بسم الله الرحمن الرحيم
"قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ". ( الآية 53من سورة الزمر)
هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار بأن اللّه تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب منها ورجع عنها، وإن كانت مهما كانت وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر، ولا يصح حمل هذه على غير توبة، لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب منه، عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا، فأتوا محمداً صلى اللّه عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزل: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ}، ونزل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} (أخرجه البخاري ورواه مسلم وأبو داود والنسائي). وعن ثوبان مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال، سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: "ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ}" (أخرجه الإمام أحمد عن ثوبان رضي اللّه عنه) إلى آخر الآية. وعن عمرو بن عنبسة رضي اللّه عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم شيخ كبير يدعم على عصا له فقال: يا رسول اللّه إن لي غدرات وفجرات، فهل يغفر لي؟ فقال صلى اللّه عليه وسلم: "ألست تشهد أن لا إله إلا اللّه؟" قال: بلى، وأشهد أنك رسول اللّه، فقال صلى اللّه عليه وسلم: "قد غفر لك غدراتك وفجراتك" (تفرد به أحمد من حديث عمرو بن عنبسة). وروى الإمام أحمد، عن أسماء بنت يزيد رضي اللّه عنها قالت: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقرأ: {إنه عمل غير صالح} وسمعته صلى اللّه عليه وسلم يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي).
فهذه الأحاديث كلها دالة على أن المراد أنه يغفر جميع ذلك مع التوبة، ولا يقنطن عبد من رحمة اللّه، وإن عظمت ذنوبه وكثرت، فإن باب الرحمة والتوبة واسع، قال اللّه تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوٓا۟ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}، وقال عزَّ وجلَّ: {وَمَن يَعْمَلْ سُوٓءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُۥ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا}، وقال جلَّ وعلا في حق المنافقين: {إِنَّ الْمُنَـٰفِقِينَ فِى الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ﴿١٤٥﴾ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا۟ وَأَصْلَحُوا۟}، وقال تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا۟ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـٰتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا۟} قال الحسن البصري رحمه اللّه: انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة، والآيات في هذا كثيرة جداً، وفي الصحيحين عن أبي سعيد رضي اللّه عنه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حديث الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً، ثم ندم وسأل عابداً من عباد بني إسرائيل هل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله وأكمل به مائة، ثم سأل عالماً من علمائهم هل له من توبة؟ فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ثم أمره بالذهاب إلى قرية يعبد اللّه فيها فقصدها، فأتاه الموت في أثناء الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأمر اللّه عزَّ وجلَّ أن يقيسوا ما بين الأرضيين فإلى أيهما كان أقرب فهو منها، فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بشير فقبضته ملائكة الرحمة، هذا معنى الحديث، وقد كتبناه في موضع آخر بلفظه، وقال ابن عباس في قوله عزَّ وجلَّ {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ}
عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال، سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: "والذي نفسي بيده لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض، ثم استغفرتم اللّه تعالى لغفر لكم، والذي نفس محمد بيده لو لم تخطئوا لجاء اللّه عزَّ وجلَّ بقوم يخطئون ثم يستغفرون فيغفر لهم" (تفرد به الإمام أحمد من حديث أَنَس بن مالك)، وعن أبي أيوب الأنصاري رضي اللّه عنه أنه قال حين حضرته الوفاة: قد كنت كتمت منكم شيئاً سمعته من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: "لولا أنكم تذنبون لخلق اللّه عزَّ وجلَّ قوماً يذنبون فيغفر لهم" (أخرجه أحمد ورواه مسلم والترمذي)، وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "كفارة الذنب الندامة" (أخرجه أحمد عن ابن عباس موقوفاً)، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "لو لم تذنبوا لجاء اللّه تعالى بقوم يذنبون فيغفر لهم" (تفرد به الإمام أحمد). ثم استحث تبارك وتعالى عباده إلى المسارعة إلى التوبة، فقال: {وَأَنِيبُوٓا۟ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا۟ لَهُ} الخ، أي ارجعوا إلى اللّه واستسلموا له {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} أي بادروا بالتوبة والعمل الصالح قبل حلول النقمة، {وَاتَّبِعُوٓا۟ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم} وهو القرآن العظيم {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةًۭ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} أي من حيث لا تعلمون ولا تشعرون، ثم قال تعالى: {أَن تَقُولَ نَفْسٌۭ يَـٰحَسْرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِى جَنبِ اللَّهِ} أي يوم القيامة يتحسر المجرم المفرط في التوبة والإنابة ويود لو كان من المحسنين المخلصين المطيعين للّه عزَّ وجلَّ، وقوله تبارك وتعالى: {وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّـٰخِرِينَ} أي إنما كان عملي في الدنيا عمل ساخر مستهزئ غير موقن مصدق، {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِى لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴿٥٧﴾ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةًۭ فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أي تود لو أعيدت إلى الدنيا لتحسن العمل، قال ابن عباس: أخبر اللّه سبحانه وتعالى ما العباد قائلون قبل أن يقولوه، وعملهم قبل أن يعملوه، وقال تعالى: {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}، {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَـٰحَسْرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِى جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّـٰخِرِينَ ﴿٥٦﴾ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَىٰنِى لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴿٥٧﴾ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴿٥٨﴾} فأخبر اللّه عزَّ وجلَّ أن لو ردوا لما قدروا على الهدى فقال: {وَلَوْ رُدُّوا۟ لَعَادُوا۟ لِمَا نُهُوا۟ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ}، وفي الحديث: "كل أهل النار يرى مقعده من الجنة، فيقول: لو أن اللّه هداني فتكون عليه حسرة، قال: وكل أهل الجنة يرى مقعده من النار، فيقول: لولا أن هداني اللّه قال: فيكون له الشكر" (أخرجه أحمد والنسائي عن أبي هريرة مرفوعاً)، ولما تمنى أهل الجرائم العود إلى الدنيا، وتحسروا على تصديق آيات اللّه واتباع رسله، قال اللّه سبحانه وتعالى: {بَلَىٰ قَدْ جَآءَتْكَ ءَايَـٰتِى فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَـٰفِرِينَ} أي قد جاءتك أيها العبد النادم آياتي في الدار الدنيا وقامت حججي عليك فكذبت بها واستكبرت عن اتباعها وكنت من الكافرين بها الجاحدين لها.
( عن تفسير ابن كثير).
تعليق