الأعراف... سورة تحطيم الرَّماديَّة
سورة القرارات الحاسمة.. والمواقف الواضحة الثَّابتة..
تقول لا للون الرَّمادي.. نعم للوضوح..
لا تتحرَّج من قرار اتخذته طالما يرضي ربَّك!
والأمر واضح من البداية: {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } [الأعراف: 2].
نعم من البداية لا تتحرج، حدِّد موقفك والحلُّ واضحٌ في الآية الَّتي تليها: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [الأعراف: 3].
كن واضحا مع نفسك ..!!
من وليُّك الحق؟؟
هل لك أولياء من دون الله؟!
لا للتَّلُّون! لا للرَّماديَّة!!
ثمَّ الدُّخول مباشرةً في عمليَّاتٍ جراحيَّةٍ شافيَّةٍ -بإذن الله تعالى-.. تخرج كلُّ الألوان الرَّماديَّة من داخل القلوب..
مباشرةً {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} الأعراف: 4].
ألم نقل أنَّ السُّورة تحطِّم الرَّماديَّة ..
الكلام مباشرةً عن قرى أهلكت ثمَّ أوَّل قصة للبشريَّة
قصة آدم -عليه السَّلام- وإبليس..
قرارين!!
قرار برفض السُّجود وقرار بالأكل من الشَّجرة، والنَّتيجة واضحةٌ..
وهذه هي طبيعة الطَّريق!
ثمَّ تدبَّر في موقف أهل الأعراف.. رجالٌ لم يحسموا القرار وكان اللون الرَّمادي هو المفضَّل فوجدوا أنفسهم على الأعراف..
ثمَّ تتوالى القصص..
خمس قصص لخمس أنبياء في مواجهاتٍ حاسمةٍ
تبدأ بنوحٍ -عليه السَّلام-.. وبناء سفينة في وسط الصَّحراء وسط الأذى والسُّخرية ورغم ذلك.. قرارك واضحٌ بالاستمرار..
وربما تعيش هذا الموقف داخل مجتمعك وتجد سفينتك غريبةً ومستغربةً بين العالمين والكلُّ يسخر ويستهزئ!!
حتَّى أقرب النَّاس لك!
هل ستكون كائنًا رماديًّا؟
هل قرارك سيكون حاسمًا؟
وتختم القصص الخمس بقصَّة موسى -عليه السَّلام-.. ومزيد من القرارات الحاسمة في الواجهة والصَّدع بالحقِّ.. ونذكر منها قصَّة السَّحرة ..
رجالٌ ليسوا بأنبياء.. مثلنا بشر عاديُّون ولكنَّهم استطاعوا أن يقرروا ويواجهوا وحطَّموا الرَّماديَّة: {قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ *قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ* لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ*قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف: 121-126]..
وكيف أنَّ الرَّماديَّة أهلكت بني إسرائيل: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } [الاعراف: 138].
والعجيب أنَّ السُّورة كلُّها مكيَّة إلا الآية 1363: {
- {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ }
} [الأعراف: 163] فهي مدنيَّة .. وهي قصَّة أصحاب السَّبت..
وكأنَّ الرِّسالة في مكَّة إمَّا أبيض أو أسود.. أمَّا في المدينة فقد ظهر أهل النِّفاق.. أهل الحيل.. أهل الرَّماديَّة..
ثمَّ منهجيَّة أخرى لتحطيم الرَّماديَّة مكونةٌ من 3 بنود:
1- تمسك بالكتاب.
2- إقامة الصَّلاة.
3- إصلاح وليس مجرد صلاح.
{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170].
ثمَّ آيةٌ أخرى تحطِّم الرَّماديَّة..
آية العهد الواضح الجلي الَّذي شهدناه جميعًا: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } [الأعراف: 172]..
ثمَّ آيةٌ أخرى تواجه أصحاب الانسلاخ من المنهج: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [الأعراف: 175-176].
الله المستعان.. مثل الكلب !
ثمَّ الختام بمنهجيَّة في التَّعامل مع:
1- مع الله -جلَّ وعلا-: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ *وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} [الأعراف: 196-197].
2- مع النَّاس: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].
3- مع الشَّيطان: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف: 200-201].
4- مع القرآن: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204].
5- مع النَّفس: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} [الأأعراف: 205].
ثمَّ تدريبات عمليَّة لتحطيم الرَّماديَّة..
انتقل إلى العمل مباشرةً!
أوَّل آية بها سجدة بترتيب المصحف!!
الآن تعلن قرارك الحاسم بتحطيم الرَّماديَّة وإعلان الموقف الواضح.. في صورة سجودٍ..
{إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } [الأعراف: 206].
سورة الأعراف تقول لك:
القرارات الحاسمة هي سبيلك لتغيير حياتك ..
ولتغيير مجتمعك ..
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [الأعراف: 96].
تقول لك: كن حاسمًا قويًّا:
{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } [الأعراف: 145]
و {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف: 171].
لا تتحرج من التزامك.. لا يكن في صدرك حرج من قراراتك حتَّى لو كانت سفينة في وسط صحراء كما في قصة نوح -عليه السَّلام-..
أو قرارك.. مثل ناقة صالح -عليه السَّلام- فقط تطلب من القوم أن يتركوا مشروعك ولا يقربوا قرارك..
أو قرارك.. مبدأ اقتصادي شرعي في وسط فجور اقتصادي مثل قصة شعيب -عليه السَّّلام-..
أو قرارك.. مبدأ أخلاقي تؤكده الفكرة في وسط فسق مجتمعي مثل قصة لوط -عليه السَّلام-..
أو قرارك.. مواجهة طاغية عتيق في الطُّغيان مثل قصَّة موسى -عليه السَّلام-..
المهم في كلِّ قراراتك أن لا يكون في صدرك حرج ثمَّ اتبعوا ما أنزل إليكم من ربِّكم..
سورة الأعراف .. سورة تثبيت أصحاب المواقف والقرارات الصَّلبة الإيجابيَّة..
وسورة تحطيم أصحاب المواقف الرّخوة الرَّماديَّة ..
ملحوظةٌ أخيرةٌ..
على بعض أقوال أهل التَّفسير أنَّ سورة الأعراف نزلت عند الأمر بالجهر بالدَّعوة ..
فاقرأها بنفسية الصَّحابة عند الجهر بالآيات وعند نزول الآيات..
منقول
تعليق