الدراسات القرآنية ومظاهر العناية بها قديمًا وحديثًا
لقرآن الكريم كتاب الله، ومعجزة نبيِّه، وهو المنبع الأول لجميع الأعمال التي تتصل بالعقيدة الإسلامية، وأحكام الشريعة، بما يدخل فيها من العبادات والمعاملات، وما يتصل بنظام الأسرة والمجتمع، وحق الفرد على الجماعة، وواجبه نحو نفسه، ونحو غيره ممن يحيا بينهم، وكل ما يتصل بمبادئ الأخلاق وقواعد السلوك، وسائر الفضائل التي تميِّز الإنسانَ على كل ما خلق الله، وتَرْفعه على غيره درجات، وعلى الجملة، فإن القرآن الكريم هو جماع العقيدة والعبادة والفضائل، وكل ما يتصل بتوجيه البشر نحو الغاية المثلى التي يتطلعون إليها، وهي السعادة التي ينشدها الناس في الحياة الدنيا والآخرة.
♦ ♦ ♦ ♦
وقد كان الرسول الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - إمام هذه الأمة القائد، والقدوة الحسنة، والمعلم الأول، الذي اقتدى به المسلمون، فحاكَوْه في الفضائل التي جمَّله بها ربُّه، وفي العمل بالأحكام التي نزلت بها شريعتُه، وفي كل ما يحتاجون إلى إدراكه ومعرفته من أسباب الهداية إلى سبيل الرشاد.
وقضى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وانقطع الوحي، فكان القرآن هو الإمامَ الذي يأتم به المسلمون، ويرجعون إليه في كل أمر فيه صلاح لمعاشهم ومعادهم، رجع المسلمون إلى كتاب الله يحاولون إدراك ما خفِي عليهم من مقاصده ومراميه، ويستخرجون منه أصول عقيدتهم وأحكام دينهم، ويبحثون في طبيعة القرآن للوقوف على أسرار عظمته وأسباب إعجازه؛ فقد عرَفوا أنه المعجزة الكبرى لنبيِّهم - صلى الله عليه وسلم - وكذلك التمسوا من القرآن أفصحَ ما عُرِف من لغة العرب في مفرداتها وتراكيبها، وفي مظاهر الإبداع التي يختص بها الفن الأدبي الذي برعوا فيه منذ كانت لهم حياة على وجه الجزيرة.
ولذلك؛ كان الكتاب الكريم قِبْلة الفقهاء، وكان إدراكه غايةَ أهل التفسير والتأويل، وكان جماله وتفوقه البياني مجالَ بحثِ البُلغاء والناقدين، وكانت مُثُله العليا في المعاملة والأخلاق والسلوك مجالاً للمفكرين من علماء الأخلاق وعلماء الاجتماع، ونجتزئ في هذا المقام بتلك الكلمات القصيرة التي جعلت القرآنَ الكريم يجذب إليه عقولَ العلماء والمفكرين في كل وادٍ من أودية الفكر، وتستثير أذواق القادرين على تذوق فنون الكلام والموازنة بين روائعه؛ ليخلصوا إلى الغاية التي ينشدونها، وهي إثبات إعجاز الكتاب الكريم.
ويعنينا في هذا المقام أن نشير إلى أن هذه العناية الكبرى بالقرآن لم تنقطع طوال ذلك الزمن، منذ أُنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى زمننا، وستظل تلك العناية موصولةً إلى أن يرثَ الله الأرض ومن عليها؛ فإن أسرار ذلك الكتاب لا تنفَدُ، وكنوزه المخبَّأة لا تنتهي، وستظل الإنسانية تفتش في ذلك الكنز؛ لتستخرج منه كل يوم جديدًا يغذي العقول، ويهز المشاعر، ويثير الأذواق، ومن الطبيعي أن تخلِّف تلك الجهودُ الموصولة التي بذلها العلماء والعارفون في خدمة كتاب الله - تعالى - تراثًا حيًّا يعِزُّ على الإحصاء؛ ففي حقل التفسير تزخر المكتبة القرآنية بأمهات الكتب، التي منها ما أظهر عناية خاصة بشرح آيات الذكر الحكيم، وما يعرض فيها من معنى لفظ، أو بيان عظمة، أو سرد خبر؛ كتفسير ابن كثير، والراغب الأصفهاني في مفردات القرآن، وغيرهما.
ومنها ما اختص بذكر أسباب النزول، وبيان الناسخ والمنسوخ، والمُحكَم والمتشابه، والمُطلَق والمقيَّد، والمكي والمدني، وتفسير آيات الأحكام.
وبيان أنواع القراءات عند مَن عُنِي بضبط لغات القرآن، وتحرير كلماته، ومعرفة مخارج حروفه.
ومن العلماء مَن اهتم بالنواحي الإعرابية؛ كمحب الدين أبي البقاء العكبري، وفي وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن، وابن خالويه في كتاب: "إعراب ثلاثين سورة من القرآن"، ومنهم مَن وجَّه عنايته إلى التفسير البلاغي؛ كالزمخشري في "الكشاف"، وعبدالقاهر الجُرْجاني، والقاضي الباقلاني في مسألة النَّظم ودلائله.
♦ ♦ ♦ ♦
تعليق