السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
من الآيات التي تتحدث عن أحكام فريضة الحج قوله سبحانه: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (البقرة:196).
نقف مع هذه الآية الكريمة عند لطيفتين، يجدر الإشارة إليهما:
الأولى: تتعلق بقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ}، وقوله سبحانه: {فَإِذَا أَمِنتُمْ}، حيث يفرق أهل اللغة بهذا الخصوص بين أداتي الشرط (إذا)، و(إن)؛ فيذكرون أن (إذا)، تُستعمل للمستقبل، ولما يُتيقَّن وقوعه، أو رجحان وقوعه، بخلاف (إن)، التي لا تستلزم وقوع الشيء على وجه اليقين، بل قد يكون استعمالها على وجه المستحيل عقلاً، كما في قوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} (الزخرف:81)، أو لما يكون مستحيل عادة، كقوله عز وجل: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ} (الأنعام:35)، فيجعلون (إذا) مع الشيء المتحقق وقوعه، أو المترجح، فيقولون: إذا دخل وقت الصلاة نصلي؛ لأن دخول وقتها متحقق الوقوع، ولا يصح أن يقال: إن دخل وقت الصلاة نصلي؛ لأن هذا الأسلوب مشعر بأن دخوله محتمل وغير مؤكد.
وقد قال بعض أهل اللغة عن (إذا): إن الذاكر لها في الكلام كالمعترف بأنها كائنة، كقولك: إذا طلعت الشمس فائتني، فالمتكلم معترف بطلوع الشمس. والذاكر لـ (إن) لا يدري أيكون المذكور أم لا يكون؟ كقولك: إن قدم زيد زرته، ولا يُدرى أيقدم زيد أم لا؟ ولذلك حسن قولك: آتيك إذا احمر العنب. وقبح: آتيك إن احمر العنب؛ لإحاطة العلم أن احمرار العنب كائن.
وأيضاً، يؤتى بالأداة (إذا) مع الشيء الذي يحدث كثيراً، أما (إن) فيؤتى بها مع الشيء القليل الحدوث، كقول الطالب الذي اعتاد النجاح: إذا نجحت فسأعود إلى بلدي، وإن رسبت فسوف أبقى هنا، أما الطالب المهمل المفرط الذي اعتاد الإخفاق، فيقول: إن نجحت فسأعود إلى بلدي، وإن رسبت فسوف أبقى هنا.
وتأسيساً على هذا الفرق بين (إذا) و(إن) قالوا في الآية التي معنا: إن قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ}، استعمل (إن)؛ لأن الإحصار قليل الوقوع، فقد يقع وقد لا يقع، أما الأمن والتمكن من الوصول إلى مكة، والقدرة على إتمام الحج فهو الأكثر والأرجح وقوعاً؛ ولذلك قال {فَإِذَا أَمِنتُمْ}.
الثانية: تتعلق بقوله سبحانه: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}، فظاهر الكلام أن قوله سبحانه: {عَشَرَةٌ} مغن عن قوله: {كَامِلَةٌ}؛ لأنها إذا لم تكن كاملة فستكون تسعة، أو ثمانية...ومن ثم كان من المشروع السؤال: ما موقع {كَامِلَةٌ} في هذه الآية؟
للعلماء آراء في توجيه ذلك، أحسنها رأيان:
=======================
الأول: أن قوله تعالى: {كَامِلَةٌ}، إنما هو بمعنى (فاضلة)؛ من كمال الفضل، لا من كمال العدد، وقد قال بعض أهل العلم: إن (الإتمام) لإزالة نقصان الأصل، و(الإكمال) لإزالة نقصان العوارض بعد تمام الأصل، ومن ثم كان قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} أحسن من: (تلك عشرة تامة)؛ إذ (التمام) في العدد قد عُلِم، وإنما بقي احتمال النقص في صفاتها. ويفترقان أيضاً من جهة أن قولهم: (تمَّ) يُشعر بحصول نقص قبل ذلك، و(كمل) لا يُشعر به، ومن ثم قالوا: رجل كامل، إذا جمع خصال الخير، ورجل تام، إذا كان غير ناقص الطول. وأيضاً (تمَّ) يُشعر بحصول نقص بعده، كما يوصف القمر بالتمام. وتقول العرب: تم البدر؛ لأنه كان ناقصاً، ومصيره إلى نقصان.
الثاني: أنه لما قيل: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}، جاز أن يتوهم المتوهم أن الفرض ثلاثة أيام في الحج، (أو) سبعة في الرجوع، فأعلم سبحانه أن العشرة مفترضة كلها، ويكون المعنى: المفروض عليكم صوم عشرة كاملة على ما ذُكر من تفرقها في الحج والرجوع. فليست (الواو) في الآية {وسبعة}، بمعنى (أو)، كما في قوله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} (النساء:3)؛ إذ الواو فيها بمعنى (أو)؛ لئلا يظن ظان أنه يصح جمع تسع من النساء جملة واحدة. وأيضاً قوله سبحانه: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} (النساء:34)؛ إذ لا يسوغ الجمع بين الوعظ والهجر والضرب.
وللشيخ القاسمي رأي هنا من المفيد ذكره، وهو أن {كَامِلَةٌ} صفة مؤكدة لـ {عَشَرَةٌ}، تفيد المبالغة في المحافظة على العدد، ففيه زيادة توجيه لصيامها وألا يتهاون بها، ولا ينقص من عددها، كأنه قيل: تلك {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}، فراعوا كمالها ولا تُنْقِصوها.
وقبل كل ذلك ينبغي أن يقال: إنه لا غرابة في أسلوب القرآن، فهو فوق أسلوب البشر، وهو كلام رب العالمين {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت:42).
م ن ق و ل
تعليق