ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة
للشيخ جمال القرش (غفر الله له)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد فهذه بعض الفوائد واللطائف في الموعظة الحسنة
قوله : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} [سورة النحل : 125: 128]
يقول الإمام ابن كثير يقول آمرًا رسوله محمدًا أن يدعو الخلق إلى الله [ بِالْحِكْمَةِ ] قال ابن جرير: وهو ما أنزله عليه (3) من الكتاب والسنة [ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ] أي: بما فيه من الزواجر والوقائع بالناس ذكرهم (4) بها، ليحذروا بأس الله . وقوله: [ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ] أي: من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال، فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب، كما قال: [ وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ] [العنكبوت : 46] فأمره بلين الجانب، كما أمر موسى وهارون، ، حين بعثهما إلى فرعون فقال: [ فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ] [طه : 44] .
وقوله: [ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ] أي: قدم علم الشقي منهم والسعيد، وكتب ذلك عنده وفرغ منه، فادعهم إلى الله، ولا تذهب نفسك على من ضل منهم (5) حسرات، فإنه ليس عليك هداهم إنما أنت نذير، عليك البلاغ، وعلينا الحساب، [ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ] [القصص : 56]، (6) و [ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ] [البقرة : 272] .
تفسير ابن كثير : 4/612
وقال الإمام البغوي : [ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) ]
[ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ ] بالقرآن، [ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ] يعني مواعظ القرآن.
وقيل: الموعظة الحسنة هي الدعاء إلى الله بالترغيب والترهيب.
وقيل: هو القول اللين الرقيق من غير غلظة ولا تعنيف ا هـ .
[تفسير البغوي : 5/52]
وقال العلامة السعدي : في قوله : [ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ] .أي: ليكن دعاؤك للخلق مسلمهم وكافرهم إلى سبيل ربك المستقيم المشتمل على العلم النافع والعمل الصالح [ بِالْحِكْمَةِ ] أي: كل أحد على حسب حاله وفهمه وقوله وانقياده.
ومن الحكمة الدعوة بالعلم لا بالجهل والبداءة بالأهم فالأهم، وبالأقرب إلى الأذهان والفهم، وبما يكون قبوله أتم، وبالرفق واللين، فإن انقاد بالحكمة، وإلا فينتقل معه بالدعوة بالموعظة الحسنة، وهو الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب.
إما بما تشتمل عليه الأوامر من المصالح وتعدادها، والنواهي من المضار وتعدادها، وإما بذكر إكرام من قام بدين الله وإهانة من لم يقم به.
وإما بذكر ما أعد الله للطائعين من الثواب العاجل والآجل وما أعد للعاصين من العقاب العاجل والآجل، فإن كان [المدعو] يرى أن ما هو عليه حق. أو كان داعيه إلى الباطل، فيجادل بالتي هي أحسن، وهي الطرق التي تكون أدعى لاستجابته عقلا ونقلا.
ومن ذلك الاحتجاج عليه بالأدلة التي كان يعتقدها، فإنه أقرب إلى حصول المقصود، وأن لا تؤدي المجادلة إلى خصام أو مشاتمة تذهب بمقصودها، ولا تحصل الفائدة منها بل يكون القصد منها هداية الخلق إلى الحق لا المغالبة ونحوها.
وقوله: [ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ] علم السبب الذي أداه إلى الضلال، وعلم أعماله المترتبة على ضلالته وسيجازيه عليها.
[ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ] علم أنهم يصلحون للهداية فهداهم ثم منَّ عليهم فاجتباهم. اهـ تفسير السعدي :[ 1/ 453]
قال العلامة الشنقيطي في تفسير قوله : [ادع إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] [سورة المائدة :16/125].
فإن كانت دعوته إلى الله بقسوة وعنف وخرق، فإنها تضر أكثر مما تنفع، فلا ينبغي أن يسند الأمر بالمعروف إسناداً مطلقاً، إلا لمن جمع بين العلم والحكمة والصبر على أذى الناس، لأن الأمر بالمعروف وظيفة الرسل، وأتباعهم وهو مستلزم للأذى من الناس، لأنهم مجبولون بالطبع على معاداة من يتعرض لهم في أهوائهم الفاسدة، وأغراضهم الباطلة، ولذا قال العبد الصالح لقمان الحكيم لولده، فيما قص الله عنه:
قوله : [وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ] الآية [31/17]، ولما قال النبي لورقة بن نوفل "أو مخرجي هم؟" يعني قريشاً أخبره ورقة أن هذا الدين الذي جاء به لم يأت به أحد إلا عودي، وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: ما ترك الحق لعمر صديقاً، واعلم أنه لا يحكم على الأمر بأنه منكر، إلا إذا قام على ذلك دليل من كتاب الله ، أو سنة نبيه ، أو إجماع المسلمين.
وأما إن كان من مسائل الاجتهاد، فيما لا نص فيه فلا يحكم على أحد المجتهدين المختلفين بأنه مرتكب منكراً، فالمصيب منهم مأجور بإصابته، والمخطىء منهم معذور كما هو معروف في محله الآية [57/25] أضواء البيان في إيضاح القرآن 6/241.
وقال العلامة الشنقيطي في تفسير قوله : [فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى].أمر الله نبيه موسى وهارون عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام: أن يقولا لفرعون في حال تبليغ رسالة الله إليه [قَوْلاً لَيِّناً], أي: كلاماً لطيفاً سهلاً رقيقاً، ليس فيه ما يغضب وينفر. وقد بيّن المراد بالقول اللين في هذه الآية بقوله: [اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى], وهذا والله غاية لين الكلام ولطافته, ورقته, كما ترى. وما أمر به موسى وهارون في هذه الآية الكريمة أشار له في غير هذا الموضع، كقوله [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ].
مسألة : يؤخذ من هذه الآية الكريمة: أن الدعوة إلى الله يجب أن تكون بالرِّفق واللِّين. لا بالقسوة والشدة والعنف. كما بيناه في سورة "المائدة" في الكلام على قوله :( عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ]. وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية: "قال يزيد الرقاشي عند قوله [فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً]: يا من يتحبب إلى من يعاديه، فكيف بمن يتولاه ويناديه؟" ا.هـ 21/ 27
وقال : تفسير قوله تعال : [ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ] [سورة الحج ] واعلم أنه يفهم من دليل خطاب هذه الآية الكريمة، أعني مفهوم مخالفتها: أنه من يجادل بعلم على ضوء هدى كتاب منير، كهذا القرآن العظيم، ليحق الحق، ويبطل الباطل بتلك المجادلة الحسنة أن ذلك سائغ محمود لأن مفهوم قوله [بِغَيْرِ عِلْمٍ] أنه إن كان بعلم، فالأمر بخلاف ذلك، وليس في ذلك اتباع للشيطان، ويدل لهذا المفهوم المذكور قوله [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] وقوله [وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ].
وقال الفخر الرازي في تفسيره: هذه الآية بمفهومها تدل على جواز المجادلة الحقة، لأن تخصيص المجادلة مع عدم العلم بالدلائل، يدل على أن المجادلة مع العلم جائزة، فالمجادلة الباطلة: هي المراد من قوله [مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً] والمجادلة الحقة هي المراد من قوله [وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ا هـ. منه.
أضواء البيان في إيضاح القرآن 23/19.
في تفسير البحر المحيط ، 5/ 530 قوله : ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [سورة النحل : 125] : أمر الله رسوله ( ) ) أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطف ، وهو أن يسمع المدعو حكمة ، وهو الكلام الصواب القريب الواقع من النفس أجمل موقع . وعن ابن عباس : أنّ الحكمة القرآن ، وعنه : الفقه . وقيل : النبوّة . وقيل : ما يمنع من الفساد من آيات ربك المرغبة والمرهبة . والموعظة الحسنة مواعظ القرآن عن ابن عباس ، وعنه أيضاً : الأدب الجميل الذي يعرفونه .
وقال ابن جرير : هي العبر المعدودة في هذه السورة . وقال ابن عيسى : الحكمة المعروفة بمراتب الأفعال والموعظة الحسنة أن تختلط الرغبة بالرهبة ، والإنذار بالبشارة .
وقال الزمخشري : إلى سبيل ربك الإسلام ، بالحكمة بالمقالة المحكمة الصحيحة ، وهي الدليل الموضح للحق المزيل للشبهة ، والموعظة الحسنة وهي التي لا تخفى عليهم إنك تناصحهم بها وتقصد ما ينفعهم فيها ، ويجوز أن يريد القرآن أي : ادعهم بالكتاب الذي هو حكمة وموعظة حسنة ، وجادلهم بالتي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين من غير فظاظة ولا تعنيف .
وقال ابن عطية : الموعظة الحسنة التخويف والترجئة والتلطف بالإنسان بأن تجله وتنشطه ، وتجعله بصورة من قبل الفضائل ونحو هذا . وقالت فرقة : هذه الآية منسوخة بآية القتال ، وقالت فرقة : هي محكمة .
انظر : تفسير البحر المحيط ، 5/ 530
المصدر منقول
تعليق