يقول رب العزة سبحانه :
{ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [آل عمران : 84] .
هذه الآية الكريمة لها شأن كبير ; كان - عليه الصلاة والسلام - يقرؤها كثيرا في الركعة الأولى من سنة الصبح ، وقد اشتملت على جميع ما يجب الإيمان به ، فإن الإيمان الشرعي هو تصديق القلب التام وإقراره بهذه الأصول ، المتضمن لأعمال الجوارح ولأعمال القلوب ; وهو بهذا الاعتبار يدخل فيه الإسلام ، وتدخل فيه الأعمال الصالحة كلها ; فهي إيمان ، وهي من آثار الإيمان ، فإذا أطلق الإيمان دخل فيه ما ذكر ، وكذلك إذا أطلق الإسلام فإنه يدخل فيه الإيمان ، فإذا قرن بين الإسلام والإيمان فسر الإيمان بما في القلب من العقائد الصحيحة والإرادات الصالحة ، وفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة . وكذلك إذا جمع بين الإيمان والعمل الصالح ، الإيمان لما في الباطن ، والعمل الصالح هو الظاهر ، ومع إطلاق الإيمان يدخل فيه العمل الصالح ، كما في كثير من الآيات ; فقوله تعالى : { قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ } . . . ) إلخ ، أي : قولوا ذلك بألسنتكم متواطئة عليها قلوبكم ، وهذا هو القول التام الذي يترتب عليه الثواب والجزاء ; فكما أن النطق باللسان بدون اعتقاد القلب ليس بإيمان ، بل هو نفاق ، فكذلك القول الخالي من عمل القلب عديم التأثير قليل الفائدة .
وفي قوله : ( قُلْ ) إشارة إلى الإعلان بالعقيدة والصدع بها والدعوة لها ; إذ هي أصل الدين وأساسه ، وفي مثل قوله : ( آمَنَّا ) - وما أشبهها من الآيات التي يضاف الفعل فيها إلى ضمير الجمع - إشارة إلى أنه يجب على الأمة الاعتصام بحبل الله جميعا ، والحث على الائتلاف ، والنهي عن الافتراق ، وأن المؤمنين كالجسد الواحد ، عليهم السعي لمصالحهم كلها جميعا ، والتناصح التام .
وفيه دلالة على جواز إضافة الإنسان إلى نفسه الإيمان على وجه التقييد ، بأن يقول : أنا مؤمن بالله ; كما يقول : آمنت بالله ، بل هذا الأخير من أوجب الواجبات ، كما أمر الله به أمرا حتما ، بخلاف قول العبد : أنا مؤمن ، ونحوه ، فإنه لا يقال إلا مقرونا بالمشيئة لما فيه من تزكية النفس ; لأن الإيمان المطلق يشمل القيام بالواجبات وترك المحرمات ، فهو كقوله : أنا متق أو ولي أو من أهل الجنة ، وهذا التفريق هو مذهب محققي أهل السنة والجماعة .
فقوله : { آمَنَّا بِاللَّهِ } أي : بأنه واجب الوجود ، واحد أحد فرد صمد ، متصف بكل صفة كمال ، منزه عن كل نقص ، مستحق لإفراده بالعبودية كلها ، وهو يتضمن الإخلاص التام .
{ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا } يدخل فيه : الإيمان بألفاظ الكتاب والسنة ومعانيهما ، كما قال تعالى : { وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } [النساء : 113] ، { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [النحل : 44] .
فيدخل في هذا الإيمان بما تضمنه كتاب الله وسنة رسوله : من أسماء الله وصفاته وأفعاله ، وصفات رسله ، واليوم الآخر والغيوب كلها ، والإيمان بما تضمنه الكتاب والسنة أيضا : من الأحكام الشرعية : الأمر والنهي وأحكام الجزاء ، وغير ذلك .
{ وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ } [البقرة : 136] . . إلخ : فيه الإيمان بجميع الكتب المنزلة على جميع الأنبياء ، والإيمان بالأنبياء عموما ، وخصوصا ما نص عليهم منهم في الآية الكريمة وغيرها ، لشرفهم ولكونهم أتوا بالشرائع الكبار ، فمن براهين الإسلام ومحاسنه ، وأنه دين الله الحق : الأمر بالإيمان بكل كتاب أنزله الله ، وكل رسول أرسله الله مجملًا ومفصلًا ; فكل من ادعى أنه على دين حق كاليهود والنصارى ونحوهم فإنهم يتناقضون ، فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ، فيبطل كفرهم وتكذيبهم تصديقهم ، ولهذا أخبر عنهم أنهم الكافرون حقًا ، وأنه لا سبيل يسلك إلى الله إلا سبيل الإيمان بجميع الرسل ، وبجميع الكتب المنزلة على الرسل .
وفي قوله تعالى : { وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ } [البقرة : 136] برهان على أن الأنبياء وسائط بين الله وبين خلقه في تبليغ دينه ، وأنه ليس لهم من الأمر شيء ; وفي الإخبار بأنه من ربهم بيان أن من كمال ربوبيته لعباده التربية التامة أنه أرسل إليهم رسله ، وأنزل عليهم كتبه ، ليعلموهم ويزكوهم ويخرجوهم من الظلمات إلى النور ، وأنه لا يليق بربوبيته وحكمته أن يتركهم سدى ، لا يؤمرون ولا ينهون ، ولا يثابون ولا يعاقبون .
ويفهم من الآية الكريمة الفرق بين الأنبياء الصادقين ، وبين من يدعي النبوة من الكاذبين ; فإن الأنبياء يصدق بعضهم بعضا ، ويشهد بعضهم لبعض ، ويكون كل ما جاءوا به متفقا لا يتناقض ، لأنه من عند الله ، محكم منتظم ، وأما الكذبة فإنهم لا بد أن يتناقضوا في أخبارهم وأوامرهم ونواهيهم ، ويعلم كذبهم بمخالفته لما يدعو إليه الأنبياء الصادقون .
فلما بين تعالى جميع ما يجب الإيمان به ، عمومًا وخصوصًا ، وكان القول لا يغني عن العمل ، قال : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أي : خاضعون لعظمته ، منقادون لعبادته بباطننا وظاهرنا ، مخلصون له بذلك ; فإن تقديم المعمول على العامل يدل على الحصر .
فهذه الأصول المذكورة في هذه الآية قد أمر الله بها في كتابه في عدة آيات من القرآن إجمالًا وتفصيلًا ، وأثنى على القائمين بها ، وأخبر بما يترتب عليها من الخير والثواب ; وأنها تكمل العبد وترقيه في عقائده وأخلاقه وآدابه ، وتجعله عدلًا معتبرًا في معاملاته ، وتوجب له خير الدنيا والآخرة ، ويحيا بها الحياة الطيبة في الدارين ، وتجلب له السعادتين ، وتدفع عنه شرور الدنيا والآخرة ، وقد أخبر في هذه السورة أن الرسول والمؤمنين قاموا بهذه الأصول علما وتصديقا وإقرارًا ، وعملًا ودعوةً وهدايةً وإرشادًا ، فكتب أهل العلم المصنفة في العقائد كلها تفصيل لما في هذه الآية الكريمة .
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تعليق