كلام نفيس للعلامة السعدي في الصبر على المصائب
في قوله تعالى : {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي
أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ*
لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ
كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } الحديد 22: 23
* قال الإمام العلامة السعدي - رحمه الله - في كتابه :
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان [ ص ٨٤٢ ،
ط المعارف ] : ـ
( يقول تعالى مخبرا عن عن عموم قضائه و قدره :
{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ } الحديد:22 وهذا شامل
لعموم المصائب التي تصيب الخلق من خير وشر ، فكلها قد
كتبت في اللوح المحفوظ :صغيرها و كبيرها ، وهذا أمر
عظيم لا تحيط به العقول ، بل تذهل عنه أفئدة أولي الألباب ،
ولكنه على الله يسير .وأخبر الله عباده بذلك لأجل أن تتقرر
هذه القاعدة عندهم ، ويبنوا عليها ما أصابهم من الخير والشر
، فلا ييأسوا ويحزنوا على ما فاتهم مما طمحت له نفوسهم
وتشوقوا إليه ؛ لعلمهم أن ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ ، لا
بد من نفوذه ووقوعه ، فلا سبيل إلى دفعه ، ولا يفرحوا بما
آتاهم الله ، فرح بطر و أشر ؛ لعلمهم أنهم ما أدركوه بحولهم
وقوتهم ، وإنما أدركوه بفضل الله ومنه ، فيشتغلوا بشكر من
أَوْلَى النعم و دَفَعَ النقم ، و لهذا قال :
{ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } الحديد:23 أي : متكبر فظ غليظ
معجب بنفسه ، فخور بنعم الله ، ينسبها إلى نفسه ، وتطغيه
وتلهيه ، كما قال تبارك وتعالى {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ
إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } الزمر:49
و قال في آية التغابن في قوله تعالى : { مَاأَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ
إِلابِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }التغابن:11
و هذا عام لجميع المصائب في النفس والمال والولد والأحباب
ونحوهم ، فجميع ما أصاب العباد فبقضاء الله وقدره ، سبق
بذلك علم الله تعالى ، وجرى به قلمه ، ونفذت به مشيئته ،
واقتضته حكمته .والشأن كل الشأن : هل يقوم العبد بالوظيفة
التي عليه في هذا المقام أم لا يقوم بها ؟فإن قام بها : فله
الثواب الجزيل والأجر الجميل في الدنيا والآخرة.فإذا
آمن أنها من عند الله ، فرضي بذلك وسلم لأمره : هدى
الله قلبه ، فاطمأن و لم ينزعج عند المصائب ، كما يجري
لمن لم يهد الله قلبه ، بل يرزقه الله الثبات عند ورودها ،
والقيام بموجب الصبر ، فيحصل له بذلك ثواب عاجل ،
مع ما يدخر الله له يوم الجزاء من الثواب ، كما قال تعالى
{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ }الزمر:10 .وعلم من
هذا : أن من لم يؤمن بالله عند ورود المصائب - بأن لم
يلحظ قضاء الله وقدره ، بل وقف مع مجرد الأسباب - :
أنه يخذل ، ويكله الله إلى نفسه . وإذا وكل العبد إلى نفسه :
فالنفس ليس عندها إلا الجزع والهلع الذي هو عقوبة عاجلة
على العبد قبل عقوبة الآخرة على ما فرط في واجب الصبر
هذا ما يتعلق بقوله { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } في مقام
المصائب الخاص .و أما ما يتعلق بها من حيث العموم اللفظي
فإن الله أخبر أن كل من آمن - أي : الإيمان المأمور به من
الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره
وشره - وصدق إيمانه - بما يقتضيه الإيمان من القيام بلوازمه
وواجباته - أن هذا السبب الذي قام به العبد : أكبر سبب لهداية
الله له في أحواله وأقواله وأفعاله ، وفي علمه وعمله .وهذا
أفضل جزاء يعطيه الله لأهل الإيمان ، كما قال تعالى في الإخبار
أن المؤمنين يثبتهم الله في الحياة الدنيا وفي الآخرة- [وأصل
الثبات : ثبات القلب وصبره و يقينه عند ورود كل فتنة ] -
فقال تعالى : {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } إبراهيم:27
فأهل الإيمان أهدى الناس قلوبا ، وأثبتهم عند المزعجات
والمقلقات ، وذلك لما معهم من الإيمان " اهـ .
تعليق