الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا.
قال ربنا جل وعلا " أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا" النساء
في الآية فضح وهتك لأستار العلمانيين والرويبضة الخاسئين المتطاولين على كتاب الله الذين يدعون عمق البحث والدقة في الفهم ، فتجرؤوا على كلام رب الأرباب ومسبب الأسباب ، وتفننوا في الفسوق والسباب ، وادعوا فيه النقص والاختلاف والتناقض والاضطراب ، أسوة بسلفهم من مشركي أهل الكتاب ، ولا يدري أولئك المغفلون المأفونون أنما أتوا من جانب قلة تدبرهم لكلام الله جلا وعلا خابوا وخسروا ..
وإنك أيها العبد المؤمن الموحد كلما ازداد قلبك تعلقا بكتاب الله وتعانيت تدبره وواظبت عليه واستكثرت منه، انفتحت أمامك مغاليق الحكمة وشعت أنوارها ، ورأيت بعيني قلبك تناسق آي الكتاب وبراعة أسلوبه ، واقشعر جلدك لها ودمعت عينك عند تلاوتها.
سورة الأنعام وموضوعها الرئيسي لأن كل سورة هي وحدة متكاملة وآياتها لها موضوع واحد تحيط به لذلك سميت سورة من السور الذي يحيط بالحديقة
وعالجت هذه السورة المكية قضية التوحيد ونفي الشرك و الاشراك عن الله تعالى و ارسال الرسل بالآيات البينات لتقرير الوحدانية لله وتنزيهه عن الشريك وعن كل نقص واثباث صفات الحمد و الكمال المطلق والرد على مشركي العرب وتقريعهم بذكر مآل من كذب بالآيات وأشرك بالله من الأمم قبلهم
وقد قررت آيات السورة توحيد الله تعالى في أسمائه وصفاته وافعاله و أنه الخالق الفاطر المتفرد بذلك لا يشركه أحد من مخلوقاته في شيء من خلقه
وأحيانا تشير الآيات ايماء الى التوحيد بازدواجية المخلوقات أي أن الله تعالى خلق من كل شيء زوجين ليبقى هو الواحد الأحد الفرد الذي ليس له كفؤ ولا نظير ولا مثيل بخلاف مخلوقاته فان الله تعالى جعل نظام خلقهم قائم على الزوجية والتماثل والتشابه والتناظر
لذلك افتتحت السورة ب ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۖ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ))
[ الأنعام : ١ ] والألف واللام في الحمد لاستغراق الجنس أي اثباث جميع المحامد لله في أسمائه وأوصافه وأفعاله
ومن افعاله التي استحق بها الثناء والحمد خلقه السماوات والأرض فهما اثنان
وأيضا خلق الظلمات والنور وهما أيضا اتنان ( وهي اشارة الى الكفر لتعدد سبله والى الايمان لأنه سبيل وصراط واحد كما في آخر السورة)
فحمد الله تعالى نفسه على خلقه المكان والزمان( وهما زوجان) المتكون من الليل والنهار
ومع كل هده الآيات العظيمة فان الكفار عدلوا بربهم وعبدوا أشياء لا تستطيع أن تخلق نفسها
واسترسلت السورة في تقريع المشركين الى أن ذكرت قصة امام الموحدين ابراهيم عليه السلام مع قومه الدين كانوا يعبدون كما يعبد هؤلاء العرب الأصنام
وفصلت آيات السورة كيف أن ابراهيم عليه السلام أقام عليهم الحجة وأراهم الآيات البينات لكن مع كل هذا فلم يلق منهم الا التكديب بل لم يكن جزاؤه الا أن أرادوا تحريقه فأنجاه الله من النار وهذه آية أخرى وكبرى لكن لم يؤمن له أحد الا لوط عليه السلام
فعوضه الله تبارك وتعالى عن ذلك بأن وهبه نبيين كريمين على الكبر بل جعل الأنبياء كلهم من ذريته فآتاه أجره في الدنيا وانه في الآخرة لمن الصالحين
قال تعالى (( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ)) فكان خاتمة هذه الزمرة المباركة سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم
فقال تعالى بعد قصة ابراهيم مع آزر وقومه المشركين
{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ كُلًّا هَدَيْنَا ۚ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [ الأنعام : ٨٤ ]
فأول ما نلاحظه هو تقسيم الأنبياء عليهم السلام الى أربع مجموعات فالأولى فيها اسحاق بن ابراهيم عليما السلام و يعفوب ابنه فهما أقرب الناس(الذرية) الى ابراهيم عليه السلام وذكرهما الله تعالى مقترنين متتابعين ولم يفصل بينهما لأن الأول أصل الثاني الذي هو فرعه وهما زوج واحد أي اثنان
والمجموعة الثانية فيها ستة أنبياء وأيضا ابتدأت بالاب وابنه فأحدهما نتج عن الآخر فلا ينبغي الفصل بينهما وهما أيضا نبيان ملكان آتاهما الله تعالى الملك والحكمة والعلم فهذا الزوح الأول
والزوج الثاني أيوب ويوسف عليهما السلام وهما نبيان اشتركا في الابتلاء سنين عددا فصبرا وفرج الله تعالى عنهما وجازاهما أحسن الجزاء
وقدم الله تعالى أيوب عليه السلام والله أعلم لأنه ابتلي أشد الابتلاء حتى تركه كل من حوله الا امرأته لذلك يضرب به المثل في الصبر ولعل يوسف عليه السلام كان أقل منه ابتلاء بالاضافة الى أن الله تعالى آتاه بعد الامتحان الملك ومكن له في الأرض
وبعد الزوج الثاني ذكر الله تعالى الزوج الثالث ولا يخفى سبب ذكر موسى بعد يوسف عليهما السلام فقد سكنا مصر وكذلك هارون عليه السلام ويوسف سكنها قبله كما قال مؤمن آل فرعون {
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر : ٣٤ ]
وأيضا لا يخفى اقتران ذكر موسى وهارون عليهما السلام فهما أخوان وطبعا معلوم لماذا ذكرا بهذا الترتيب فان قال قائل لماذا لم يذكرهما على رأس هذه المجموعة ما دام أن بينهما قرابة في النسب؟
فالجواب بما أن الآية في معرض ذكر الذرية والنسل فناسب أن تقدم قرابة الأب مع ابنه على قرابة الأخوة هذا أولا
وثانيا لمراعاة الترتيب الزمني بين الأربعة الأواخر وجعل كل نبي مع صنوه أو ما يشابهه أو يشاركه في شيء ما وكل هذا اتباعا لنسق السورة ونظامها القائم على الزوجية
وقد يطرح اشكال آخر وهو لماذا لم يذكر يوسف عليه السلام مع المجموعة الأولى وهوابن يعقوب عليه السلام
والاجابة هي , لو وضع اسم يوسف في الأول لصاروا ثلاثة يعني وترا فيختل بذلك نسق الزوجية الذي ذكرناه وأيضا لآلت المجموعة الثانية الى خمسة فيختل النظام
وههنا حضرتني لطيفة بديعة تدل على حكمة الله نعالى البالغة وأن كل كلمة في القرآن لها موضعها الذي لا يحرف عنه
فمعلوم أن أيوب عليه السلام الذي وجده الله تعالى بعد أن ابتلاه أشد البلاء صابرا وأوابا ((إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِّعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ)) [ص : ٤٤ ] حتى أخرجه أهل قريته فمكث عدة سنين مبتلى في جسده وحيدا فأراد الله تعالى أن لا يتركه وحيدا فقرن اسمه باسم يوسف شريكه في البلاء وجعل مكان يوسف مع أخيه أيوب وكان حق يوسف أن يذكر مع أبيه وجده عليهم السلام
أما المجموعة الرابعة فابتدأت أيضا كسابقاتها بالأب ثم ابنه والزوج الثاني عيسى والياس و يذكر في كتب التفسير أن الياس قد رفع كما رفع عيسى عليهما السلام
والأربعة يشتركون في الزهد والتبتل والانقطاع عن الدنيا وكثرة العبادة
أما المجموعة الأخيرة فاشتركت في اجتماع قومهم على التكديب برسالتهم
فان قيل لم ذكر اسماعيل عليه السلام في آخر زمرة وكان الأولى أن يذكر أولا مع أخيه اسحاق لأنه ولد ابراهيم وأول دريته عليهم السلام ؟
فقد سبق الجواب في اختلال العدد الزوجي وانتقاله الى الوتر , هذا أولا
وثانيا وهو الأهم , فكل المجموعات السابقة قد ابتدأت بذكر الأب وابنه للدلالة على تتابع النبوة في نسل وذرية ابراهيم عليه السلام ولما لم يكن الأمر كذلك في هؤلاء الأنبياء المدكورين في الآخر أخر الله تعالى ذكر اسماعيل عليه السلام وشرف هذه المجموعة بأن جعله على رأسها ولا يخفى أن نبينا الأعظم عليه السلام هو من ذرية اسماعيل وهو آخر الأنبياء فناسب ختم المجموعات بذكر اسماعيل وتأخيره للاشارة الى خاتم الأنبياء والمرسلين عليهم جميعا أفضل السلاة والتسليم
و جعل لوط عليه السلام آخر المذكورين لأنه ابن أخ أو أخت ابراهيم عليه السلام فليس هو من ذريته ومن نسله على الحقيقة بخلاف المذكورين قبله وأيضا كان حال قومه المكذبين مختلفا عن حال أقوام بقية الأنبياء فانهم كانوا يأتون الفاحشة لم يسبقهم اليها أحد من العالمين
فعلى هذا يكون يونس عليه السلام هو آخر الأنبياء من ذرية ابراهيم على الحقيقة ومعلوم ما وقع له مع قومه بخلاف من قبله من الرسل وأيضا يتميز عنهم بأنه الوحيد الذي آمن قومه جميعا بعد أن كذبوا جميعهم
فيكون عدد الأزواج في المجموعات الأربعة ثمانية أزواج وهو نفسه عدد أزواج الأنعام المذكورة في آخر السورة
فان قيل قد ذكر الله تعالى نوحا عليه السلام مع الأنبياء الستة عشر فيكون العدد وترا
فيقال اختلف في ضمير (ذريته ) هل يعود على نوح أو ابراهيم عليهما السلام
وأيا كان الأمر فابراهيم عليه السلام مذكور في أول الآية بضمير الغائب المتصل( وهبنا له ))
ومعلوم أنه من ذرية نوح فيكون ابنه, فيشكلان بذلك زوجا واحدا فيكون مجموع عدد الأنبياء زوجيا ويكون في الآية ذكر أصل ابراهيم وفرعه وهذا أيضا زوج آخر (الأصل والفرع)
والحاصل أنه ينبغي تدبر كلام الله تعالى وتفحص معانيه للوقوف على أسراره وما أودع الله تعالى فيه من حكمة بالغة وعلم عميق والله نسأل أن يعلمنا القرآن ويحيينا به
تعليق