" لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ(1) " يعنى أقسم بمكة " وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ(2)" ثاوٍ به تدعو إلى الله على بصيرة. ومع أن البلد حرم يصان فيه الحيوان والنبات، فإن محمدا استبيح واستمرئ العدوان عليه. ولماذا القسم ببلد يقع فيه هذا التناقض؟ لأن الدعوة إلى التوحيد هنا وبناء جيل جديد يرتبط بالله إجابة لدعاء وقع من وراء القرون،
يقول فيه إبراهيم وإسماعيل " رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ" ولذلك نحن نفسر " وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ(3)" بأن الوالد هو إبراهيم وأن محمدا من ذرية إسماعيل هو ولده الذى يختم الرسالات ويقيم دولة التوحيد فى الأرض.
"لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ(4)" إن الجنس الإنسانى يحمل أثقال التكاليف، ولجام الشريعة يحجزه عن تحقيق شهواته. وقد يكفر الإنسان وينكر أنه سيحيا مرة أخرى. لماذا؟ أيعجز الله عن إعادته بعد إماتته؟ " يَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ "؟ وذلك كقوله فى سورة أخرى: "أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أن لَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ " ؟! ويغتر الإنسان بما أسدى وأنفق من ثروته " يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَدًا(6) "، كثيرا وتلك طبيعة العرب فى الافتخار بالجاه والثراء والعطاء.
يقول عنترة: وإذا سكرت فإننى مستهلك مالى وعرضى وافر لم يكلم..! وإذا صحوت فما أقصر عن ندى وكما علمت شمائلى وتكرمى..! وما قيمة هذا كله إذا لقى المرء ربه عريان لا يكسوه إيمان ولا صلاح؟! "أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ(7)"؟ إن الله سائل كل امرئ عن ماله " من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه "؟
ص _521
ثم يذكر المولى عبده بما أوح عنده من نعم تستدعى الشكر "أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ . وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ . وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ ".
فهلا كسر قيود الكفر والتقليد الأعمى واقتحم طريقه إلى الله مؤمنا به مطيعا لأمره! وماذا يصنع ليحقق ذلك؟ "وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ . فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ . يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ . ". والسورة هنا ذكرت الإيمان بآثاره الجليلة، فليس الإيمان زعما مجردا إنما هو عطاء وفداء وذكاء وسناء. والمؤمنون نماذج الإنسانية الكاملة والشرف الرفيع " ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ . أُولَـئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ .". أى جمهور أهل الجنة.
والتواصى بالصبر والمرحمة شارة أهل الكمال والاجتهاد. والمؤمنون ليسوا كسالى ولا خزايا، إنهم ناشطون فى طريق الخير، حتى يدركهم الموت فينقلهم إلى منازلهم من جنة الرضوان، كل على قدر نشاطه وسبقه وتوفيق الله له.
أما مدمنو الآثام وعشاق الظلام، فلهم عاقبة أخرى " وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ . عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ . ". سورة البلد هذه بينت أن الأنبياء العرب لم ينجحوا فى هداية أطراف الجزيرة شمالا وجنوبا. حتى جاء النبى الخاتم فكون من وسط الجزيرة من حملوا المشاعل إلى العالم أجمع.
ص _522
مأخوذ من كتاب نحْوَ تفسير مَوْضوعيّ.
الشيخ محمد الغزالي.
تعليق