إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

تفسير جزء عم - د. محمد الخضيري

تقليص
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #16
    رد: تفسير جزء عم - د. محمد الخضيري



    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
    حيَّاكم الله مشاهديَّ الكرام، حيَّا الله الإخوة الحضور معنا في هذا الاستوديو.
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
    حيَّاكم الله جميعًا في حلقة جديدة ودرس جديد من دروس التفسير في هذه الأكاديمية الإسلامية المفتوحة.
    معنا اليوم -بإذن الله- ثلاث سور من قصار المفصل، هي سورة العلق وسورة القدر، وسورة البينة، أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يعيننا على إتمامها، كما أسأله أن ينفعنا بها وبسائر كتابه العظيم.
    سورة العلق، هذه السورة الكريمة تتميز بميزة عن سائر سور القرآن، فما هي في نظركم؟ ما هي الميزة التي تتميز بها سورة العلق؟
    {أول ما نزل من القرآن}.
    نعم، إن فيها خمس آيات من أولها هي أول ما نزل من القرآن، وهذا هو الصحيح بلا إشكال، وما ورد مما يدل على أن غيرها قد حظي بالأولية، فإنما المراد به أولية مقيدة، كالأولية التي ذكرها جابر بن عبد الله في سورة المدثر فإنما المقصود بها أول سورة نزلت بعد فتور الوحي.
    قال: «فجاءني الملك الذي جاءني في غار حراء»، أو كما قال -عليه الصلاة والسلام.
    هذه السورة الكريمة تسمى سورة العلق، وتسمى سورة اقرأ، واقرأ بسم ربك، هذه أسماء لهذه السورة الكريمة.
    وهي سورة مكية بلا إشكال، لماذا؟
    لأنها أول سورة أنزلت، أو لأنها السورة التي فيها آيات هي أول ما أنزل من القرآن، ولا شك أن أول ما أنزل من القرآن هو بمكة وليس بالمدينة.
    هذه السورة الكريمة تسمى سورة العلق، وسورة اقرأ، نزلت بمكة، وعدد آياتها كما يبدو لنا الآن -إن شاء الله- تسع عشرة آية.
    أما محور هذه السورة فهو عن أساس هذه الدعوة، وهي كرامة الله -عز وجل- للإنسان بالوحي الذي أنزله عليه، وأنه لا يصده عن هذا الوحي إلا الطغيان، لأنه بيِّن وظاهر وجلي، وكل مَن يقرأ ويتلو سيدرك أن هذا هو الحق ولا إشكال فيه.
    ولذلك قال الله -عز وجل: ﴿اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾، هذا كتاب جاء بالعلم، جاء بالبينات والهدى.
    ثم قال: ﴿كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾، يعني ما يصده عن الإيمان إلا طغيانه، وما يجعله يطغى إلا استغناؤه، فإذا استغنى بما عنده من المقدرة أو المال، أو ما يراه من العلم الذي أوتيه واستعلى به، ردَّ الحق ولم يقبله.
    فالله -عز وجل- يُبين لنا السبب الأكبر في إعراض أكثر الخلق عن قبول الحق، وهو الطغيان الذي سببه الاستغناء، أن يشعر الإنسان بأنه مستغنٍ، ليس بحاجة إلى شيء، هذا محور هذه السورة فيما أرى.
    أما مناسبة السورة: فنلاحظ أن الله -عز وجل- في سورة التين بيَّن تكريم الإنسان، ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: 4]، هذا تكريمه في بدنه، وأن الواجب عليه أن يشكر هذه النعمة التي أنعم بها عليه عندما حسَّن خلقه، فإما أن يكون مؤمنًا، وإما أن يكون كافرًا، وأكثر الناس يكونون كافرين، كما قال: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [التين 4، 5]، وهؤلاء قليل ما هم.
    وفي هذه السورة يأتي مرة أخرى إلى قضية التكريم، فالله -عز وجل- كرمنا بأعظم كرامة، في سورة التين كرامة الخِلقَة، وفي هذه السورة كرامة الوحي، أنزل علينا هذا الوحي الذي يُتلى، وأمرنا بالقراءة وبالعلم، فكرامة الإنسان به.
    ثم بيَّن صنفًا من الناس يُعرض ويستكبر، بل ويصد عن دين الله، ويؤذي الدعاة إلى الله -عز وجل.
    وما هو المخرج مع هؤلاء؟
    ﴿كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾.
    نأتي الآن إلى هذه السورة الكريمة آية آية -نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بها.
    يقول الله -عز وجل: ﴿اقْرأْ﴾، هذه أول كلمة نزلت من القرآن، ﴿اقْرأْ﴾، أمر بالقراءة، وهذا يدلنا على أن الإنسان لا يزال بخير ما دام يقرأ، لكن ﴿اقْرأْ﴾ أي شيء؟
    ﴿اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾، أي مستعينًا باسم ربك الذي خلق.
    ﴿بِاسْمِ رَبِّكَ﴾، أي تقول: بسم الله.
    ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾، خلق كل شيء، ومنه خلق الإنسان.
    ولذلك قال بعد أن أطلق خصَّص فقال: ﴿خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾.
    خلق الإنسان من قطعة دمٍ جامدة، لأن الإنسان يبدأ نطفة، هذه النطفة تتخلق فتصبح بعد أن كانت نطفة علقة، وسميت علقة لأنها تعلق في جدار الرحم، وهي -سبحان الله- في هذا الطور تشبه العلقة التي هي دويدة صغيرة أو حشرة صغيرة تعيش في الماء، حتى إن أحد كبار علماء الطب في هذا العصر أو علماء الأجنة تعجب من هذا الاسم لهذه المرحلة، وقال على أي شيء؟ قالوا: إنه على هذه الدويدة التي تعيش في الماء.
    فنظر إليها وقال: ما شيءٌ من مخلوقات الله يشبه الجنين في هذه المرحلة مثلها، وهي مرحلة العلقة.
    قال: ﴿خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ﴾، كرر الأمر تأكيدًا واهتمامًا بشأن القراءة، فمن قرأ عَلِم، من قرأ اهتدى، من قرأ ما ينفع وخصوصًا ما أنزل عليه من وحي ربه لا شك أنه سيصل إلى الحق.
    قال: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ﴾، وهذا من كرم الله، كرم الله على عبده أن علمه القراءة، من كرم الله على عبده أن أنزل عليه هذا الوحي.
    قال: ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾، أيضًا هذا لونٌ من ألوان كرم الرب -سبحانه وتعالى- أن أعطانا علم القلم.
    علم القلم -يا إخواني- هو العلم بالكتابة، فنحن ندوِّن المعلومات، وندوِّن الوحي، ونحفظ التواريخ، ونحفظ الحقوق بهذا القلم، فلولا أن الله خلق هذا القلم، لأصبح الناس كالبهائم، لا ينبني تاريخ البشرية بعضه على بعض، فنحن الآن نقرأ في كتب المتقدمين ونستفيد منها معلومات، أو نبني عليها مكتشفات ومخترعات وأمور كثيرة جدًا.
    وأيضًا توثيق الحقوق، لولا أن الله خلق لنا هذا القلم ما توثَّقت الحقوق، فاعتدى بعض الناس على بعض، ولا عرف هذه السيارة يملكها فلان، ولا هذه الأرض يملكها فلان، وهذا البستان يملكه فلان، وهذا الكتاب لفلان وليس لفلان، الذي يوثق ذلك هو القلم، ولذلك هذا الكتاب العظيم الذي أنزله الله على محمد -صلى الله عليه وسلم- وُثِّق بطريقتين:
    - طريقة القراءة والتلاوة والتلقي.
    - وطريقة الكتابة.
    ولا تقبل إحدى الطريقتين إلا بالأخرى، فهما شاهدا عدلٍ على هذا الكتاب، ولذلك كان الصحابة لا يقبلون مكتوبًا إلا وأن يكون معه شيء مقروء، ولا يقبلون مقروءًا إلا معه شيء مكتوب، وبهذا جمعوا المصحف بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم.
    وقد جمعهم الله في هذه الآيات، قال: ﴿اقْرأْ﴾، ثم قال: ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾، أي علم الإنسان علومًا لم يكن له بها علم.
    وأنتم ترون، أمس ما كان الناس يعرفون مثل هذه الأجهزة، اليوم يرونها ويلمسونها، ويستطيعون من خلالها الاتصال بالعالم كله، يقضون حوائجهم، ويصلون إخوانهم وأقاربهم من خلال جهاز كأنه نافذة على العالم تطل منه على أخيك الذي يعيش في أمريكا، وقريبك الذي يعيش في اليابان، هذا علم، من أين؟ من الله، هو الذي علم الإنسان ما لم يعلم.
    كنا فيما مضى لا يستطيع أحد أن يتصور أنك خلال ساعة أو ساعتين تصل إلى مكة، أو تصل إلى دولة أخرى مجاورة، ولكن تحتاج إلى أيام وليال حتى تصل إلى البلد الذي تريده.
    اليوم تجد الرجل يتعشى أو يتغدى في بلد، ثم يتصل عليك في وقت العشاء وهو في بلد آخر يبعد عنك بخمس أو ست أو عشر ساعات. كيف يكون هذا؟ هذا بتعليم الله -عز وجل.
    فهذا العلم الذي يحصل عليه الناس ما هو إلا من الله، وليس بجهد الإنسان وحده، إنما جهد الإنسان سبب للوصول إلى العلم الذي يكون من الله -سبحانه وتعالى.
    ولذلك -يا إخواني- كثير من الاكتشافات تأتي قريب من الصدفة، هو توفيق إلهي، يهدي الله العباد إليه، يعني هذه السَّماعة التي للطبيب ما كان الأطباء يعرفونها، كيف عرفوها؟
    يقال أن مريضة جاءت وهي فتاة إلى الطبيب، فكان الطبيب أراد أن يكشف على قلبها، فأبت حياءً، فمن أجل أن يراعي وضعها لفَّ ورقة ثم وضعها على الصدر وبدأ يستمع إليها، فوجد أن الصوت يأتي بشكل أكثر وأوضح، فبدأ اكتشاف سماعة القلب التي لا يستغني عنها طبيب.
    حتى هذا البلاستيك، يقول بعضهم أن سبب اكتشافه قط، كان هناك مادتان موضوعتان في أحد المختبرات، وكانت هناك قطة، فسكبت إحدى المادتين على الأخرى فتكونت مادة البلاستيك، فتعجب الموجودون في المختبر من هذه المادة، ثم بعد ذلك أجروا عليها اختبارات وعرفوا أين تستعمل، وصارت الآن استعمالاتها واسعة لا يكاد الناس يستغنون عنها.
    طيب، ﴿عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾.
    ثم قال الله -عز وجل: ﴿كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى﴾، ﴿كَلاَّ﴾ هنا يمكن أن تكون بمعنى الردع والزجر، والأرجح عندي أنها بمعنى حقًا، لأن ﴿كَلاَّ﴾ تأتي في القرآن بمعنى حقًا، وتأتي في القرآن بمعنى الردع والرَّد والزَّجر، فإن جاء قبلها كلام يرد فهي بمعنى الرد، وإن لم يأت قبلها كلام يُرد فهي بمعنى حقًّا.
    إذن ﴿كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى﴾ معناه: حقًّا إن الإنسان ليطغى.
    وقوله: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى﴾ هل المراد به عموم الناس؟ أو المراد به الإنسان الكافر؟ لا شك أن الكافر هنا مقصود، لكن هل العموم مقصود؟
    عموم الآيات يدل على أن المقصود بها هو الإنسان الكافر الذي يطغى فلا يعبد الله، بل يتجاوز الحد فيعتدي على عباد الله ويؤذيهم وينهاهم عن الصلاة، ويصدهم عن دين الله.
    قال الله: ﴿كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى﴾، كيف يطغى؟
    الطغيان هو: تجاوز الحد، ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَا المَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الجَارِيَةِ﴾ [الحاقة: 11]، الطغيان هو تجاوز الحد.
    فمعنى قوله ﴿لَيَطْغَى﴾، يعني يتجاوز حدَّه، فهو لا يكتفي -والعياذ بالله- بأن ينظر في الأدلة التي تأتيه من الأنبياء، بل يتجاوز الحد إلى ردها، ثم يتجاوز حده أكثر وأكثر إلى أن يدعو الناس إلى ضدها، وأن يكذب بها، وأن يسعى في صد الناس عن دين الله -عز وجل.
    ﴿كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾، أي بأن رآه استغنى، بسبب أن رأى نفسه قد استغنى.
    لاحظوا -يا إخواني- دقة التسبيب القرآني، يعني سبب الطغيان هو أن الإنسان يرى نفسه قد استغنى، لا حاجة له بأحد، لا بالله، ولا بأحد، فهذا يورثه الطغيان، وإذا أورث الطغيان ردَّ البرهان، وتعدى على الدليل، لو جاءته أكبر حجة من الله ما قبلها ما دامت تخالف هواه وشهوته.
    ولذلك قال: ﴿أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾، أي بسبب استغنائه طغى.
    لكنه قال: "أن اغتنى"، لا ما يمكن هذا، فكم من إنسان يكون غنيًّا، ولكنه في النهاية لا يطغى، قد يكون غني بماله وقد يكون غني بجاهه، قد يكون غني بهما وبغيرهما، وقد يكون غني بعلمه، لكن لا يطغى. لماذا؟ لأنه لم يستغنِ عن الله، لم يستغنِ عن قبول الحق، لم يستغنِ عن الرجوع إلى العلماء، لم يستغنِ عن النظر في البراهين والأدلة.
    قال: ﴿أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾، ولذلك الكافر من أين يؤتى؟ إذا رأى أن هذا المال ماله، وأن هذا الجاه والمنزلة التي حصلها، والصحة التي هو فيها هي ملكه ومنه وبسبب من جهد، هنا يبدأ الطغيان.
    قال الله -عز وجل: ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾ هذا تحذير من الله -عز وجل- لعباده جميعًا، يعني إن إلى الله المرجع والمصير.
    فالرجعى: هي الرجوع، فأنتم أيها العباد راجعون إلى الله، وإذا كنتم راجعين إلى الله، فلابد أن تتأهبوا للقاء الله، وتعلموا أنه لا يغنيكم شيء عن الله، لا يغنيك شيء في طريقك إلى الله إلا ما أوحاه الله إلى عباده وما كلفهم به، فتذكروا.
    وأعظم مصيبة يُصاب بها الإنسان في حياته وتصيبه في مقتل هو نسيانه للآخرة، فإذا نسي الآخرة طغى، وإذا نسي الآخرة ظلم، وإذا نسي الآخرة لم يستعد بشيء من الأعمال الصالحة، وصار همه أن يشبع لذاته وشهواته ولا يفكر في شيء آخر.
    قال: ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾.
    ثم ذكر نموذجًا لهؤلاء الطغاة الذين يرى الواحد منهم نفسه مستغنيا عن الله، وقد نسوا الرجعى أو كذبوا بالرجعى، قال: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى﴾، أرأيت هذا الشخص الذي ينهى عبدًا إذا صلى؟!
    أرأيت: أعلمت، أو أرأيت: أرأيته حقًّا. تصلح هنا أن تكون بصرية وأن تكون أيضًا علميَّة.
    ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى﴾ أرأيت هذا الشخص الذي ينهى، ينهاه عن ماذا؟
    ﴿عَبْداً إِذَا صَلَّى﴾، ينهاه عن ماذا؟ ينهاه عن الصلاة، رجل يصلي لله فينهاه عن الصلاة.
    وهذه الآيات نزلت -كما يقول المفسرون- في أبي جهل، عندما كان يرى النبي -صلى الله عليه وسلم- يسجد عند الكعبة فكان ينهاه عن السجود، حتى إنه جاء إليه مرة فأراد أن يضع قدمه على عنق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما أقبل نكص نكوصًا شديدًا، فقال له الناس: مالك يا أبا الحكم؟
    فقال: والله لقد رأيت شيئًا مهولًا -أو كما قال.
    ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى﴾، ألا تعجب منه؟! كيف ينهى عبدًا إذا صلى؟! مالك وماله؟ إذا كنت أنت لا ترغب في الصلاة ولا تريدها، فما الذي يحملك على أن تنهى عبدًا إذا صلى؟
    قال: ﴿أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الهُدَى﴾، أرأيت إن كان هذا الذي تنهاه على الهدى، أي قد استقام على الهدى؛ لأنه موحد لله قد جاء بالحق يعبد الله وحده، لا يشرك معه أحدًا سواه.
    قال: ﴿أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى﴾، هو يأمر بالتقوى، يأمر بطاعة الله، يأمر ببر الوالدين، يأمر بتوحيد الله، ينهى عن الشرك، يأمر بصلة الأرحام، يأمر بالصدقة على الفقراء والمساكين، برحمة الأيتام.
    ﴿أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾، أي إن كذب هذا الناهي بالحق، وتولى: أي أعرض.
    ﴿أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾، ألم يعلم بأن الله -سبحانه وتعالى- يطّلع عليه ويرى، ولا تخفى على الله من عمله خافية؟!
    وهذه آية يصح لنا -يا إخواني- أن نعظ أنفسنا بها، ﴿أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾، بلى والله إن الله يرى.
    فنحن نقول لهذا الظالم، ولذاك الذي يصد عن سبيل الله، ولذاك الذي يضع العراقيل أمام الدعاة إلى الله -عز وجل: ﴿أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾، الله يراك وأنت تفعل ما تفعل إرضاءً لسياسة ما، أو طاغوت ما، أو دولة من دول الكفر، أو غير ذلك.
    ﴿أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾، فالله يراك ومطّلع عليك، ولن تفلت من قبضته، ولن تستطيع الخروج من عقوبته.
    قال الله -عز وجل: ﴿كَلاَّ﴾، هذه ﴿كَلاَّ﴾ يا إخواني ليست كالأولى، الأولى جاءت وليس قبلها كلام أو فعل يُنكر، أما هذه جاءت وقبلها فعل يُنكر، وهو ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى﴾، قال الله -عز وجل: ﴿كَلاَّ﴾ ردع وزجر لهذا الناهي الذي ينهى عبدًا إذا صلى.
    ﴿كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ﴾ عما هو عليه من نهيه لذلك العبد -وهو محمد -صلى الله عليه وسلم- عن الصلاة عند البيت، وأمره بتقوى الله -سبحانه وتعالى-، لئن لم ينته عن فعله، ﴿لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ﴾، ﴿لَنَسْفَعاً﴾ هذه قسم، اللام لام القسم.
    نسفعًا: أن لنأخذن هذا الناهي أخذًا شديدًا من ناصيته، والسَّفع يُطلق ويُراد به الجذب بشدة.
    ﴿لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ﴾، أي لنجذبنه جذبًا شديدًا من ناصيته، وهذا عنوان تحقيره وإذلاله، ﴿لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ﴾.
    والناصية: هي مقدمة الرأس.
    قال: ﴿نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾، وصف هذه الناصية وأراد صاحبها، بأنها كاذبة تكذب، وخاطئة أي آثمة، لأن خاطئ بمعنى آثم، بخلاف مخطئ، لأن مخطئ من الرباعي، أخطأ فهو مخطئ يعني فعل الشيء عن غير قصد. أما خاطئ فهو مأخوذ من خطئ أي فعل الشيء قاصدًا فهو خاطئ.
    ولذلك قال الله -عز وجل: ﴿إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً﴾ [الإسراء: 31]، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «من احتكر فهو خاطئ»، أي آثم.
    قال: ﴿كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾، أي آثمة.
    في هذا الموطن -يا أحبابي- وصف الناصية بأنها كاذبة وخاطئة، فالعلماء يقولون: يُراد من ذلك صاحبها، وهذا لا شك في صحته.
    لكن هل يمكن أن توصف الناصية بالكاذبة والخاطئة؟
    هذا الآن شيء اكتشفه الناس الآن، وهو أن الناصية هي محل الأعمال الخُلُقيَّة، والتصرفات السلوكيَّة، فمحل الكذب الصدق والحياء والكرم والشجاعة وكل الأخلاق، محلها هي هذه الناصية، ما يسمى بالفص الأمامي من المخ، هو المسئول عن سلوكيات الإنسان.
    إذن فنسبة ذلك إلى الناصية لم يأتِ لمجرد الدلالة على الذات؛ بل المراد به ماذا؟ المراد به شيئًا أخص، وهو أن الناصية هي محلٌّ لهذا الأمر.
    كيف اكتشفوا؟
    يقال أن رجلا أصيب بحادث سيارة فتهشمت جمجمته من مقدمة الرأس فعولج، وبعد خروجه من العلاج تبين أنه سليم سلامة تامة إلا أنه من النواحي الأخلاقية تغيَّر، فالأطباء سجلوا هذه الملاحظة، ثم حصلت مرة ثانية مع مريض آخر، ثم حصلت مرة ثالثة، فاكتشف الأطباء أن هذه المنطقة مسئولة عن الجانب السلوكي والخلقي لدى الإنسان.
    ثم وجدوا هذا الأمر في القرآن، وهو دلالة القرآن على أن هذه الناصية هي محل الكذب، وتعمد الإثم، والسلوكيات الخاطئة.
    قال الله -عز وجل: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ﴾، لأنهم لما قالوا أن محمدًا يهددك أو كذا. قال: كيف يهددني محمد وأنا أكثر أهل الوادي ناديًا، يعني مجلسًا يجلسه الناس وينتدون فيه.
    قال الله -عز وجل: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾، أي الملائكة، ملائكة العذاب يسمون زبانية.
    والزبن مأخوذ من الدفع، ومنه الزبون لأنه يدفع عن نفسه الثمن الغالي، كما أن البائع يدفع عن نفسه الثمن الرخيص، كل واحد منهم يدفع من جهة، فسمي زبونًا.
    قال: ﴿سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾ لأنهم يدفعون الكفار إلى النار دفعًا.
    قال: ﴿سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾، أي ملائكة العذاب.
    ثم قال الله -عز وجل: ﴿كَلاَّ﴾، ليس الأمر كما يقوله هذا المشرك الكافر الناهي للعبد إذا صلى.
    ﴿لاَ تُطِعْهُ﴾، فيما يقول لك، ما يأمرك به.
    ﴿وَاسْجُدْ﴾ لله -عز وجل- وحده، يعني إن أمرك بالسجود للصنم أو عبادة الصنم وتقديسه فلا تطعه في ذلك، بل اسجد لله واقترب من الله.
    وكلمة ﴿ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾ فسرها النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء، قمننٌ أن يستجاب لكم».
    فمن مواطن الإجابة العظيمة هي موطن السجود، وهذا متاح لكل إنسان في عامة الأوقات.
    هذه الآية إذا قرأها الإنسان يسجد، وهذا ما يسمى بسجود التلاوة، فإن كان في الصلاة كبر عند الهوي للسجود وكبر عند الرفع من السجود، وإن كان خارج الصلاة كبر للسجود ثم رفع بلا تكبير ولا سلام.
    ماذا يقول في السجود؟
    يقول: سبحان ربي الأعلى، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «اجعلوها في سجودكم»، ثم يقول: «سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته فتبارك الله أحسن الخالقين»، ثم إن شاء زاد بقوله: «اللهم اكتب لي بها أجرًا، وضع عني بها وزرًا، واجعلها لي عندك ذخرًا، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود». وهذه آخر سجدة في القرآن من سجدات التلاوة التي اختلف هل هي إحدى عشرة أو أربع عشرة أو خمس عشرة، والمسجل الآن في المصحف لدينا خمس عشرة سجدة.
    طيب، ننتقل بعد ذلك إلى سورة القدر، هذه السورة -يا إخواني- اسمها: سورة القدر، أو إنا أنزلناه في ليلة القدر.
    والقدر مأخوذ من:
    - إما من التقدير، وهو أن الله يكتب في تلك الليلة مقادير الخلائق إلى عام، مقادير الخلق إلى عام، وهذا ما يسمى عن علماء العقيدة "التقدير الحولي"، لأن هناك تقدير شامل كوني، وهناك تقدير عمري وهو الذي يكون عندما ينزل الملك فيكتب للعبد أجله وعمره وشقي وسعيد، وتقدير حولي وهو الذي يكون في ليلة القدر، وتقدير يومي وهو الذي جاء في قول الله -عز وجل: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرحمن: 29].
    - وإما أن تكون من القَدْر وهو من الشرف والمنزلة، يقال: فلان ذو قدرٍ أي شرف ومنزلة.
    ولا مانع من اجتماع المعنيين في هذه الليلة، فهي ليلة ذات شرفٍ ومنزلة، وهي ليلة يكون فيها التقدير الحولي.
    أين نزلت؟
    اختلف هل هي مكية أو مدنية، بعض العلماء يرى أنها مكيَّة، والأظهر أنها مدنية؛ لأن الحديث عن ليلة القدر وشرفها ومنزلتها، وصيام رمضان ما يتصل به إنما جاء في المدينة، فالجمهور على أنها مدنية.
    عدد آياتها -كما تشاهدون الآن- خمس آيات، ولم يختلفوا في ذلك.
    أما محور سورة القدر فهو الحديث عن فضل ليلة القدر.
    وما مناسبتها؟
    في السورة الأولى تحدث عن إكرام الله للناس بهذا القرآن، وفي هذه السورة يتحدث عن تشريف الله لهذا القرآن بأن جعل الليلة التي نزل فيها هي خير الليالي في العام كله، فهي أفضل ليلة على الإطلاق، وهذا من تشريف الله للقرآن.
    يقول الله -عز وجل: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ﴾، ﴿إِنَّا﴾، هذا حديث المعظم نفسه، والله -سبحانه وتعالى- هو العظيم حقًّا، فهو يتحدث عن نفسه بأسلوب المعظِّم، وهذا من الأساليب العربية المعروفة.
    ﴿إِنَّا﴾ ، إنما يذكرها الرب -سبحانه وتعالى- ليبيِّن أن الذي يفعله ويخبرنا به شيء عظيم جدًا.
    قال: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ﴾، ﴿أَنزَلْنَاهُ﴾، الضمير هنا يعود إلى أي شيء؟
    ليس هناك شيء مذكور قبل هذه الكلمة يعود إليه الضمير، لكن العلماء يقولون: "كل ضمير لم يذكر ما يعود عليه، فهو عائد على القرآن إلا أن يدل دليل على خلاف ذلك"، هذه قاعدة من قواعد القرآن.
    فقوله: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾، أي القرآن، أي هذا الكلام الذي أنتم تقرؤونه.
    ﴿فِي لَيْلَةِ القَدْرِ﴾، أي في الليلة التي تسمى ليلة القدر، إما من الشرف والقدر والمنزلة، وإما من التقدير.
    قال الله -عز وجل: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القَدْرِ﴾، لاحظوا -يا إخواني- إنزال القرآن في الليل له دلالة على أن الأصل في القرآن أن يكون له الليل، وأما النهار فيكون للناس.
    قال: ﴿يَاأَيُّهَا المُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً﴾ [المزمل 1-7]، فالأصل في النهار أن يكون لمعاش الإنسان وإصلاح أحواله الدنيوية، والأصل في الليل أن يكون للقرآن ولحياته الروحية.
    قال: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القَدْرِ﴾، هذا الأسلوب مرَّ بنا في جزء عم كثيرًا يدل على التفخيم والتعظيم، أي شيء هذه الليلة؟ إنها شيء عظيم.
    ثم بينها فقال: ﴿لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾، هذه الليلة خير عند الله -سبحانه وتعالى- من ألف شهر، فمن عمل فيها عملًا صالحًا وُزن له عند الله بأكثر من ألف شهر، وهذا يساوى أكثر من عمر الإنسان المعتاد في أمة محمد، لأن ألف شهر ثلاثة وثمانين عام وأربعة أشهر، فمن يعمل في تلك الليلة ويصدق في العمل فيها يؤتيه الله -سبحانه وتعالى- عمرًا وزيادة، كأنه عاش عمرًا كاملًا وزيادة.
    ولذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتحرى هذه الليلة، فإذا دخلت عليه العشر الأخيرة من رمضان شدَّ المئزر وأحيى الليل، واجتهد اجتهادًا عظيمًا من أجل أن يدركها حتى يدرك هذه الفضيلة.
    قال: ﴿لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾، بعض الناس يخطئ فيقول: تعدل عند الله ألف شهر، لا، هي خير من ألف شهر.
    قال مبينًا بعض فضائلها: ﴿تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا﴾، أي في هذه الليلة تنزل الملائكة ملائكة السماء، وينزل الروح وهو جبريل، لأنه يذكر في القرآن كثيرً بهذا الوصف، قال: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ﴾ [الشعراء 193، 194].
    ﴿وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم﴾، أي بمشيئة الله، فهم لا ينزلون من تلقاء أنفسهم، بل إنهم لا يفعلون شيئًا إلا بأمر ربهم، وهذا يدل على أن الملائكة قوم منظمون، وخلق مرتَّبون، ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- يحثُّ الصحابة: «ألا تصفُّون كما تصفّ الملائكة عند ربها؟». قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: «يتراصون في الصف، ويتمُّون الصف الأول فالأول»، أو كما قال -عليه الصلاة والسلام.
    قال: ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ﴾، أي ينزلون بكل أمر يأمرهم لله بالنزول فيه، وهي هذه المقادير التي يؤمرون بالنزول بها.
    ثم قال مبينًا فضيلة من فضائلها: ﴿سَلامٌ﴾، أي هي سلامٌ، فهي ليلة كلها سلام وخير لأهل الإيمان، وأيضًا تُسلم فيها الملائكة على كل ملأ تمر به من المؤمنين، ما مرُّوا بملأ من المؤمنين إلا سلموا عليهم، دعوا لهم بالسلامة، يقولون: السلام عليكم، السلام عليكم.
    قال: ﴿سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ﴾، يعني هي سلام حتى يطلع فجرها، فليلة القد لا تنتهي الساعة الثانية عشر ليلًا، ولكنه تنتهي بطلوع الفجر، وهكذا كل ليلة، إذا قيل ليلة فإنما ينتهي الليل عندنا بطلوع الفجر، وهذا مخالف للنظام الآن العالمي المُحدَث الذي يجعل الصباح يبدأ من الساعة الثانية عشرة ليلًا، الصبح عندنا يبدأ بطلوع الفجر.
    هذه سورة القدر، وننتقل بعد ذلك إلى سورة البيِّنة.
    {شيخ -أحسن الله إليك- هناك قول يقول أن قول الله تعالى: ﴿لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾، يعني ألف شهر في لياليها ليلة القدر. هل هذا الكلام صحيح؟}.
    لا، يقولون: خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.
    {إذن هذا القول ضعيف}.
    ما نعرفه.
    طيب، السورة الأخيرة معنا هي سورة البينة، هذه لها عدة أسماء، أو ستة أسماء، لعلكم تلاحظون في أول آية، تسمى سورة لم يكن، وتسمى سورة المنفكين، وتسمى سورة أهل الكتاب، وتسمى سورة البينة، وتسمى سورة القيِّمة.كم صار من اسم؟ خمسة.
    وتسمى أيضًا .... هذه الآن هي التي تحضرني، والاسم المشهور: لم يكن، والبينة.
    هذه السورة -يا إخواني- نزلت في المدينة، وذكر أهل الكتاب يدل على أنها سورة مدنية، ولما نزلت جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فقرأها على أبي بن كعب، قال: «إن الله أمرني أن أقرأها عليك». قال: أوَ سمَّاني لك؟ قال: «نعم»، فبكى أبيٌّ -رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
    أما عدد آيتها: فكما ترون ثمان آيات.
    وأما محور هذه السورة: فهو إقامة الحجة على أولئك الذين كفروا بهذه الرسالة، فالله -عز وجل- يقول: كيف لما جاءكم رسول الله ومعه هذه الصحف المطهرة كذبتم به، وأنتم كنتم قبل ذلك تقولون: متى بُعث هذا النبي آمنَّا به، فما الذي تستغربون من حاله؟ ما الذي أنكرتم من شأنه؟ هل جاء يدَّعي الألوهية حتى تنكروا شأنه؟ هل جاء يأمركم بعبادة الأصنام حتى تنكروا شأنه؟
    ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ﴾، هذا هو الدين المستقيم بصاحبه إلى الله وإلى الجنة، فما الذي أنكرتم حتى كذبتم، وأنتم كنتم تقولون قبل أن يُبعث وقبل أن يأتي: لئن بُعث لنتبعنَّه، فهي إقامة الحجَّة والبيِّنة على أولئك الذين كذبوا برسول الله وليس عنهم حجة ولا بينة.
    قال الله -عز وجل: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ﴾، أي لم يكن الكفار من أهل الكتاب والمشركين منفكين.
    ﴿مِنْ﴾ هنا بيانية، لم يكن الكفار سواء من أهل الكتاب أو من المشركين منفكين عما هم عليه من الدين، تاركين ما كانوا عليه من الدين حتى تأتيهم البينة، لم ولن يتركوا ذلك الدين إلا أن تأتيهم بينة.
    ما هي هذه البينة؟ فسرها الله -عز وجل- بقوله: ﴿رَسُولٌ﴾.
    إذن معنى الآية على الصحيح من أقوال المفسرين -لأن فيها أقوالًا وأشكلت على بعض أهل التفسير- هذا هو القول الظاهر الواضح الذي يبدو من ألفاظ الآية: أنه لم يكن الكفار من مُشركي العرب عباد الأصنام، ولا من أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى -وإذا أطلق أهل الكتاب في القرآن فإنما يراد به هاتان الأمتان- لم يكن هؤلاء جميعًا تاركين ما هم عليه من الدين حتى تأتيهم البينة، وهكذا كان اليهود يقولون للعرب، وهكذا كانت النصارى تقول لمشركي العرب، وهكذا كان مشركو العرب يقولون: لو جاء رسول من عند الله لاتبعناه.
    ما هي هذه البينة؟
    قال: ﴿رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ﴾، أي مرسل من عند الله، ﴿يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً﴾، يقرأ صحفًا -جمع صحيفة، ﴿مُّطَهَّرَةً﴾، أي لا لغو فيها ولا كذب، ولا دنس، ولا شرك، ولا ظلم، ولا بغي، ولا عدوان، ولا كفر، ولا ذنب، ولا غير ذلك.
    قال: ﴿يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾، أي فيها مكتوب مستقيم، المكتوب الذي فيها لا عوج فيه، وهذا ما جاء به القرآن -يا إخواني- ما في القرآن شيء أمرنا به أو نهينا عنه يُخالف ما دلت عليه العقول.
    ولذلك أحد العرب لما أسلم، قالا: ما حملك على الإسلام؟
    قال: إني سمعت كلام هذا النبي، فما أمرني بشيء قال عقلي: ليته لم يأمر به، ولا نهاني عن شيء قال عقلي: ليته لم ينهني عنه.
    انظر! استدل على ذلك بالعقل السليم، وبالفعل كل ما أمر الله به في كتابه أو نهى عنه في كتابه يدل عليه العقل الصحيح.
    ولذلك قال: ﴿فِيهَا كُتُبٌ﴾، أي مكتوبات، ﴿قَيِّمَةٌ﴾ أي مستقيمة لا عوج فيها.
    ثم قال الله -عز وجل- مبينًا ما هو سبب نكوص أهل الكتاب عن الإيمان برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وما هو الذي جعلهم لا يؤمنون أو يختلفون، فمنهم من يؤمن ومنهم من يكفر، قال: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَذينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ﴾، قبل أن تأتي البينة -وهو الرسول- كانوا قبل ذلك يقولون: نحن ننتظر الرسول، ولئن بُعث ذلك النبي الخاتَم الذي نعرف خبره صفته في كتابنا سواءً التوراة أو الإنجيل، لنؤمنن به.
    فلما بعث وعلموا أنه رسول من عند الله تفرقوا، فماذا حصل؟ منهم من آمن ومنهم من كفر.
    تعالوا أيها الكافرون، ما الذي حملكم على الكفر؟ ماذا حصل؟ هل هذا الرسول الذي وُعدتم به لا تنطبق صفاته على هذا الرسول الذي بعث وهو محمد -صلى الله عليه وسلم؟ بلى والله إنها لتنطبق، لكنه الحسد والبغي والطغيان الذي امتلأت به قلوب هؤلاء -نسأل الله العافية والسلامة.
    ومثله المشركون، أبو جهل لما كفر ماذا قالوا له؟ قالوا: ما الذي يحملك وهذا الآن يأتي بكلام لا يستطيعه أحد من البشر، لا شاعر ولا كاهن، ولا ساحر، ولا بليغ، ولا أي شيء؟ فأفصح أبو جهل عن السبب، قال: "نحن وبنو عبد مناف كنا كفرسي رهان" -في جميع المجالات- قال: "حتى إذا كنا نحن وإياهم كفرسي رهان، قالوا: منَّا نبي وليس منكم نبي، لا والله لا نؤمن به حتى يُبعث جمل عبد المطلب". أو كلمة قالها.
    لاحظتم كيف يا إخواني؟
    إذن ما الذي حملهم على ذلك؟ الكبر، الحسد، البغي، ليس إلا، ليس لأن هذا الدين لم يأتِ بالبينات الظاهرات، ولا بالحجج الساطعات.
    ولذلك قال هنا: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَذينَ أُوتُوا الكِتَابَ﴾، فكان منهم المؤمن والكافر ﴿إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ﴾.
    ثم عجَّب منهم، فقال: تعالوا، ما الذي حملكم على الكفر؟ هل أمركم بشيء تستغربونه أو تستنكرونه عليه؟
    ﴿وَمَا أُمِرُوا﴾ أي في هذا الكتاب وفي تلك البينة ﴿إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾، هل في أمركم بعبادة الله بإخلاص لا شرك فيه يجعلكم لا تؤمنون به؟ لا يمكن.
    قال: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾، ما معنى حنفاء؟
    الحنيف يُطلق على الميل، الحَنَف هو: الميل. والحنيف هو مَن مالت رجله في أعلاها، ويُطلق هنا على مَن مالَ عن الشرك إلى التوحيد قصدًا.
    ولذلك: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِّلَّهِ حَنِيفاً﴾ [النحل: 120]، أي مائلًا عن الشرك قصدًا.
    ولذلك قال بعدها: ﴿حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾.
    قال: ﴿حُنَفَاء﴾، أي مائلون عن الشرك، ﴿وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ﴾، يؤدوها مقيمين لها، ﴿وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ﴾.
    وكل الأديان التي جاءت بها الأنبياء قد جاءت بهذه، الأمر بعبادة الله خالصًا، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فماذا أنكرتم على محمد حتى تكذبوا به وحتى تشكُّوا في رسالته؟
    ثم تحدَّث عن مآل أولئك الذين كفروا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبالبينة التي جاء بها، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا﴾، ها جزاؤهم.
    لماذا جزاؤهم هذا؟ لأنهم قد جاءتهم الحجة والبينة فكذبوا بها من غير بينة، فجزاؤهم هذه النار خالدين فيها.
    لاحظوا -يا إخواني- حكم عليهم بالكفر، ونحن نحكم بالكفر على كل مَن لم يؤمن برسول الله وقد بلغته دعوة رسول الله، نحكم بالكفر ولا نقول: لا، هؤلاء إخواننا في الإنسانية، وفي الآخرة جميعًا في الجنة. هذا الكلام قد أوضحه القرآن بأوضح بيان، فلا داعي لأن يجتهد إنسان أو يتكلم إنسان بخلاف ما جاء في القرآن.
    قال: ﴿أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ البَرِيَّةِ﴾، أي شرُّ الخليقة.
    ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، آمنوا وقرنوا مع الإيمان العمل الصالح، ﴿أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ﴾، أي خير الخليقة.
    ثم قال: ﴿جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾، ولاحظوا كيف قدَّم العندية، لماذا؟ لأن ظفرهم بقربهم من الله أحب إليهم من الجنة، ولذلك قال: ﴿جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾، أي جنات إقامة واستقرار ومكث.
    ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً﴾، أي خلودًا أبديًّا لا انقضاء له ولا انقطاع.
    ﴿رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾، رضي الله عنهم، وهم رضوا عنه لما رضي عنهم وأرضاهم، ورضوا عنه.
    ﴿ذَلِكَ﴾، أي الجزاء، ﴿لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾، أي خاف الله -عز وجل- بعلم.
    والفرق بين الخوف والخشية:
    - أن الخشية خوف بعلم.
    - وأما الخوف لا يلزم منه العلم.
    قال: ذلك الجزاء لمن خشي به، آمن برسول الله، وصدق بدين الله، خائفًا من عقاب الله -عز وجل-، متقيًا لله -عز وجل- في طاعته وفي أمره ونهيه، وفي استقامته على درب الدين.
    يقول أيمن عبد الفتاح: السلام عليكم. ما الفرق بين "أنزلناه" و"نزَّلناه"؟
    أنزلناه: يقول كثير من العلماء أنها تأتي في القرآن للنزول الجُملي، ونزَّلناه: تأتي للنزول المفرَّق.
    ولذلك في قوله: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ﴾ [القدر: 1]، الصحيح: أن هذا المقصود به نزول القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، وهذا ما ورد عن ابن عباس بأسانيد صحيحة، وحكى بعض العلماء الإجماع على ذلك.
    فالقرآن له نزولان:
    - نزول جُملي.
    - ونزول مُفرق.
    نزل جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ونزل بعد ذلك نزولًا مُفرَّقًا، ألقاه الله -عز وجل- على جبريل، وجبريل حمله إلى محمد -صلى الله عليه وسلم.
    أم فايق من مصر تقول: أريد أن أعرف ما معنى ﴿فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: 29].
    هذا أسلوب من أساليب التهديد، ﴿وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: 29]، ففيها بيان أن الإنسان يؤمن ويكفر بمشيئة أعطاها الله إياها، لكنه أسلوب من أساليب التهديد لأنه قال بعدها: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الوُجُوهَ﴾.
    أشكر أيمن وأم فايق على أسئلتهم وتجاوبهم، وأسأل الله -سبحانه وتعالى- أن ينفعنا وإياهم وإياكم جميعًا بالقرآن العظيم.
    أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    تعليق


    • #17
      رد: تفسير جزء عم - د. محمد الخضيري




      تفسير جزء عمَّ
      د. محمد الخضيري
      الدرس (17)
      سور: الزلزلة، والعاديات، والقارعة
      السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
      إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
      وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
      حيَّاكم الله مشاهديَّ الكرام، وحيَّا الله الإخوة الحضور معنا في هذا الاستوديو في الأكاديمية الإسلامية المفتوحة، وفي حلقة من حلقات دروس التفسير -نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا جميعًا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته.
      وقد وصلنا في تفسير سور جزء عم إلى سورة الزلزلة، سنأخذ اليوم -بإذن الله عز وجل- سورة الزلزلة وسورة العاديات وسورة القارعة، نسأل الله سبحانه وتعالى- أن ينفعنا بها جميعًا وأن يعيننا على فهمها وإفهاما وحسن تدبرها.
      سورة الزلزلة كما تعلمون من قصار المفصَّل، وقصار المفصل تبدأ من سورة الضحى إلى سورة الناس، وهذه القصار تُشرع قراءتها في صلاة المغرب، أما صلاة العشاء والعصر والظهر فيُشرع القراءة فيها من أواسط المفصل، وأما صلاة الفجر فيُشرع القراءة فيها من طوال المفصل.
      سورة الزلزلة ليس لها فيما أعلم إلا هذا الاسم، لكن يُصرَّف تصريفات متعددة فيقال: الزلزال، وإذا زلزلت الأرض، وإذا زلزلت، والزلزلة، لكن كلها تدور حول هذا الاسم.
      أين نزلت؟ اختلف فيها هل هي مكية أو مدنية.
      جمهور المفسرين على أنها سورة مدنية، ومنهم مَن يقول أنها سورة مكية.
      والذين استدلوا بأنها مدنية قالوا إنها لما نزلت قرأها النبي -صلى الله عليه وسلم- بكى أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- من قوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.
      عدد آياتها كما سنلاحظ -إن شاء الله- ثمان آيات، لم يختلفوا في هذا فيما أعلم.
      أما محور هذه السورة فهو: ذكر هول يوم القيامة وانقسام الناس فيه، فمنهم مَن يكون من أهل اليمين، ومنهم مَن يكون من أهل الشمال كما قال الله -عز وجل: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ}.
      ثم فيها بيان السبيل لأن تكن من أهل اليمين، والسبيل لأن تكون من أهل الشمال -أعاذنا الله من طريقته- وهي: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}، وهذه الآية تسمى "الآية الجامعة الفاذَّة"، لأنها جمعت الخير والشر، وذلك لأن الله -سبحانه وتعالى- قد أبلغنا بأبلغ عبارة {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}.
      والذرة يا إخواني: شيء يسير لا يكاد يُحسّ به البدن عندما يلمسه، هذه الهباءة التي نراها في ضوء الشمس هذه ذرة، أو وزن نملة، لو أن نملة وقعت على يدك ما أحسست بثقلها ولا بشيء من خبرها. فمثقال ذلك من عملك أيها الإنسان ستراه في صحيفتك، وسيوزن لك، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.
      أما مناسبة هذه السورة لما قبلها وهي سورة البينة فظاهر لأن الله بيَّن في سورة البينة أن البشر قسمان:
      - قسم هو شر البرية. - وقسم هم خير البرية.
      فجاءت هذه السورة لتبين كيف يكون الإنسان من هؤلاء أو من هؤلاء، إنما يكون من هؤلاء بالعمل ومن هؤلاء بالعمل، وألا يستصغر شيئًا من الشر يأتيه، ولا يستصغر شيئًا من الخير يأتيه لأن الجميع مُحصى وسيوزن وسيراها الإنسان في صحيفة عمله.
      أما هذه السورة نبدأها بقول الله -عز وجل: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا}.
      زلزلت بمعنى: حُرِّك حركتها الشديدة المناسبة لذلك اليوم وهو يوم القيامة، تهتز الأرض هزة عظيمة مهولة فيرتجّ كل شيء عليها، ولذلك لأنه في يوم القيامة سيتغيَّر كل شيء، كل شيء سيتغيَّر، الشمس، القمر، النجوم والكواكب التي نراها عالية في السماء ولا نستطيع أن نصل إليها، وإنما نرى أثرًا من آثارها، وهو هذا الضوء المرسل منها.
      الجبال الراسية، المياه، البحار؛ كل شيء سيتغيَّر، وذلك للإعلام بأن هذا الكون سيتحوَّل إلى عالم آخر وهو عالم الآخرة، وانتهى العالم الأول وهو عالم الدنيا.
      قال الله -عز وجل: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا}، أي حُرِّكت حركتها لشديدة العظيمة المهولة.
      {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا}، من آثار تلك الزلزلة تُخرج الأرض أثقالها. ما هي أثقالها؟
      أثقالها:كل شيء كان فيها، الموتى، والكنوز، وكل ما هو فيها يخرج فيراه الناس باديًا أمامهم، حتى من الذهب والفضة يمر به الناس، يمر به السارق فيقول: في هذا قطعت يدي، ويمر به القاطع فيقول: في هذا قطعت رحمي، ويمر به القاتل فيقول: في هذا قتلت نفسًا معصومة. يبدو هكذا بين أيديهم مبذولًا شاهدًا أو ظاهرًا لا ترتفع إليه الأنفس، ولا تبالي به القلوب.
      قال: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا}، أي ما في جوفها من الموتى، لأن الموتى يكونون في جوف الأرض فتخرجهم هذه الأرض، وأيضًا ترج ما فيها من الكنوز التي كان الناس يتنافسون عليها ويتقاتلون من أجلها ويبيعون دينهم لأجل عرض من الدنيا يخرج من هذه الأرض.
      {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا}، ما الذي حصل لهذه الأرض التي كانت قارَّة، وكانت مطمئنة، وكانت ثابة، لم يكن فيها هذا الاهتزاز، ولم يكن فيها شيء من هذه الزلزلة، ما لها؟ ما الذي أصابها؟
      لأن هذا يحدث بغتة، ويحدث في حالة لا يظن الناس فيها أن الأرض تزلزل، {وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا}.
      قال الله -عز وجل:{يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}، أي في ذلك اليوم تتحدث الأرض بما وقع على ظهرها من خير وشر، وهذا من كمال عد الله -سبحانه وتعالى- في عباده. لماذا؟
      لأن العباد قد يقولون: ما عملنا، ما صنعنا شيئًا، ما صنعنا شيء. ينكرون!
      فالله -عز وجل- يقيم لهم شهودًا ممن؟ من الملائكة الذين كانوا يصحبونهم، والصحيفة التي سُجِّل فيها كل صغير وكبير وقليل وكثير من كلامه، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].
      أيضًا من أعضائه وجوارحه، من الأرض التي كان يدبُّ عليها، تقول الأرض: مشى عليَّ فلان وفلان، وفلان صلى فوقي، وفلان زنى فوقي، وفلان سرق فوقي، تُحدِّث الأرض بما وقع عليها وبما حصل فيها في تاريخها الطويل لتقوم الحجة ويكمل العدل، وعدل الله -عز وجل- ليس فوقه عدل.
      قال: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}، أي تحدث أخبارها بسبب...، فالباء هنا للسببية، أي بسبب أن ربك أوحى لها، أحى إليها أن تتحدث، يُقال: أوحى لها وأحى إليها بمعنًى واحد، ووحى لها ووحى إليها بمعنًى واحد، لأن الله أوحى لها أن تتحدث؛ تحدثت.
      فالأرض مطواعة لله -عز وجل-، إذا أمرها الله أن تصمت صمتت، وإذا أمرها أن تنطق نطقت، لا تستطيع أن تخالف كما قال الله -عز وجل- في سورة الانشقاق: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الإنشقاق: 2]، أي استمعت لما تُؤمر به من ربها وحُقَّ لها أن تستمع لأنها عبد لله، مملوك، مقهور، مربوب، لا يستطيع أن يعصي الله -سبحانه وتعالى- ولا شيء من خلق الله يستطيع أن يخالف أمر الله إلا أن يجعل الله فيه هذه المخالفة ابتلاءً؛ وإلا فالجميع مقهورون ذليلون مملوكون لله -عز وجل- لا يستطيعون أن يخرجوا من قبضة الله.
      قال: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}، أوحى لها أن تتكلم وتُحدِّث بأخبارها.
      {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا}، أي في ذلك اليوم يصدر الناس أشتتًا.
      {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ}، أي بعد أن يجتمعوا في أرض المحشر ويُحاسبوا، يصدرون بعد ذلك ليروا جزاء أعمالهم، فمنهم مَن يُسلك به إلى اليمين، ومنهم مَن يأخذ ذات الشمال -نسأل الله العافية والسلامة.
      فكل الناس ما لهم إلا ان يسلكوا السبيل الذي كانوا عليه في الدنيا.
      قال: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا}، أي طرقًا مختلفة، لأنهم كانوا في الدنيا مختلفين، ولم يكونوا شيئًا واحدًا، ألم يقل الله -عز وجل- كما مرَّ بنا في سورة الليل: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل 1-4 ]، فسعيكم مختلف ليس متحدًا، كذلك أنتم يوم القيامة ستكونون أشتاتًا مختلفين متفرقين، لستم على جادة واحدة، مَن عمل صالحًا سيرى شيئًا صالحًا، ومَن عمل سيئًا سيرى شيئًا سيئًا.
      قال: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ}، أي ليُروا جزاء أعمالهم، وبالفعل في ذلك اليوم طبعًا لا عمل، ولكن ترى ثمرة العمل، وترى جزاء العمل.
      قال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}، أي مَن عمل منكم شيئًا من الخير سيراه اليوم، مَن عمل منكم شيئًا من الشر سيراه اليوم، وهذا الشيء لو كان مثل رأس الدَّبُّوس من دمعة، أوحرفًا واحدًا من ذكر، أو شيئًا يسيرًا من صدقة، كله سيراه الإنسان ولوكان مثل حبة القمح أو حبة الشعير.
      ألم يقل النبي -صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشقِّ تمرة)، ليس بتمرة وإنما بشقها أي جزء منا، يُبيِّن لك أنه لا تهاون في الإسلام بالأشياء اليسيرة، ألم يقل النبي -صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحقرات الذنوب). لماذا؟
      لأنهن يجتمعن على الإنسان فيهلكنه، هذه كذبة بيضاء، وهذه غيبة بسيطة، وهذه نميمة بين اثنين، وهذه نظرة إلى امرأة عبر الشاشة، وهذا ريال أخذته، وهذا جزء يسير من الوقت اقتطعته من أول الدوام أو آخره، وهذا شيء من مال الدولة تهاونت فيها فاستعملته لحاجتي أو خاصتي لا يؤذن لي بمثله، ومثل هذه الأشياء فتُهلك الإنسان -والعياذ بالله.
      والسيئة -كما يقول العلماء- دائمًا تقول: أختي أختي.
      قال الله -عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}، سيراه، سيكون هذا الخير بين يديه يوم القيامة، جزاءه وكتابته، وسيراه مكتوبًا في الصحف يفرح به ويُسر، ثم يرى جزاءه.
      {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}، أيضًا نفس العملية، لا تهاون لا في هذا ولا في هذا.
      ولذلك لا تحقر أيها المسلم قليلًا من الخير تأتيته ولا قليلًا من الشر تتركه، لا تحقره، ودائمًا جبال الحسنات تُبنى من القليل كما أن جبال الرمال تُبنى بذرات يسيرة لا تكاد تُلمَس من صغرها وقلتها لكنها تكون جبالًا عالية.
      إذن هذه السورة تحفزنا نحن المسلمين على أن نستعد لذلك اليوم المهول. نستعد بماذا؟ بالعمل الصالح، نستعد باتقاء الشر كله، فنكون عاملين متقين، نعمل الخير ونحن نعلم أننا سنقابل ذلك الخير، ونتقي الشر ونحن نعلم أن اتقاءنا للشر سينفعنا يوم أن نلقى ربنا -سبحانه وتعالى.
      هذه سورة الزلزلة وما فيها من المعاني، والحقيقة هذه السورة -يا إخواني- جاء رجل من الصحابة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: يا رسول الله علمني شيئًا من القرآن، فإني قدر رقَّ عظمي وكبر سنِّي، وثقل لساني.
      فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: «اقرأ شيئًا من المسبحات»، فقال: يا رسول الله الأمر أشد عليَّ، فلو خففت عليَّ.
      قال: «اقرأ قول الله -عز وجل- {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا}».
      قال: والله يا رسول الله لا أزيد على هذه ولا أنقص.
      فلماولى قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «أفلح إن صدق»، أو كما قال -عليه الصلاة والسلام.
      لماذا؟ لأنه لو أخذ بهذه الآية لكفته، فهي آية جامعة فاذَّة ما تركت شيئًا من الخير ولا الشر إلا دخل في مضمونها.
      وهذا يبيِّن لنا -يا إخواني- أن من يريد القرآن للعمل يكفيه الشيء اليسير للقرآن، ألم يقل الإمام الشافعي لما مرَّ بسورة العصر قال: "لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لوسعتهم". لماذا؟ لأنها قد جمعت الأسباب المنجية من الخسران، وهذا سنفصله -إن شاء الله- في الدرس القادم -بإذن الله عز وجل.
      فانظر، سورة مكوَّنة من سطرين اثنين ستكون سببًا لنجاة الناس كلهم لو أخذوا بها، ليس القصود أنهم علموها أو فهموا معانيها؛ بل عملوا بها واتخذوها دستورًا وحجة بينهم وبين الله -سبحانه وتعالى.
      كذلك هنا، ما رأيك يا أخي لو أن الناس اتقوا الذر من الشر، وحرصوا على الذر من الخير، هل سيفوتهم شيء من الخير؟ هل سيقعون في شيء من الشر؟ لا والله.
      فإن قلت إنهم لا يعرفون الشر من الخير؛ نقول: لا، هذا غير صحيح، ألم يقل الله -عز وجل: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]، دلَّ ذلك على أن الإنسان عنده علم بكثير ما ينبغي أن يأتيه، بكثير مما ينبغي أن ينتهي عنه، الناس كلهم يعلمون أن الكذب سيء، وأن الصدق طيب، ويعلمون أن الزواج سبيل صحيح لقضاء الوطر والنسل، وأن الزنى سبيل قبيح لقضاء الوطر وللأمور الأخر.
      طيب، تفضل..
      {شيخ -أحسن الله إليك- في قوله تعالى {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}، هل الخير والشر لا يجده المرء إلا يوم القيامة؟}.
      هذا سؤال الحقيقة ذكره ابن عباس جماعة من أهل العلم، أن قوله {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}، قالوا: يراه في الدنيا.
      لكن حقيقة الرؤية التامَّة للأعمال ولجزائها في دار الجزاء، والدنيا يكون فيها شيء من ذلك، لأن الإنسان يُدرك الآن أثر الحسنة على حاله ونفسه وماله وولده، فالله -سبحانه وتعالى- حكمٌ عدل، لا يمكن تعمل حسنة ولا ترى أثرها، وما يمكن تعمل سيئة ولا ترى أثرها، ألم يقل الله -عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وقال: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]، قال أبو بكر: "يا رسول الله، أوكلما أذنب أحدنا ذنبًا جُوزيَ عليه؟" ظن أبوبكر أن الجزاء كله في الدار الآخرة.
      فقال: (يا أبا بكر أليس يُصيبك الداء؟ ألست تمرض؟ ألست تحزن؟)، يعني أن هذا من جزاء السيئة التي وقعت فيها في الدنيا.
      وقد مرَّ بنا شيء من هذا يا عبد الحكيم في سورة الانفطار في قول الله -عز وجل: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الإنفطار 13، 14]، قلنا إن ابن القيم يقول: "إن الأبرار لفي نعيم في دورهم الثلاثة، في الدنيا، وفي البرزخ، ويوم القيامة. وإن الفجار لفي حجيم في الدنيا، وفي البرزخ، وفي يوم القيامة"، مما يدل على أن هذا المعنى عامٌّ شامل، لكن ظهوره ووضوحه بأجلى صورة سيكون في الدار الآخرة، ووقوع الجزاء به كاملًا مكمَّلًا في الدار لآخرة. جزاك الله خيرًا.
      السورة الثانية يا شباب سورة العاديات، وهي سورة مكيَّة لا إشكال في ذلك، هذه السورة مكوَّنة من إحدى عشرة آية.
      واسمها: سورة العاديات، وتسمى: سورة العاديات، والعاديات ضبحًا، ولا أعرف لها اسمًا آخر.
      وعدد آياتها كما ذكرنا.
      أما محورها فهو عن قلة شكر الإنسان، وصفاته القبيحة، وتذكيره بما يزيل ذلك عنه، فالله -عز وجل- قد ذكر فيها أن الإنسان لربه لكنود، وأنه على ذلك لشهيد، وأنه لحب الخير لشديد، فنعظه بما يزيل هذا الأمر عنه، {أفلا أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ}.
      طيب، مناسبتها لسورة الزلزلة أظنها واضحة، لأن الزلزلة قسمت الناس قسمين، وهذه بيَّنت ما هي الصفات التي توقع الناس في أن يكونوا من أهل الشمال، ذكرتهم بما يخلصهم من أن يقعوا في غضب الله وسخطه.
      هذه السورة قال الله -عز وجل- فيها مقسمًا: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا}، ما معنى الْعَادِيَات؟
      العاديات صفة لموصوف لم يُذكر، ولذلك اختلف العلماء ما هي العاديات، هل العاديات هي الخيل أو الإبل، لأن العدْو صفة، العاديات صفة لموصوف محذوف، ومن هنا اختلف السلف هل المقصود الْعَادِيَات أي الخيل يُقسم الله بها في حالة ضبحها، والضبح هو صوت الخيل حين العدْو، هذا الصوت الذي يخرج من الخيل عندما تعدو يسمى الضبح، وبعض العلماء يقول العاديات هي الخيل وبعضهم يقول هي الإبل.
      طبعًا نحن في القسم ما يفرق عندنا أن تكون هي الخيل أو الإبل، أقسم الله بهذه وبهذه، ما عندنا مشكلة، ولذلك نعتبر هذا الخلاف من باب اختلاف التنوع، لأنه إن أقسم الله بهذه أو أقسم بهذه فالقسم صحيح، ولله أن يقسم بما شاء من خلقه، والمقصود يتحقق، لكن هل الوصف مع الخيل أوضح وأظهر أو مع الإبل أوضح وأظهر؟
      هذا محل خلاف بين أهل العلم، وإن كان كثير من المفسرين وجمهور السلف على أن العاديات هي الخيل، لأن الضبح والإيراء عند القدح {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا}، أظهر في الخيل منها في الإبل.
      قال الله -عز وجل: {وَالْعَادِيَاتِ}، أقسم بالخيل عندم تعدو، ويخرج منها ذلك الصوت الذي يكون عند العدْو.
      {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا}، أورَت يعني أشعلت، خرج منها الشرر عندما تحتكُّ حوافرها بالأرض أو بالحصى، {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا}.
      {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا}، يعني التي تغير في وقت الصباح، تغير أن تأتي في وقت الصباح مغيرة على العدو، وهذا يدل على أن الإغارة أفضل أوقاتها هو الصباح{فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا}، أي أثرن الغبار بتلك الإغارة.
      {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا}، فالنقع هو الغبار.
      {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} توسطن الجمع الذي هو ملتقى الفريقين.
      طيب، سؤال: لماذا أقسم الله بالعاديات وبحالتها هذه التي تبيِّن كيف تُقدِم على العدْو وتغير عليه وتقبل على المهالك، وتتوسط الموت وهي ترى بريق السيوف. ما الذي يحملها على ذلك؟
      اسمعوا -يا إخواني- قال: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ}، المقسم عليه ما هو؟ جواب القسم: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ}، ما معنى كنود؟ أي حجود وكفور بنعمة الله -عز وجل.
      لاحظوا الفرق بين الخيل وبين الإنسان: الخيل لأن صاحبها يطعمها ويربيها ويدللها ويهتم بها، إذا جاء وقت الحرب ما نسيت له المعروف، تُقدِم وتحارب، وتُقاتل وتُغير، وتثير النقع، وتتوسط الجمع، لأنها تريد أن تنقذ صاحبها وأن تهزم عدوه وأن تظفره بمن يخالفه، وما تنسى له المعروف، لا تفر ولا تهرب، وأنت أيها الإنسان يُحسن الله إليك، ويُكرمك أعظم الكرامة، ويملأ ما بين يديك وما خلفك بالنعم، ومع ذلك ماذا تفعل؟ عندما يطلب الله منك شيء، عندما يقول لك أنفق يا عبدي، صلِّ يا عبدي، قاتل يا عبدي، تصدق يا عبدي، صم يا عبدي؛ وإذا بك تنكص وتفر وتنسى كرم الله عليك ونعمته الموالية عليك.
      ما أشد جحودك! أهذه البهيمة تشكر أكثر من شكرك! وتحسن لصاحبها الذي أحسن إليها في وقت الشدة وأنت تنسى فضل الله عليك في رخائك وفي شدتك!
      أما في الرخاء فأنت إذا كثرت النعمة لديك طغيت، وحصل منك الخروج عن الحد المعقول في الإسراف وفي البذخ وفي الطغيان، في انتهاك المعاصي، وتقحم المنكرات.
      وأما في وقت الضراء فإنه إذا نزلت بك الضراء استغثت بالمقبور فلان والصنم فلان، يا سيدي فلان، يا هبل، يا لات، يا...، إلى آخره.
      فأنت -والعياذ بالله -كفور شديد الكفر، ولذلك قال الله -عز وجل: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: 17]، يعني ما أشد كفره.
      قال: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ}، أي جحود لربه، لا يكاد يرد هذه النعمة ويعترف بالفضل لله -عز وجل-، بل إنه إذا كثر الخير لديه نسي أن هذا الفضل من الله -سبحانه وتعالى- {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78]. {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [الكهف35، 36]، تصوروا!
      قال الله -عز وجل: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ}، {وَإِنَّهُ}، اختلف فيها، الضمير هذا، قيل: إنه يرجع إلى الإنسان، وذلك طلبًا لاتحاد الضمائر، لأن الضمير عائد عليه، {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ}، أيضًا الضمير عائد على الإنسان، {عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ} مَن هو؟ الإنسان أيضًا، واتحاد الضمائر أولى من تفريقها.
      إذن فقوله: {وَإِنَّهُ} أي الإنسان.
      {عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ}، يشهد على نفسه بأنه جحود كفور، وأن يتنكر للنعمة ولا ينسبها لله -عز وجل-، ولا يقوم بشكرها كما أمر الله -سبحانه وتعالى- منه.
      الآن لما تقول لأي واحد: يا أخي لو جاءك مئة مليون ماذا تفعل بها؟
      قال: لوجاءني مئة مليون هذه خمسين مليون أتصدق بها، أضعها في مرضاة الله -عز وجل-، وخمسين أتنعم بها. هكذا يقول لك.
      لكن من يوم أن يمسك المئة ماذا يفعل؟ تقول له: تصدق بألف. يقول: لا، يكفي ريال. تقول له: انقذ هذا المسكين أو هذه الأرملة؛ يخرج الخمسة وهو يفركها فركًا جيدًا ويده تنتفض خشية أن ينقص المال الذي عنده! ما علم أن الله هو الذي أعطاه وهو الذي ابتلاه.
      قال: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ}، يشهد على نفسه بهذا الكنود.
      وقيل إن قوله {وَإِنَّهُ}، يعود إلى الله، وإنه -أي الله- على ذلك لشهيد، أي الله يشهد عليه بانه كنود، وهذا المعنى صحيح ليس باطلًا، ولذلك يعتبر هذا الخلاف من باب اختلاف التنوع، لكن أيهما أولى؟ لا شك أن القول الأول أولى من القول الثاني.
      قال: {وَإِنَّهُ} أي الإنسان.
      {لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}، ما هو الخير؟
      الخير هنا بمعنى المال. قال في سورة البقرة: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180]، قال العلماء: الخير هنا المال، أو المال الكثير.
      {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ}، أي المال {لَشَدِيدٌ}، كما في قوله في سورة الفجر التي أخذناها قبل فترة وجيزة: {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر 17، 20]، فالإنسان محبٌّ للمال، يُقاتل من أجله، يعيش من أجله، يسهر من أجله، يُفرِّط في حق ربه، وحق والديه، وحق أرحامه، وحق دينه، وحق بلده من أجل هذا المال الذي سيأتي وسيودعه ولا يبقى منه شيء.
      قال: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}، فهو ذمٌّ له على محبته الشديدة للمال، لأن المطلوب في المال هو أن تجمعه من حله وتنفقه في محله، أما أن تضع قلبك فيه فهذا مذموم ولا يليق بك، والمحبة المعقولة التي تدعو الإنسان إلى كسبه وإلى طلبه لا يُلام الإنسان عليها لأنها فطرة، لكن إذا اشتدَّ ذلك حتى طغى على الإنسان وأصبح هو المحرم وهو الذي يقع الإنسان في البلايا.
      وقال بعض العلماء: إن الآية تذم الإنسن على البخل، {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}، يمسكه فيبخل به فلا يضعه مواضعه التي أمر الله -سبحانه وتعالى- أن توضع فيه، لا في نفقة واجبة، ولا فيما أمر الله -عز وجل- من زكاة ونحوها، ولا في صدقة وإحسان وإكرام وغير ذلك من أنواع الإكرام التي يؤمر بها الإنسان.
      قال: {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ}، يعني هذا الإنسان ألا يعلم عندما تبعثر القبور وذلك إذا أثيرت هذه القبور وأخرج مَن فيها كما في سورة الزلزلة قبل قليل، قال: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا}. هنا: {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ}، عندما يُبعثر ما في القبور لن تجد معك في ذلك الوقت شيئًا من هذا المال الذي أحببته وأفنيت عمرك فيه، ولن يكون معك إلا عملك الصالح وشكرك لربك وما قدمته من بذل وتضحية وإنفاق في سبيل الله -عز وجل.
      قال: {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ}، أخرج، {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ}، أخرج ما في الصدور.
      ولاحظ يا أخي، بما أنه ذكر الحب وذكر الكنود، وهما شيئان قلبيَّان، الجحود شيء قلبي، وحب الخير لشديد، قال هنا: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ}، أخرج ما في الصدور وبُيِّن وأُظهِر لك وجُوزيتَ عليه، هناك ستندم أشد الندامة.
      قال الله -عز وجل: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ}، أي إن الله -سبحانه وتعالى- بهم في ذلك اليوم لخبير، وهو -سبحانه وتعالى- الخبير بعباده في كل حال، لكن خبرته في ذلك اليوم تظهر عيانًا لنا، والخبرة أدق من وصف العلم. لماذا؟ لأنها العلم بدقائق الأمور، ولذلك يُقال: فلان خبير بالشيء الفلاني، هذا أدق من وصف: عالم به.
      فالعالم هو الذي يعلم الشيء، الخبير هو الذي يعلم دقائق هذا الشيء، ولذلك تأتي كلمة "خبير" في المواطن الدقيقة، مثلُا: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ} [النور: 30]. لماذا "خبير" لأن "يغضوا من أبصارهم" شيء دقيق، الآن أنا ممكن بطرف عيني أرى شيئًا وأنتم لا تلاحظون ذلك. مَن الذي يعلم ذلك؟ الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. لاحظتم الفرق؟
      قال: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ}.
      بعد ذلك ننتقل إلى سورة القارعة.
      هذه سورة القارعة أيضًا قريبة من السورتين الماضيتين تتحدث عن القيامة وعن أهوالها، وتبيِّن مآل الناس وموازينهم، منهم مَن تثقل موازينه، ومنهم مَن تخف موازينه.
      هذه السورة اسمها سورة القارعة، وقد جاء على منوالها عدد من السور، القارعة، والحاقة، والغاشية، ووصف يوم القيامة بهذه الأوصاف في القرآن، وبمثل: القيامة، والصاخة، والطامة، والواقعة، فهذه كلها جيء بها أوصاف ليوم القيامة، كل وصف أو كل اسم يدل على موقف، ليس هناك اسم علم يدل على يوم القيامة ليس تحته معنى.
      طيب، من أين جاء اسم القارعة؟ قال: لأنها تقرع القلوب بهولها، يوم شديد لا يبقى قلب مهما كان إلا فزع من شدة الهول الذي يحصل في ذلك اليوم، فهي قارعة.
      هذه السورة طبعًا سوة مكيَّة.
      وعدد آياتها اختلف فيها:
      فقيل: ثمان آيات.
      وقيل: عشر آيات.
      وقيل: إحدى عشرة آية.
      طبعًا هي نفس الآيات ما تختلف، لكن يختلف العلماء في الفواصل، {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ}، لاحظوا هنا الآن صارت كم آية؟ إحدى عشرة آية.
      بدأ بالآيات.
      {الْقَارِعَةُ}، قلنا التي تقرع القلوب بأهوالها، لأنها مهولة كما وصفها الله -سبحانه وتعالى- في سورة الحج، قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج 1، 2].
      قال: {مَا الْقَارِعَةُ}، هذا تهيل لها، أي شيء هذه القارعة؟ إنها شيء مهول وعظيم، وهذا الأسلوب عند العرب معروف يُراد به التهويل، والتوكيد، والعظيم، والتفخيم.
      ويقولون: إن إعادة الخبر بنفس ألفاظ المبتدأ تدل على التهويل أو على التعظيم أو على التأكيد، مثل ما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله»، يعني ما في شيء أكثر من هذا. لكن قال في الثانية: «مَن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه»، ما قال: "فهجرته إلى دني يصيبها أو امرأة ينكحها" لأنها شيء محتقر.
      قال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ}، هذا أيضًا أسلوب في تهويل ذلك اليوم وتفخيمه وتعظيمه.
      {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ}، وقد مرَّ بنا هذا الأسلوب كثيرًا، {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} [البلد 11، 12]، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الإنفطار 17، 18]، ونحوه في قول الله -عز وجل: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} [المطففين 7، 8]، ونحوها. هذا يُراد به التفخيم والتهويل.
      ثم بيَّن ما هو ذلك اليم فقال: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ}، لماذا يكون الناس كالفراش المبثوث؟
      {أقول يا شيخ: يكون من تأويل قول تعالى {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} [الإنفطار: 4]}.
      طيب، {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} [الإنفطار: 4]، خرج مَن فيها وانتظموا ومشوا.
      {من هول القارعة}.
      من هول ذلك اليوم، فيه ناس تطلع، وفيه ناس تدخل، وفيه ناس تذهب بعيد، وقريبًا، كل فيه ربكة واضطراب ظاهر جدًا.
      قال: {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} [القمر: 7]، فكلهم يمشي لكن من ذا الذي يهتدي من شدة ماهم فيه من الويل -نسأل الله العافية والسلامة.
      ولذلك يبشر الله المؤمنين دائمًا {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62]، {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل: 89]، كما أنهم في الدنيا كانوا مترقبين خائفين يُؤمِّنهم الله -عز وجل- في ذلك اليوم، نسأل الله أن نكون من أهل الأمن التام، {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].
      {كَالْفَرَاشِ}، والفراش معروف، هو هذه الحشرة التي تقترب أو تأتي عند النار.
      {الْمَبْثُوثِ}، المتفرق المنشر.
      قال: {وَتَكُونُ}، أي في ذلك اليوم.
      {الْجِبَالُ} الراسية الضخمة الهولة التي لا يكاد أحد يستطيع أن يهدَّ منها شيئًا من قوتها وصلابتها تكون كالعهن. ما هو العهن؟
      {لعله كالصوف، لعله الصوف المنفوش}.
      نعم، العهن هو الصوف، هذا الصوف الذي يؤخذ من جلود البهائم، هذا إذا نُفِش صار خفيفًا ويقبل أن يتطاير، إذا نفش ونُدِف وضُرِب بالعصا أو الآلة المحددة التي تنفشه وتفرزه.
      قال: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ}، إذن هذه الآية تشير إلى الجبال، هذه الجبال الراسية تكون في ذلك اليوم مثل الصوف المندوف.
      طيب، لماذا يبيِّن الله لنا ذلك؟ يقول: لشدة الهول هذه الجبال تتغير حالتها وتنقلب عما هي عليه، فبدل ما كانت صلبة يحصل لها هذا الحال المذكور في الآية.
      ولعله مرَّ بنا أن الجبال تمر بأحوال كثيرة، تُدكّ، {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقة: 14]، تكون كثيبًا مهيلًا.
      وفي الآية: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} [الواقعة: 5].
      {وفي قوله: {فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه: 105]}.
      هذه حال.
      ثم يأتي من بعدها أن تكون هكذا كالعهن المنفوش، ثم يأتي من بعدها أن تراها كأنها تسير، قال: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88]، ثم يأتي من بعدذلك حال تصبح قاعًا صفصفًا، لا ترى فيها عوجًا ولا أمتا، فكل موطن يُذكر فيه حال من أحوال الجبال يُناسب لك الآيات أو تلك السورة، أو الموطن الذي ذكرت فيه.
      ثم بيَّن بعد هذا وهذا من أهوال تلك القارعة، قال: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ}، لاحظوا كلمة {ثَقُلَتْ} مناسبة لقوله {كَالْفَرَاشِ}، لأن الناس في ذلك اليوم من شدة الهول تجدهم قد خفَّت عقولهم، وأصبحوا طائشين مثل الفراشة التي تدور وتكاد تقترب من النار التي تهلكها وتحرقها، لكن أصحاب الموازين الثقيلة يصبحون في ذلك اليوم ماذا؟ ثقالًا متَّزنين، فيهم حكمة وفيهم وقار.
      قال: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ}، هذه الموازين -يا إخواني- اختلف فيها هل هي متعددة أو واحدة؟ وظاهر القرآن يدل على أنها متعددة، قال: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47]، فهناك موازين للناس، وهناك موازين للأعمال، وهناك موازين للصحف، فالصحيفة توزن كما في حديث البطاقة، قال: «فجيء ببطاقة فيها "لا إله إلا الله" فوضعت فطاشت بتلك السجلات».
      ويؤتى بالشخص نفسه ويوزن، ويؤتى بالعمل أيضًا ويوزن، الصلاة توزن، الصوم يوزن، الحج يوزن، الزكاة توزن، البر يوزن، الذكر يوزن، كل شيء له ميزان، ولذلك قال هنا: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ}، فظاهر القرآن يدل على أن الإنسان له موازين وليس ميزانًا واحدًا، وهذه المسألة مما ذكر العلماء فيه الخلاف، ولكن قلنا ميزان أو موازين؛ كل ذلك يدل على أن الإنسان سيمر بحساب عسير وشديد -نسأل الله سبحانه وتعالى السلامة والعافية.
      قال: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ}، ثقلت بأي شيء؟ بأعمال صالحة، بأعمال طيبة يرتفع بها الميزان ويثقل حتى ينجو الإنسان من عذاب الرحمن.
      قال: {فَهُوَ}، أي الذي ثقلت موازينه.
      {فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}، أي سيكون في عيش هنيء.
      {رَاضِيَةٍ}، هذه العيشة نفسها راضية من شدة ما يكسب الإنسان من الرضى تكون نفس العيشة راضية.
      و{وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ}، جاء إلى يوم القيامة لكن ليس معه شيء يثقل الميزان، كل الأعمال التي كان يعملها من أجل بطنه، من أجل فرجه، من أجل لذة النظر، لذة الاستماع، ولكنه لم يُقدم على الله -عز وجل- بشيء من عمله الصالح، كانت بأيديه أموال، وكان عنده خيرات ولكنه كان يستعملها في الباطل، كان يستعلها في المباحات، ولم يستعملها ليثقل بها موازينه، يا مسلم يا عبد الله، اتقِ الله وثقل موازينك.
      وأذكر بهذه المناسبة قصة: امرأة كانت تكفل الأيتام أو تسعى في كفالة الأيتام في الدول والإسلامية، فكأنها تباطأت مرة من المرات وشعرت أنه ليس له داعٍ أتابع وأكافح في هذا الميدان، وأرادت أن تنقطع، فرأت في المنام رؤيا عجيبة جدًا، رأت كأنها في عرصات القيامة والخلق شاهدون وهم يعرضون على ميزان يقفون عليه، قالت: فوقفت على الميزان فلم يتحرك الميزان، فعلمت أني هالكة.
      قالت: فالتفت فرأيت صبية صغارًا قد جاؤوا على طرف الميزان فتعلقوا به، فارتفع الميزان حتى بلغ الدرجة العالية، فأنقذني الله بهم، فاستيقظت من منامي وأنا أعلم أن هؤلاء الأطفال الصغار هم الأيتام الذين كنت أسعى من أجل إعالتهم.
      قال: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ}. قيل: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ}، أي يهوي على أم رأسه.
      وقيل: فأمه التي تضمه وتؤويه إليها هي الهاوية وهي النار، وهذا المعنى في نظري أقرب.
      العادة أن الإنسان يأوي في حال الشدة إلى مَن؟ إلى أمه، هذا الذي خفَّت موازينه سيأوي إلى أمه، ما هي هذه الأم؟ إنها النار تضمه وتحضنه وتستقبله بحرارتها وعذابه وهلالكها الشديد.
      قال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ}، أي هذه الأم.
      {نَارٌ حَامِيَةٌ}، نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يكفينا وإياكم شرها.
      وإلى هنا نصل إلى ختام هذا الدرس، أسأل الله أن ينفعني وإياكم به. وصلى الله سلم وبارك على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

      تعليق


      • #18
        رد: تفسير جزء عم - د. محمد الخضيري

        السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
        الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
        حيَّاكم الله مشاهدي الكرام، وحيَّا الله الإخوة الحضور معنا في الاستوديو في هذا الدرس من دروس التفسير في هذه الأكاديمية الإسلامية المفتوحة.
        نحن اليوم -إن شاء الله- نشرح أو نفسر أربع سور من قصار المفصَّل لنصل بعد ذلك -بإذن الله عز وجل- إلى ختام هذا الجزء العظيم من أجزاء القرآن وهو جزء عم.
        في هذا اليوم -بإذن الله- سنتحدث عن سورة التكاثر، وسورة العصر، وسورة الهمزة، والفيل، نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بها، وأن يجعلها حجة لنا لا علينا.
        هذه السور الأربع نسمعها كثيرًا من أئمتنا في عموم الصلوات، ويحفظها -بحمد الله- أكثر المسلمين، وفيها من العظات والعبر ما لو أُفردت كل سور بلقاء أو لقاءين أو أكثر من ذلك لَمَا استوعبنا ما فيها من الدروس والعبر، ولكننا نمر عليها مرورًا، ونلقي الضوء على ما فيها من الهدايات والإيمانيَّات، وأيضًا المعاني الكريمات، لعلَّ الله -سبحانه وتعالى- أن يوقظ بها قلوبنا وينفعنا بها في حياتنا وفي أخرانا.
        أول سورة معنا اليوم سورة التكاثر.
        هذه السورة الكريمة سورة مكيَّة.
        وموضوع هذه السورة هو: النهي عن التشاغل بما يشغل الإنسان عن حقيقة الحياة، أو عن الاستعداد للقاء الله -عز وجل-، نهي الناس عامة عن انشغالهم بما لم يُخلقوا من أجله، وأكثر ما يشتغل به الناس في حياتهم هو التكاثر.
        لو تأملتم -يا إخواني- إلى ما يشتغل به الناس في حياتهم لوجدتم أنهم يتكاثرون، ترى الإنسان عنده ما يكفيه من الدنيا من القوت، من الطعام، من الشراب، من السَّكن، طيب ما الذي يحملك أن تعمل الكثير وتترك عبادة الله وتترك ما فيه منفعتك ومنفعة العباد وما فيه الاستعداد لدار المعاد؟
        ينظر ويُجيبك بأنه لن يكون أقل من فلان وفلان. أليس هذا تكاثرًا؟!
        ترى الواحد عنده القدر الجيد مما يقيمه في الدنيا من متاع وأثاث وسكن وولد، ولكنه مع ذلك يطمع بالمزيد، ويريد الكثير، وكل ما جاءه ما يريد طلب المزيد، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «لو أن لابن آدم واديين من ذهب لابتغى إليهما ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على مَن تاب».
        فابن آدم فيه هذه الخصلة -خصلة الطمع والتكاثر- وليس التكاثر في الأموال؛ بل كل ما يشغل الإنسان عن الدار الآخرة.
        أحيانًا تجد الإنسان يُكاثر الناس بشيء لا فائدة فيه أصلًا لا دنيوية ولا دينية ولا أخروية، تجد الإنسان يُكاثر في الأسفار، فهو يتبجَّح في المجالس بأنه أكثر الناس سفرًا، تجد بعض الناس يُكاثر في -أكرمكم الله واسمحوا لي على هذه الكلمة- طوابع البريد، أن عندي من الطوابع كذا، وجمعت كذا.
        سبحان الله! وماذا في هذا من النفع؟! ماذا فيه من الخير؟! ماذا فيه العلم؟! ماذا فيه من القربة؟! ألهذا خُلقت؟! أمن أجل هذا جئت إلى هذه الحياة؟! أهذا هو حظك من حياتك؟! ألا تعتبر؟!
        فتجد هذا الإنسان مشغول بشيء يُكاثر به، وهلم جرَّا، من يُكاثر بالكتب، مَن يُكاثر بالشهادات، مَن يُكاثر بالبنين، مَن يُكاثر بالأسفار، مَن يُكاثر بالسيارات. كم رأينا من الناس مَن هو مشغول يبحث عن كل سيارة نادرة وكل لون عجيب، فيجمعها في بيته، تجد عنده قصر مليء بالسيارات وهو لا يركب منها إلا واحدة، أو لا يستعمل منها إلا واحدة أو اثنتان.
        سبحان الله! ما هذا؟ تكاثـر.
        إذن هذه السورة تُبيِّن لنا خطورة التكاثر علينا، وأننا ما خُلقنا من أجل أن نتكاثر، إنما خُلقنا من أجل أن نعمل لِمَا فيه منفعتنا في الآخرة.
        هذه السورة قلنا اسمها التكاثر، وتسمى في بعض التفاسير: ألهاكم التكاثر، وتسمى أيضًا: سورة المقبرة، أخذًا من قوله: ﴿حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ﴾، وإن كان هذا الاسم ليس مشهورًا ولكن ذكره الألوسي في روح المعاني.
        وعدد آياتها: ثلاث آيات.
        ومحورها -كما ذكرت لكم.
        ومناسبتها ظاهرة للسورة التي قبلها، السورة التي قبلها قسمت الناس إلى قسمين:
        - من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية.
        - مَن خفَّت موازينه فأمه هاوية.
        كيف تخف موازينه؟ عندما يشتغل بشيء لم يُخلق من أجله، ويكون همُّه فيما يشتغل به أن يُكاثر، فهذا هو سبب البلاء، وبهذا يخف ميزان الإنسان يوم القيامة، وبذلك نقول: هذه سورة واعظة للقلوب الحيَّة، مَن كان له قلب حيّ وعظته هذه السورة العظيمة.
        يقول الله -عز وجل: ﴿أَلْهَاكُمُ﴾، أي أشغلكم أيها الناس عمَّا خُلقتم لأجله.
        ﴿التَّكَاثُرُ﴾، أي تكاثركم.
        وأطلق، لم يقل: "ألهاكم التكاثر بالأموال"، أو "ألهاكم التكاثر بالأولاد"، لماذا؟ ليُبيِّن أنه يدخل فيها كل لون من ألوان التكاثر مما هو موجود عند نزول الآية ومما يوجد إلى آخر الدهر، يدخل في هذا الإطلاق، كل ما تتكاثر به أو تُكاثِر به غيرك مما لا ينفعك في الدار الآخرة، ولا يكون حجة لك بين يدي الله، ولا يكون قربة من القُرَب، فاعلم أنه مُلهٍ، وأنك تشتغل بشيء لا ينفعك وستندم عليه أشد الندم.
        قال ﴿حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ﴾، يعني حتى مُتُّم ثم دُفِنتم في مقابركم، ولذلك قال: ﴿حَتَّى زُرْتُمُ﴾.
        وسمَّى الدخول في القبر زيارة لماذا؟ لماذا سمى الدخول في القبر زيارة؟
        {لأنه سبيل للآخرة}.
        نعم، أنه سبيل للآخرة، وأن الذهاب إلى المقبرة والدفن فيها سيكون وقتًا يسيرًا بالنسبة لما بعده، ولم يقل: "حتى دفنتم في المقابر"، أو "حتى ذهبتم إلى المقابر"؛ وإنما اختار لفظ "الزيارة"، لأن الزيارة في العادة تكون وقتًا قليلًا، أنت إذا زرت أخاك في الله تجلس عنده ساعة ساعتين بحسب المناسبة، ثم تؤوب إلى بيتك.
        إذن هؤلاء سيذهبون إلى المقابر يزورونها ويجلسون فيها وقتًا يسيرًا جدًّا ثم ينتقلون إلى دارٍ هي الدار التي سيكون فيها القرار.
        قال: ﴿حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ﴾.
        ما رُويَ في بعض التفاسير أن حيَّين من قريش أو من الأنصار اختلفوا وتفاخروا، فحملهم تفاخرهم إلى أن يذهبوا إلى المقبرة ليقولوا: منَّا فلان، ويقول الآخرون: منَّا فلان -من المقبورين- هذا مذكور ويمكن دخوله في معنى الآيات، لكن ليس هو سبب نزول هذه الآيات، وليس هو المعنى بها بالدِّقة.
        قال: ﴿كَلاَّ﴾، هذه ردع وزجر.
        قد ذكرنا قاعة في "كلا"، وقلنا أنه إذا جاء قبلها شيء يُنهى عنه أو شيء يُزجر عنه، فإنها تكون للزجر. وإذا كانت لم تُسبَق بشيء من ذلك، فإنها تكون بمعنى حقًّا.
        هنا لما جاء قبلها ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾، جاءت بمعنى الردع والزجر.
        ﴿كَلاَّ﴾، انتهوا عن هذا الذي تفعلونه، اتركوا هذا التكاثر الذي لا ينفعكم يوم أن تلقوا ربكم.
        قال: ﴿كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾، تعلمون ماذا؟ عاقبة تكاثركم وأنه لن ينفعكم، عندما تموت وعندك عمارة فيها ستين طابق، عندما تمت وعندك رقم في البنك ضخم جدًا ماذا ينفعك؟ ما ينفعك شيئًا.
        هل يُنادى يوم القيامة يقال هذا مجلس لأصحاب الأرصدة الضخمة؟! هل تركب يوم القيامة مركب فاخر أو فاره أو توضع في مقدمة الناس بسبب كثرة أموالك في الدنيا؟! أبدًا لن يكون شيء من ذلك.
        ولذلك يقول: ﴿سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ عاقبة تكاثركم، وأن هذا التكاثر كان مشغلة وملهاةً أي تلهيتم به عمَّا خُلقت لأجله.
        ثم يؤكد ذلك فيقول: ﴿ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾، تأكيدًا على أن الناس سيدركون حقيقة هذا التكاثر في الدار الآخرة.
        قال بعضهم: ﴿كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾، أي عندما تدخلون قبوركم، ﴿ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ عندما تبعثون بين يدي الله -عز وجل.
        فهذا التكرار له أكثر من مكان، الأول في المقبرة أو في دار البرزخ، والثاني في الدار الآخرة.
        ثم قال: ﴿كَلاَّ﴾، "كلا" أيضًا ردع وزجر لهؤلاء، وهذا يدلنا على خطورة هذا الأمر الذي يتشاغل الناس عنه ولا ينتبهون له، وتذهب أعمارهم وهم غير ملتفتين لهذا الأمر وهو أن التكاثر هو أكثر ما يقضي على أعمار الناس ويذهب بلبِّ حياتهم فلا ينتفعون بها في الدار الآخرة.
        ولذلك قال: ﴿كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ﴾، هذه الكلمة يظن بعض الناس عندا يقرأها أنها مرتبطة بالآية التي بعدها من حيث أن الآية هذه جواب لـ "لو"، يعني: لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم. لا، انتبهوا لهذا.
        هذه "لو" جاءت ولم يأتِ جوابها، ﴿لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ﴾ لَمَا تكاثرتم. هذا جوابها، لَمَا ألهاكم التكاثر.
        يعني: لو علمتم علم يقينٍ بأن رأيتم الجنة والنار، ورأيتم دار القرار، ورأيتم الجزاء والحساب، ما اشتغلتم بهذا الشيء الذي كنتم تشتغلون به، ولَمَا تكاثرتم بهذا الذي أشغلتم وألهيتم حياتكم به، ولذلك قال: ﴿لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ﴾، أي لو تعلمون الأمور علمًا يقينيًّا ما تشاغلتم بما تشاغلتم به مما لا ينفعكم في الدار الآخرة.
        إذن "لو" جوابها محذوف للعلم به، وهذا أسلوب من أساليب القرآن وهو أن يُحذف جواب "لو" للعلم به أو لتهويل الأمر.
        ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ المَوْتَى﴾ [الرعد: 31]، لم يأتِ جواب، لماذا؟ لأن الجواب: "لكان هذا القرآن".
        قال: ﴿لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ﴾، هذا ابتداء قسم من الله -سبحانه وتعالى يقول: ﴿لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ﴾، أي أقسم أنكم سترون الجحيم جميعًا.
        ﴿لَتَرَوُنَّ﴾، والنون هنا للتوكيد، فجاءت مؤكدة مع القسم.
        طيب، إذا رأينا الجحيم ماذا سيكون؟
        معناه: إذا رأيتم الجحيم ورأيتم هول العذاب؛ عرفتم أنه لا ينفعكم ولا ينجيكم من ذلك الجحيم إلا انشغالكم بما تدرؤون به العذاب عن أنفسكم، وليس تلهِّيكم بعدد الأندية أو اللاعبين أو المباريات التي حضرتها، ولا الكرة التي أذهبت عليك لبَّ حياتك.
        أنا أتعجب الآن -يا إخواني- من أناس قد وصلوا للأربعين من أعمارهم وعندهم شيء من العلم، وعندهم شيء من الفقه، وعندهم شيء من الذكاء، وتجده قد أشغل حياته بمتابعة النوادي الرياضية، يحفظها ويحفظ أسماءها ويتابع مبارياتها!
        يا عاقل، يا مسكين، أنت عندما يأتي ملك الموت ليقبض روحك ستنسى ذلك كله، ستندم أشد الندامة على أن تابعت شيئًا وتشبَّعت منه وهو لا ينفعك، فكيف إذا بعثت؟ وكيف إذا رأيت نار جهنم ماذا سيكون الحال؟
        ﴿لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ﴾، ثم يؤكد فيقول: ﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليَقِينِ﴾، في تلك الحالة الخلق كلهم يذهلون ويصيبهم الفزع والرهبة العظيمة، ولا ينفعهم في تلك اللحظة إلا ما قربوه لربهم -سبحانه وتعالى.
        ولاحظوا هنا: جاءنا بعلم اليقين، وهنا جاء بعين اليقين.
        علم اليقين: هو ما تعلمه يقينًا بأنه واقع، فأنت تعلم الآن أن هناك قارة اسمها استراليا، أليس كذلك؟
        هذا بيقين أم فيه شك؟ بيقين.
        لكن هل رأيتها؟ لم ترها، فإذا رأيتها بنفسك يسمى "عين اليقين"، فإذا دخلت فيها يسمى "حق اليقين". وهذه مراتب اليقين المذكورة في القرآن، علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين.
        قال: ﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليَقِينِ﴾، ولم يقلك "لترونها حق اليقين"، لأنه ليس كل مَن يراها يدخلها.
        ﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليَقِينِ﴾، يعني فإذا رأيتموها عين اليقين عرفتم أن ما كنتم تتلهون به وتكاثرون غيركم به لن يكون نافعًا لكم في تلك اللحظة.
        تصور يا أخي لو كنت في غرفة فثارت هذه الغرفة نارًا، انفجر الغاز في هذه الغرفة، هل ستقول أين شهاداتي؟ أين ملابسي؟ أين أشيائي وحاجياتي؟ لا، تقول: نفسي نفسي، ولن تسأل عن شيء إلا عن نفسك، ولن تنجو بشيء إلا بهذه النفس، فتذكر ذلك وأنه سيمر بك مثل ذلك الموقف في يوم القيامة.
        قال: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾.
        ﴿لَتُسْأَلُنَّ﴾ قسم، أي والله لتسألن جميعًا عن النعيم.
        وأطلق النعيم ولم يحدده بنعيم معين، فقال: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾، أي يوم القيامة نسأل عن كل شيء أنعم الله به علينا، الصحة، الفراغ، الزوجة، الولد، الماء البارد، الهواء، الأمن، الوطن، النسب، الدين، اللغة، اللون، العين، الأذن، السيارة، كل هذا تسأل عنه.
        كيف تسأل عنه؟ تُسأل عنه هل أديت شكره؟ هل قمت بما يجب لله فيه؟ هل استعملته في طاعة الله؟
        قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما يُسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يُقال له: ألم نُصحَّ لك جسمك ونرويك من الماء البارد».
        وقد ورد عن السلف خلاف في النعيم الذي يُسأل عنه الإنسان، لكن كل هذا خلاف يعتبر من باب اختلاف التنوع، وهو أمثلة لهذا النعيم. منهم مَن قال النعيم يعني الصحة، ونهم مَن قال الطعام، ومنهم مَن قال الماء البارد، وغير ذلك مما ذكره السلف -رضوان الله تعالى عليهم.
        وبهذا نكون قد وصلنا إلى نهاية هذه السورة الكريمة.
        ننتقل بعد ذلك إلى سورة العصر.
        هذه السورة سورة قصيرة لكنها عظيمة تى قال فيها الإمام الشافعي: "لو ما أنزل الله على خلقه حجة إلا هي؛ لكفتهم"، ولو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم. لماذا؟ لأنها اشتملت على الأسباب المنجية من الخسران، فمن أراد أن ينجو من الخسران فلينظر إلى أسباب النجاة من الخسران في هذه السورة، ولذلك كان السلف -رضوان الله تعالى عليهم- يتعاهدون في مجالسهم، فيقرؤونها في مجالسهم لأن الإنسان يتذكر بها الأسباب التي ينجو بها من النار، لن ينجو إلا بأربعة:
        - إيمان مبني على علم.
        - وعمل صالح.
        - وتواصٍ بالحق، يوصي بعضهم بعضًا بالحق، يأمرهم بالمعروف، ينهاهم عن المنكر.
        - وتواصوا بالصبر.
        فمن عمل بهذه الأربعة نجا من النار، ومَن قصَّر أو فرَّط فيها أو في بعضها فهو على شفا هلكة.
        هذه السورة مكية، وتسمى سورة العصر، أو والعصر.
        وعدد آياتها ثلاث آيات.
        محورها: أسباب النجاة من الخسران، فهي سورة جامعة من أراد أن ينجو من الخسار، وأن ينجو من النار.
        أما مناسبتها لما قبلها من السور فهي ظاهرة لأن الله -عز وجل- ذكر في سورة التكاثر سبب من أسباب الخسران وهو تكاثر الناس بما لم يُخلقوا من أجله، وأن هذا خطير عليهم، فجُمع هنا ما ينجي الإنسان من الخسار كله وهو الإيمان والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
        افتُتِحَت هذه السورة بالقسم، وهو قوله: ﴿وَالْعَصْرِ﴾، أقسم الله بالعصر، وقد اختلف الناس هل المراد به العصر الذي هو الوقت المعروف من النهار، الذي هو آخر النهار؟ أو العصر بمعنى الزمن؟
        قولان مشهوران عند المفسرين، والظاهر أن القسم هنا بالزمن، لأنه هو محل النجاة ومحل الخسار، هو محل العمل الذي تكون به النجاة من الخسران، فالله يُقسم به.
        أنت كيف تنجو من الخسران؟ أن تستثمر هذا الزمن في الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
        لذلك قال: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾، الإنسان هنا هل المراد به الإنسان الكافر أو جميع الناس؟
        {جميع الناس}.
        لماذا؟ كل الناس خاسرون؟
        {كل الناس خاسرين واستثنى الله بـ "إلا"}.
        نعم، لاحظوا هذه اللفظة "الإنسان" تحتمل أن تكون يُراد بها الكفار وحدهم ويراد بها العموم.
        الأخ عبد الرحمن جاءنا بدليل يدل على أن المراد بها العموم؛ لأنه قال: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ﴾، فلما قال: ﴿إِلاَّ﴾، عرفنا أن الإنسان هنا عام، لأنه لو كان الإنسان الكافر ما صحَّ الاستثناء، يعني "إن الكفار لفي خسر إلا الذين آمنوا" ما يصح الاستثناء هنا، إلا أن يحمل على أنه استثناء منقطع، والاستثناء هنا بمعناه المعروف.
        إذن الإنسان هنا: جميع الناس.
        ذكرنا قاعدة سابقة هي: أن "الإنسان" يرد كثيرًا في السور المكية مرادًا به الكافر، ومرَّ بنا في سورة ماضية قول الله -عز وجل: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ [العاديات: 6]، أي جحود، كفور بالنعم. هل المراد بها الإنسان الكافر أو المراد بها عموم الناس؟
        الذي يظهر أن المراد بها الإنسان الكافر، ولا مانع أن يكون في الإنسان المؤمن شيء من التلبس بهذا الجحود بقدره لكنه لا يصل إلى الجحود التام الذي هو عند الكافر الذي يجحد نعمة الله جملة وتفصيلًا، فما تلبَّث به المؤمن من الجحود يُعتبر نقصًا في إيمانه، ولذلك نقول له: احذر واتقِ.
        والمؤمن -في العادة- لا يمكن أن يسمى مؤمنًا وهو جحود، لأن الكنود هو المبالغ في الجحود وفي الكفران لنعمة الله -عز وجل.
        فالظاهر أن قوله ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ أنها في الإنسان الكافر.
        وهذا يبيِّن لنا أن كلمة الإنسان تخضع لماذا؟ للسياق، فتارة تُفسَّر بعموم الناس، ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً﴾ [الإنسان: 1]، الإنسان: عموم لناس.
        ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾: عموم الناس.
        لكن ﴿كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى﴾ [العلق: 6]، أي الإنسان الكافر.
        ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ [العاديات: 6] : الإنسان الكافر.
        ﴿لَفِي خُسْرٍ﴾، أي في خسارٍ وهلاك.
        مَن الذي ينجو يا رب؟
        قال: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، تحققوا بالإيمان.
        والإيمان كما يعرفه أهل السنة: اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان.
        هذا الاعتقاد لابد أن يكون مبنيًّا على علم، أنت تعتقد ماذا؟ ليس المقصود أن تعتقد أن الجدر قائم، وأن الليل قد حضر، وأن النهار سيأتي، وأن أمس يوم كذا وغدًا يوم كذا، إنما على شيء تعتقده يصح فيه البلاء، وهو الشيء الغائب عنك.
        ولذلك أول ما وُصف به المؤمنون في القرآن في قوله -عز وجل: ﴿الم * ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة 1، 2]، ماذا قال من أوصاف المتقين؟ ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: 3 ]، لأن أركان الإيمان كلها مبنية على الغيب، الإيمان بالله غيب، الإيمان بالملائكة غيب، الإيمان بالرسل بالنسبة لنا غيب، لولا أن رسول الله حدثنا عن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء ما عرفناهم، فنحن مؤمنون بالغيب.
        الإيمان باليوم الآخر غيب، الإيمان بالقدر غيب، الإيمان بالكتب أيضًا غيب، نحن نعلم أن الله أنزل كتبًا كثيرة على رسله، لكننا نؤمن بها بناءً على خبر الصادق عنها، وبهذا يحصل البلاء، لأنه لو كان شيئًا مشاهدًا ما أنكره الناس، إنما يُنكر الناس شيءٌ غاب عن أعينهم، جاء الصادق فأخبرهم عنه، منهم مَن يُكذِّب بهذا الصادق، ومنهم مَن يؤمن به.
        إذن الإيمان مبناه هو العلم، ولذلك نقول: العلم مدلول عليه بقوله: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، فلا يمكن للإنسان أن يؤمن إيمانًا صحيحًا، ولا أن يعتقد اعتقادًا صالحًا إلا أن يكون عنده علم نافع، وهو العلم الذي جاء به الوحي وأنزله الله -سبحانه وتعالى- على الرسل في الكتب أو عبر الوحي إليهم.
        ﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، إيمانًا صحيحًا.
        ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، لم يكتفوا بمجرد الاعتقاد؛ بل قرنوا الاعتقاد بالعمل، ولاحظ كيف وصف العمل بأنه ﴿الصَّالِحَاتِ﴾ لأنه ليس كل عمل ينفع الإنسان لينجو من الخسران؛ بل الذي ينجي الإنسان من الخسران هو العمل الصالح، والعمل لا يكون صالحًا حتى يتوفر فيه أمران:
        - أن يكون خالصًا لله -عز وجل.
        - وأن يكن على هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
        فإذا كان خالًا ولم يكن على هدي رسول اله فليس بصالح، وإذا كان على هدي رسول الله ولم يكن خالصًا فليس بصالح، ولذلك يوصف العمل دائمًا في القرآن بقوله: ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، يعني عملوا الأعمال الصالحات التي يقبلها الله وهي ما توفر فيها هذا الشرطان الرئيسان.
        ثم جاء بالوصف الثالث قال: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾.
        تواصوا صيغة تفاعل، صيغة التفاعل تدل على أن كل واحد منهم يقوم بما يجب عليه في إيصاء الآخرين بالحق، فأنا أوصيك بالحق وأنت توصيني بالحق، تركًا أو فعلًا، أوصيك بالحق في فعل الصلاة، وأوصيك بالحق في أمر الربا، الربا تنتهي عنه، والصلاة تأتيها وتمتثلها، فنحن نتواصى بالحق، ولذلك لا ينجو الإنسان إلا بالتواصي.
        ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110].
        ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 104] الفائزون الذي ظفروا بالمطلوب، فلا بد أن يوصي كل واحد منا صاحبه بالحق، الحق يعني الهدى والخير والإيمان والطاعة.
        قال: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾، هذه المسألة الرابعة، ﴿وَتَوَاصَوْا﴾ أي وصَّى بعضهم بعضًا بالصبر. الصبر على أي شيء؟ جاء مطلقة، فيشمل الصبر على الحق، أوصيك بالصبر على الصلاة، ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾ [طه: 132].
        نصبر على التواصي بالحق أيضًا، الصبر على الحق، والصبر على التواصي بالحق، لأن التواصي بالحق أمر صعب، ولذلك جاء في وصايا لقمان: ﴿يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾ [لقمان: 17]، لماذا قال: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾ بعد قوله ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ﴾؟
        لأن الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لابد أن يناله من الخلق شيء من المكروه، هذه قاعدة.
        فأنا عندما أراك قد أصابك شيء من المكروه بسبب أمرك بالمعروف أو نهيك عن المنكر أقول لك: يا فلان اصبر، الأنبياء خير منك، الرسل والصالحون قبلك قد سلكوا هذا المسلك وأوذوا، ما سلم أحد منهم من الأذى، فأنت لست بخير منهم، بل إنك إذا أوذيت علمت أنك على الجادة، فأنا أحثك على الصبر.
        ويدخل فيها أيضًا الصبر على أقدار الله المؤلمة، تصبر على ما يأتيك من مُرِّ القضاء ومن حرِّ البلاء، موت عزيز، ذهاب مال، فقد عضو، إلى آخره، تصبر عليها، فأوصيك بالصبر. هذه هي سورة العصر -نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بها.
        ثم ننتقل بعد ذلك إلى سورة الهمزة.
        سورة الهمزة سورة مكيَّة، وهي مكوَّنة من تسع آيات بغير خلاف.
        هذه السورة محورها حول لونٍ من ألوان الخسار، ألم يقل: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾، طيب، ما هي صور هذه الخسارة؟
        منها: همز الناس ولمزهم، والاعتداد بالمال، والسخرية بالخلق. هذا من ألوان الخسار.
        فهو يصور لنا جملة من الخاسرين، مَنهم الخاسرون يا رب؟ هم خلق كثيرون جدًا، منهم أولئك الذين يلمزون الناس ويهمزونهم، ويسخرون منهم ويجمعون المال جمعًا شديدًا ويعددونه، ولا ينفقونه في سبيله، فهي سورة تعد لنا شيئًا من ألوان الخسار المذكور في قوله: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾.
        قال: ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ﴾.
        ﴿وَيْلٌ﴾: قلنا فيما مضى أنها ذكر فيها قولان:
        - أنه وادٍ في جهنم.
        - أنها كلمة تهديد وعذاب ووعيد، وهذا أظهر وأقرب إلى الدلالة اللغوية خصوصًا وأن المعنى الآخر لم يرد فيه أحاديث صحيحة.
        فنقول: تهديد شديد. لمن؟ قال: ﴿لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ﴾، يعني همَّاز لمَّاز.
        مَن هم الهزة ومَن هم اللمزة؟
        اختلف المفسرون فيهم:
        فقيل:
        - الهمزة: المغتاب الذي يغتاب الناس.
        - واللمزة: الطعَّان الذي يطعن فيهم، فلان كذا، طويل، قصير، غبي، بخيل، هذه الأوصاف التي يذكرها هؤلاء، إرهابي، أصولي، وكلمات كثيرة، متزمِّت، مجرد أنه يُلقي الكلام على عواهنه ويطعن الناس، هذا يسمى الطعَّان. هذا قول.
        ومن المفسرين مَن قَلَب، قال:
        - الهمزة: هو الطعَّان.
        - واللمزة: هو المغتاب.
        ومنهم من قال:
        - الهمزة: الذي يهمز الناس بيده.
        - واللمزة: الذي يسخر منه بلسانه.
        السخرية باليد تسمى همزة، يعني لو مرَّ بك إنسان وأشرت إلى أنه هكذا -يعني عقله خفيف- هذا يسمى همزة.
        واللمزة باللسان، كما قال الله -عز وجل: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ﴾ [التوبة: 79].
        وعلى كلٍ على أيِّ الأقوال قلنا، الهزة واللمزة تُطلق على العيَّاب الطعَّان المغتاب الذي يسخر من الناس بلسانه ويده، سواء قلنا المعنى هذا لهذه اللفظة أو لتلك اللفظة، في النهاية هاتين اللفظتين تُطلق على كل هؤلاء الذين يحملون هذه الأوصاف.
        طيب، ما الذي يحمل هؤلاء على أن يهمزوا الناس ويلمزوهم ويسخروا منهم؟
        كِبرٌ في قلوبهم يحملهم على احتقار الخلق وذمِّهم والطعن فيهم، فليس له همٌّ إلا أن يطعن، وليس له شغل إلا أن يعيب، ويؤذي الناس بلسانه وبحركاته، وإشارات يده وعينه وخده ووجهه.
        وهذه سورة -يا إخواني- متخصصة في بيان عقوبة هؤلاء الخاسرين الذين يسخرون من الناس ويتكبرون عليهم.
        ما هو الكبر يا أخي؟ «الكبر هو بطر الحق غمط -وفي رواية أخرى: غمص- الناس».
        ما معنى «غمص الناس»؟ استصغارهم احتقارهم، فلان كذا، فلان كذا، يحتقرهم بما لا يكن احتقارًا في الحقيقة، لكن هو يراه احتقار. واضح هذا؟
        قال: ﴿الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ﴾، لاحظ هذا هو سبب الغمص، وسبب الهمز واللمز، لأن عنده مال، ماله كثير جدًا، أرقام خيالية، أرقام فلكية، وتحمله على أن يفخر على فلان وفلان وأن يتعالى على هؤلاء الخلق، هذا فيه، وهذا ما فيه.
        قال: ﴿الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ﴾، يظن أن هذا المال هو مصدر القوة العظمى، وأنه سيمنع عنه الموت، وأن سيجلب له الخير والسعادة، وأنه سيجعله أعلى من بقية الخلق.
        ولذلك يرى أن هذا المال هو سبب أو سر هذا الوجود، وهو سبب العلو في الأرض، فهو يتعالى على الناس كلهم، مثل ما ضرب الله لنا المثل بالرجلين في سورة الكهف لما قال: ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً﴾ [الكهف: 34- 36]، لاحظوا كثرة المال والاغترار به جعله يغيِّر حتى لتصورات والاعتقادات إلى أنه لو بعث في الآخرة سيكون مآله الجنة، انظر إلى أي درجة من درجات الانشغال العظيم بهذا المال، والتغيُّر الداخلي للقلب بسبب أن الإنسان ركن إلى هذا المال الذي بيده.
        قال: ﴿يَحْسَبُ﴾ أي يظن. ﴿أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ﴾.
        قال الله منكرًا عليه: ﴿كَلاَّ﴾، ليس الأمر كما تعتقد و ردع وزجر عن الهمز واللمز، وجمع المال وتعداده والركون إليه والظن أنه سبب للخلود، كلا، بل الذي سيحصل ما يلي: ﴿لَيُنْبَذَنَّ﴾، أي ليُطرحنَّ طرحًا من غير مبالاة، النبذ هو: الإلقاء من غير مبالاة.
        ﴿لَيُنْبَذَنَّ فِي الحُطَمَةِ﴾، أي ليُلقينَّ في النار التي تحطم مَن يُلقَى فيها.
        سميت "حطمة" هذا هو الاسم الذي ورد مفردًا في القرآن ولم يتكرر في سورة أخرى، سمت لنار حُطمة لأنها تحطم مَن يُلقى فيها، لا تبقي فيه شيئًا من شدة حطبها له، يعني تكسر عظامه وتحطِّم لحمه وتحرق جلده، وتدخل جوفه -نسأل الله العافية والسلامة- ولا تبقي فيه ولا تذر، ما تدع فيه شيئًا إلا أوصلت إليه العذاب.
        قال: ﴿لَيُنْبَذَنَّ فِي الحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحُطَمَةُ﴾، أي شيء هذه الحطمة؟ إنها شيء مهول عظيم، وهذا أسلب من أساليب التهويل والتفخيم والتعظيم للشيء، وقد مرَّ بنا كثيرًا في هذا الجزء، هو من أكثر ما يدور في القرآن يدور في هذا الجزء، ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحُطَمَةُ﴾.
        قال: ﴿نَارُ اللَّهِ المُوقَدَةُ﴾، يبيِّن ما هي الحطمة، أنها نار الله، ونسبة النار إلى الله أو إضافة النار إلى الله من باب التفخيم والتهويل؛ لأن الشيء يُنسَب إلى الله -سبحانه وتعالى- إما أن يكون من صفاته كما يُقال: يد الله، وجه الله. وإما أن يكون من مخلوقاته، كما يُقال: بيت الله، وناقة الله، نار الله. فما تُنسب إلى الله إلا لفخامتها وهولها وعظمها، وإلا فكل شيء في الكون هو لله -عز وجل- لكن ما نسبت إليه إلا لتفخيمها.
        لاحظ: ما قال: "نار الرب الموقدة" لأن الرب يقتضي لتربية والإنعام والعطف والرحمة. قال: ﴿نَارُ اللَّهِ﴾، ذو الهيبة والجلال الذي ينتقم من هؤلاء الذي يحتقرون الناس ويعتدون بالأموال.
        ﴿المُوقَدَةُ﴾، التي أوقدت، أوقد عليه ألف عام ثم ألف عام ثم ألف عام حتى أصبحت كما هي عليه سوداء مظلمة -نسأل الله العافية.
        ثم قال: ﴿الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ﴾، النار -يا إخواني- تطلع على الأفئدة.كيف تطلع على الأفئدة؟ مَن يعرف؟ ما معنى ﴿تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ﴾؟
        يعني تنفذ إلى داخل أجوافهم حتى تصل إلى قلوبهم، ما تكتفي بـ ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا﴾ [النساء: 56]، لا تكتفي بالجلود؛ بل ينفذ عذابها وحرَّها إلى الأفئدة.
        سؤال: لماذا خصَّ الأفئدة في هذه السورة؟ لماذا لم يقل: "يعذبهم الله بها، يحرق أجسادهم بها"، إلى غيره من الأساليب الدالة على العذاب فقط؟
        {لأن الأفئدة هي السبب في كثرة ما يشتغل به في الذنوب والمعاصي}.
        لا، ما صلته بالسورة؟ هو صحيح كلامك من حيث الجملة، لكن له صلة بالسورة.
        {أحسن الله لك يا شيخ، لأن الاعتقاد يكون في القلب في الجحود والنكران فيكون في القلب، فالإيمان قلبيًّا}.
        أنت قرَّبت وأبعدت.
        الآن بالمناسبة: الهمزة واللمزة مشكلة قلبية أم لسانية؟ هي أصلها قلبية، يعني السخرية بالناس والاستصغار لهم يحمل الإنسان على أن يعيبهم ويحتقرهم ويؤذيهم بلسانه.
        ﴿يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ﴾، يظن ظنًّا قلبيًّا أن ماله سيُخلده، إذن هذه ذنوب قلبية تستحق عذابًا يصل إلى أفئدتهم، وهذا من عدل الله -عز وجل- أن العذاب يذهب إلى المكان الذي صدر منه الكفران والجحود والبلاء.
        ولذلك قال: ﴿إِنَّهَا﴾ أي النار.
        ﴿عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ﴾، أي مطبقة، لا يستطيعون الخروج منها ولا الانفكاك عنها.
        ثم قال: ﴿فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ﴾، ﴿فِي عَمَدٍ﴾ هل هي متعلقة بمقدر مأخوذ من اللام السابق أي يُعذبون في عمد؟ فأهل النار يوضعون في عمد تخترق أجسادهم وأجوافهم حتى يشتد عليهم العذاب، فهم يُصلون بالنار صليًا؟ أو أن هذه الأبواب أو هذه النار مؤصدة، والإيصاد في عمد؟ يعني كأنه قال: "مؤصدة بعد ممددة"، أي مطبقة عليهم إطباقًا بعمدٍ ممددة بحيث لا يستطيعون الخروج من أبوابها.
        إما أن يقال هذا، وإما أن يقال هذا، وكلا المعنيين محتمل أو تحتمله الآية، والعلم عند الله -سبحانه وتعالى.
        نختم بالسورة الرابع في هذا المقام هي سورة الفيل.
        طيب، سورة الفيل -يا إخواني- ما هي مناسبتها لما قبلها؟
        طبعًا هي سورة مكيَّة، وهي تشير إلى حادثة وقعت في العام الذي ولد فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما أراد أبرهة أن يصرف الناس عن الحج إلى بيت الله الحرام وإلى الكعبة المشرفة ليذهبوا إلى البيت الذي بناه وسمَّاه القُلَّيس، وغار من هذه الكعبة فجاء يريد هدمها فانتقم الله -سبحانه وتعالى- منه.
        ما هي صلتها بسورة الهمزة في نظركم؟
        تفضل يا شيخ..
        {سبب نزول سورة الهمزة، كان كفار قريش يكذبون -صلى الله عليه وسلم- مثل أبي بن خلف وغيرهم، ونزلت سورة الفيل جاء تصديقًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- بهذه الواقعة في زمن ولادته ولم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- موجودًا في زمنه تصديقاً له}.
        هذا ممكن يكون من الأسباب أومن المناسبات، لكن أظهر منه -والله أعلم- أن يُقال: إن هؤلاء الذين وعدوا بالعذاب في الآخرة بسبب خسارهم وفعلهم لأسباب الخسار يمكن أن يعجل لهم العقوبة كما عجلها لأصحاب الفيل، وأن اعتدادك بالمال واعتدادك بالقوة لن ينفعك، ولا تظن أن الله يجعل عقوبتك مُدَّخرة في الآخرة فقط؛ بل قد تكون العقوبة معجلة كما حصل لأبرهة الذي اعتمد على قوته وغرَّه ماله، وغرَّه الفيل الذي يملكه وليس معروفًا عند العرب، جاء بهذا الفيل يُخيف العرب به، وظن أنه بهذا يستطيع يفعل ما لا يفعله أحد سواه.
        فقيل لهم: انتبهوا، العقوبة قد تكون معجلة، وهذه القوة التي تركنون إليها وتفخرون بها، وتسخرون من سواكم لأجلها قد يجعلها الله -عز وجل- حطامًا بين أيديكم مثلما فعل بأبرهة وقوته التي كان يفخر بها.
        هذه السورة -يا إخواني- تسمى سورة الفيل، وهي طبعًا مكية بالإجماع، وعدد آياتها خمس آيات أيضًا بلا خلاف بين العادِّين.
        ومحورها ما ذكرناه قبل قليل من بيان الله -عز وجل- أن العقبة فتكون معجلة لأنه اغترَّ بقوته وما عنده من مال وعتاد وجيوش، وغير ذلك.
        ومناسبتها كما ذكرنا قبل قليل.
        قال الله -عز وجل: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾، هذا استفهام تقريري، أي قد رأيت.
        لكن هل الرؤية هنا رؤية بصرية أو علمية؟
        علمية، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وُلِد في ذلك العام، فهو لم يرَ لكنه علم؛ لأن الناس قد نقلوا هذا الخبر إليه بالاستفاضة، وهو مشاع عند العرب ويعرفه الناس جميعًا ولا يختلفون فيه.
        ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ﴾، ولاحظ هنا اختار قوله ﴿رَبُّكَ﴾، لماذا؟ لأنه فيه لون من ألوان التربية للناس، فهو لما فعل ذلك بهم كان ذلك رحمة بأهل مكة، وكان ذلك حماية لبيته المعظم، وكان ذلك آية ودلالة على أن الله -سبحانه وتعالى- يحمي بيته وعبده وجنده من أن يعتديَ عليهم أحد، وينتصر لهم بأسباب ليست بأيديهم، فهذا المتكبر المتجبر الذي جاء يريد أن يحطم بيت الله؛ الله وحده قادر على أن ينتقم منه، وأن يخلص عباده من شره.
        قال: ﴿بِأَصْحَابِ الفِيلِ﴾ لاحظوا -يا إخوان- الكفار ينسبون للبهائم، "أصحاب الفيل"، لكن في سورة الكهف ماذا قال الله -عز وجل؟ ﴿سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ [الكهف: 22]، نسب الكلب إليهم، ولم ينسبهم إلى الكلب، ما قال: "أصحاب الكلب". واضح؟
        وهنا يقول: ﴿بِأَصْحَابِ الفِيلِ﴾. لماذا؟ لأن الفيل خير منهم، فهم أصحاب له، وليس هو صاحب لهم، لاحظتم؟
        الفيل خير منهم، الفيل مطيع لله -عز وجل-، قائم بما خلقه الله له، أما هم فلم يقوموا بما خلقهم الله من أجله، ولذلك نسبهم إليه ولم ينسبه إليهم.
        قال: ﴿أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ﴾، ذاك الكيد العظيم الذي كادوا به بيت الله -عز وجل- والتخطيط الضخم الذي فعله أبرهة كدولة عظمى من دول المنطقة، وجاء يريد أن يرعب العرب وأن يبسط هيمنته على الجزيرة العربية.
        قال: ﴿أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ﴾، ونحن نرى هذا في عصرنا هذا، وهو أن الله -سبحانه وتعالى- يُحبط مكائد أعدائنا، ويجعل كيدهم الذي خططوا له من خمسين ومئة سنة في تضليل أي في خسارٍ وهلاك.
        ﴿وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ﴾، أرسل على أبرهة وجنده طيرًا من السماء، من أين جاءت؟ لا أحد يعلم.
        ﴿أَبَابِيلَ﴾، أي فِرَق مجتمعة ومتتابعة يتبع بعضها بعضًا، تحمل في أيديها حجارة ترمي بها هؤلاء، سبحان الله ! عجيبة هذه، وهذه تدل على أن أفضل أنواع المقاتلة للآخرين عبر الرمي وعبر الطيران.
        قال: ﴿تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ﴾، أي من طين.
        قال: ﴿فَجَعَلَهُمْ﴾، أي جعل هؤلاء المستكبرين الذين يريدون ببيت الله سوءً.
        ﴿كَعَصْفٍ﴾، أي كورق شجر قد يبس.
        ﴿مَّأْكُولٍ﴾، أي قد أُكِلَ وديس، داسته البهائم.
        والعادة أن العصف من التبن والورق، ورق الشجر وورق الحنطة وغيرها، إذا داسته البهائم يصبح متهشِّم ومتكسِّر تكسرًا شديدًا، فتجده ذرات متفرقة، فهذا وصف الله لهم ماذا حصل لهم بعد هذه العقوبة الإلهية.
        إلى هنا نصل إلى ختم هذه الحلقة، نسأل لله -سبحانه وتعالى- أن ينفعنا بكتابه، وإلى لقاء، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

        تعليق


        • #19
          رد: تفسير جزء عم - د. محمد الخضيري

          للرفع .. بارك الله فيكم
          بارك الله في جهودكم ونفع الله بكم
          جعله الله في ميزان حسناتكم
          أسألكم الدعاء بظهر الغيب

          تعليق

          يعمل...
          X