– ولجذر (خ، ل، ف) في اللغة دلالات عديدة، منها: الخَلْفُ: نقيض القدّام.
والخَلْفُ: القرن بعد القرن[194]. ويقال: هذا خَلْفُ سوء لناس لاحقين بناس أكثر منهم، قال لبيد[195]:
ذَهَبَ الذينَ يُعاشُ في أَكْنافهم وبقيتُ في خَلْف كجلدِ الأجربِ
والخَلْفُ: الرَّديُّ من القول، ويقال في مَثَلٍ: ((سكتَ ألفْاً ونطقَ خَلْفاً)) للرجل يطيل الصمت فإذا تكلم تكلم بالخطأ[196].
والخَلْفُ. الاستقاء، قال الحطيئة[197]:
لِزُغب كأوْلادِ القطا راث خلْقُها على عاجزات النَهضِ حُمْرٍ حواصِلُهْ
والْمسْتَخْلِف: الذي يحملُ الماء من بعد إلى أهله[198].
والخَلْفُ: أقصر أضلاع الجنب، ومنه قول طرفة بن العبد[199]:
وطَيِّ مَحالٍ كالحَنيِّ خُلوفُهُ وأَجرِتَةٌ لُزَّتْ بِدَأْيٍ مْنّضَدِوالخَلْفُ الخَلَفْ: ما جاء من بَعْدُ، يُقال: هو خَلْفُ سوء من أبيه، وَخَلَفُ صدْق من أبيه... إذا قام مقامه[200]. والخَلَفُ أَيْضاً: ما استخلفته من شيء[201].
والخِلْفُ: واحد الأخْلاف، وهو: موضع يد الحالب من ضرع الناقة[202].
والخِلْفُ أيضاً: المخاض، وهي: الحوامل من النوق الواحدة خَلِفَةُ[203] والخُلْفُ بالضم: الاسم من الإخلاف، وهو في المستقبل كالكذب في الماضي[204].
والاستخلاف في الآية الخامسة والخمسين من سورة النور: {وَعدَ اللهُ الذينَ آمنوا منكمْ وعملوا الصالحاتِ لَيَسْتَخْلِفنَهُمْ في الأرض}، هو النيابة تشريفاً للمستخلف[205]، ولهذا ذهب المفسرون إلى أَنّ قوله – تعالى – (ليستخلفنهم) يعني: ليورثنّهم الأرض فيجعلهم ملوكها وساستها، والقول عام يشمل استخلاف الجمهور ما تحقق فيهم الإسمان والعمل الصالح[206]، المفسر بقوله: (يعبدونني لا يشركون بي شيئاً).
– وأما التمكين فالمَكْنُ في اللغة: بيض الضب، وقد وردت إشارة في شعر أبي الهندي (ت 180هـ)، إلى أَنّه من طعام العرب، فقال[207]:
ومَكْنُ الضِباب طَعامُ العُريب ولا تَشتهيهِ نُفوسُ العَجَمْ
قال ذلك مفتخراً على العجم، وقالوا: وهذه مَكْنَةُ الضبة ومَكِنَةُ الضبة ومَكِناتُها: مقارُّها[208].
وعلى هذا فالمكن والمكان عند أهل اللغة: الموضع الحاوي للشيء[209].
وتمكين الدين في الآية الخامسة والخمسين من سورة النور استعارة من هذا المعنى.
قال الطبري في قوله: (ليمكنن لهم دينهم): لوطئّنَّ[210].
وفسر الزمخشري: بالتثبيت[211]، وقال الرازي: هو أن يؤيدهم بالنصر والإعزاز[212]، وقال عبدالله بن أحمد بن محمود النسفي هو التثبيت والتعضيد[213]، ودلالة التمكين على التوطئة والتثبيت دلالة تضمنية، ودلالته على التأييد دلالة التزامية.
والملاحظ أَنَّ التمكين متضمن الآلة والمكان الذي يتمكن فيه. وتمكين الله الدين للمؤمنين فيه دلالة على إعطاء ما يصح به الفعل كائناً ما كان من الآلات والعدد والقوى، كما أنّ التمكين فيه دلالة على عدم امتلاك ما حازه[214] المرء، لأنَّ التمكين من الدين يكون على وفق ما أراد الله – سبحانه – من تنفيذ شريعته، لا على وفق ما يريده، الممكَن له في الأرض.
– وأَمّا الأمن؛ فمن دلالاته الحسية؛ قولهم: ناقة أمون: للموثقة الخلق التي أمنت أن تكون ضعيفة[215].
وفرس أمين القوي[216].
والأمن: ضد الخوف[217]، فإذا زال الخوف واطمأنت النفس كان الأمن[218] وتلقي أسباب النزول ضوءاً على دلالات هذه الألفاظ، فقد ((أخرج الحاكم والطبراني عن أبي بن كعب قوله: لمّا قدم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار، رمتهم العرب عن قوس واحدة وكانوا لا يبيتون إلاّ بالسلاح، ولا يصبحون إلاّ فيه، فقالوا: ترون أنّا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلاّ الله، فنزلت: {وَعَدَ الله الذين آمنوا منكم... الآية} وعن... البراء (بن عازب) قال: فينا نزلت هذه الآية ونحن في خوف شديد))[219].
وعلى هذا فالآية تبيّن ((جزاء الطاعة المخلصة، والإيمان العامل، في هذه الأرض قبل يوم الحساب))[220].
والملاحظ أَن أَلفاظ: (ليستخلفنهم، وليمكنن، وليبدلنهم) قد جاء كل منها مؤكداً بالنون، داخلة عليه اللام. وهذه اللام إنّما جاءت لتحقيق الأمر وإثباته في نفوس المؤمنين وانه كائن لا محالة[221].
ومن الألفاظ التي دارت على معنى له علاقة بالاستخلاف لفظ:
– أورث: ذلك أَنّ الورث هو: الأصل والبقية، قال الشاعر[222]:
فَلينْظُر في صُحُفٍ كالرِّباطِ فيهنَّ إرثُ كتاب مُحي
والوراثه والإرث: انتقال قُنْيَة إليك عن غيرك من غير عقد ولا ما يجري مجرى العقد، وسمي بذلك المنتقل عن الميّت، فيقال للقنية الموروثة ميراث وإرث[223].
وحقيقة الميراث في الشرع: ((هو ما انتقل إلى الإنسان عن ملك الغير بعد موته على وجه الاستحقاق))[224].
واستعمل القرآن هذا اللفظ – في قوله – تعالى –: {وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الّذينَ كانوا يُسْتَضْعَفونَ مَشارِقَ الأرْضِ وَمَغارِبها الّتي بارَكْنا فيها وَتَمّتْ كَلمَةُ رَبّكَ الحُسْنى على بني إسْرائيلَ بما صَبَروا ودَمّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وما كانوا يَعْرِشونَ}[225] في نزول قوم ديار قوم بعدهم بما صبروا، وجاءت هذه الآية مقابلة لقول موسى: {قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلفَكُمْ في الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعمَلون}[226]، فلمّا بين الله – تعالى – إهلاك القوم بالغرق على وجه العقوبة بيّن ما فعله بالمؤمنين من الخيرات وهو أنه – تعالى – أوْرَثهم أرضهم وديارهم، فتحقق الوعد بالاستخلاف[227]. وورد اللفظ – أيضاً – في قوله – عز وجل –: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأوها وكانَ اللهُ على كُلّ شَيء قَديراً}[228].
للدلالة على أخذ المؤمنين أموال بني قريظة بعد حربهم وَإجلائهم عن المدينة المنورة.
– وإذا كان الله – سبحانه – قد جعل المستضعفين يرثون الأرض فقد منّ عليهم بأَنْ جعلهم أئمّة في قوله: {وَنُريدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الّذين اسْتُضْعفوا في الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارِثينَ}[229].
والأمُّ في اللغة: القصد. يُقال أمَمْتُهُ أَؤُمُّهُ أَمّاً: إذا قصدت له[230].
ومن الدلالات الحسية لهذه المادة؛ الإمام: لخشبة البنّاء التي يُسوى عليها البناء، قال الشاعر[231]:
وخَلّقْتُهُ حتى إذا تَمَّ واستوى كُمخةِ ساق أو كَمَتْنِ إمامَ
قَرنْت بِحَقْوَيهِ ثلاثاً فَلَم يَزغْ عَنِ القَصدِ حتى بُصِّرَتْ بدِمام
والإمام: الصقع من الأرض، والطريق... والإمام الذي يقتدى به[232].
وفي هذا المعنى ورد لفظ ((أئمة)) في الآية، قال قتادة: وتجعلهم أئمة، أَي: ولاة أمر[233]. وعن مجاهد: دعاة إلى الخير[234]. وذهب الزمخشري والرازي إلى: أنهم المقدمون في الدين و الدنيا، واقتران لفظ أئمة بلفظي ((الوارثين ونمكّن)) يقوى هذه الدلالة، لأن من لوازم تمكين الله لهم أنْ ينفذ أمرهم ويطلق أيديهم[235].
*::**::*::*:::*:*::*::*::*:*:*::*
إنَّ الوصول إلى الاستخلاف في الأرض والتمكين يتم عن طريق الجهاد، وقد قال – سبحانه وتعالى –:
{يُجاهِدونَ في سَبيلِ الله ولا يَخافونَ لَومةَ لائِم ذلك فَضْلُ الله يُؤتيه مَنْ يَشاء}[236]، وهذه دلالة الفضل، إذ بيّن – تعالى – أنّ جهادهم على هذا الوجه فضل من الله من حيث يوفق لذلك، ومن حيث يؤديهم إلى النعم العظيمة من الثواب[237].
إنَّ الجهاد في الإسلام حياة كاملة ممتدة، فقد قال – سبحانه –
{يا أَيّها اللذَين آمنَوا اسْتَجيبوا لله وللرَّسول إذا دَعاكُمْ لِما يُحْييكُمْ واعلموا أَنَّ الله يَحولُ بَيْنَ المَرءِ وقلبِهِ وأَنَّهُ إليه تُحشرونَ}[238].
– ولفظ ((يحييكم)) له دلالته اللغوية الخاصة عند العرب، فقد قالوا: اخصب القوم وأحيوا.
والحيا... كثرة الغيث[239].
ومن دلالات جذر (ح، ي، ي) الحياة ضد الموت[240].
وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أَنَّ سورة الأنْفال بجملتها نزلت في غزوة بدر[241] ترجح لدينا أَنَّ هذه الدعوة تختص بالدعاء إلى الجهاد وقتال العدو، وقد أعلمهم الله – سبحانه –: ((أَنَّ ذلك يحييهم من حيث كان فيه قهر المشركين، وتقليل لعددهم، وفلّ لحدهم وحسم لأطماعهم))[242] … ويجري ذلك مجرى قوله – عز وجل –: {ولكُمْ في القِصاص حياة}[243].
إنَّ تعبير القرآن عن الجهاد بلفظ ((يحييكم)) إنّما هو دلالة على أنَّ الجهاد دعوة إلى عقيدة، تحيي القلوب والعقول وشريعة، تحرر الإنسان وتكرمه، ومنهج للفكر يحقق القوة والعزة والاستعلاء[244].
*::**::*::*:::*:*::*::*::*:*:*::*
إنَّ النصر الذي يحرزه المؤمنون بجهادهم لا تتخلف عنه يد القدرة، فولاية الله لهم دائمة، وفي ذلك – يقول – تعالى –: {واللهُ أعْلَمُ بأعْدائكُمْ وكفى باللهِ وليّاً، وكفى باللهِ نَصيراً}[245].
– والولي في اللغة: القْربُ والدُّنْو، يقال: تباعد بعد وَلْي[246]، وقال ساعدة بن جؤيّة الهذلي[247]:
هَجَرَتْ غَضوبُ وَحُبَّ مَنْ يَتَحَبّبُ وعَدَتْ عَوادٍ دون وَلْيِكَ تَشْعبُ





اترك تعليق: