الحمد لله وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وبعد :
خطاب القرآن خطاب صدق وعدل، وإخباره إخبار حق وفصل، إذ هو الجد ليس بالهزل
{لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت:42)،
{...وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (النساء:82)
اعلم أنه تعالى لما حكى عن موسى عليه السلام قوله :
( إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ) بين تعالى بعده كيف هداه ونجاه، وأهلك أعداءه بذلك التدبير الجامع لنعم الدين والدنيا ،
فقال : {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64)}
تفسير السعدي:
{فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}
فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فضربه فَانْفَلَقَ اثني عشر طريقا فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ أي: الجبل الْعَظِيمِ فدخله موسى وقومه.
{وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ}
وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ في ذلك المكان الآخَرِينَ أي فرعون وقومه, قربناهم, وأدخلناهم في ذلك الطريق, الذي سلك منه موسى وقومه.
تفسير ابن كثير :
فأوحى الله إليه : (أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ) .
وقال قتادة : أوحى الله تلك الليلة إلى البحر : أن إذا ضربك موسى بعصاه فاسمع له وأطع ، فبات البحر تلك الليلة ، وله اضطراب ، ولا يدري من أي جانب يضربه موسى ، فلما انتهى إليه موسى قال له فتاه يوشع بن نون : يا نبي الله ، أين أمرك ربك؟ قال : أمرني أن أضرب البحر . قال : فاضربه .
وقال محمد بن إسحاق : أوحى الله - فيما ذكر لي - إلى البحر : أن إذا ضربك موسى بعصاه فانفلق له . قال : فبات البحر يضرب بعضه بعضا ، فرقا من الله تعالى ، وانتظارا لما أمره الله ، وأوحى الله إلى موسى : ( أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ ) ، فضربه بها وفيها ، سلطان الله الذي أعطاه ، فانفلق .
وذكر غير واحد أنه كناه فقال : انفلق علي أبا خالد بحول الله . قال الله تعالى : ( فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ) أي : كالجبل الكبير . قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، ومحمد بن كعب ، والضحاك ، وقتادة ، وغيرهم .
وقال عطاء الخراساني : هو الفج بين الجبلين .
وقال ابن عباس : صار البحر اثني عشر طريقا ، لكل سبط طريق - وزاد السدي : وصار فيه طاقات ينظر بعضهم إلى بعض ، وقام الماء على حيله كالحيطان ، وبعث الله الريح إلى قعر البحر فلفحته ، فصار يبسا كوجه الأرض ، قال الله تعالى : ( فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَىٰ ) [ طه : 77 ] .
{وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ}
وقال في هذه القصة : ( وأزلفنا ) أي : هنالك ( الآخرين ) .
قال ابن عباس ، وعطاء الخراساني ، وقتادة ، والسدي : ( وأزلفنا ) أي : قربنا فرعون وجنوده من البحر وأدنيناهم إليه .
تفسير القرطبي:
قوله ( فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ )
فلما عظم البلاء على بني إسرائيل ; ورأوا من الجيوش ما لا طاقة لهم بها ، أمر الله تعالى موسى أن يضرب البحر بعصاه ; وذلك أنه عز وجل أراد أن تكون الآية متصلة بموسى ومتعلقة بفعل يفعله ; وإلا فضرب العصا ليس بفارق للبحر ، ولا معين على ذلك بذاته إلا بما اقترن به من قدرة الله تعالى واختراعه . وقد مضى في ( البقرة ) قصة هذا البحر . ولما انفلق صار فيه اثنا عشر طريقا على عدد أسباط بني إسرائيل ، ووقف الماء بينها كالطود العظيم ، أي الجبل العظيم . والطود الجبل ; ومنه قول امرئ القيس :
فبينا المرء في الأحياء طود رماه الناس عن كثب فمالا
وقال الأسود بن يعفر :
حلوا بأنقرة يسيل عليهم ماء الفرات يجيء من أطواد
جمع طود أي جبل . فصار لموسى وأصحابه طريقا في البحر يبسا ; فلما خرج أصحاب موسى وتكامل آخر أصحاب فرعون على ما تقدم في ( يونس ) انصب عليهم وغرق فرعون ، فقال بعض أصحاب موسى : ما غرق فرعون ; فنبذ على ساحل البحر حتى نظروا إليه . وروى ابن القاسم عن مالك قال : خرج مع موسى عليه السلام رجلان من التجار إلى البحر فلما أتوا إليه قالا له : بم أمرك الله ؟ قال : أمرت أن أضرب البحر بعصاي هذه فينفلق ; فقالا له افعل ما أمرك الله فلن يخلفك ، ثم ألقيا أنفسهما في البحر تصديقا له ; فما زال كذلك البحر حتى دخل فرعون ومن معه ، ثم ارتد كما كان . وقد مضى هذا المعنى في سورة ( البقرة ) .
قوله تعالى : ( وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ ) :
أي قربناهم إلى البحر ; يعني فرعون وقومه . قاله ابن عباس وغيره ; قال الشاعر :
وكل يوم مضى أو ليلة سلفت فيها النفوس إلى الآجال تزدلف
أبو عبيدة : " أزلفنا " جمعنا ومنه قيل لليلة المزدلفة ليلة جمع . وقرأ أبو عبد الله بن الحرث وأبي بن كعب وابن عباس : ( وأزلقنا ) بالقاف على معنى أهلكناهم ; من قوله : أزلقت الناقة وأزلقت الفرس فهي مزلق إذا أزلقت ولدها .
تعليق