إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

تفسير القران الكريم من سورة الفاتحة إلى سورة مريم"للعلامة عبدالرحمن السعدي رحمة الله

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ أي في الدنيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أي يلعنهم الله وملائكته والناس أجمعون في الدنيا والآخرة

    بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ أي بئس ما اجتمع لهم وترادف عليهم من عذاب الله ولعنة الدنيا والآخرة

    ولما ذكر قصص هؤلاء الأمم مع رسلهم قال الله تعالى لرسوله ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ لتنذر به ويكون آية على رسالتك وموعظة وذكرى للمؤمنين

    مِنْهَا قَائِمٌ لم يتلف بل بقي من آثار ديارهم ما يدل عليهم وَ منها حَصِيدٌ قد تهدمت مساكنهم واضمحلت منازلهم فلم يبق لها أثر

    وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ بأخذهم بأنواع العقوبات وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالشرك والكفر والعناد

    فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وهكذا كل من التجأ إلى غير الله لم ينفعه ذلك عند نزول الشدائد

    وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ أي خسار ودمار بالضد مما خطر ببالهم

    102 وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ .

    أي: يقصمهم بالعذاب ويبيدهم، ولا ينفعهم، ما كانوا يدعون, من دون الله من شيء.

    إِنَّ فِي ذَلِكَ المذكور، من أخذه < 1-390 > للظالمين، بأنواع العقوبات، لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ أي: لعبرة ودليلا على أن أهل الظلم والإجرام، لهم العقوبة الدنيوية، والعقوبة الأخروية، ثم انتقل من هذا، إلى وصف الآخرة فقال: ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ أي: جمعوا لأجل ذلك اليوم، للمجازاة، وليظهر لهم من عظمة الله وسلطانه وعدله العظيم، ما به يعرفونه حق المعرفة.

    وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ أي: يشهده الله وملائكته، وجميع المخلوقين.

    وَمَا نُؤَخِّرُهُ أي: إتيان يوم القيامة إِلا لأجَلٍ مَعْدُودٍ إذا انقضى أجل الدنيا وما قدر الله فيها من الخلق، فحينئد ينقلهم إلى الدار الأخرى، ويجري عليهم أحكامه الجزائية، كما أجرى عليهم في الدنيا, أحكامه الشرعية.


    يَوْمَ يَأْتِ ذلك اليوم، ويجتمع الخلق لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ حتى الأنبياء، والملائكة الكرام، لا يشفعون إلا بإذنه، فَمِنْهُمْ أي: الخلق شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فالأشقياء، هم الذين كفروا بالله، وكذبوا رسله، وعصوا أمره، والسعداء، هم: المؤمنون المتقون.

    وأما جزاؤهم فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا أي: حصلت لهم الشقاوة، والخزي والفضيحة، فَفِي النَّارِ منغمسون في عذابها، مشتد عليهم عقابها، لَهُمْ فِيهَا من شدة ما هم فيه زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ وهو أشنع الأصوات وأقبحها.

    خَالِدِينَ فِيهَا أي: في النار، التي هذا عذابها مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ أي: خالدين فيها أبدا، إلا المدة التي شاء الله, أن لا يكونوا فيها، وذلك قبل دخولها، كما قاله جمهور المفسرين، فالاستثناء على هذا، راجع إلى ما قبل دخولها، فهم خالدون فيها جميع الأزمان، سوى الزمن الذي قبل الدخول فيها.

    إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ فكل ما أراد فعله واقتضته حكمته فعله، تبارك وتعالى، لا يرده أحد عن مراده.

    وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا أي: حصلت لهم السعادة، والفلاح، والفوز فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ ثم أكد ذلك بقوله: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ أي: ما أعطاهم الله من النعيم المقيم، واللذة العالية، فإنه دائم مستمر، غير منقطع بوقت من الأوقات، نسأل الله الكريم من فضله.



    يتابع الرجاء عدم الرد


    7


    7

    تعليق


    • 109 فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ .

      يقول الله تعالى، لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ المشركون، أي: لا تشك في حالهم، وأن ما هم عليه باطل, فليس لهم عليه دليل شرعي ولا عقلي، وإنما دليلهم وشبهتهم، أنهم مَا يَعْبُدُونَ إِلا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ .

      ومن المعلوم أن هذا، ليس بشبهة، فضلا عن أن يكون دليلا لأن أقوال ما عدا الأنبياء، يحتج لها لا يحتج بها، خصوصا أمثال هؤلاء الضالين، الذين كثر خطأهم وفساد أقوالهم, في أصول الدين، فإن أقوالهم، وإن اتفقوا عليها، فإنها خطأ وضلال.

      وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ أي: لا بد أن ينالهم نصيبهم من الدنيا، مما كتب لهم، وإن كثر ذلك النصيب، أو راق في عينك, فإنه لا يدل على صلاح حالهم، فإن الله يعطي الدنيا من يحب، ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان والدين الصحيح، إلا من يحب. والحاصل أنه لا يغتر باتفاق الضالين، على قول الضالين من آبائهم الأقدمين، ولا على ما خولهم الله، وآتاهم من الدنيا.

      110 - 113 وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ * وَإِنَّ كُلا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ .

      يخبر تعالى، أنه آتى موسى الكتاب، الذي هو التوراة، الموجب للاتفاق على أوامره ونواهيه، والاجتماع، ولكن، مع هذا، فإن المنتسبين إليه، اختلفوا فيه اختلافا، أضر بعقائدهم، وبجامعتهم الدينية.

      وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بتأخيرهم، وعدم معاجلتهم بالعذاب لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بإحلال العقوبة بالظالم، ولكنه تعالى، اقتضت حكمته، أن أخر القضاء بينهم إلى يوم القيامة، وبقوا في شك منه مريب.

      وإذا كانت هذه حالهم، مع كتابهم، فمع القرآن الذي أوحاه الله إليك، غير مستغرب، من طائفة اليهود، أن لا يؤمنوا به، وأن يكونوا في شك منه مريب.

      وَإِنَّ كُلا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ أي: لا بد أن الله يقضي بينهم يوم القيامة، بحكمه العدل، فيجازي كلا بما يستحقه.

      < 1-391 >

      إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ من خير وشر خَبِيرٌ فلا يخفى عليه شيء من أعمالهم، دقيقها وجليلها.

      ثم لما أخبر بعدم استقامتهم، التي أوجبت اختلافهم وافتراقهم, أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، ومن معه، من المؤمنين، أن يستقيموا كما أمروا، فيسلكوا ما شرعه الله من الشرائع، ويعتقدوا ما أخبر الله به من العقائد الصحيحة، ولا يزيغوا عن ذلك يمنة ولا يسرة، ويدوموا على ذلك، ولا يطغوا بأن يتجاوزوا ما حده الله لهم من الاستقامة.

      وقوله: إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي: لا يخفى عليه من أعمالكم شيء, وسيجازيكم عليها، ففيه ترغيب لسلوك الاستقامة، وترهيب من ضدها، ولهذا حذرهم عن الميل إلى من تعدى الاستقامة فقال: وَلا تَرْكَنُوا أي: لا تميلوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فإنكم، إذا ملتم إليهم، ووافقتموهم على ظلمهم، أو رضيتم ما هم عليه من الظلم فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ إن فعلتم ذلك وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يمنعونكم من عذاب الله، ولا يحصلون لكم شيئا، من ثواب الله.

      ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ أي: لا يدفع عنكم العذاب إذا مسكم، ففي هذه الآية: التحذير من الركون إلى كل ظالم، والمراد بالركون، الميل والانضمام إليه بظلمه وموافقته على ذلك، والرضا بما هو عليه من الظلم.

      وإذا كان هذا الوعيد في الركون إلى الظلمة، فكيف حال الظلمة بأنفسهم؟!! نسأل الله العافية من الظلم.

      114 - 115 وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ .

      يأمر تعالى بإقامة الصلاة كاملة طَرَفَيِ النَّهَارِ أي: أوله وآخره، ويدخل في هذا، صلاة الفجر، وصلاتا الظهر والعصر، وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ ويدخل في ذلك، صلاة المغرب والعشاء، ويتناول ذلك قيام الليل، فإنها مما تزلف العبد، وتقربه إلى الله تعالى.

      إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ أي: فهذه الصلوات الخمس، وما ألحق بها من التطوعات من أكبر الحسنات، وهي: مع أنها حسنات تقرب إلى الله، وتوجب الثواب، فإنها تذهب السيئات وتمحوها، والمراد بذلك: الصغائر، كما قيدتها الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل قوله: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر"، بل كما قيدتها الآية التي في سورة النساء، وهي قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا .

      ذلك لعل الإشارة، لكل ما تقدم، من لزوم الاستقامة على الصراط المستقيم، وعدم مجاوزته وتعديه، وعدم الركون إلى الذين ظلموا، والأمر بإقامة الصلاة، وبيان أن الحسنات يذهبن السيئات، الجميع ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ يفهمون بها ما أمرهم الله به، ونهاهم عنه، ويمتثلون لتلك الأوامر الحسنة المثمرة للخيرات، الدافعة للشرور والسيئات، ولكن تلك الأمور، تحتاج إلى مجاهدة النفس، والصبر عليها، ولهذا قال:

      وَاصْبِرْ أي: احبس نفسك على طاعة الله، وعن معصيته، وإلزامها لذلك، واستمر ولا تضجر.

      فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ بل يتقبل الله عنهم أحسن الذي عملوا، ويجزيهم أجرهم، بأحسن ما كانوا يعملون، وفي هذا ترغيب عظيم، للزوم الصبر، بتشويق النفس الضعيفة إلى ثواب الله، كلما ونت وفترت.

      116 فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأرْضِ إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ .

      لما ذكر تعالى، إهلاك الأمم المكذبة للرسل، وأن أكثرهم منحرفون، حتى أهل الكتب الإلهية، وذلك كله يقضي على الأديان بالذهاب والاضمحلال، ذكر أنه لولا أنه جعل في القرون الماضية بقايا، من أهل الخير يدعون إلى الهدى، وينهون عن الفساد والردى، فحصل من نفعهم ما بقيت به الأديان، ولكنهم قليلون جدا.

      وغاية الأمر، أنهم نجوا، باتباعهم المرسلين، وقيامهم بما قاموا به من دينهم، وبكون حجة الله أجراها على أيديهم، ليهلك من هلك عن بيِّنة ويحيا من حيَّ عن بيِّنة

      وَ لكن اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ أي: اتبعوا ما هم فيه من النعيم والترف، ولم يبغوا به بدلا.

      وَكَانُوا مُجْرِمِينَ أي: ظالمين، باتباعهم ما أترفوا فيه، فلذلك حق عليهم العقاب، واستأصلهم العذاب. وفي هذا، حث لهذه الأمة، أن يكون < 1-392 > فيهم بقايا مصلحون، لما أفسد الناس، قائمون بدين الله، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويبصرونهم من العمى.

      وهذه الحالة أعلى حالة يرغب فيها الراغبون، وصاحبها يكون, إماما في الدين، إذا جعل عمله خالصا لرب العالمين.

      117 وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ .

      أي: وما كان الله ليهلك أهل القرى بظلم منه لهم، والحال أنهم مصلحون, أي: مقيمون على الصلاح، مستمرون عليه، فما كان الله ليهلكهم، إلا إذا ظلموا، وقامت عليهم حجة الله.

      ويحتمل، أن المعنى: وما كان ربك ليهلك القرى بظلمهم السابق، إذا رجعوا وأصلحوا عملهم، فإن الله يعفو عنهم، ويمحو ما تقدم من ظلمهم.




      يتابع الرجاء عدم الرد

      7

      7

      تعليق


      • 118 - 119 وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ .

        يخبر تعالى أنه لو شاء لجعل الناس كلهم أمة واحدة على الدين الإسلامي، فإن مشيئته غير قاصرة، ولا يمتنع عليه شيء، ولكنه اقتضت حكمته، أن لا يزالوا مختلفين، مخالفين للصراط المستقيم, متبعين للسبل الموصلة إلى النار، كل يرى الحق، فيما قاله، والضلال في قول غيره.

        إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ فهداهم إلى العلم بالحق والعمل به، والاتفاق عليه، فهؤلاء سبقت لهم، سابقة السعادة، وتداركتهم العناية الربانية والتوفيق الإلهي.

        وأما من عداهم، فهم مخذولون موكولون إلى أنفسهم.

        وقوله: وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ أي: اقتضت حكمته، أنه خلقهم، ليكون منهم السعداء والأشقياء، والمتفقون والمختلفون، والفريق الذين هدى الله, والفريق الذين حقت عليهم الضلالة، ليتبين للعباد، عدله وحكمته، وليظهر ما كمن في الطباع البشرية من الخير والشر، ولتقوم سوق الجهاد والعبادات التي لا تتم ولا تستقيم إلا بالامتحان والابتلاء.

        وَ لأنه تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ فلا بد أن ييسر للنار أهلا يعملون بأعمالها الموصلة إليها.

        120 - 123 وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ * وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ .

        لما ذكر في هذه السورة من أخبار الأنبياء، ما ذكر، ذكر الحكمة في ذكر ذلك، فقال: وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ أي: قلبك ليطمئن ويثبت ويصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، فإن النفوس تأنس بالاقتداء، وتنشط على الأعمال، وتريد المنافسة لغيرها, ويتأيد الحق بذكر شواهده، وكثرة من قام به.

        وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ السورة الْحَقُّ اليقين، فلا شك فيه بوجه من الوجوه، فالعلم بذلك من العلم بالحق الذي هو أكبر فضائل النفوس.

        وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ أي: يتعظون به، فيرتدعون عن الأمور المكروهة، ويتذكرون الأمور المحبوبة لله فيفعلونها.

        وأما من ليس من أهل الإيمان، فلا تنفعهم المواعظ، وأنواع التذكير، ولهذا قال: وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بعد ما قامت عليهم الآيات، اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ أي: حالتكم التي أنتم عليها إِنَّا عَامِلُونَ على ما كنا عليه.

        وَانْتَظِرُوا ما يحل بنا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ما يحل بكم.

        وقد فصل الله بين الفريقين، وأرى عباده، نصره لعباده المؤمنين, وقمعه لأعداء الله المكذبين.

        وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أي: ما غاب فيهما من الخفايا، والأمور الغيبية.

        وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ من الأعمال والعمال، فيميز الخبيث من الطيب فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ أي: قم بعبادته، وهي جميع ما أمر الله به مما تقدر عليه، وتوكل على الله في ذلك.

        وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ من الخير والشر، بل قد أحاط علمه بذلك، وجرى به قلمه، وسيجري عليه حكمه، وجزاؤه.


        تم تفسير سورة هود، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وسلم.

        [ وكان الفراغ من نسخه في يوم السبت في 21 من شهر ربيع الآخر 1347 ] .

        المجلد الرابع من تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام الرب المنان لجامعه الفقير إلى الله: عبد الرحمن بن ناصر السعدي غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين آمين.

        < 1-393 >

        تعليق


        • تفسير سوره يوسف
          بن يعقوب عليهما الصلاة والسلام
          وهي مكية
          1 - 3 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ .

          يخبر تعالى أن آيات القرآن هي آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ أي: البين الواضحة ألفاظه ومعانيه.

          ومن بيانه وإيضاحه: أنه أنزله باللسان العربي، أشرف الألسنة، وأبينها، [المبين لكل ما يحتاجه الناس من الحقائق النافعة ] وكل هذا الإيضاح والتبيين لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي: لتعقلوا حدوده وأصوله وفروعه، وأوامره ونواهيه.

          فإذا عقلتم ذلك بإيقانكم واتصفت قلوبكم بمعرفتها، أثمر ذلك عمل الجوارح والانقياد إليه، و لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي: تزداد عقولكم بتكرر المعاني الشريفة العالية، على أذهانكم،. فتنتقلون من حال إلى أحوال أعلى منها وأكمل.

          نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ وذلك لصدقها وسلاسة عبارتها ورونق معانيها، بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ أي: بما اشتمل عليه هذا القرآن الذي أوحيناه إليك، وفضلناك به على سائر الأنبياء، وذاك محض منَّة من الله وإحسان.

          وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ أي: ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان قبل أن يوحي الله إليك، ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا.

          ولما مدح ما اشتمل عليه هذا القرآن من القصص، وأنها أحسن القصص على الإطلاق، فلا يوجد من القصص في شيء من الكتب مثل هذا القرآن، ذكر قصه يوسف، وأبيه وإخوته، القصة العجيبة الحسنة فقال:

          4 - 6 إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ .
          واعلم أن الله ذكر أنه يقص على رسوله أحسن القصص في هذا الكتاب، ثم ذكر هذه القصة وبسطها، وذكر ما جرى فيها، فعلم بذلك أنها قصة تامة كاملة حسنة، فمن أراد أن يكملها أو يحسنها بما يذكر في الإسرائيليات التي لا يعرف لها سند ولا ناقل وأغلبها كذب، فهو مستدرك على الله، ومكمل لشيء يزعم أنه ناقص، وحسبك بأمر ينتهي إلى هذا الحد قبحا، فإن تضاعيف هذه السورة قد ملئت في كثير من التفاسير، من الأكاذيب والأمور الشنيعة المناقضة لما قصه الله تعالى بشيء كثير.

          فعلى العبد أن يفهم عن الله ما قصه، ويدع ما سوى ذلك مما ليس عن النبي صلى الله عليه وسلم ينقل.

          فقوله تعالى: إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأبِيهِ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم الصلاة والسلام: يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ فكانت هذه الرؤيا مقدمة لما وصل إليه يوسف عليه السلام من الارتفاع في الدنيا والآخرة.

          وهكذا إذا أراد الله أمرا من الأمور العظام قدم بين يديه مقدمة، توطئة له، وتسهيلا لأمره، واستعدادا لما يرد على العبد من المشاق، لطفا بعبده، وإحسانا إليه، فأوَّلها يعقوب بأن الشمس: أمه، والقمر: أبوه، والكواكب: إخوته، وأنه ستنتقل به الأحوال إلى أن يصير إلى حال يخضعون له، ويسجدون له إكراما وإعظاما، وأن ذلك لا يكون إلا بأسباب تتقدمه من اجتباء الله له، واصطفائه له، وإتمام نعمته عليه بالعلم والعمل، والتمكين في الأرض.

          وأن هذه النعمة ستشمل آل يعقوب، الذين سجدوا له وصاروا تبعا له فيها، ولهذا قال:



          يتابع الرجاء عدم الرد


          7


          7

          تعليق


          • قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ .

            وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ أي: يصطفيك ويختارك بما يمنُّ به عليك من الأوصاف الجليلة والمناقب الجميلة،. وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ أي: من تعبير الرؤيا، وبيان ما تئول إليه الأحاديث الصادقة، كالكتب السماوية ونحوها، وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ في الدنيا والآخرة، بأن يؤتيك في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ حيث أنعم الله عليهما، بنعم عظيمة واسعة، دينية، ودنيوية.

            إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي: علمه محيط بالأشياء، وبما احتوت عليه ضمائر العباد من البر وغيره، فيعطي كلا ما تقتضيه حكمته وحمده، فإنه حكيم يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها.

            ولما بان تعبيرها ليوسف، قال له أبوه: يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى < 1-394 > إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا أي: حسدا من عند أنفسهم، أن تكون أنت الرئيس الشريف عليهم.

            إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ لا يفتر عنه ليلا ولا نهارا، ولا سرا ولا جهارا، فالبعد عن الأسباب التي يتسلط بها على العبد أولى، فامتثل يوسف أمر أبيه، ولم يخبر إخوته بذلك، بل كتمها عنهم.

            7 - 9 لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ * إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ .

            يقول تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ أي: عبر وأدلة على كثير من المطالب الحسنة، لِلسَّائِلِينَ أي: لكل من سأل عنها بلسان الحال أو بلسان المقال، فإن السائلين هم الذين ينتفعون بالآيات والعبر، وأما المعرضون فلا ينتفعون بالآيات، ولا في القصص والبينات.

            إِذْ قَالُوا فيما بينهم: لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ بنيامين، أي: شقيقه، وإلا فكلهم إخوة. أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ أي: جماعة، فكيف يفضلهما علينا بالمحبة والشفقة، إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: لفي خطأ بيِّن، حيث فضلهما علينا من غير موجب نراه، ولا أمر نشاهده.

            اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا أي: غيبوه عن أبيه في أرض بعيدة لا يتمكن من رؤيته فيها.

            فإنكم إذا فعلتم أحد هذين الأمرين يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ أي: يتفرغ لكم، ويقبل عليكم بالشفقة والمحبة، فإنه قد اشتغل قلبه بيوسف شغلا لا يتفرغ لكم، وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ أي: من بعد هذا الصنيع قَوْمًا صَالِحِينَ أي: تتوبون إلى الله، وتستغفرون من بعد ذنبكم.

            فقدموا العزم على التوبة قبل صدور الذنب منهم تسهيلا لفعله، وإزالة لشناعته، وتنشيطا من بعضهم لبعض.

            10 قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ .

            أي: قَالَ قَائِلٌ من إخوة يوسف الذين أرادوا قتله أو تبعيده: لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ فإن قتله أعظم إثما وأشنع، والمقصود يحصل بتبعيده عن أبيه من غير قتل، ولكن توصلوا إلى تبعيده بأن تلقوه فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وتتوعدوه على أنه لا يخبر بشأنكم، بل على أنه عبد مملوك آبق منكم، لأجل أن يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ الذين يريدون مكانا بعيدا، فيحتفظون فيه.

            وهذا القائل أحسنهم رأيا في يوسف، وأبرهم وأتقاهم في هذه القضية، فإن بعض الشر أهون من بعض، والضرر الخفيف يدفع به الضرر الثقيل، .فلما اتفقوا على هذا الرأي.

            11 - 14 قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ * قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ .

            أي: قال إخوة يوسف، متوصلين إلى مقصدهم لأبيهم: يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ أي: لأي شيء يدخلك الخوف منا على يوسف، من غير سبب ولا موجب؟ وَ الحال إِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ أي: مشفقون عليه، نود له ما نود لأنفسنا، وهذا يدل على أن يعقوب عليه السلام لا يترك يوسف يذهب مع إخوته للبرية ونحوها.

            فلما نفوا عن أنفسهم التهمة المانعة من عدم إرساله معهم، ذكروا له من مصلحة يوسف وأنسه الذي يحبه أبوه له، ما يقتضي أن يسمح بإرساله معهم، فقالوا:

            أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ أي: يتنزه في البرية ويستأنس. وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ أي: سنراعيه، ونحفظه من أذى يريده.

            فأجابهم بقوله: إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ أي: مجرد ذهابكم به يحزنني ويشق علي، لأنني لا أقدر على فراقه، ولو مدة يسيرة، فهذا مانع من إرساله وَ مانع ثان، وهو أني أَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ أي: في حال غفلتكم عنه، لأنه صغير لا يمتنع من الذئب.

            قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ أي: جماعة، حريصون على حفظه، إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ أي: لا خير فينا ولا نفع يرجى منا إن أكله الذئب وغلبنا عليه.

            فلما مهدوا لأبيهم الأسباب الداعية لإرساله، وعدم الموانع، سمح حينئذ بإرساله معهم لأجل أنسه.



            يتابع الرجاء عدم الرد

            7

            7

            تعليق


            • 15 - 18 فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ .

              أي: لما ذهب إخوة يوسف بيوسف بعد ما أذن له أبوه، وعزموا على أن يجعلوه في غيابة الجب، كما قال قائلهم السابق ذكره، وكانوا قادرين على ما أجمعوا عليه، فنفذوا فيه قدرتهم، وألقوه في < 1-395 > الجب، ثم إن الله لطف به بأن أوحى إليه وهو في تلك الحال الحرجة، لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي: سيكون منك معاتبة لهم، وإخبار عن أمرهم هذا، وهم لا يشعرون بذلك الأمر، ففيه بشارة له، بأنه سينجو مما وقع فيه، وأن الله سيجمعه بأهله وإخوته على وجه العز والتمكين له في الأرض.

              وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ ليكون إتيانهم متأخرا عن عادتهم، وبكاؤهم دليلا لهم، وقرينة على صدقهم.

              فقالوا - متعذرين بعذر كاذب - يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ إما على الأقدام، أو بالرمي والنضال، وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا توفيرا له وراحة. فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ في حال غيبتنا عنه في استباقنا وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ أي: تعذرنا بهذا العذر، والظاهر أنك لا تصدقنا لما في قلبك من الحزن على يوسف، والرقة الشديدة عليه.

              ولكن عدم تصديقك إيانا، لا يمنعنا أن نعتذر بالعذر الحقيقي، وكل هذا، تأكيد لعذرهم. وَ مما أكدوا به قولهم، أنهم جَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ زعموا أنه دم يوسف حين أكله الذئب، فلم يصدقهم أبوهم بذلك، و قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا أي: زينت لكم أنفسكم أمرا قبيحا في التفريق بيني وبينه، لأنه رأى من القرائن والأحوال [ ومن رؤيا يوسف التي قصَّها عليه ] ما دلّه على ما قال.

              فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ أي: أما أنا فوظيفتي سأحرص على القيام بها، وهي أني أصبر على هذه المحنة صبرا جميلا سالما من السخط والتَّشكِّي إلى الخلق، وأستعين الله على ذلك، لا على حولي وقوتي، فوعد من نفسه هذا الأمر وشكى إلى خالقه في قوله: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ لأن الشكوى إلى الخالق لا تنافي الصبر الجميل، لأن النبي إذا وعد وفى.

              19 - 20 وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ .

              أي: مكث يوسف في الجب ما مكث، حتى جَاءَتْ سَيَّارَةٌ أي: قافلة تريد مصر، فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ أي: فرطهم ومقدمهم، الذي يعس لهم المياه، ويسبرها ويستعد لهم بتهيئة الحياض ونحو ذلك، فَأَدْلَى ذلك الوارد دَلْوَهُ فتعلق فيه يوسف عليه السلام وخرج. قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ أي: استبشر وقال: هذا غلام نفيس، وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وكان إخوته قريبا منه، فاشتراه السيارة منهم، بِثَمَنٍ بَخْسٍ أي: قليل جدا، فسره بقوله: دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ

              لأنه لم يكن لهم قصد إلا تغييبه وإبعاده عن أبيه، ولم يكن لهم قصد في أخذ ثمنه، والمعنى في هذا: أن السيارة لما وجدوه، عزموا أن يُسِرُّوا أمره، ويجعلوه من جملة بضائعهم التي معهم، حتى جاءهم إخوته فزعموا أنه عبد أبق منهم، فاشتروه منهم بذلك الثمن، واستوثقوا منهم فيه لئلا يهرب، والله أعلم.

              21 وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ .

              أي: لما ذهب به السيارة إلى مصر وباعوه بها، فاشتراه عزيز مصر، فلما اشتراه، أعجب به، ووصى عليه امرأته وقال: أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا أي: إما أن ينفعنا كنفع العبيد بأنواع الخدم، وإما أن نستمتع فيه استمتاعنا بأولادنا، ولعل ذلك أنه لم يكن لهما ولد، وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ أي: كما يسرنا له أن يشتريه عزيز مصر، ويكرمه هذا الإكرام، جعلنا هذا مقدمة لتمكينه في الأرض من هذا الطريق.

              وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ إذا بقي لا شغل له ولا همَّ له سوى العلم صار ذلك من أسباب تعلمه علما كثيرا، من علم الأحكام، وعلم التعبير، وغير ذلك. وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ أي: أمره تعالى نافذ، لا يبطله مبطل، ولا يغلبه مغالب، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ فلذلك يجري منهم ويصدر ما يصدر، في مغالبة أحكام الله القدرية، وهم أعجز وأضعف من ذلك.

              22 وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ .

              أي: وَلَمَّا بَلَغَ يوسف أَشُدَّهُ أي: كمال قوته المعنوية والحسية، وصلح لأن يتحمل الأحمال الثقيلة، من النبوة والرسالة. آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا أي: جعلناه نبيا رسولا وعالما ربانيا، وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ في عبادة الخالق ببذل الجهد والنصح فيها، وإلى عباد الله ببذل النفع والإحسان إليهم، نؤتيهم من جملة الجزاء على إحسانهم < 1-396 > علما نافعا.

              ودل هذا، على أن يوسف وفَّى مقام الإحسان، فأعطاه الله الحكم بين الناس والعلم الكثير والنبوة.



              يتابع الرجاء عدم الرد

              7

              7

              تعليق


              • 23 - 29 وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ .

                هذه المحنة العظيمة أعظم على يوسف من محنة إخوته، وصبره عليها أعظم أجرا، لأنه صبر اختيار مع وجود الدواعي الكثيرة، لوقوع الفعل، فقدم محبة الله عليها، وأما محنته بإخوته، فصبره صبر اضطرار، بمنزلة الأمراض والمكاره التي تصيب العبد بغير اختياره وليس له ملجأ إلا الصبر عليها، طائعا أو كارها، وذلك أن يوسف عليه الصلاة والسلام بقي مكرما في بيت العزيز، وكان له من الجمال والكمال والبهاء ما أوجب ذلك، أن رَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ أي: هو غلامها، وتحت تدبيرها، والمسكن واحد، يتيسر إيقاع الأمر المكروه من غير إشعار أحد، ولا إحساس بشر.

                وَ زادت المصيبة، بأن غَلَّقَتِ الأبْوَابَ وصار المحل خاليا، وهما آمنان من دخول أحد عليهما، بسبب تغليق الأبواب، وقد دعته إلى نفسها وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ أي: افعل الأمر المكروه وأقبل إليَّ، ومع هذا فهو غريب، لا يحتشم مثله ما يحتشمه إذا كان في وطنه وبين معارفه، وهو أسير تحت يدها، وهي سيدته، وفيها من الجمال ما يدعو إلى ما هنالك، وهو شاب عزب، وقد توعدته، إن لم يفعل ما تأمره به بالسجن، أو العذاب الأليم.

                فصبر عن معصية الله، مع وجود الداعي القوي فيه، لأنه قد هم فيها هما تركه لله، وقدم مراد الله على مراد النفس الأمارة بالسوء، ورأى من برهان ربه - وهو ما معه من العلم والإيمان، الموجب لترك كل ما حرم الله - ما أوجب له البعد والانكفاف، عن هذه المعصية الكبيرة، و قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أي: أعوذ بالله أن أفعل هذا الفعل القبيح، لأنه مما يسخط الله ويبعد منه، ولأنه خيانة في حق سيدي الذي أكرم مثواي.

                فلا يليق بي أن أقابله في أهله بأقبح مقابلة، وهذا من أعظم الظلم، والظالم لا يفلح، والحاصل أنه جعل الموانع له من هذا الفعل تقوى الله، ومراعاة حق سيده الذي أكرمه، وصيانة نفسه عن الظلم الذي لا يفلح من تعاطاه، وكذلك ما منَّ الله عليه من برهان الإيمان الذي في قلبه، يقتضي منه امتثال الأوامر، واجتناب الزواجر، والجامع لذلك كله أن الله صرف عنه السوء والفحشاء، لأنه من عباده المخلصين له في عباداتهم، الذين أخلصهم الله واختارهم، واختصهم لنفسه، وأسدى عليهم من النعم، وصرف عنهم من المكاره ما كانوا به من خيار خلقه.

                ولما امتنع من إجابة طلبها بعد المراودة الشديدة، ذهب ليهرب عنها ويبادر إلى الخروج من الباب ليتخلص، ويهرب من الفتنة، فبادرت إليه، وتعلقت بثوبه، فشقت قميصه، فلما وصلا إلى الباب في تلك الحال، ألفيا سيدها، أي: زوجها لدى الباب، فرأى أمرا شق عليه، فبادرت إلى الكذب، أن المراودة قد كانت من يوسف، وقالت: مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا ولم تقل "من فعل بأهلك سوءا" تبرئة لها وتبرئة له أيضا من الفعل.

                وإنما النزاع عند الإرادة والمراودة إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أي: أو يعذب عذابا أليما.

                فبرأ نفسه مما رمته به، وقال: هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي فحينئذ احتملت الحال صدق كل واحد منهما ولم يعلم أيهما.

                ولكن الله تعالى جعل للحق والصدق علامات وأمارات تدل عليه، قد يعلمها العباد وقد لا يعلمونها، فمنَّ الله في هذه القضية بمعرفة الصادق منهما، تبرئة لنبيه وصفيه يوسف عليه السلام، فانبعث شاهد من أهل بيتها، يشهد بقرينة من وجدت معه، فهو الصادق، فقال: إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ لأن ذلك يدل على أنه هو المقبل عليها، المراود لها المعالج، وأنها أرادت أن تدفعه عنها، فشقت قميصه من هذا الجانب.

                وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ لأن ذلك يدل على هروبه منها، وأنها هي التي طلبته فشقت قميصه من هذا الجانب.

                فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ عرف بذلك صدق يوسف وبراءته، وأنها هي الكاذبة.

                فقال لها سيدها: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ وهل أعظم من هذا الكيد، الذي برأت به نفسها مما أرادت وفعلت، ورمت به نبي الله يوسف عليه السلام، ثم إن سيدها لما تحقق الأمر، قال ليوسف: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا أي: اترك الكلام فيه وتناسه ولا تذكره لأحد، طلبا للستر على أهله، وَاسْتَغْفِرِي أيتها المرأة لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ فأمر يوسف بالإعراض، وهي بالاستغفار والتوبة.

                < 1-397 >

                30 - 35 وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ .

                يعني: أن الخبر اشتهر وشاع في البلد، وتحدث به النسوة فجعلن يلمنها، ويقلن: امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا أي: هذا أمر مستقبح، هي امرأة كبيرة القدر، وزوجها كبير القدر، ومع هذا لم تزل تراود فتاها الذي تحت يدها وفي خدمتها عن نفسه،.ومع هذا فإن حبه قد بلغ من قلبها مبلغا عظيما.

                قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا أي: وصل حبه إلى شغاف قلبها، وهو باطنه وسويداؤه، وهذا أعظم ما يكون من الحب، إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ حيث وجدت منها هذه الحالة التي لا تنبغي منها، وهي حالة تحط قدرها وتضعه عند الناس، وكان هذا القول منهن مكرا، ليس المقصود به مجرد اللوم لها والقدح فيها، وإنما أردن أن يتوصلن بهذا الكلام إلى رؤية يوسف الذي فتنت به امرأة العزيز لتحنق امرأة العزيز، وتريهن إياه ليعذرنها، ولهذا سماه مكرا، فقال:



                يتابع الرجاء عدم الرد

                7

                7

                تعليق


                • فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ .

                  فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ تدعوهن إلى منزلها للضيافة.

                  وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً أي: محلا مهيأ بأنواع الفرش والوسائد، وما يقصد بذلك من المآكل اللذيذة، وكان في جملة ما أتت به وأحضرته في تلك الضيافة، طعام يحتاج إلى سكين، إما أترج، أو غيره، وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا ليقطعن فيها ذلك الطعام وَقَالَتِ ليوسف: اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ في حالة جماله وبهائه.

                  فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ أي: أعظمنه في صدورهن، ورأين منظرا فائقا لم يشاهدن مثله، وَقَطَّعْنَ من الدهش أَيْدِيَهُنَّ بتلك السكاكين اللاتي معهن، وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ أي: تنزيها لله مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ وذلك أن يوسف أعطي من الجمال الفائق والنور والبهاء، ما كان به آية للناظرين، وعبرة للمتأملين.

                  فلما تقرر عندهن جمال يوسف الظاهر، وأعجبهن غاية، وظهر منهن من العذر لامرأة العزيز، شيء كثير - أرادت أن تريهن جماله الباطن بالعفة التامة فقالت معلنة لذلك ومبينة لحبه الشديد غير مبالية، ولأن اللوم انقطع عنها من النسوة: وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ أي: امتنع وهي مقيمة على مراودته، لم تزدها مرور الأوقات إلا قلقا ومحبة وشوقا لوصاله وتوقا.

                  ولهذا قالت له بحضرتهن: وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ لتلجئه بهذا الوعيد إلى حصول مقصودها منه، فعند ذلك اعتصم يوسف بربه، واستعان به على كيدهن و قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وهذا يدل على أن النسوة، جعلن يشرن على يوسف في مطاوعة سيدته، وجعلن يكدنه في ذلك.

                  فاستحب السجن والعذاب الدنيوي على لذة حاضرة توجب العذاب الشديد، وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ أي: أمل إليهن، فإني ضعيف عاجز، إن لم تدفع عني السوء، وَأَكُنْ إن صبوت إليهن مِنَ الْجَاهِلِينَ فإن هذا جهل، لأنه آثر لذة قليلة منغصة، على لذات متتابعات وشهوات متنوعات في جنات النعيم، ومن آثر هذا على هذا، فمن أجهل منه؟!! فإن العلم والعقل يدعو إلى تقديم أعظم المصلحتين وأعظم اللذتين، ويؤثر ما كان محمود العاقبة.

                  فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ حين دعاه فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ فلم تزل تراوده وتستعين عليه بما تقدر عليه من الوسائل، حتى أيسها، وصرف الله عنه كيدها، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لدعاء الداعي الْعَلِيمُ بنيته الصالحة، وبنيته الضعيفة المقتضية لإمداده بمعونته ولطفه.

                  فهذا ما نجى الله به يوسف من هذه الفتنة الملمة والمحنة الشديدة،.وأما أسياده فإنه لما اشتهر الخبر وبان، وصار الناس فيها بين عاذر ولائم وقادح.

                  بَدَا لَهُمْ أي: ظهر لهم مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ الدالة على براءته، لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ أي: لينقطع بذلك الخبر ويتناساه الناس، فإن الشيء إذا شاع لم يزل يذكر ويشاع مع وجود أسبابه، فإذا عدمت أسبابه نسي، فرأوا أن هذا مصلحة لهم، فأدخلوه في السجن.

                  36 - 40 وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ .
                  أي: و لما دخل يوسف السجن، كان في جملة من دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ أي: شابان، فرأى كل واحد منهما رؤيا، فقصها على يوسف ليعبرها، .فـ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا وذلك الخبز تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ < 1-398 > أي: بتفسيره، وما يؤول إليه أمرهما، وقولهما: إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ أي: من أهل الإحسان إلى الخلق، فأحسن إلينا في تعبيرك لرؤيانا، كما أحسنت إلى غيرنا، فتوسلا ليوسف بإحسانه.

                  فـ قَالَ لهما مجيبا لطلبتهما: لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا أي: فلتطمئن قلوبكما، فإني سأبادر إلى تعبير رؤياكما، فلا يأتيكما غداؤكما، أو عشاؤكما، أول ما يجيء إليكما، إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما.

                  ولعل يوسف عليه الصلاة والسلام قصد أن يدعوهما إلى الإيمان في هذه الحال التي بدت حاجتهما إليه، ليكون أنجع لدعوته، وأقبل لهما.

                  ثم قال: ذَلِكُمَا التعبير الذي سأعبره لكما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي أي: هذا من علم الله علمنيه وأحسن إليَّ به، وذلك إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ والترك كما يكون للداخل في شيء ثم ينتقل عنه، يكون لمن لم يدخل فيه أصلا.

                  فلا يقال: إن يوسف كان من قبل، على غير ملة إبراهيم.




                  يتابع الرجاء عدم الرد


                  7


                  7

                  تعليق


                  • وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ .

                    وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ثم فسر تلك الملة بقوله: مَا كَانَ لَنَا أي: ما ينبغي ولا يليق بنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ بل نفرد الله بالتوحيد، ونخلص له الدين والعبادة.

                    ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ أي: هذا من أفضل مننه وإحسانه وفضله علينا، وعلى من هداه الله كما هدانا، فإنه لا أفضل من منة الله على العباد بالإسلام والدين القويم، فمن قبله وانقاد له فهو حظه، وقد حصل له أكبر النعم وأجل الفضائل.

                    وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ فلذلك تأتيهم المنة والإحسان، فلا يقبلونها ولا يقومون لله بحقه، وفي هذا من الترغيب للطريق التي هو عليها ما لا يخفى، فإن الفتيين لما تقرر عنده أنهما رأياه بعين التعظيم والإجلال -وأنه محسن معلم- ذكر لهما أن هذه الحالة التي أنا عليها، كلها من فضل الله وإحسانه، حيث منَّ عليَّ بترك الشرك وباتباع ملة آبائه، فبهذا وصلت إلى ما رأيتما، فينبغي لكما أن تسلكا ما سلكت.

                    ثم صرح لهما بالدعوة، فقال: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ أي: أرباب عاجزة ضعيفة لا تنفع ولا تضر، ولا تعطي ولا تمنع، وهي متفرقة ما بين أشجار وأحجار وملائكة وأموات، وغير ذلك من أنواع المعبودات التي يتخذها المشركون، أتلك خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الذي له صفات الكمال، الْوَاحِدُ في ذاته وصفاته وأفعاله فلا شريك له في شيء من ذلك.

                    الْقَهَّارُ الذي انقادت الأشياء لقهره وسلطانه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ومن المعلوم أن من هذا شأنه ووصفه خير من الآلهة المتفرقة التي هي مجرد أسماء، لا كمال لها ولا أفعال لديها. ولهذا قال: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ

                    أي: كسوتموها أسماء، سميتموها آلهة، وهي لا شيء، ولا فيها من صفات الألوهية شيء، مَا أَنزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ بل أنزل الله السلطان بالنهي عن عبادتها وبيان بطلانها، وإذا لم ينزل الله بها سلطانا، لم يكن طريق ولا وسيلة ولا دليل لها.

                    لأن الحكم لله وحده، فهو الذي يأمر وينهى، ويشرع الشرائع، ويسن الأحكام، وهو الذي أمركم أن لا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي: المستقيم الموصل إلى كل خير، وما سواه من الأديان، فإنها غير مستقيمة، بل معوجة توصل إلى كل شر.

                    وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ حقائق الأشياء، وإلا فإن الفرق بين عبادة الله وحده لا شريك له، وبين الشرك به، أظهر الأشياء وأبينها.

                    ولكن لعدم العلم من أكثر الناس بذلك، حصل منهم ما حصل من الشرك،.فيوسف عليه السلام دعا صاحبي السجن لعبادة الله وحده، وإخلاص الدين له، فيحتمل أنهما استجابا وانقادا، فتمت عليهما النعمة، ويحتمل أنهما لم يزالا على شركهما، فقامت عليهما -بذلك- الحجة، ثم إنه عليه السلام شرع يعبر رؤياهما، بعد ما وعدهما ذلك، فقال:

                    41 يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا وهو الذي رأى أنه يعصر خمرا، فإنه يخرج من السجن فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا أي: يسقي سيده الذي كان يخدمه خمرا، وذلك مستلزم لخروجه من السجن، وَأَمَّا الآخَرُ وهو: الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه.

                    فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ فإنه عبر [عن] الخبز الذي تأكله الطير، بلحم رأسه وشحمه، وما فيه من المخ، وأنه لا يقبر ويستر عن الطيور، بل يصلب ويجعل في محل، تتمكن الطيور من أكله، ثم أخبرهما بأن هذا التأويل الذي تأوله لهما، أنه لا بد من وقوعه فقال: قُضِيَ الأمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ أي: تسألان عن تعبيره وتفسيره.

                    42 وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ .

                    < 1-399 > أي: وَقَالَ يوسف عليه السلام: لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا وهو: الذي رأى أنه يعصر خمرا: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ أي: اذكر له شأني وقصتي، لعله يرقُّ لي، فيخرجني مما أنا فيه، فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ أي: فأنسى الشيطان ذلك الناجي ذكر الله تعالى، وذكر ما يقرب إليه، ومن جملة ذلك نسيانه ذكر يوسف الذي يستحق أن يجازى بأتم الإحسان، وذلك ليتم الله أمره وقضاءه.

                    فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ والبضع من الثلاث إلى التسع، ولهذا قيل: إنه لبث سبع سنين، ولما أراد الله أن يتم أمره، ويأذن بإخراج يوسف من السجن، قدر لذلك سببا لإخراج يوسف وارتفاع شأنه وإعلاء قدره، وهو رؤيا الملك.

                    43 - 49 وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ .

                    لما أراد الله تعالى أن يخرج يوسف من السجن، أرى الله الملك هذه الرؤيا العجيبة، الذي تأويلها يتناول جميع الأمة، ليكون تأويلها على يد يوسف، فيظهر من فضله، ويبين من علمه ما يكون له رفعة في الدارين، ومن التقادير المناسبة أن الملك الذي ترجع إليه أمور الرعية هو الذي رآها، لارتباط مصالحها به.

                    وذلك أنه رأى رؤيا هالته، فجمع لها علماء قومه وذوي الرأي منهم وقال: إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ أي: سبع من البقرات عِجَافٌ وهذا من العجب، أن السبع العجاف الهزيلات اللاتي سقطت قوتهن، يأكلن السبع السمان التي كنَّ نهاية في القوة.

                    وَ رأيت سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ يأكلهن سبع سنبلات يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ لأن تعبير الجميع واحد، وتأويله شيء واحد. إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ فتحيروا، ولم يعرفوا لها وجها.



                    يتابع الرجاء عدم الرد


                    7


                    7

                    تعليق


                    • قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلامِ بِعَالِمِينَ * وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ .

                      و قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ أي أحلام لا حاصل لها، ولا لها تأويل.

                      وهذا جزم منهم بما لا يعلمون، وتعذر منهم، [بما ليس بعذر] ثم قالوا: وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلامِ بِعَالِمِينَ أي: لا نعبر إلا الرؤيا، وأما الأحلام التي هي من الشيطان، أو من حديث النفس، فإنا لا نعبرها.

                      فجمعوا بين الجهل والجزم، بأنها أضغات أحلام، والإعجاب بالنفس، بحيث إنهم لم يقولوا: لا نعلم تأويلها، وهذا من الأمور التي لا تنبغي لأهل الدين والحجا، وهذا أيضا من لطف الله بيوسف عليه السلام. فإنه لو عبرها ابتداء - قبل أن يعرضها على الملأ من قومه وعلمائهم، فيعجزوا عنها -لم يكن لها ذلك الموقع، ولكن لما عرضها عليهم فعجزوا عن الجواب، وكان الملك مهتما لها غاية، فعبرها يوسف- وقعت عندهم موقعا عظيما، وهذا نظير إظهار الله فضل آدم على الملائكة بالعلم، بعد أن سألهم فلم يعلموا. ثم سأل آدم، فعلمهم أسماء كل شيء، فحصل بذلك زيادة فضله، وكما يظهر فضل أفضل خلقه محمد صلى الله عليه وسلم في القيامة، أن يلهم الله الخلق أن يتشفعوا بآدم، ثم بنوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى عليهم السلام، فيعتذرون عنها، ثم يأتون محمدا صلى الله عليه وسلم فيقول: "أنا لها أنا لها" فيشفع في جميع الخلق، وينال ذلك المقام المحمود، الذي يغبطه به الأولون والآخرون.

                      فسبحان من خفيت ألطافه، ودقَّت في إيصاله البر والإحسان، إلى خواص أصفيائه وأوليائه.

                      وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا أي: من الفتيين، وهو: الذي رأى أنه يعصر خمرا، وهو الذي أوصاه يوسف أن يذكره عند ربه وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أي: وتذكر يوسف، وما جرى له في تعبيره لرؤياهما، وما وصاه به، وعلم أنه كفيل بتعبير هذه الرؤيا بعد مدة من السنين فقال: أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ إلى يوسف لأسأله عنها.

                      فأرسلوه، فجاء إليه، ولم يعنفه يوسف على نسيانه، بل استمع ما يسأله عنه، وأجابه عن ذلك فقال: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أي: كثير الصدق في أقواله وأفعاله. أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ فإنهم متشوقون لتعبيرها، وقد أهمتهم.

                      < 1-400 >

                      فعبر يوسف، السبع البقرات السمان والسبع السنبلات الخضر، بأنهن سبع سنين مخصبات، والسبع البقرات العجاف، والسبع السنبلات اليابسات، بأنهن سنين مجدبات، ولعل وجه ذلك - والله أعلم - أن الخصب والجدب لما كان الحرث مبنيا عليه، وأنه إذا حصل الخصب قويت الزروع والحروث، وحسن منظرها، وكثرت غلالها، والجدب بالعكس من ذلك. وكانت البقر هي التي تحرث عليها الأرض، وتسقى عليها الحروث في الغالب، والسنبلات هي أعظم الأقوات وأفضلها، عبرها بذلك، لوجود المناسبة، فجمع لهم في تأويلها بين التعبير والإشارة لما يفعلونه، ويستعدون به من التدبير في سني الخصب، إلى سني الجدب فقال: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا أي: متتابعات.

                      فَمَا حَصَدْتُمْ من تلك الزروع فَذَرُوهُ أي: اتركوه فِي سُنْبُلِهِ لأنه أبقى له وأبعد من الالتفات إليه إِلا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُونَ أي: دبروا أيضا أكلكم في هذه السنين الخصبة، وليكن قليلا ليكثر ما تدخرون ويعظم نفعه ووقعه.

                      ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ أي: بعد تلك السنين السبع المخصبات. سَبْعٌ شِدَادٌ أي: مجدبات جدا يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ أي: يأكلن جميع ما ادخرتموه ولو كان كثيرا. إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ أي: تمنعونه من التقديم لهن.

                      ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ أي: بعد السبع الشداد عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ أي: فيه تكثر الأمطار والسيول، وتكثر الغلات، وتزيد على أقواتهم، حتى إنهم يعصرون العنب ونحوه زيادة على أكلهم، ولعل استدلاله على وجود هذا العام الخصب، مع أنه غير مصرح به في رؤيا الملك، لأنه فهم من التقدير بالسبع الشداد، أن العام الذي يليها يزول به شدتها،.ومن المعلوم أنه لا يزول الجدب المستمر سبع سنين متواليات، إلا بعام مخصب جدا، وإلا لما كان للتقدير فائدة، فلما رجع الرسول إلى الملك والناس، وأخبرهم بتأويل يوسف للرؤيا، عجبوا من ذلك، وفرحوا بها أشد الفرح.

                      50 - 57 وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ * قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ .

                      يقول تعالى: وَقَالَ الْمَلِكُ لمن عنده ائْتُونِي بِهِ أي: بيوسف عليه السلام، بأن يخرجوه من السجن ويحضروه إليه، فلما جاء يوسف الرسول وأمره بالحضور عند الملك، امتنع عن المبادرة إلى الخروج، حتى تتبين براءته التامة، وهذا من صبره وعقله ورأيه التام.

                      فـ قَالَ للرسول: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ يعني به الملك. فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ أي: اسأله ما شأنهن وقصتهن، فإن أمرهن ظاهر متضح إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ .

                      فأحضرهن الملك، وقال: مَا خَطْبُكُنَّ أي: شأنكن إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ فهل رأيتن منه ما يريب؟

                      فبرَّأنه و قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ أي: لا قليل ولا كثير، فحينئذ زال السبب الذي تنبني عليه التهمة، ولم يبق إلا ما عند امرأة العزيز، فـ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أي: تمحض وتبين، بعد ما كنا ندخل معه من السوء والتهمة، ما أوجب له السجن أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ في أقواله وبراءته.

                      ذَلِكَ الإقرار، الذي أقررت [أني راودت يوسف] لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ

                      يحتمل أن مرادها بذلك زوجها أي: ليعلم أني حين أقررت أني راودت يوسف، أني لم أخنه بالغيب، أي: لم يجر منِّي إلا مجرد المراودة، ولم أفسد عليه فراشه، ويحتمل أن المراد بذلك ليعلم يوسف حين أقررت أني أنا الذي راودته، وأنه صادق أني لم أخنه في حال غيبته عني. وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ فإن كل خائن، لا بد أن تعود خيانته ومكره على نفسه، ولا بد أن يتبين أمره.



                      يتابع الرجاء عدم الرد


                      7


                      7

                      تعليق


                      • وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلأجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ .

                        ثم لما كان في هذا الكلام نوع تزكية لنفسها، وأنه لم يجر منها ذنب في شأن يوسف، استدركت فقالت: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي أي: من المراودة والهمِّ، والحرص الشديد، والكيد في ذلك. إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ أي: لكثيرة الأمر لصاحبها بالسوء، أي: الفاحشة، وسائر الذنوب، فإنها مركب الشيطان، ومنها يدخل على الإنسان إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي فنجاه من نفسه الأمارة، حتى صارت نفسه مطمئنة إلى ربها، منقادة لداعي الهدى، متعاصية عن داعي الردى، فذلك ليس من النفس، بل من فضل الله ورحمته بعبده.

                        إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ أي: هو غفور لمن تجرأ على الذنوب والمعاصي، إذا تاب وأناب، رَحِيمٌ بقبول توبته، وتوفيقه للأعمال الصالحة،. وهذا هو الصواب أن هذا من قول امرأة العزيز، لا من قول يوسف، فإن السياق في كلامها، ويوسف إذ ذاك في < 1-401 > السجن لم يحضر.

                        فلما تحقق الملك والناس براءة يوسف التامة، أرسل إليه الملك وقال: ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي أي: أجعله خصيصة لي ومقربا لديَّ فأتوه به مكرما محترما، فَلَمَّا كَلَّمَهُ أعجبه كلامه، وزاد موقعه عنده فقال له: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا أي: عندنا مَكِينٌ أَمِينٌ أي: متمكن، أمين على الأسرار، فـ قَالَ يوسف طلبا للمصلحة العامة: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرْضِ أي: على خزائن جبايات الأرض وغلالها، وكيلا حافظا مدبرا.

                        إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ أي: حفيظ للذي أتولاه، فلا يضيع منه شيء في غير محله، وضابط للداخل والخارج، عليم بكيفية التدبير والإعطاء والمنع، والتصرف في جميع أنواع التصرفات، وليس ذلك حرصا من يوسف على الولاية، وإنما هو رغبة منه في النفع العام، وقد عرف من نفسه من الكفاءة والأمانة والحفظ ما لم يكونوا يعرفونه.

                        فلذلك طلب من الملك أن يجعله على خزائن الأرض، فجعله الملك على خزائن الأرض وولاه إياها.

                        قال تعالى: وَكَذَلِكَ أي: بهذه الأسباب والمقدمات المذكورة، مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ في عيش رغد، ونعمة واسعة، وجاه عريض، نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ أي: هذا من رحمة الله بيوسف التي أصابه بها وقدرها له، وليست مقصورة على نعمة الدنيا.

                        وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ويوسف عليه السلام من سادات المحسنين، فله في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، ولهذا قال: وَلأجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ من أجر الدنيا لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ أي: لمن جمع بين التقوى والإيمان، فبالتقوى تترك الأمور المحرمة من كبائر الذنوب وصغائرها، وبالإيمان التام يحصل تصديق القلب، بما أمر الله بالتصديق به، وتتبعه أعمال القلوب وأعمال الجوارح، من الواجبات والمستحبات.

                        58 - 68 وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ * وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ * فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ * قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ * وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ .

                        أي: لما تولى يوسف عليه السلام خزائن الأرض، دبرها أحسن تدبير، فزرع في أرض مصر جميعها في السنين الخصبة، زروعا هائلة، واتخذ لها المحلات الكبار، وجبا من الأطعمة شيئا كثيرا وحفظه، وضبطه ضبطا تاما، فلما دخلت السنون المجدبة، وسرى الجدب، حتى وصل إلى فلسطين، التي يقيم فيها يعقوب وبنوه، فأرسل يعقوب بنيه لأجل الميرة إلى مصر. وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أي: لم يعرفوه.

                        وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ أي: كال لهم كما كان يكيل لغيرهم، وكان من تدبيره الحسن أنه لا يكيل لكل واحد أكثر من حمل بعير، وكان قد سألهم عن حالهم، فأخبروه أن لهم أخا عند أبيه، وهو بنيامين.

                        فـ قَالَ لهم: ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ ثم رغبهم في الإتيان به فقال: أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزلِينَ في الضيافة والإكرام.

                        ثم رهبهم بعدم الإتيان به، فقال: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ وذلك لعلمه باضطرارهم إلى الإتيان إليه، وأن ذلك يحملهم على الإتيان به.

                        فـ قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ دل هذا على أن يعقوب عليه السلام كان مولعا به لا يصبر عنه، وكان يتسلى به بعد يوسف، فلذلك احتاج إلى مراودة في بعثه معهم وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ لما أمرتنا به.

                        وَقَالَ يوسف لِفِتْيَانِهِ الذين في خدمته: اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ أي: الثمن الذي اشتروا به من الميرة. فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا أي: بضاعتهم إذا رأوها بعد ذلك في رحالهم، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لأجل التحرج من أخذها على ما قيل، والظاهر أنه أراد أن يرغبهم في إحسانه إليهم بالكيل لهم كيلا وافيا، ثم إعادة بضاعتهم إليهم على وجه لا يحسون بها، ولا يشعرون لما يأتي، فإن الإحسان يوجب للإنسان تمام الوفاء للمحسن.

                        فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ أي: إن لم ترسل معنا أخانا، فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ أي: ليكون ذلك سببا لكيلنا، ثم التزموا له بحفظه، فقالوا: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ من أن يعرض له ما يكره.


                        يتابع الرجاء عدم الرد

                        7

                        7

                        تعليق


                        • قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ * قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ * وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ .

                          قَالَ لهم يعقوب عليه السلام: هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ أي: تقدم منكم التزام، أكثر من هذا في حفظ يوسف، ومع هذا لم تفوا بما عقدتم من التأكيد، فلا أثق بالتزامكم وحفظكم، وإنما أثق < 1-402 > بالله تعالى.

                          فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أي: يعلم حالي، وأرجو أن يرحمني، فيحفظه ويرده علي، وكأنه في هذا الكلام قد لان لإرساله معهم.

                          ثم إنهم وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ هذا دليل على أنه قد كان معلوما عندهم أن يوسف قد ردها عليهم بالقصد، وأنه أراد أن يملكهم إياها. فـ قَالُوا لأبيهم - ترغيبا في إرسال أخيهم معهم -: يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي أي: أي شيء نطلب بعد هذا الإكرام الجميل، حيث وفَّى لنا الكيل، ورد علينا بضاعتنا على الوجه الحسن، المتضمن للإخلاص ومكارم الأخلاق؟

                          هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا أي: إذا ذهبنا بأخينا صار سببا لكيله لنا، فمرنا أهلنا، وأتينا لهم، بما هم مضطرون إليه من القوت، وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنزدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ بإرساله معنا، فإنه يكيل لكل واحد حمل بعير، ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ أي: سهل لا ينالك ضرر، لأن المدة لا تطول، والمصلحة قد تبينت.

                          فـ قَالَ لهم يعقوب: لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنْ اللَّهِ أي: عهدا ثقيلا وتحلفون بالله لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ أي: إلا أن يأتيكم أمر لا قبل لكم به، ولا تقدرون دفعه، فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ على ما قال وأراد قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ أي: تكفينا شهادته علينا وحفظه وكفالته.

                          ثم لما أرسله معهم وصاهم، إذا هم قدموا مصر، أن لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وذلك أنه خاف عليهم العين، لكثرتهم وبهاء منظرهم، لكونهم أبناء رجل واحد، وهذا سبب.

                          وَ إلا فـ مَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فالمقدر لا بد أن يكون، إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أي: القضاء قضاؤه، والأمر أمره، فما قضاه وحكم به لا بد أن يقع، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ أي: اعتمدت على الله، لا على ما وصيتكم به من السبب، وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ فإن بالتوكل يحصل كل مطلوب، ويندفع كل مرهوب.

                          وَلَمَّا ذهبوا و دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ ذلك الفعل يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وهو موجب الشفقة والمحبة للأولاد، فحصل له في ذلك نوع طمأنينة، وقضاء لما في خاطره.

                          وليس هذا قصورا في علمه، فإنه من الرسل الكرام والعلماء الربانيين، ولهذا قال عنه: وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ أي: لصاحب علم عظيم لِمَا عَلَّمْنَاهُ أي: لتعليمنا إياه، لا بحوله وقوته أدركه، بل بفضل الله وتعليمه، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ عواقب الأمور ودقائق الأشياء وكذلك أهل العلم منهم، يخفى عليهم من العلم وأحكامه ولوازمه شيء كثير.

                          69 - 79 وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ .

                          أي: لما دخل إخوة يوسف على يوسف آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ أي: شقيقه وهو "بنيامين" الذي أمرهم بالإتيان به، [و] ضمه إليه، واختصه من بين إخوته، وأخبره بحقيقة الحال، و قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ أي: لا تحزن بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فإن العاقبة خير لنا، ثم خبره بما يريد أن يصنع ويتحيل لبقائه عنده إلى أن ينتهي الأمر.



                          يتابع الرجاء عدم الرد

                          7

                          7

                          تعليق


                          • فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ * قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ * قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ * فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ * قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ * قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ .

                            فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ أي: كال لكل واحد من إخوته، ومن جملتهم أخوه هذا. جَعَلَ السِّقَايَةَ وهو: الإناء الذي يشرب به، ويكال فيه فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أوعوا متاعهم، فلما انطلقوا ذاهبين، أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ولعل هذا المؤذن، لم يعلم بحقيقة الحال.

                            قَالُوا أي: إخوة يوسف وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ لإبعاد التهمة، فإن السارق ليس له همٌّ إلا البعد والانطلاق عمن سرق منه، لتسلم له سرقته، وهؤلاء جاءوا مقبلين إليهم، ليس لهم همٌّ إلا < 1-403 > إزالة التهمة التي رموا بها عنهم، فقالوا في هذه الحال: مَاذَا تَفْقِدُونَ ولم يقولوا: "ما الذي سرقنا" لجزمهم بأنهم براء من السرقة.

                            قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ أي: أجرة له على وجدانه وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ أي: كفيل، وهذا يقوله المؤذن المتفقد.

                            قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرْضِ بجميع أنواع المعاصي، وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ فإن السرقة من أكبر أنواع الفساد في الأرض، وإنما أقسموا على علمهم أنهم ليسوا مفسدين ولا سارقين، لأنهم عرفوا أنهم سبروا من أحوالهم ما يدلهم على عفتهم وورعهم، وأن هذا الأمر لا يقع منهم بعلم من اتهموهم، وهذا أبلغ في نفي التهمة، من أن لو قالوا: " تالله لم نفسد في الأرض ولم نسرق "

                            قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ أي: جزاء هذا الفعل إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ بأن كان معكم؟

                            قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ أي: الموجود في رحله جَزَاؤُهُ بأن يتملكه صاحب السرقة، وكان هذا في دينهم أن السارق إذا ثبتت عليه السرقة كان ملكا لصاحب المال المسروق، ولهذا قالوا: كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ .

                            فَبَدَأَ المفتش بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ وذلك لتزول الريبة التي يظن أنها فعلت بالقصد، فلما لم يجد في أوعيتهم شيئا اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ ولم يقل "وجدها، أو سرقها أخوه" مراعاة للحقيقة الواقعة.

                            فحينئذ تم ليوسف ما أراد من بقاء أخيه عنده، على وجه لا يشعر به إخوته، قال تعالى: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ أي: يسرنا له هذا الكيد، الذي توصل به إلى أمر غير مذموم مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ لأنه ليس من دينه أن يتملك السارق، وإنما له عندهم، جزاء آخر، فلو ردت الحكومة إلى دين الملك، لم يتمكن يوسف من إبقاء أخيه عنده، ولكنه جعل الحكم منهم، ليتم له ما أراد.

                            قال تعالى: نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ بالعلم النافع، ومعرفة الطرق الموصلة إلى مقصدها، كما رفعنا درجات يوسف، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ فكل عالم، فوقه من هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى عالم الغيب والشهادة.

                            فلما رأى إخوة يوسف ما رأوا قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ هذا الأخ، فليس هذا غريبا منه. فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ يعنون: يوسف عليه السلام، ومقصودهم تبرئة أنفسهم وأن هذا وأخاه قد يصدر منهما ما يصدر من السرقة، وهما ليسا شقيقين لنا.

                            وفي هذا من الغض عليهما ما فيه، ولهذا: أسرها يوسف في نفسه وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ أي: لم يقابلهم على ما قالوه بما يكرهون، بل كظم الغيظ، وأسرَّ الأمر في نفسه. و قَالَ في نفسه أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا حيث ذممتمونا بما أنتم على أشر منه، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ منا، من وصفنا بالسرقة، يعلم الله أنا براء منها، ثم سلكوا معه مسلك التملق، لعله يسمح لهم بأخيهم.

                            فـ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا أي: وإنه لا يصبر عنه، وسيشق عليه فراقه، فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فأحسن إلينا وإلى أبينا بذلك.



                            يتابع الرجاء عدم الرد

                            7

                            7

                            تعليق


                            • قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ .

                              فـ قَالَ يوسف مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ أي: هذا ظلم منا، لو أخذنا البريء بذنب من وجدنا متاعنا عنده، ولم يقل "من سرق" كل هذا تحرز من الكذب، إِنَّا إِذًا أي: إن أخذنا غير من وجد في رحله لَظَالِمُونَ حيث وضعنا العقوبة في غير موضعها.

                              80 - 83 فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ .

                              أي: فلما استيأس إخوة يوسف من يوسف أن يسمح لهم بأخيهم خَلَصُوا نَجِيًّا أي: اجتمعوا وحدهم، ليس معهم غيرهم، وجعلوا يتناجون فيما بينهم، فـ قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ في حفظه، وأنكم تأتون به إلا أن يحاط بكم وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ ، فاجتمع عليكم الأمران، تفريطكم في يوسف السابق، وعدم إتيانكم بأخيه باللاحق، فليس لي وجه أواجه به أبي.

                              فَلَنْ أَبْرَحَ الأرْضَ أي: سأقيم في هذه الأرض ولا أزال بها حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي أي: يقدر لي المجيء وحدي، أو مع أخي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ .

                              ثم وصَّاهم بما يقولون لأبيهم، فقال: ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ أي: وأخذ بسرقته، ولم يحصل لنا أن نأتيك به، مع ما بذلنا من الجهد في ذلك. والحال أنا ما شهدنا بشيء لم نعلمه، وإنما شهدنا بما علمنا، لأننا رأينا الصواع استخرج من رحله، وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ أي: لو كنا نعلم الغيب لما حرصنا وبذلنا المجهود في < 1-404 > ذهابه معنا، ولما أعطيناك عهودنا ومواثيقنا، فلم نظن أن الأمر سيبلغ ما بلغ.

                              وَاسْأَلِ إن شككت في قولنا الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا فقد اطلعوا على ما أخبرناك به وَإِنَّا لَصَادِقُونَ لم نكذب ولم نغير ولم نبدل، بل هذا الواقع.

                              فلما رجعوا إلى أبيهم وأخبروه بهذا الخبر، اشتد حزنه وتضاعف كمده، واتهمهم أيضا في هذه القضية، كما اتهمهم في الأولى، و قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أي: ألجأ في ذلك إلى الصبر الجميل، الذي لا يصحبه تسخط ولا جزع، ولا شكوى للخلق، ثم لجأ إلى حصول الفرج لما رأى أن الأمر اشتد، والكربة انتهت فقال: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا أي: يوسف و "بنيامين" وأخوهم الكبير الذي أقام في مصر.

                              إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الذي يعلم حالي، واحتياجي إلى تفريجه ومنَّته، واضطراري إلى إحسانه، الْحَكِيمُ الذي جعل لكل شيء قدرا، ولكل أمر منتهى، بحسب ما اقتضته حكمته الربانية.

                              84 - 86 وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ .

                              أي: وتولى يعقوب عليه الصلاة والسلام عن أولاده بعد ما أخبروه هذا الخبر، واشتد به الأسف والأسى، وابيضت عيناه من الحزن الذي في قلبه، والكمد الذي أوجب له كثرة البكاء، حيث ابيضت عيناه من ذلك.

                              فَهُوَ كَظِيمٌ أي: ممتلئ القلب من الحزن الشديد، وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ أي: ظهر منه ما كمن من الهم القديم والشوق المقيم، وذكرته هذه المصيبة الخفيفة بالنسبة للأولى، المصيبة الأولى.

                              فقال له أولاده متعجبين من حاله: تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ أي: لا تزال تذكر يوسف في جميع أحوالك. حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أي: فانيا لا حراك فيك ولا قدرة على الكلام.

                              أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ أي: لا تترك ذكره مع قدرتك على ذكره أبدا.

                              قَالَ يعقوب إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي أي: ما أبث من الكلام وَحُزْنِي الذي في قلبي إِلَى اللَّهِ وحده، لا إليكم ولا إلى غيركم من الخلق، فقولوا ما شئتم وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ من أنه سيردهم علي ويقر عيني بالاجتماع بهم.




                              يتابع الرجاء عدم الرد


                              7


                              7

                              تعليق


                              • 87 - 88 يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ * فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ .

                                أي: قال يعقوب عليه السلام لبنيه: يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ أي: احرصوا واجتهدوا على التفتيش عنهما وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ فإن الرجاء يوجب للعبد السعي والاجتهاد فيما رجاه، والإياس: يوجب له التثاقل والتباطؤ، وأولى ما رجا العباد، فضل الله وإحسانه ورحمته وروحه، إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ فإنهم لكفرهم يستبعدون رحمته، ورحمته بعيدة منهم، فلا تتشبهوا بالكافرين.

                                ودل هذا على أنه بحسب إيمان العبد يكون رجاؤه لرحمة الله وروحه، فذهبوا فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ أي: على يوسف قَالُوا متضرعين إليه: يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا أي: قد اضطررنا نحن وأهلنا وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ أي: مدفوعة مرغوب عنها لقلتها، وعدم وقوعها الموقع، فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ أي: مع عدم وفاء العرض، وتصدق علينا بالزيادة عن الواجب. إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ بثواب الدنيا والآخرة.

                                فلما انتهى الأمر، وبلغ أشده، رقَّ لهم يوسف رقَّة شديدة، وعرَّفهم بنفسه، وعاتبهم.

                                89 - 92 قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَئِنَّكَ لأنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ

                                قال هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ أما يوسف فظاهر فعلهم فيه، وأما أخوه، فلعله والله أعلم قولهم: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ أو أن الحادث الذي فرَّق بينه وبين أبيه، هم السبب فيه، والأصل الموجب له. إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ وهذا نوع اعتذار لهم بجهلهم، أو توبيخ لهم إذ فعلوا فعل الجاهلين، مع أنه لا ينبغي ولا يليق منهم.

                                فعرفوا أن الذي خاطبهم هو يوسف، فقالوا: أَئِنَّكَ لأنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا بالإيمان والتقوى والتمكين في الدنيا، وذلك بسبب الصبر والتقوى، إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ أي: يتقي فعل ما حرم الله، ويصبر على الآلام والمصائب، وعلى الأوامر بامتثالها فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ فإن هذا من الإحسان، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.

                                قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا أي: فضلك علينا بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وأسأنا إليك غاية الإساءة، وحرصنا على إيصال الأذى إليك، والتبعيد لك عن أبيك، فآثرك الله تعالى ومكنك مما تريد وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ وهذا غاية الاعتراف منهم بالجرم الحاصل منهم على يوسف.

                                فـ قَالَ لهم يوسف عليه السلام، كرما وجودا: < 1-405 > لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ أي: لا أثرب عليكم ولا ألومكم يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فسمح لهم سماحا تاما، من غير تعيير لهم على ذكر الذنب السابق، ودعا لهم بالمغفرة والرحمة، وهذا نهاية الإحسان، الذي لا يتأتى إلا من خواص الخلق وخيار المصطفين.

                                93 - 98 اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ * وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ * قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ .

                                أي: قال يوسف عليه السلام لإخوته: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا لأن كل داء يداوى بضده، فهذا القميص - لما كان فيه أثر ريح يوسف، الذي أودع قلب أبيه من الحزن والشوق ما الله به عليم - أراد أن يشمه، فترجع إليه روحه، وتتراجع إليه نفسه، ويرجع إليه بصره، ولله في ذلك حكم وأسرار، لا يطلع عليها العباد، وقد اطلع يوسف من ذلك على هذا الأمر.

                                وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ أي: أولادكم وعشيرتكم وتوابعكم كلهم، ليحصل تمام اللقاء، ويزول عنكم نكد المعيشة، وضنك الرزق.

                                وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ عن أرض مصر مقبلة إلى أرض فلسطين، شمَّ يعقوب ريح القميص، فقال: إِنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ أي: تسخرون مني، وتزعمون أن هذا الكلام، صدر مني من غير شعور، لأنه رأى منهم من التعجب من حاله ما أوجب له هذا القول.

                                فوقع ما ظنه بهم فقالوا: تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ أي: لا تزال تائها في بحر الحبّ لا تدري ما تقول.


                                يتابع الرجاء عدم الرد


                                7

                                7

                                تعليق

                                يعمل...
                                X