من أعظم الفوائد لمبدأ النسخ أنه دليلٌ على أن الشريعة منزلة لمصلحة العالم، ونأخذ هذا من قوله تعالى:
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106]، كل ما جاء من عند الله فهو خير للعالم، وأنفع لهم، وأرفق بهم سواء أكان ذلك هو الشريعة السابقة أو الشريعة اللاحقة، ولبيان ذلك من هذه الآية نقول:
اختلف القراء العشرة في قراءة هذه الآية في موضعين، ومن خلال هذه القراءات الواردة تنتج لنا معانٍ متعددة توضح مشاهد مختلفة:
الموضع الأول: ( نُنْسخ ) فقرأ ابن عامر بضم نون المضارعة وكسر السين مضارع أنسخ أي نأمر بنسخ، والباقون بفتحهما مضارع نَسخ، والنسخ في الآية عند أهل اللغة والمفسرين يأتي للمعنيين الآتيين:
المعنى الأول: النقل والتحويل يقال: نسخ الشيءَ ينسَخُه نَسْخاً أي نقله:سواء أكان النقل للشيء بذاته فيقال: نسخت الشمس الظل أين نقلته من مكان إلى مكان.
أو كان النقل بصورته كنسخ الكتاب أي نقل ما تضمنه من كتابة إلى مكان آخر.
ومنه تناسخ المواريث تحويل الميراث من واحد إلى واحد، ومنه تناسخ الأرواح وتناسخ القرون قرنا بعد قَرن، ومنه قوله تعالى: {هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الْجَاثِيَةِ:29].
والمقصود بها هنا:
- أَي نستنسخ ما تكتب الحفظة فيثبت عند الله.
- أو يكون المعنى نستنسخ أعمالكم فنكتبها على يد الحفظة فلا يخفى منها شيء كما يستنسخ الكتاب فنأْمر بنسخ ما عملتم وإِثباته.
فعلى هذا الوجه كل القرآن منسوخ لأنه نسخ من اللوح المحفوظـ، أو لأن الصحابة تنسخه بكتابته عندما يبلغه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
المعنى الثاني: الرفع والإزالة أي إِبطال الشيء وإِقامة آخر مقامه، ومنه يقال نسخت الشمس الظل إذا ذهبت به وأبطلته، ومن ذلك قوله تَعَالَى: {إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ} [الْحَجِّ:52] أي يزيله ويبطله، وفي خطبة عتبة بن غزوان: ((وإنها لم تكن نبوة قَط إلا تناسخت حتى يكون آخر عاقبتها ملكا)) أَي تحولت من حال إِلى حال يعني أَمر الأُمة وتغاير أحوالها، ويكون المعنى للآية: نرفع العمل بحكم تضمنته آية، فعلى هذا يكون بعض القرآن ناسخا وبعضه منسوخا لأن بعض أحكامه رفعت أحكاماً أخرى، وأبرز مثال على النسخ في القرآن بهذا المعنى مما يكاد أن يتفق عليه هو قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [المجادلة:12 ،13].سواء أكان النسخ هنا بمعنى الإزالة الكلية أو الجزئية وهو التخصيص أي تخصيص الحكم باختلاف الأحوال.
والآية هي: الدليل والشاهد عَلَى أَمر، وفي الاستعمال القرآني تأتي بمعنى الحجة والبرهان كما قال تعالى:
{هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} [الأعراف:73]، وتطلق الآية على القطعة من القرآن المشتملة على حكم شرعي أو موعظة أو نحو ذلك، ومنه قوله تَعَالَى: {وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النَّحْل:101].
يتبع
تعليق