{وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس}
عيسى ابنُ مريمَ عليه السلام جاء ليرد على المادية التي سيطرت على بني إسرائيل..
وجعلتهم لا يعترفون إلا بالشيء المادي المحسوس..
فعقولهم وقلوبهم أغلقت من ناحية الغيب..
حتى إنهم قالوا لموسى: {أَرِنَا الله جَهْرَةً}..
وحين جاءهم المن والسلوى رزقاً من الله.. خافوا أن ينقطع عنهم لأنه رزقٌ غيبيّ فطلبوا نبات الأرض..
لذلك كان لابد أن يأتي رسول كل حياته ومنهجه أمور غيبية..
مولده أمر غيبي، وموته أمر غيبي ورفعه أمر غيبي ومعجزاته أمور غيبية
حتى ينقلهم من طغيان المادية إلى صفاء الروحانية.
لقد كان أول أمره أن يأتي عن غير طريق التكاثر الماديّ..
أي الذي يتم بين الناس عن طريق رجل وأنثى وحيوان منويّ..
واللهُ سبحانه وتعالى أراد أن ينزع من أذهان بني إسرائيل أن الأسباب المادية تحكمه..
وإنما هو الذي يحكم السبب.
هو الذي يخلق الأسباب ومتى قال: (كن) كان..
بصرف النظر عن المادية المألوفة في الكون..
وأن السبب لا يأتي بالنتيجة وإنما النتيجة من عند مسبب الأسباب وخالق الأسباب سبحانه
فهو الفعال
فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن
البينات هي المعجزات
مثل إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله وغير ذلك من المعجزات..
وهي الأمور البينة الواضحة على صدق رسالته.
إن كل رسول كان مؤيداً بروح القدس وهو جبريل عليه السلام..
ولكن الله أيد عيسى بروح القدس دائما معه..
وهذا معنى قوله تعالى: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس}..
وأيدناه مشتقة من القوة ومعناها قويناه بروح القدس في كل أمر من الأمور..
وكلمة روح تأتي على معنيين
المعنى الأول ما يدخل الجسم فيعطيه الحركة والحياة..
وهناك روح أخرى هي روح القيم تجعل الحركة نافعة ومفيدة
ولذلك سمى الحق سبحانه وتعالى القرآن بالروح..
واقرأ قوله تعالى {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا}[الشورى : 52]
والقرآن روح.. من لا يعمل به تكون حركة حياته بلا قيم.. إذن كل ما يتصل بالمنهج فهو روح
الكتاب هو القرآن مصدق لما معهم من التوراة .
وكانوا يقولون لأهل يثرب يأتينا نبي نؤمن به ونقاتلكم به قتل عاد فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به
والله عز وجل يقول:
﴿ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ﴾ البقرة
فهل من معرفةٍ بديهيةٍ، صادقةٍ، أكيدةٍ، ثابتةٍ، كأن يعرف الإنسان ابنه ؟!
الاختلاف عند نقص المعلومات شيءٌ طبيعي، (( كان الناس أمةً واحدةً فاختلفوا ))
أما الاختلاف عند توافر الحقائق قد يكون بسبب الحسد، أو البغي، أو المصالح، والأهواء، والنزعات وما إلى ذلك،
هذا أقذر أنواع الخلافات بين الناس.
يمكن أن يقبل الله عزَّ وجل منك عذراً إن كنت لا تعلم،
لكن إذا علمت ليس لك عذر أبداً،
العلم خطير، حجةٌ لك إن طَبَّقْتَهُ، وحجةٌ عليك إن لم تطبقه،
هذا الذي يعلم ولا يعمل،
هذا الذي يعرف وينحرف
هذا غضب الله عليه،
ومعنى قول الله عزَّ وجل :
﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ(7) ﴾
( سورة الفاتحة)
المغضوب عليهم هم الذين عرفوا وانحرفوا،
هل من مسلمٍ على وجه الأرض لا يعلم أن الصلاة حق وأن الصيام حق وأن الحج حق وأن الزكاة حق وأن الصدق حق وأن الأمانة حق وأن الوفاء بالوعد حق وأن الحفاظ على العهد حق وأن الإنصاف حق ؟
هذه أشياء بديهية،
فلماذا يأكل المسلمون أموال بعضهم بعضاً ؟
لماذا يرفعون أمرهم إلى القضاء
وفي القضاء عشرات بل مئات الألوف من القضايا ؟ لماذا يعتدي بعضهم على أعراض بعض ؟
هذا الذي عرف وانحرف له عند الله جزاءٌ كبير.
على الإنسان أن يكون معه حجة يقدمها لله عز وجل يوم القيامة عن كل عمل يقوم به في الدنيا
أي كفروا بما أنزل الله على النبي الكريم من قرآن كريم بغيا أي بدافع الحسد فقط
اشترى الكفر، ودفع ثمن الكفر الجنة،
أسوأ صفقة في التاريخ،
ما من إنسانٍ أشد حسرةٍ وندماً يوم القيامة كالذي باع آخرته بدنياه،
فمصالحه مع الكفر، أحياناً مصالحه مع المعصية،
إن كنتم تزعمون أنكم متبعون لكتابكم ولن تتبعوا إلا كتابكم،
فهل في كتابكم ما ينُصَّ على أن النبي يقتل ؟
أرأيت إلى هذا التناقُض ؟
ومثل هذا التناقض نراه بيننا كمسلمين :
يقول لك أحدهم:
والله أنا سألت إمام جامع و قال لي: ليس فيها شيء، وانتهت عنده المسألة،
هكذا بهذه البساطة ؟ أمتأكد من علمه ؟ أمتأكد من اختصاصه ؟
لماذا إذا أردت أن تبيع بيتك تسأل خمسين دلالاً،
ولماذا تكتفي في شؤون الدين بإنسان عابر، إنسان التقيت به صدفةً وسألته فأفتى لك وانتهى الأمر، ولا تعيد هذا السؤال على أحد،
بينما من أجل بيع بيتٍ تسأل مئة دلال،
ولا تبيع البيت إلا بعد بحثٍ ودرسٍ وتمحيص ودراسة واستقراء، وما إلى ذلك ؟
فهذا تناقض.
أي هل من المعقول أن تمشي مع نبي عظيم ووراءك فرعون بقوته وجبروته، وجيشه وأسلحته، وقسوته وظلمه، وأمامك البحر،
الأمل بالنجاة صفر :
﴿ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ(61)قَالَ كَلا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِي(62) ﴾ (سورة الشعراء)
هؤلاء اليهود رأوا بأم أعينهم كيف أن البحر أصبح طريقاً يبساً،
وساروا مع موسى في البحر،
وتبعهم فرعون،
فلما خرجوا من البحر عاد البحر بحراً،
عاد الطريق اليبس بحراً، فغرق فرعون،
هل من آيةٍ أعظم من هذه الآية ؟
هل من آيةٍ أعظم في الدلالة على صدق هذا النبي العظيم من هذه الآية ؟
وبعد أن خرجوا من البحر قالوا: يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، نريد إلهاً نعبده من دون الله.
أصبحت العصا ثعباناً مبيناً،
نزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين،
ضرب البحر بعصاه فإذا هو طريقٌ عظيم،
ومع هذا كله اتخذوا عجلاً يعبدونه من دون الله .
إذاً المعجزات الحسِّية لا تقدِّم ولا تؤخِّر،
هذا الكون بوضعه الراهن أعظم معجزة
فمن لم يؤمن به ؛ بقوانينه، وسننه، وعظمته، لن يؤمن بخرق قوانينه .
وهذا الذي وقع بين المسلمين
كل فرقةٍ تكفِّر الأخرى وهم يتلون كتاباً واحداً، ومعهم سُنَّةٌ واحدة، هذا مرض ؛
مرض العداوات، مرض البغضاء، مرض المشاحنات،
مرض أن تقيم مجدك على أنقاض الآخرين،
مرض أن تسفِّه كل رأيٍ إلا رأيك هذا مرض خطير،
هذا الذي مزَّق المسلمين، هذا الذي أضعفهم،
قال تعالى:
﴿ وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ﴾ سورة المائدة الآية 18
معناها ادعاؤكم غير صحيح، لو أن الله قبل دعواكم لما عذَّبكم
هناك من يقول الآن:
نحن من أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وهي أمة مرحومة،
أمة محمد المفضلة على أمم العالمين هي أمة الاستجابة .
فالذين استجابوا لله وللرسول لما دعاهم،
هؤلاء قال الله عنهم:﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾(آل عمران الآية 110)
هذه الأمة علة خيريَّتها:
﴿ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾(آل عمران الآية 110)
إن لم نؤمن بالله حق الإيمان، ولم نأمر بالمعروف، ولم ننه عن المنكر،
فنحن كأية أمة من الأمم، ليس لنا أي شأنٍ عند الله عزَّ وجل.
المستقيم يرجو لقاء الله، المحسن يتمنَّى لقاء الله، المحسن يشتاق إلى الله ؛
لكن الظالم، الفاسق، الفاجر، الذي بنى مجده على أنقاض الناس، بنى ماله على إفقار الناس، هذا لن يتمنى لقاء الله لأن الله سيعذبه وقتها.
تعليق