من الجميل لنا أن نقرأ كتاب الله و نعطر به ألسنتنا و آذاننا آناء الليل و أطراف النهار لكن الأجمل أن نتدبر كلام الله و نتوقف عند بعض من أسراره و معانيه فتزداد حلاوة القرآن في قلوبنا .
انظر إلي هذه السورة رغم قلة كلماتها فهي عبارة عن عشر كلمات في آيات ثلاث لكن معانيها عجيبة و كثيرة كآيات القرآن كله إنها سورة الكوثر و التي كأنها كالمقابلة مع سورة الماعون التي قبلها مباشرة فلقد وصف الله تعالى في آخر سورة الماعون المنافق بأمور أربعة:
أولها: البخل وهو المراد من قوله:{فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴿٢﴾وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴿٣﴾}.
الثاني: ترك الصلاة وهو المراد من قوله:{الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴿٥﴾}.
والثالث: المراءاة في الصلاة هو المراد من قوله:{الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ﴿٦﴾}.
والرابع: المنع من الزكاة وهو المراد من قوله:{وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴿٧﴾}.
فذكر في هذه السورة في مقابلة تلك الصفات الأربع صفات أربعة.
فذكر في مقابلة البخل قوله:{ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴿١﴾ }أي إنا أعطيناك الكثير، فأعط أنت الكثير ولا تبخل.
وذكر في مقابلة: {الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴿٥﴾}قوله:{ فَصَلِّ}أي دم على الصلاة.
وذكر في مقابلة: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ﴿٦﴾ } قوله:{ لِرَبّكِ}أي ائت بالصلاة لرضا ربك، لا لمراءاة الناس.
وذكر في مقابلة:{ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ﴿٧﴾ }قوله: {وَٱنْحَرْ}وأراد به التصدق بلحم الأضاحي، فاعتبر هذه المناسبة العجيبة، ثم ختم السورة بقوله: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ}أي المنافق الذي يأتي بتلك الأفعال القبيحة المذكورة في تلك السورة سيموت ولا يبقى من دناه أثر ولا خبر، وأما أنت فيبقى لك في الدنيا الذكر الجميل، وفي الآخرة الثواب الجزيل.
والوجه الثاني: في لطائف هذه السورة أن السالكين إلى الله تعالى لهم ثلاث درجات:
أعلاها أن يكونوا مستغرقين بقلوبهم وأرواحهم في نور جلال الله
وثانيها: أن يكونوا مشتغلين بالطاعات والعبادات البدنية
وثالثها: أن يكونوا في مقام منع النفس عن الانصباب إلى اللذات المحسوسة والشهوات العاجلة، فقوله: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴿١﴾فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴿٢﴾}فهو إشارة إلى المرتبة الثانية، وقوله: وٱنْحَرْ إشارة إلى المرتبة الثالثة، فإن منع النفس عن اللذات العاجلة جار مجرى النحر والذبح، ثم قال:{ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ }ومعناه أن النفس التي تدعوك إلى طلب هذه المحسوسات والشهوات العاجلة، أنها دائرة فانية، وإنما الباقيات الصالحات خير عند ربك، وهي السعادات الروحانية والمعارف الربانية التي هي باقية أبدية.
تعليق