لأنهم هم الذين اتبعوه على مِلَّتِه، وأما مَن نَبذ مِلَّتَهُ وراءَ ظهره كاليهود والنصارى والمشركين، فليسوا من إبراهيم، وهو ليس منهم، (﴿ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾)).
♦ واعلم أنَّ اللام التي في قوله تعالى: (﴿ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ﴾) تُسَمَّى: (لام التوكيد) واعلم أيضاً أن هذه الآيات قد اشتملت على النَهي عن الجدال بغير علم.
الآية 69: ((﴿ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ﴾) عن الإسلام، (﴿ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ﴾) وأتباعهم (﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾) بذلك لفساد قلوبهم).
الآية 70: ((﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ﴾): يعني: لِمَ تجحدون - حسداً وعِناداً - بآيَاتِ اللَّهِ التي أنزلها في كتبكم،وفيها أن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو الرسول المُنتظَر، وأنَّ ما جاءكم به هوالحق، (﴿ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾) بذلك في أنفسكم، ولكنكم تُنكرونه أمام الناس).
الآية 72: ((﴿ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا ﴾): أي: أظهِروا الإيمان (نِفاقاً) (﴿ بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ ﴾): أي: أولالنهار، (﴿ وَاكْفُرُوا ﴾) به (﴿ آَخِرَهُ ﴾): أي: آخرالنهار (﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾): أي: لعلهم يتشكَّكون في دينهم فيَرجعونَ عنه).
الآية 73: ((﴿ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ﴾): يعني: ولا تُصدِّقوا تصديقًا صحيحًا إلا لمَن آمَنَ بدينكم، (﴿ قُلْ إِنَّ الْهُدَى ﴾) والتوفيق هو (﴿ هُدَى اللَّهِ ﴾) وتوفيقه للإيمان الصحيح، وقالوا: لاتظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين (﴿ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ ﴾): أي: حتى لا يتعلموا منكم فيُساوُوكم في العلم، (﴿ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ ﴾): يعني: أو يتخذوا هذا العلم - الذي عندكم - حجة عليكم عند ربكم، فيغلبونكم بها، (﴿ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾) (﴿ وَاللَّهُ وَاسِعٌ ﴾) يَسَعُ بعلمه وعطائه جميعم خلوقاته، (﴿ عَلِيمٌ ﴾) بمَن يستحق فضله ونِعَمَه).
♦ واعلم أن هذه الجُملة: (﴿ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ ﴾): هي مَعطوفة على قولهم في أول الآية: (﴿ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ﴾)، فكأنهم يقولون: (﴿ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، ولا تُظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين، حتى لا يُؤْتَوا من العلم مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ بهذا العلم عِنْدَ رَبِّكُمْ ﴾)، وبهذا تكون الجُملة: (﴿ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ ﴾): هي جملة اعتراضية بين الجملتين، للتأكيد على أن التوفيق للهُدى إنما هو بيد الله تعالى وحده.
..............
من سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم، وذلك بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف أ.د. التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف) واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.
يتبع
رامى حنفى محمود
شبكة الألوكه الشرعية
تعليق