السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
====
سئل شيخ الإسلام بن تيمية
عن معنى قوله تعالى: {لَقَد تَّابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} الآية [التوبة:117]. والتوبة إنما تكون عن شيء يصدر من العبد، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الكبائر والصغائر.
فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية:
الحمد لله، الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم معصومون من الإقرار على الذنوب، كبارها وصغارها، وهم بما أخبر الله به عنهم من التوبة يرفع درجاتهم، ويعظم حسناتهم فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وليست التوبة نقصًا، بل هي من أفضل الكمالات، وهي واجبة على جميع الخلق،
كما قال تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ على الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:72- 73]
فغاية كل مؤمن هي التوبة، ثم التوبة تتنوع كما يقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين.
والله تعالى قد أخبر عن عامة الأنبياء بالتوبة والاستغفار: عـن آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى وغيرهم. فقال آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]،
وقال نوح: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47]،
وقال الخليل: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:41]، وقال هو وإسماعيل:{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ علىنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:128]، وقال موسى: {أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَـا إليكَ
[الأعراف:155-156]،
وقال تعالى: {َلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إليكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}[الأعراف: 143].
وقد ذكر الله سبحانه توبة داود وسليمان، وغيرهما من الأنبياء والله تعالى: {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]، وفي أواخر ما أنزل الله على نبيه: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}[ سورة النصر].
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في افتتاح الصلاة
"اللهمَّ ! باعِدْ بيني وبين خطايايَ كما باعدتَ بين المشرقِ والمغربِ . اللهمَّ ! نقِّني من خطاياي كما يُنقَّى الثوبُ الأبيضُ من الدَّنَسِ . اللهمَّ ! اغسِلْني من خطايايَ بالثَّلجِ والماءِ والبَرَدِ" صحيح مسلم
وفي الصحيح أنه كان يقول في دعاء الاستفتاح "اللهمَّ ! أنت الملكُ لا إله إلا أنت . أنت ربى وأنا عبدُك ، ظلمتُ نفسى واعترفتُ بذنبى ، فاغفرْ لى ذنوبى جميعًا إنه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت " صحيح مسلم
وفي الصحيح أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول "اللهم اغفر لي ذنبي كله . دقه وجله . وأوله وآخره . وعلانيته وسره" صحيح مسلم
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول "" اللهمَّ ! اغفرْ لي خطيئَتي وجَهلي . وإسرافي في أمري . وما أنت أعلمُ به مني . اللهمَّ ! اغفِرْ لي جَدِّي وهَزْلي . وخَطئي وعمْدي . وكلُّ ذلك عندي . اللهمَّ ! اغفرْ لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ . وما أسررتُ وما أعلنتُ . وما أنت أعلمُ به مني . أنت المُقَدِّمُ وأنت المُؤخِّرُ . وأنت على كلِّ شيءٍ قديرٌ " .". صحيح مسلم
ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة.
وقد قال الله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]، فتوبة المؤمنين واستغفارهم هو من أعظم حسناتهم، وأكبر طاعاتهم، وأجل عباداتهم التي ينالون بها أجل الثواب، ويندفع بها عنهم ما يدفعه من العقاب.
فإذا قال القائل:أي حاجة بالأنبياء إلى العبادات والطاعات؟
كان جاهلا؛لأنهم إنما نالوا ما نالوه بعبادتهم وطاعتهم،فكيف يقال:إنهم لا يحتاجون إليها،فهي أفضل عبادتهم وطاعتهم.
وإذا قال القائل:فالتوبة لا تكون إلا عن ذنب،والاستغفار كذلك،قيل له:الذنب الذي يضر صاحبه هو ما لم يحصل منه توبة،فأما ما حصل منه توبة،فقد يكون صاحبه بعد التوبة أفضل منه قبل الخطيئة،كما قال بعض السلف:كان داود بعد التوبة أحسن منه حالاً قبل الخطيئة،ولو كانت التوبة من الكفر والكبائر،
فإن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم خيار الخليقة بعد الأنبياء،وإنما صاروا كذلك بتوبتهم مما كانوا عليه من الكفر والذنوب، ولم يكن ما تقدم قبل التوبة نقصاً ولا عيباً،بل لما تابوا من ذلك وعملوا الصالحات كانوا أعظم إيمانا، وأقوي عبادة وطاعة ممن جاء بعدهم،فلم يعرف الجاهلية كما عرفوها.
ولهذا قال عمر بن الخطاب: إنما تُنْقَض عُرَي الإسلام عُرْوَة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية.
وقد قال اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان: 68 ـ 70].
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: إني لأعلمُ آخِرَ أهلِ الجنةِ دخولًا الجنةَ . وآخِرَ أهلِ النارِ خروجًا منها . رجلٌ يُؤتَى به يومَ القيامةِ . فيقال : اعرِضُوا عليه صِغارَ ذنوبِه وارفعوا عنه كبارَها . فتُعرَضُ عليه صِغارُ ذنوبِه . فيُقالُ : عَمِلتَ يومَ كذا وكذا، كذا وكذا . وعَمِلتَ يومَ كذا وكذا، كذا وكذا .
فيقولُ : نعم . لا يستطيعُ أن يُنكِرَ . وهو مُشفِقٌ من كبارِ ذنوبِه أن تُعرَضَ عليه . فيُقالُ له : فإن لك مكانَ كلِّ سيئةٍ حسنةً . فيقولُ : ربِّ ! قد عمِلتُ أشياءَ لا أَراها ههنا . فلقد رأيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ضحِك حتى بَدَتْ نواجذُه ." صحيح مسلم
فالعبد المؤمن إذا تاب وبدَّل اللّه سيئاته حسنات، انقلب ما كان يضره من السيئات بسبب توبته حسنات ينفعه اللّه بها، فلم تبق الذنوب بعد التوبة مضرة له، بل كانت توبته منها من أنفع الأمور له، والاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية، فمن نسي القرآن ثم حَفِظَه خير من حِفْظِه الأول لم يضره النسيان، ومن مرض ثم صح وقوي لم يضره المرض العارض.
واللّه تعالى يبتلي عبده المؤمن بما يتوب منه؛ ليحصل له بذلك من تكميل العبودية والتضرع، والخشوع للّه والإنابة إليه، وكمال الحذر في المستقبل والاجتهاد في العبادة ما لم يحصل بدون التوبة كمن ذاق الجوع والعطش، والمرض والفقر والخوف، ثم ذاق الشِّبَع والرِّي والعافية والغني والأمن، فإنه يحصل له من المحبة لذلك وحلاوته ولذته، والرغبة فيه وشكر نعمة اللّه عليه، والحذر أن يقع فيما حصل أولا ما لم يحصل بدون ذلك.
وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
وينبغي أن يعرف أن التوبة لابد منها لكل مؤمن، ولا يكمل أحد ويحصل له كمال القرب من اللّه، ويزول عنه كل ما يكره إلا بها.
ومحمد صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق وأكرمهم على اللّه، وهو المقدم على جميع الخلق في أنواع الطاعات، فهو أفضل المحبين للّه، وأفضل المتوكلين على اللّه، وأفضل العابدين له، وأفضل العارفين به، وأفضل التائبين إليه، وتوبته أكمل من توبة غيره؛ ولهذا غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
وبهذه المغفرة نال الشفاعة يوم القيامة، كما ثبت في الصحيح أن الناس يوم القيامة يطلبون الشفاعة من آدم، فيقول: إني نهيت عن الأكل من الشجرة فأكلت منها، نفسي، نفسي، نفسي. ويطلبونها من نوح فيقول: إني دعوت على أهل الأرض دعوة لم أومر بها، نفسي، نفسي، نفسي. ويطلبونها من الخليل، ثم من موسى، ثم من المسيح
فيقول: "اذهبوا إلى مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم . فيأتوني فيقولون : يا مُحَمَّدُ ! أنت رسولُ اللهِ وخاتَمُ الأنبياءِ . وغفر اللهُ لك ما تقَدَّم من ذنبِك وما تأخر . اشفعْ لنا إلى ربِّك . ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فأَنطلِقُ فآتي تحتَ العرشِ فأقعُ ساجدًا لربي .
ثم يَفتحُ اللهُ عليَّ ويُلهِمُنِي من مَحامِدِه وحُسنِ الثناءِ عليه شيئًا لم يَفْتَحْهُ لأحدٍ قبلي . ثم يُقالُ : يا مُحَمَّدُ ! ارفعْ رأسَك . سَلْ تُعْطَهْ . اشفعْ تُشَفَّعْ . فأرفعُ رأسِي فأقولُ : يا ربِّ ! أمتي . أمتي . فيُقالُ : يا مُحَمَّدُ ! أَدخِلِ الجنةَ من أُمَّتِك، مَن لا حسابَ عليه".صحيح مسلم
فالمسيح صلوات الله عليه وسلامه دلهم على محمد صلى الله عليه وسلم، وأخبر بكمال عبوديته للّه، وكمال مغفرة اللّه لـه؛ إذ ليس بين المخلوقين والخالق نسب إلا محض العبودية والافتقار من العبد، ومحض الجود والإحسان من الرب عز وجل.
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لن يُنجِّيَ أحدًا منكم عملُه . قالوا : ولا أنت يا رسولَ اللهِ ؟ قال : ولا أنا ، إلَّا أن يتغمَّدَني اللهُ برحمةٍ ، سدِّدوا وقارِبوا ، واغدوا وروحوا ، وشيءٌ من الدُّلجةِ ، والقصدَ القصدَ تبلُغوا". صحيح البخارى
وثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول "يا أيُّها النَّاسُ توبوا إلى ربِّكم فوالَّذي نفسي بيدِهِ إنِّي لأستغفِرُ اللَّهَ وأتوبُ إليهِ في اليومِ أَكثرَ من سبعينَ مرَّةٍ" صححه ابن تيمية فى مجموع الفتاوى،
وثبت عنه في الصحيح أنه قال "إنه لَيُغانُ على قلبي . وإني لأستغفرُ اللهَ ، في اليومِ ، مائةَ مرةٍ" صحيح مسلم
، فهو صلى الله عليه وسلم لكمال عبوديته للّه، وكمال محبته له، وافتقاره إليه، وكمال توبته واستغفاره، صار أفضل الخلق عند اللهّ، فإن الخير كله من اللّه، وليس للمخلوق من نفسه شيء
، بل هو فقير من كل وجه،
واللّه غني عنه من كل وجه، محسن إليه من كل وجه،
فكلما ازداد العبد تواضعاً وعبودية ازداد إلى اللّه قرباً ورفعة، ومن ذلك توبته واستغفاره.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "كل بني آدم خَطَّاء، وخير الخطائين التوابون" رواه ابن ماجه والترمذي.وحسنه الألبانى
المرجع:
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهُ الله .
تعليق