ورد فى قول الله تعالى (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ ) [ المنافقون / 10 ]
وموضع السؤال هو عطف الفعل المضارع المجزوم ( وأكن ) على الفعل المضارع المنصوب ( فأصدق ) في قوله سبحانه وتعالى { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} ومعنى : (فَأَصَّدَّقَ } أي : فأتصدّق بمالي { وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ } وقد قرأ الجمهور( أي أكثر القراء السبعة المتواترة قراءتهم ) : { فَأَصَّدَّقَ } بادغام التاء في الصاد ، وهو فعل منصوب على أنه جواب التمني ، وقيل : إن « لا » في { لَوْلَا } زائدة ، والأصل : لو أخرتني . وقرأ أبيّ ، وابن مسعود ، وسعيد بن جبير . ( فأتصدّق ) بدون إدغام على الأصل . وقرأ الجمهور :
{وَأَكُن } بالجزم على محل ، { فَأَصَّدَّقَ } ، كأنه قيل : إن أخرتني أتصدّق وأكن . وقد قال بعض أئمة علماء اللغة كالزجَّاج وأبي عليّ الفارسي وغيرهم ،ومن المفسرين : ابن عطية: معناه : هلا أخرتني؟ وجزم { وَأَكُن } عطفا على موضع { فَأَصَّدَّقَ } ؛ لأنه على معنى : إن أخرتني أتصدّقْ وأكنْ . وقال سيبويه حاكياً عن الخليل بن أحمد : إنه جزم على توهم الشرط الذي يدلّ عليه التمني ، وجعل سيبويه هذا نظير قول زهير :
بدا ليَ أني لستُ مدركَ ما مضى ... ولا سابقٍ شيئًا إذا كان جائيا
فجر كلمة ( سابق ) عطفاً على (مدرك) الذي هو خبر ليس على تقدير زيادة الباء فيه .أي : لست بمدرك ولا بسابق . وقرأ أبو عمرو ( وهو من السبعة ) ، وابن محيصن ، ومجاهد : ( وأكونَ ) بالنصب عطفاً على { فَأَصَّدَّقَ } ، ووجهها واضح . وقرأها عبيد بن عمير : ( وأكون ) بالرفع على الاستئناف ، أي : وأنا أكون .
و { لَوْلَا } حرف تحضيض ، وتستعمل أيضاً للعرض والتوبيخ والتنديم والتمني على المجاز أو الكناية ، وحق الفعل بعدها أن يكون مضارعاً وإنما جاء ماضياً هنا لتأكيد إيقاعه في دعاء الداعي حتى كأنه قد تحقق مثل { أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ } [ النحل / 1 ] وقرينة ذلك ترتيب فعلَيْ { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ } عليه .
والمعنى : فيسأل المؤمن ربه سؤالاً حثيثاً أن يحقق تأخير موته إلى أجل يستدرك فيه ما اشتغل عنه من إنفاق وعمل صالح .
ومن باب الحمل على الموضع أيضا قوله تعالى : (مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ ۚ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأعراف 186]
فهذا شرط وجواب مضمونه اليأس منهم والمقت لهم لأن المراد أن هذا قد نزل بهم وأنهم مثال لهذا ، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر والحسن وأبو جعفر والأعرج وشيبة وأبو عبد الرحمن وقتادة « ونذرُهم » بالنون وضم الراء وكذلك عاصم في رواية أبي بكر ، وروى عنه حفص و « يذرُهم » بالياء والرفع ، وقرأها أهل مكة على إضمار مبتدأ ونحن نذرهم أو على قطع الفعل واستئناف القول ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو فيما ذكر أبو حاتم بالياء والجزم ، وقرأها كذلك طلحة بن مصرف والأعمش « وَيَذَرُهُمْ » بالياء والجزم عطفاً على موضع الفاء وما بعدها من قوله { فَلَا هَادِيَ لَهُ } لأنه موضع جزم ، ومثله قول أبي دواد :
فأبلوني بليتكم لعلي ... أصالحكم واستدرج بويا
ومنه قول الآخر :
أنّى سلكتَ فإنني لك كاشح ... وعلى انتقاصك في الحياة وأزدد
****** وورد سؤال عن قول الله تعالى عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم:
"ما ضلَّ صاحبكم وما غوى" [ النجم/ 2] ، وقد قال الله في موضع آخر مخاطباً رسوله الكريم: "وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ.." [الضحى/ 7] ..
فكيف نوفق بينهما؟؟
والجواب أن الضلال المراد في سورة النجم هو الضلال في الدين وفي أمور العبادة والنبوة والإخبار عما في الغيب. والغواية بمعنى اتباع الهوى. فالنفي هنا لتأكيد أمانة النبي صلى الله عليه وسلم في التبليغ عن ربه، وصدقه المُطلق في كل ما يأتي به قومه من أمور الدين الموحاة إليه من ربه.
أما الضلال الوارد في سورة الضحى فالمراد به الضلال في شؤون الدنيا المضطربة آنذاك –قبل المبعث- فقد كان محمد عليه السلام يرى قومه –قبل المبعث- على غوايتهم يعبدون الأوثان ويعظمون شأنها. فيحار بين ولائه لقومه، وبين ما تأباه فطرته السليمة من أمور عبادتهم. فتصيبه من ذلك حيرة طال عهدها به حتى كان يلجأ إلى الغار يتأمل السماء والنجوم ويدرك أن لهذا الكون خالقاً أعظم. فعبَّر عن فترة القلق والحيرة تلك بالضلال تشبيهاً لحاله –صلى الله عليه وسلم- أثناءها بحال السائر في الصحراء على غير هدى لا يعلم طريقه. فالضلال هنا غير الضلال هناك.
وورد سؤال عن قوله تعالى : " وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ " [ آل عمران / 182 ] هل يفيد – والعياذ بالله – احتمال وقوع الظلم منه جل وعلا لعباده ؟ لأن ( بِظَلَّامٍ ) صيغة مبالغة تفيد تكرر وقوع الفعل ؟ فنقول للسائل الكريم : ليس كل أوزان المبالغة تفيد المبالغة. فقد
تعارف اللغويون حقا على أن بعض الأوزان الصرفية مثل " فَعَّال – فَعُول – مفعال ... " تفيد المبالغة أي كثرة الإتيان بالفعل، فمثلاً كلمة ( قَتَّال ) هي مبالغة من اسم الفاعل ( قاتل ) الذي يفيد القيام بالفعل لمرة واحدة. [وقد سمي أحد الشعراء المخضرمين ( القتَّال ) الكلابي لكثرة ارتكابه جريمة القتل]. وكذلك إذا قلت مثلاً ( فلان ذكور لمواعيده ) فمعناه أنه كثير التذكر بخلاف اسم الفاعل ( ذاكر لموعده).
ولكن العلماء توقفوا أمام هذه القاعدة التي يدرسها أبناؤنا الطلاب في المدارس، وقالوا إن صيغة فعَّال قد تجىء بمعنى فاعل وتلزم هذا البناء دون أن يكون المقصود من استعمالها المبالغة في الإتيان بالفعل. بل يقال : تمَّار لبائع التمر، وخبَّاز لبائع الخبز أو صانعه، وبقّال وبزَّاز( تاجر أقمشة ) .... الخ.
والدليل على ذلك قول الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد :
ولستُ بحلاَّل التلاع مخافةً ولكن متى يسترفد القوم أرفدِ
فهو لا يريد أنه قد يحل التلاع قليلاً. فالنصف الثاني من البيت لا يدل على شيء من ذلك. فهو ينفي البخل عن نفسه نفياً مطلقاً. فهو لا يهرب من مواجهة الضيوف. فحلاَّل هنا بمعنى ( حالَّ ) على وزن فاعل. وكذلك تكون ( ظَلَّامٍ ) في الآية الكريمة – وما وردت فيه من آيات مماثلة – بمعنى ظالم.
وقد وقع في هذه المسألة استجواب طريف بين العلامة تقي الدين السبكي ( 727-771هـ ) وصديقه الأديب الفقيه الشاعر صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي. فقد أرسل إليه الصفدي بهذه المسألة شعراً فقال :
تقي الدين يا أقضى البرايا ويا ربَّ النهي والألمعيَّة
أفدنا إننا فقراء علم بما تملي فضائلك الغنية
تقرّر أن " فَعّالاً، فَعُولاً " مبالغتان في اسم الغاعلية
فكيف تقول فيما صح عنه : "وما الله بظلام البريّة"
أيعطي القول إن فكرت فيه سوى نفي المبالغة القوية
وكيف إذا توضأنا بماءٍ " طهور " وهو رأي الشافعية
أزلنا الوصف عنه بفرد فعلٍ وذاك خلاف رأي المالكية
فأجابه الشيخ الفقيه السبكي بقولة ضمن قصيدة طويلة:
قطلاَّمٌ كبزاز. وأيضاً فقد يأتي بمعنى الظالمية
وقد يُنفي القليل لعلةٍ في فوائده بنفيٍ الأكثرية
وقد يُنحى به التكثير قصراً لكثرة من يُضام من البرية
وأما قولهم " ماء طهور " ونصرته لقول المالكية
فجاء على مبالغة فعولٌ وشاع مجيئه للفاعلية
وخلاصة رأي الشيخ السبكي أن [ظلاَّم] وردت في الآية بمعنى ظالم. كما يدل قوله:
وقد يُنحى به التكثير قصداً لكثرة مَنْ يُضام من البرية
على أن الآية تحتمل أن تكون على ظاهر قاعدة المبالغة. وحينئذٍ يكون القصد من الكثرة : كثرة وقوع الذنوب من العباد. فالكثير كثير بالنسبة للمتعلِّق كما ورد في بعض كتب التفسير. والله أعلم .
تعليق