" وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا * فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا * عُذْرًا أَوْ نُذْرًا *" . هذه الجمل كلها فى وصف الريح التى تنبئنا النشرات الجوية عن مصادر هبوبها وتحديد وجهاتها، وصدر السورة هنا يشبه صدر سورة الذاريات. والهواء أساس الحياة البشرية سواء وقف ساكنا أو هب عليلا أو اشتد عاصفا.. وقد تساءلت كثيرا عن الهواء الذى يملأ رئتى زفيرا وشهيقا: هل يبقى فى القاهرة، أم يتنقل ريحا بين شرق الدنيا وغربها، ويمر فى حركته الدائمة بصدور أخرى؟ إننى موقن بأنى أشرب الشاى من شرقى آسيا وأشرب ماء النيل من أعماق المحيط الهندى، وعندما أتأمل فى نعماء الله أشعر بأن الكون كله يشترك فى خدمتى، ولكن " قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ " . عندما يهدأ الجو نشعر بالهواء لطيفا، وعندما يثور فى بعض الأقطار نراه يقصف الأشجار ويقذف بالسيارات من مكان لآخر، وهو يبعثر السحب هنا وهناك ويفرقها لتهمى بالغيث حيث شاء الله.. ونتدبر قوله تعالى: " فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا * عُذْرًا أَوْ نُذْرًا " . الذكر هنا هو القرآن الكريم، والرياح هى الوسط الناقل للأمواج الصوتية، وسامعو الوحى بين منتفع به وصاد عنه، إنه عذر للمهتدين ونذير للضالين. ونشير هنا إلى أن جمهور المفسرين يظن الآيتين الأخيرتين وصفا للملائكة، وقد لجأ إلى تقطيع المعنى على هذا النحو لأنه لم يكن يدرى أن الهواء هو الوسط الناقل للأصوات، مع أن ذلك أصبح من الحقائق المدروسة فى علم " الفيزياء " الطبيعة. وقد أقسم الله بالرياح ونعوتها المتعاطفة على أن البعث حق وأن جزاء الكفر والإيمان لاشك فيه، ثم ذكر صفات اليوم الأخير للعالم قائلا: " فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ * وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ " ؟
ص _494
إن هذا الكون المحبوك سيهى نظامه ويتمزق شمله، وتبدأ إعادة تشكيله من جديد على نحو آخر. فى أيام الدنيا. كان الأسافل يرتفعون والأنبياء يهانون ويزعجون، أما فى الآخرة فلا تكذيب لصادق ولا تكريم لكذوب. ونلحظ فى هذه السورة تكرار قوله تعالى " وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ " . لقد تكررت عشر مرات، أحيانا تجىء بعد نذير إلهى، أو بعد آية كونية أو بعد مرحلة تاريخية أو بعد نصيحة إنسانية. وقد بدأ إيراد لآية بعد تهديد للمكذبين وتذكير بما لحقهم فى الدنيا من نكال، إن ما أصاب الأولين لن يفوت الآخرين! ثم يجىء هذا الاستفهام التقريرى عن الخالق الكبير. إنه سبحانه الذى أنشأنا من عدم نسبى أو من عدم مطلق! كيف بدأت هذه النشأة؟ إنها لم تبدأ فى طريق مفروش بالورد تحفه المعادن النفيسة! إنها بدأت من ماء مهين يمشى مع الفضلات البشرية فى مجارى واحدة!! " أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ. فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَّعلُومٍ" . فى هذا المستقر يتكون البشر، العبقرى منهم والبليد، ويولد إنسان عجيب المواهب رائع التقويم. من أشرف على إبداعه؟ إن آله الأقربين يرقبون ما يحدث وحسب! ولذلك يقول الله " فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ " . أجل نعم المقدر، وفى الصافات يقول المولى عن نفسه " وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ " . أجل نعم المجيب. إن هذا المديح للذات الأقدس بداية إحصاء لأمجاد إلهية لا تنتهى يستحضرها المسلم فى الصلوات المكتوبة وهو يصيح بتكبير الله قائما قاعدا راكعا ساجدا.. ثم يقول الله جل شأنه "أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً " . الكفت الضم والجمع. والآيات تشير إلى الجاذبية الأرضية التى تربط الأحياء والأموات بالأرض، وتلصق كل شىء بها لا تسمح له بفكاك! إن غزاة الجو - وهم فى الطريق إلى القمر - نظروا إلى الأرض وهم على بعد مئات الأميال منها، ثم تساءلوا من يمسكها فى مكانها؟ وأتساءل معهم من يمسك الماء على سطحها، وهو أربعة أخماس الكرة؟ لماذا لم ينسكب فى الجو؟ لأن الله جعل الأرض كفاتا تجذب كل قطرة إليها! أى لطافة سارية فى طباق البر والبحر تقوم بهذا الصنيع الباهر؟ " وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا " . ثم تنتقل السورة إلى مشاهد الجزاء الأخروى، وتصف عقبى المؤمنين والكافرين، وجموع
ص _495
الخلائق الذين سكنوا الأرض خلفا من بعد سلف " هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ * فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ *وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ " . وأى كيد ينتظر منهم؟ لقد بهتهم الحق وبغتتهم الساعة فلا تسمع إلا همسا. وتختم السورة الكريمة بهذه الآية " فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ " ؟ هل هناك كلام أهدى من هذا الكلام؟ هل هناك تعريف بالله وحقوقه أفضل من هذا التعريف؟ هل سمعنا بشرا نقل عن الله أصدق من هذا البلاغ؟ إن محمدا بهذا الكتاب الذى قرأه علينا أنصف الحقيقة، ودحض الشبهات وزلزل الباطل " فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ " .
ص _496
إن هذا الكون المحبوك سيهى نظامه ويتمزق شمله، وتبدأ إعادة تشكيله من جديد على نحو آخر. فى أيام الدنيا. كان الأسافل يرتفعون والأنبياء يهانون ويزعجون، أما فى الآخرة فلا تكذيب لصادق ولا تكريم لكذوب. ونلحظ فى هذه السورة تكرار قوله تعالى " وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ " . لقد تكررت عشر مرات، أحيانا تجىء بعد نذير إلهى، أو بعد آية كونية أو بعد مرحلة تاريخية أو بعد نصيحة إنسانية. وقد بدأ إيراد لآية بعد تهديد للمكذبين وتذكير بما لحقهم فى الدنيا من نكال، إن ما أصاب الأولين لن يفوت الآخرين! ثم يجىء هذا الاستفهام التقريرى عن الخالق الكبير. إنه سبحانه الذى أنشأنا من عدم نسبى أو من عدم مطلق! كيف بدأت هذه النشأة؟ إنها لم تبدأ فى طريق مفروش بالورد تحفه المعادن النفيسة! إنها بدأت من ماء مهين يمشى مع الفضلات البشرية فى مجارى واحدة!! " أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ. فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَّعلُومٍ" . فى هذا المستقر يتكون البشر، العبقرى منهم والبليد، ويولد إنسان عجيب المواهب رائع التقويم. من أشرف على إبداعه؟ إن آله الأقربين يرقبون ما يحدث وحسب! ولذلك يقول الله " فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ " . أجل نعم المقدر، وفى الصافات يقول المولى عن نفسه " وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ " . أجل نعم المجيب. إن هذا المديح للذات الأقدس بداية إحصاء لأمجاد إلهية لا تنتهى يستحضرها المسلم فى الصلوات المكتوبة وهو يصيح بتكبير الله قائما قاعدا راكعا ساجدا.. ثم يقول الله جل شأنه "أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً " . الكفت الضم والجمع. والآيات تشير إلى الجاذبية الأرضية التى تربط الأحياء والأموات بالأرض، وتلصق كل شىء بها لا تسمح له بفكاك! إن غزاة الجو - وهم فى الطريق إلى القمر - نظروا إلى الأرض وهم على بعد مئات الأميال منها، ثم تساءلوا من يمسكها فى مكانها؟ وأتساءل معهم من يمسك الماء على سطحها، وهو أربعة أخماس الكرة؟ لماذا لم ينسكب فى الجو؟ لأن الله جعل الأرض كفاتا تجذب كل قطرة إليها! أى لطافة سارية فى طباق البر والبحر تقوم بهذا الصنيع الباهر؟ " وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا " . ثم تنتقل السورة إلى مشاهد الجزاء الأخروى، وتصف عقبى المؤمنين والكافرين، وجموع
ص _495
الخلائق الذين سكنوا الأرض خلفا من بعد سلف " هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ * فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ *وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ " . وأى كيد ينتظر منهم؟ لقد بهتهم الحق وبغتتهم الساعة فلا تسمع إلا همسا. وتختم السورة الكريمة بهذه الآية " فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ " ؟ هل هناك كلام أهدى من هذا الكلام؟ هل هناك تعريف بالله وحقوقه أفضل من هذا التعريف؟ هل سمعنا بشرا نقل عن الله أصدق من هذا البلاغ؟ إن محمدا بهذا الكتاب الذى قرأه علينا أنصف الحقيقة، ودحض الشبهات وزلزل الباطل " فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ " .
ص _496
مأخوذ من كتاب نحْوَ تفسير مَوْضوعيّ.
الشيخ محمد الغزالي.
الشيخ محمد الغزالي.
تعليق