السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
من أهم محاور السورة (بصمتها) :
- مكانة القرآن و تصنيفه للناس :لقد أشاد الله تعالى في مستهل هذه السورة بمكانة القرآن باعتباره الكتاب المنزل المهيمن الناسخ لما قبله من الكتب السماوية ، {ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة : 2]
، قال ابن كثير : "جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها ، جعله أشملها وأعظمها وأكملها ، لأنه - سبحانه - جمع فيه محاسن ما قبله من الكتب وزاد فيه من الكمالات ما ليس في غيره ، فلهذا جعله شاهداً وأمينا وحاكما عليها كلها ، وتكفل - سبحانه - بحفظه بنفسه فقال : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [1]. و قد حددت السورة معالم تصنيف الناس في المدينة إلى طوائف ثلاث : (مؤمنون- منافقون- كافرون صرحاء) ، سيضاف إليهم الحديث عن طائفة رابعة (مشركون أهل كتاب)، بعد أن لم تك هذه الطوائف كلها أكثر من طائفتين -:(مؤمنون-كفار)- خلال العهد المكي..
- استخلاف آدم عليه السلام :بعد ذكر بدء الخليقة و الصراع الأزلي بين الحق و الباطل طفقت السورة تسرد قصة استخلاف الله تعالى لآدم في الأرض، وقد قدمت لذلك الاستخلاف بتسخير الله تعالى له أزمة تلك الأرض و منحه وسائل الاستخلاف الأمثل فيها {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة : 29]
، لتتحقق المشيئة الإلهية {{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ } [البقرة : 30]، و يتواصل السياق في ذكره التكريم الإلهي تجسيداً لأمر الاستخلاف، فتعرض السورة "حكاية سجود الملائكة لآدم وإباء إبليس واستكباره . وسكنى آدم وزوجه الجنة . وإزلال الشيطان لهما عنها و إخراجهما منها . ثم الهبوط إلى الأرض للخلافه فيها ، بعد تزويدهما بهذه التجربة القاسية ، واستغفارهما وتوبة الله عليهما" [2]..
- المسالك الفاضحة لبني إسرائيل : بعد ظهور الموقف المعادي لليهود من الإسلام و نبيه صلى الله عليه و سلم و أتباعه كان لا بد من عرض السورة –بوصفها أول السور نزولا في العهد المدني- لحقيقة بني إسرائيل و ذكر طرف من تاريخهم؛ لتفنيد دعاياتهم المغرضة ضد الرسالة الخاتمة، فبينت أن تاريخ بني إسرائيل حافل بالتناقض و الدسائس لا يردعهم كتاب و لا تؤثر فيهم موعظة {۞ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة : 44].لقد ألفوا الكفر و العصيان و العناد ، فلم تكن مواجهتهم لدعوة الإسلام بدعاً في تاريخهم المليء بالجرائم والقبائح، والتنكر للخير و حملته بمن فيهم الأنبياء الذين قتلوهم تارة بالذبح و مرات بالنشر بالمناشير، وتأسيساً على ذلك فمن الطبيعي أن لا يقف بنو إسرائيل عند حد رفض رسالة الإسلام فحسب، بل لجؤوا إلى معارضتها و الكيد لها، وطفقوا يستغلون كل مناسبة لكتمان الحق الذي بشرت به وتزويقه وتلبيسه، وقد حذرهم القرآن من التمادي في سجاياهم تلك{وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة : 42]
- تشييد إبراهيم عليه السلام لقواعد البيت :لقد كملت إمامة خليل الله تعالى بإتمامه للكلمات التي ابتلي بها وتجاوزه لكل الامتحانات التي تعرض له{۞ وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ} [البقرة : 124]
، وفي إطار تلك الإمامة وذلك التكريم- وعلى أكمة مرتفعة وبإرشاد من الله تعالى{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج : 26]
- شرع إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام في تشييد قواعد البيت على أسس من التوحيد الخالص والطهارة من أدران الشرك والوثنية {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ } [البقرة : 127]
، ليبدأ تعظيم البيت الحرام ، ذلك التعظيم الذي اختصت هذه الأمة بوراثته عن أبيها إبراهيم عليه السلام [3] ، فكان القبلة التي يتوجه إليها ورثة إبراهيم إيمانا بالله تعالى و تعظيما لشعائره.
- مجموعة الأحكام الشرعية المطلوبة لتأسيس مجتمع إسلامي :
* التحذير من السحر: لقد صرحت الآيات أن تعليمه كفر{وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ } [البقرة : 102]
و عمله كفر {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۚ }
* التميز في المصطلحات مطلب شرعي :{لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا } [البقرة : 104]
* حرص اليهود و النصارى على ارتداد المسلمين :{وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم} [البقرة : 109]
* وقوع النسخ في القرآن الكريم :{۞ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ } [البقرة : 106]
* تحويل القبلة : {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ} [البقرة : 144]
* القصاص :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ } [البقرة : 178]
* العبادات :
ـ الصوم:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة : 183]
ـ الاعتكاف: {وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ } [البقرة : 187]
ـ الجهاد:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة : 190]
ـ الحج و العمرة:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ۚ } [البقرة : 196]
، و قد شرعت كلها لإقامة التقوى الذي تردد ذكره في طيات هذه السورة بضعا و ثلاثين مرة ، و اختتمت هذه الفقرة بالأمر بالتطبيق الكلي للشريعة كاملة{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة : 208]* توازن الشريعة في شرع الأحكام ، الخمر والميسر نموذجا :{۞ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ۗ } [البقرة : 219]
* أحكام الأسرة :
ـ القوامة على اليتامى{فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۗ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ ۖ قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ۖ } [البقرة : 220]
ـ تحريم نكاح أهل الشرك {وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ ... وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا ۚ ...} [البقرة : 221]
ـ العلاقات الزوجية مبناها على الطهارة والعفة{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى ... نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} [البقرة : 222 - 223]
ـ تعظيم الأيمان بالله تعالى والمعفو عنه منها
{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ ... لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة : 224 - 225]
- أحكام الإيلاء والطلاق والرجعة {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ۖ ... وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ... وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ...
وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ
} [البقرة : 226 -227 - 228].
- الحقوق الزوجية مبناها على العدل:
1ـ المساواة{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ } [البقرة : 228]
2ـ منع الإضرار {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا ۚ } [البقرة : 231]
3ـ مدة الرضاع وأنه حق للمولود على الأب {{۞ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ ... وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ } [البقرة : 233]
4ـ العدد {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ۖ ... } [ البقرة :226 ]
5ـ الصداق والتمتيع{لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ۚ وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة : 236]، وفي ثنايا ذلك يأتي الأمر بالمحافظة على أعظم شعائر الإسلام{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ} [البقرة : 238]
إشعاراً بأن الأحكام كلها مترابطة ويجمعها كافة كونها طاعة لله عز وجل.* مسؤولية الأمة :تقدم السورة نماذج من تجارب الأمم السابقة لترسيخ الصلة بالله تعالى والتوكل عليه والثقة به وحده لا شريك له تحريضا للمسلمين على التضحية في سبيل عقيدتهم وتشجيعا لهم على الاستماتة من أجل إقامة الحق وترويضهم على المسؤولية واستلهام الحجة وتجاوز أصعب الابتلاءات بأنفس مؤمنة راضية مطمئنة{۞ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ } [البقرة : 243]{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ } [البقرة : 246]
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ } [البقرة : 258]
{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا} [البقرة : 259]
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ } [البقرة : 260].
* الأحكام المالية :
ـ الصدقات{مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ } [البقرة : 261]{لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ} [البقرة : 264]
{وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة : 267]
{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة : 273]
ـ عظمة حرمة الربا وشناعة تعاطيه {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ } [البقرة : 275]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا....فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ } [البقرة : 278 - 279]
ـ فضل التجاوز عن أهل الإعسار، والندب إلى توثيق الدين {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ ۚ } [البقرة : 280]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى} [البقرة : 282]
ـ الرهن وسيلة لإثبات الحقوق{۞ وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ ۖ } [البقرة : 283]
وتختم السورة بذلك الدعاء المفعم بالعبودية والانكسار بين يدي الخالق الغفار لرفع الآصار والأغلال التي عانت منها الأمم السابقة .
المصدر :
مجلة البيان
يُتَبَعْ ...
من أهم محاور السورة (بصمتها) :
- مكانة القرآن و تصنيفه للناس :لقد أشاد الله تعالى في مستهل هذه السورة بمكانة القرآن باعتباره الكتاب المنزل المهيمن الناسخ لما قبله من الكتب السماوية ، {ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة : 2]
، قال ابن كثير : "جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها ، جعله أشملها وأعظمها وأكملها ، لأنه - سبحانه - جمع فيه محاسن ما قبله من الكتب وزاد فيه من الكمالات ما ليس في غيره ، فلهذا جعله شاهداً وأمينا وحاكما عليها كلها ، وتكفل - سبحانه - بحفظه بنفسه فقال : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [1]. و قد حددت السورة معالم تصنيف الناس في المدينة إلى طوائف ثلاث : (مؤمنون- منافقون- كافرون صرحاء) ، سيضاف إليهم الحديث عن طائفة رابعة (مشركون أهل كتاب)، بعد أن لم تك هذه الطوائف كلها أكثر من طائفتين -:(مؤمنون-كفار)- خلال العهد المكي..
- استخلاف آدم عليه السلام :بعد ذكر بدء الخليقة و الصراع الأزلي بين الحق و الباطل طفقت السورة تسرد قصة استخلاف الله تعالى لآدم في الأرض، وقد قدمت لذلك الاستخلاف بتسخير الله تعالى له أزمة تلك الأرض و منحه وسائل الاستخلاف الأمثل فيها {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة : 29]
، لتتحقق المشيئة الإلهية {{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ } [البقرة : 30]، و يتواصل السياق في ذكره التكريم الإلهي تجسيداً لأمر الاستخلاف، فتعرض السورة "حكاية سجود الملائكة لآدم وإباء إبليس واستكباره . وسكنى آدم وزوجه الجنة . وإزلال الشيطان لهما عنها و إخراجهما منها . ثم الهبوط إلى الأرض للخلافه فيها ، بعد تزويدهما بهذه التجربة القاسية ، واستغفارهما وتوبة الله عليهما" [2]..
- المسالك الفاضحة لبني إسرائيل : بعد ظهور الموقف المعادي لليهود من الإسلام و نبيه صلى الله عليه و سلم و أتباعه كان لا بد من عرض السورة –بوصفها أول السور نزولا في العهد المدني- لحقيقة بني إسرائيل و ذكر طرف من تاريخهم؛ لتفنيد دعاياتهم المغرضة ضد الرسالة الخاتمة، فبينت أن تاريخ بني إسرائيل حافل بالتناقض و الدسائس لا يردعهم كتاب و لا تؤثر فيهم موعظة {۞ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة : 44].لقد ألفوا الكفر و العصيان و العناد ، فلم تكن مواجهتهم لدعوة الإسلام بدعاً في تاريخهم المليء بالجرائم والقبائح، والتنكر للخير و حملته بمن فيهم الأنبياء الذين قتلوهم تارة بالذبح و مرات بالنشر بالمناشير، وتأسيساً على ذلك فمن الطبيعي أن لا يقف بنو إسرائيل عند حد رفض رسالة الإسلام فحسب، بل لجؤوا إلى معارضتها و الكيد لها، وطفقوا يستغلون كل مناسبة لكتمان الحق الذي بشرت به وتزويقه وتلبيسه، وقد حذرهم القرآن من التمادي في سجاياهم تلك{وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة : 42]
- تشييد إبراهيم عليه السلام لقواعد البيت :لقد كملت إمامة خليل الله تعالى بإتمامه للكلمات التي ابتلي بها وتجاوزه لكل الامتحانات التي تعرض له{۞ وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ} [البقرة : 124]
، وفي إطار تلك الإمامة وذلك التكريم- وعلى أكمة مرتفعة وبإرشاد من الله تعالى{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج : 26]
- شرع إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام في تشييد قواعد البيت على أسس من التوحيد الخالص والطهارة من أدران الشرك والوثنية {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ } [البقرة : 127]
، ليبدأ تعظيم البيت الحرام ، ذلك التعظيم الذي اختصت هذه الأمة بوراثته عن أبيها إبراهيم عليه السلام [3] ، فكان القبلة التي يتوجه إليها ورثة إبراهيم إيمانا بالله تعالى و تعظيما لشعائره.
- مجموعة الأحكام الشرعية المطلوبة لتأسيس مجتمع إسلامي :
* التحذير من السحر: لقد صرحت الآيات أن تعليمه كفر{وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ } [البقرة : 102]
و عمله كفر {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۚ }
* التميز في المصطلحات مطلب شرعي :{لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا } [البقرة : 104]
* حرص اليهود و النصارى على ارتداد المسلمين :{وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم} [البقرة : 109]
* وقوع النسخ في القرآن الكريم :{۞ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ } [البقرة : 106]
* تحويل القبلة : {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ} [البقرة : 144]
* القصاص :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ } [البقرة : 178]
* العبادات :
ـ الصوم:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة : 183]
ـ الاعتكاف: {وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ } [البقرة : 187]
ـ الجهاد:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة : 190]
ـ الحج و العمرة:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ۚ } [البقرة : 196]
، و قد شرعت كلها لإقامة التقوى الذي تردد ذكره في طيات هذه السورة بضعا و ثلاثين مرة ، و اختتمت هذه الفقرة بالأمر بالتطبيق الكلي للشريعة كاملة{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة : 208]* توازن الشريعة في شرع الأحكام ، الخمر والميسر نموذجا :{۞ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ۗ } [البقرة : 219]
* أحكام الأسرة :
ـ القوامة على اليتامى{فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۗ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ ۖ قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ۖ } [البقرة : 220]
ـ تحريم نكاح أهل الشرك {وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ ... وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا ۚ ...} [البقرة : 221]
ـ العلاقات الزوجية مبناها على الطهارة والعفة{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى ... نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} [البقرة : 222 - 223]
ـ تعظيم الأيمان بالله تعالى والمعفو عنه منها
{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ ... لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة : 224 - 225]
- أحكام الإيلاء والطلاق والرجعة {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ۖ ... وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ... وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ...
وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ
} [البقرة : 226 -227 - 228].
- الحقوق الزوجية مبناها على العدل:
1ـ المساواة{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ } [البقرة : 228]
2ـ منع الإضرار {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا ۚ } [البقرة : 231]
3ـ مدة الرضاع وأنه حق للمولود على الأب {{۞ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ ... وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ } [البقرة : 233]
4ـ العدد {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ۖ ... } [ البقرة :226 ]
5ـ الصداق والتمتيع{لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ۚ وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة : 236]، وفي ثنايا ذلك يأتي الأمر بالمحافظة على أعظم شعائر الإسلام{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ} [البقرة : 238]
إشعاراً بأن الأحكام كلها مترابطة ويجمعها كافة كونها طاعة لله عز وجل.* مسؤولية الأمة :تقدم السورة نماذج من تجارب الأمم السابقة لترسيخ الصلة بالله تعالى والتوكل عليه والثقة به وحده لا شريك له تحريضا للمسلمين على التضحية في سبيل عقيدتهم وتشجيعا لهم على الاستماتة من أجل إقامة الحق وترويضهم على المسؤولية واستلهام الحجة وتجاوز أصعب الابتلاءات بأنفس مؤمنة راضية مطمئنة{۞ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ } [البقرة : 243]{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ } [البقرة : 246]
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ } [البقرة : 258]
{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا} [البقرة : 259]
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ } [البقرة : 260].
* الأحكام المالية :
ـ الصدقات{مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ } [البقرة : 261]{لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ} [البقرة : 264]
{وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة : 267]
{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة : 273]
ـ عظمة حرمة الربا وشناعة تعاطيه {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ } [البقرة : 275]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا....فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ } [البقرة : 278 - 279]
ـ فضل التجاوز عن أهل الإعسار، والندب إلى توثيق الدين {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ ۚ } [البقرة : 280]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى} [البقرة : 282]
ـ الرهن وسيلة لإثبات الحقوق{۞ وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ ۖ } [البقرة : 283]
وتختم السورة بذلك الدعاء المفعم بالعبودية والانكسار بين يدي الخالق الغفار لرفع الآصار والأغلال التي عانت منها الأمم السابقة .
المصدر :
مجلة البيان
يُتَبَعْ ...
[1] تفسير ابن كثير (1\31)
[2] في ظلال القرآن (4\2137)
[3] انظر : ابن تيمية مجموعة الفتاوى (14\29) ، ط دار الوفاء
[2] في ظلال القرآن (4\2137)
[3] انظر : ابن تيمية مجموعة الفتاوى (14\29) ، ط دار الوفاء