تميزت معالجة القرآن الكريم لموضوعاته بشمولية التناول وتنوُّعِها؛ إذ قد تختلف الظروف المحيطة بموضوع ما بحيث يكون له أثر على سير الأحداث والنتائج من باب أَوْلَى.
ومن هذه الموضوعات المهمة موضوع الطغاة والطغيان الذي كان محوراً هاماً في كتاب الله يوضح مفهوم الطغاة والتعريف بالطاغين وأنواعهم، وصفاتهم، وبواعث الطغيان لديهم، وأساليبهم، ومصائرهم.
المفهوم:
مفهوم الطغيان في العربية:
قال ابن فارس: «الطاء والغين والحرف المعتل أصل صحيح منقاس، وهو مجاوزة الحد في العصيان»[1]، وكلُّ شيء يجاوز الحد فقد طغى، مثلما طغى الماء على قوم نوح. قال - سبحانه -: {إنَّا لَـمَّا طَغَا الْـمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْـجَارِيَةِ} [الحاقة: 11].
الطغيان في الاستعمال القرآني:
وردت كلمة (طغى) ومشتقاتها في تسعة وثلاثين موضعاً من القرآن الكريم، وبصيَغ وتصريفات مختلفة: (طغى، يطغى، أطغى، تطغوا، طغوا، أطغيته، طغيان، طغوى، طاغية، طاغوت، طاغين، طاغون).
ويمكن القول بأن هذه المعاني يجمعها شيء واحد، وهو: المعنى اللغوي «مجاوزة الحد» لكلمة الطغيان، مع عدم إغفال السياق القرآني الذي يضفي معانٍ جديدةً على الكلمات أثناء البحث والتحقيق.
وأما استعمالات القرآن لها، فقد ذكر ابن سلاَّم وغيره أنَّ الطغيان في القرآن الكريم على أربعة أوجه[2]:
• الطغيان بمعنى الضَّلالة؛ وذلك كما في قوله - تعالى -: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 51].
• الطغيان بمعنى العصيان؛ وذلك كما في قوله - تعالى -: {اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى} [طه: 24].
• الطغيان بمعنى الارتفاع والتكثُّر؛ وذلك كما قوله - تعالى -: {إنَّا لَـمَّا طَغَا الْـمَاءُ} [الحاقة: 11].
• الطغيان بمعنى الظلم؛ وذلك كما في قوله - تعالى -: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17]، وقوله - سبحانه -: {أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْـمِيزَانِ} [الرحمن: 8].
أما الطاغوت فقد أوردتْ له كُتُب الوجوه والنظائر المعاني الآتية:
• الطاغوت يراد به الشيطان؛ وذلك في قوله - تعالى -: {فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [البقرة: 256].
• الطاغوت يراد به الأوثان التي تُعبَد من دون الله؛ وذلك في قوله - تعالى -: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36].
• الطاغوت يعنى به كعب بن الأشرف اليهودي؛ وذلك في قوله - تعالى -: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْـجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51].
أسباب الطغيان:
بالنظر إلى تناوُل القرآن لأحوال الطغاة وممارساتهم للطغيان (قديماً وحديثاً)، يجد المرء أن لهذا الداء العضال أسباباً متعددة كأي مرض آخر (حسي أو معنوي)، وهـذا ما تشير إليه الدراسات والبحوث الحديثة التي أجريت عن نفسية الطغاة، والأسباب التي تجعل من الطاغية وحشاً ضارياً.
وقد أشار القرآن الكريم - في معرض تناوُله لأحوال الطغاة وإدانة أعمالهم - إلى تلك الأسباب التي دفعت بأصحابها إلى ممارسة هذه الظاهرة القديمة الحديثة، وبالتدقيق في هذه الأسباب يُستخلَص منها أنها تنقسم إلى قسمين: (داخلية وخارجية)، ونعني بالداخلية: تلك الإشكالات النفسية التي غزت باطن هذا الطاغية، وأخذت بمجامع قلبه حتى أسودَّ قلبه بدخانها؛ فدبَّ إلى قلبه من سمومها وآفاتها ما دفعه إلى الطغيان. وأما الخارجية فنعني بها: تلك الظروف والأجواء التي هيأت له المناخ المناسب لممارسة طغيانه وعتوِّه، وساعدت في طول أمده وبقائه وسيطرته.
ويرجع إلى هذين النوعين معظم ممارسات الطغاة التي صنعت الطواغيت وأوجدتهم وهي في الوقت ذاته القاسم المشترك والجامع لكل طاغية على وجه الأرض.
أسباب الطغيان الداخلية أو (الباطنية):
الكبر والعلو:
ويكاد يكون هذا السبب هو الجامع الرئيسيُّ بين الطغاة، ويصنف على رأس أوَّليات أسباب الطغيان، وأبرز الشخصيات التي تمثل هذا السبب على الإطلاق شخصية الطاغية فرعون؛ الذي اجتمعت فيه كلُّ أسباب الطغيان الداخلية والخارجية، ومارس كل صنوف الطغيان بحق قومه. قال الله - سبحانه - عن فرعون: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ} [القصص: 4]، وقال - تعالى -: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْـحَقِّ} [القصص: 39].
العجب والغرور:
وهذه آفة الطغاة في عتوهم وتجبُّرهم وعدم قَبُولهم الحق والانصياع له؛ ولذلك قال الله - عز وجل - ذاكراً حال قوم عاد لما طغوا وتكبروا على ربهم، ثم على نبيهم: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْـحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15]. ومن صور مباهاة الطاغية فرعون ومفاخراته أنه جعل يستحقر الآخرين ويعيبهم عجباً وغروراً فقال عن موسى - عليه السلام -: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52].
الحقد والحسد:
وهو الداء الذي يحرق قلب صاحبه إذا ما رأى لله على غيره منَّة أو أسبغ عليه نعمة، فيدفعه ذلك إلى ممارسة الطغيان، وهذا كان سبب طغيان اليهود ورفضهم قبول رسالة النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه مكتوب عندهم في التوراة؛ فقد أنكر الله عليهم حسدهم لرسوله صلى الله عليه وسلم على الرسالة وحسدهم لأصحابه على الإيمان. قال الله - تعالى -: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِه} [النساء: 45]، ولا شك أن ذلك ناتج عن الحقد والحسد لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قال - سبحانه -: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} [المائدة: 64].
يتبع
تعليق