كان النبى صلى الله عليه وسلم مشغولا بدعوة نفر من كبراء قريش إلى الإسلام، لأنهم إذا اهتدوا تبعتهم جماهير فى اعتناق هذا الدين، فجاء عبد الله بن أم مكتوم الأعمى ـ وهو يجادل القوم ـ طالبا الهدى والتحدث مع النبى، فضاق النبى به، وقطب جبينه ومضى فى حديثه مع الكبراء المشركين! فنزلت السورة " عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ ﴿١﴾ أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ ﴿٢﴾ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ ﴿٣﴾ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَىٰ ﴿٤﴾" وقد استمع النبى الكريم إلى هذا العتاب، ثم أحسن استقبال عبد الله بعد. وكان يقول له: مرحبا بمن عاتبنى فيه ربى. وكان إذا غاب عن المدينة ـ بعد الهجرة ـ يوليه إمارتها حتى يعود !! ثم مضت السورة تشرح طبيعة البلاغ الإلهى. إنه آيات تسمع، أو صحف تقرأ يعرضها سفرة كرام بررة، يعنى كتبة الوحى وحفظة القرآن. وعلى من أتاه البلاغ أن يتدبر ويعى ويفر إلى الله ويستعد للقائه! لكن هل جمهرة البشر هكذا؟ كم ترى إنسانا مغلق الذهن يضرب الأرض بقدميه ولا يدرى كيف جاء إلى الدنيا. لقد بدأ قطرة ماء ثم نما فصار شخصا سويا. من أفرغه فى هذا الكيان، ووهب له تلك الصورة؟ كيف نسى ربه ولى أمره ونعمته؟ " مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ﴿١٨﴾ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ﴿١٩﴾ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ﴿٢٠﴾ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ﴿٢١﴾ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ ﴿٢٢﴾".
إن الإنسان يغفل عن ذلك كله، ولا يفكر إلا فى بلوغ غاياته وقضاء لباناته، كما قال الشاعر: إذا جاء هذا الموت لم ألف حاجة لنفسى إلا قد قضيت قضاءها! فهل قضى لله حقا؟ " كلا لما يقض ما أمره ".
والجدال مع المشركين والكفرة فى كل عصر يقوم على البعث والجزاء، فهم ما يؤمنون إلا بدنياهم الحاضرة فجاء القرآن بأحد أدلة البعث المشهودة ليعرفوا ربهم ويأخذوا أهبتهم للقائه "فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ ﴿٢٤﴾ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ﴿٢٥﴾ ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ﴿٢٦﴾ فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا ﴿٢٧﴾ وَعِنَبًا وَقَضْبًا ﴿٢٨﴾ وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا ﴿٢٩﴾ وَحَدَائِقَ غُلْبًا ﴿٣٠﴾".
ص _501
كيف خلقت هذه السنابل الحافلة والعناقيد الزاهية؟ وكيف توزعت عليها الحلاوة والعطور والأذواق؟ إن مبدع ذلك من الأتربة والأرواث هو الذى سينبت الأجساد مرة أخرى، ثم يواجه كل إنسان ما قدم. "فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ ﴿٣٣﴾ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ﴿٣٤﴾ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ﴿٣٥﴾ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ﴿٣٦﴾ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴿٣٧﴾ " إن البشر محجوبون بمشاغلهم العاجلة وأفقهم القريب عن الجنة والنار والثواب والعقاب " وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ﴿٣٨﴾ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ ﴿٣٩﴾ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ﴿٤٠﴾ تَرْ*هَقُهَا قَتَرَةٌ ﴿٤١﴾". المحزن فى عصرنا أن التقدم العلمى يبحث مكانه ولا يريد أن يعرف ما وراءه، ولذلك يستبعد الحديث عن الآخرة ولا يعرض له فى مجلس جاد..
ص _502
مأخوذ من كتاب نحْوَ تفسير مَوْضوعيّ.
الشيخ محمد الغزالي.
الشيخ محمد الغزالي.
تعليق